۲۳

11 10 0
                                    

في طريق العودة، نزلَ هبة الله عن ظهر جواده، وتقدّم من مَحمل النّسوة، فدعا شقيقته إلى مرافقته في جولة حول المكان على الخيول، وافقت من فورها، فأبدلت ثيابها بثياب مناسبة أكثر، وانضمّت إليه مع هالة من الحبور والنّشاط غلّفتها وأكسبتها بريقًا يليق بها.

انقضت ساعات طويلة، خرج خلالها بعض الجنود في مجموعات متتابعة لغرض تقصّي إثرهما، ولكنّهم عادوا مع اليمامة وحيدةً باكيةً تلهج بجمل غير متزّنة عن قطيع من ضِباعٍ بريّة التهمَ شقيقها، الذي لم يبقَ لها منه سوى قطعة ممزّقة ومدمّاة من قفطانه المُطرّز وقد استحال خرقة بالية ملوّنة بالفَقد.

هبطَت الجنديّة هند عن صهوة جوادها، فاحتوت الفتاة بمواساة وصعدت برفقتها إلى الهودَج، حيثُ استقبلتهما الفتيات بالتّعازي والقليل من شفقة لم تستطعنَ مداراتها لهول الحدَث المُفجِع بعد الطمأنينة.

غفَت الفاقدة بعد نوبة بكاء أرهقتها، ولمّا استفاقت سلَّمت المغنّية رسالة مختومة قائلةً إنّها الوصيّة الأخيرة لأخيها، منحها إيّاها في الأمس، وتراها الآن حملًا ثقيلًا وربّما نذير سوء، وبخاصّة أنّها لم تتوقع ما سيُجَرّ عليهما من مآسٍ بعدها...

غادرتْ وارثةُ الرّسالة المحمَل الذي ضاقَ عليها فوق ضيقه، حدث ذلك في الاستراحة الأخيرة قبل الدّخول إلى بغداد، وكانت قد غالَت في صبرها طويلًا، أسوةً بحال شقيقة الفقيد، فكيف تقرأ ما تركه في حين أنّ أخته الوحيدة لا تستطيع؟.

قبل أن تبتعد عن الموكب، ألقَت المُغنيّة نظرة أخيرة على الفتاة النّائمة على كتفِ وصيفتها، نشيجها ما يزالُ حاضرًا رغم غياب وعيها، حالها لا يسرُّ أحدًا ولكن ما باليدِ حيلة...

وبطبيعة الحال، ليست اليمامة وحدها الحزينة على فِراق سيّد الحملة، سيطرَ الحزن على الجميع بعدما كانوا فرحِين بما نالوه رغم المشقّة والمخاطر، فانقلب حالهم وما عادوا يرونَ لانتصارهم معنى...

حثّت المغنية خطاها فوق العُشب الجاف والملتهب بحرارة أوّل الصّيف، اخترقت الحرارة جسدها عبر قدميها صعودًا حتى بلغَت صدرها، وهناك استقرّت مضيّقةً عليها التنفّس، ولم يؤنِس وحشتها سوى حفيف الأوراق وتكسر بعض الأغصان تحت أقدام القوارض وغيرها من سكّان الأحراش.

جلسَت فوق جذع مقطوع بجانب أنثى أرنب ساكنة وفي حضنها صغارها النِّيام، ثمّ بسطَت الورقة فوقعَت عينها على عبارة اغرورقت لها عيناها بدموع باردة، تغضّن حاجباها بينما أخذَتْ تقرأ:

(السّلام عليكِ يا حبيبتي، نعم حبيبتي، فلا حاجة للمكابرة بعد الآن، أنا أقبل عرضكِ للزّواج.

ولكن سيتحتّم عليكِ أن تضحّي قليلًا بعد من أجلي، هلّا فعلتِ؟.

لن أسألكِ السّرية فأنتِ قبل كلّ شيءٍ، أسرار)

أنفاسُ دجلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن