۲۲

11 9 0
                                    

«هو يُتعب نفسه، وهذا يقلقني بشدّة» همست أم أحمد لزوجها بينما يرصّان أطباق السّحور فوق المائدة الأرضيّة المغطّاة بلون مشابه للون البساط تحتها.

على يمينهما انكبّ وحيدهما برأسه ملبّد الخصلات فوق كراسة كان يُحضّرها لدروس الغد، غفا بينما يعمل، وكان قد صرف السّاعات الثّلاث السّابقة لذلك، في تلاوة القرآن الكريم مدرّبًا لسانه على التّجويد السّليم، فهو ينوي إضافة درس في التّجويد إلى ما يعلّمه للأولاد في المسجد يوميًا.

تنهّدَ الأب في يأس، لقد فاتحه بالأمر بالفعل، ولكنّه لم يصل معه لنتيجة مُرضية.

«سمعتُ اليوم شيئًا مُقلِقًا». تحدثت السّيدة، كانت العائلة الصّغيرة قد اجتمعت الآن حول مائدة الطّعام الذي سيُقيت أجسادهم ليكملوا صوم الغد.

«أتعرفان الرّحالة التركي داوود؟».

بينما يهزّان رأسيهما بالنّفي، تنبّأ المستمعان بسوء ما ستأتي به المرأة تاليًا.

صحيح أنّ الوباء لم يصلهم بعد، ولكنّه تسبب بنوبة جماعيّة من الذّعر، تفاوتت شدّتها بين النّاس، وبعضهم جعل قلبه مرتعًا للخوف، من بين هؤلاء كانت أم أحمد.

«لقد عاصَرَ الطّاعون، هذا ما تقوله جارتنا أم سليم». بنبرة متوجّسة قالت. ثم تابعت: «توفي من عائلته المقربة عشرة أفراد. ولن تصدقا أنّ أجساد النّاجين تحتفظ بآثار واضحة لما ألمّ بهم، وبعضهم يفقد حواسه». خفَت صوتها في نهاية قولها.

شرعَ أحمد في إدراك ما ترمي والدته إليه، فقال يحاول طمأنتها: «لقد وُلد العم داوود بإعاقة سمعيّة. أوكد لكِ ذلك».

«قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا». عمدَ أبو أحمد إلى تشديد نبرته، ثمّ صوّب نظرة مؤنّبة إلى زوجته التي يرى منها مؤخرًا ما لم يتوقعه مطلقًا...

أشغلَت الزّوجة ذاتها في دهنِ الزّبدة على رغيفها البارد.

فيما استجمعَ أحمد شجاعته لينطق بما تحفَّظَ عليه لأيام: «غدًا ستتم إيمار شهرًا في بغداد، وهي تخشى أن يُرسل قومها أحدًا ليبحث عنها في ظلّ هذه الظّروف العصيبة».

«ألا تستطيع الكتابة لهم؟». تساءلت أم أحمد.

ونفى الشّاب موضّحًا أنّ الأمر شبه مستحيل، فموقع مملكتها في منأى عن أي طرق معروفة لتبادل الرّسائل.

«عباد الله تَسحّروا، فإنّ في السّحور بركة».

لمّا سمعت العائلة نداء المسحراتي المارّ بجوار النّافذة مُسدلة السّتارة، تعجّل أفرادها في إنهاء طعامهم، وحينها دخلت عليهم ضيفتهم بإبريق من الشّاي السّاخن وبعض الحلوى المتبقية من الإفطار السّابق.

وكانت الفتاة قد استفاقت بسبب منام غريب أرّق نومها، ورغم غرابته إلّا أنّه ترك في نفسها انطباعًا حسنًا، فصحَت مُقبلةً على الحياة، بخلاف ما عاشته من يأس في الأيام المنصرمة.

حلّ الفجر، ومعه شُرحت النّفوس لسبب مجهول، عزاه البعض إلى قرب ليلة القدر.

في وقتٍ ما من نهار ذلك اليوم القائظ، احتشد النّاس حول المئذنة، أنّى وقفَ الخَطيب ينادي بأمر وصفه بأنّه فائق الأهميّة، وبعد السّلام، طفق يتلو على الجموع رسالة وصلت مبكرًا من الحملة المنشودة عودتها قريبًا، وفيها بشّرهم هبة الله بأنّ مجموعة من أسرع فرسانه قد انطلقوا محمّلين بكميات كبيرة من الدّواء، وسيلتحقون بهم على مهل في وقتٍ لاحق.

وكان من بين الجمع المستمع، شاعر السّلطان ونديم الطّبيب، الذي تأثّر بالخبر أيّما تأثُّر، وانهال عليه الإلهام كالغيث المحمود بعد القحط، أملى على عبده ما توارد إلى ذهنه من الأبيات عذبًا رقيقًا غبر متكلّف.

وبجانبه وقفت المُحرّرة وقد شَحُب وجهها مشوّه الملامح، هل ستعود الحياة لمجراها الطبيعيّ؟ هل سيعود شاعرها المُتحذلق إلى حاله الأول بعدما نقّى الخوف سريرته، وكشفَ اللثّام عن معدن أشدّ بهاءً كان مستترًا في الماضي خلفَ طبقة صدِئة من الغرور والكِبَر؟.

رمقته ببؤس سكَن عينيها، ثمّ انضمّت إلى موكب مرافقيه، يجدّون السّعي نحو حيّ آخر لتقديم جزء مما يحملونه طيبًا مباركًا إلى النّاس المحجوزين مع رِزقهم خلفَ أسوار المدينة حمايةً لهم.

-

أنفاسُ دجلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن