٢

118 29 2
                                    

تزامناً مع صدوح صوت المؤذن القادم من أعلى المئذنة القريبة استيقظت إيمار.

تلفتت حولها بينما تُعمل دماغها في استدراك واقعها وما آلت إليه مهمتها -الأولى على الإطلاق- من فشل ذريع قبل أن تبدأ بشكل فعلي حتى...

تنبهت في لحظة ما إلى المرأة التي تتوسد الأرضية إلى جوارها أعلى بساط أنيق مصغّر، بدتْ لعينيّ الغريبة كأنما بعثت بروحها بعيداً صوب الأعالي، حاضرة معها بجسدها الفاني ليس إلا؛ والذي كانت قد سترته مسبقاً بثوب ناصع لا يشبه أي شيء رأته إيمار في سنواتها الخمس والعشرين جميعها، ولكنّها أدركت بقلبها أنّها بوابة عبور من نوع ما تستخدمه جليستها للسمو نحو أرضها الخالدة وما تتوق إليه...

فضّلت الأجنبية التزام الصمت تراقب الحركات الرتيبة التي يفتعلها جسد جارتها بين الفينة والأخرى، تسمعها تتمتم ببعض الكلمات التي -ورغم أنّ الفتاة بذلت جهداً حقيقياً في اكتساب حصيلتها اللغوية ومن ضمنها لغة جارتها هذه- إلّا أنّها لم تفهم معظمها أو في أقلّ تقدير لم يصلها المعنى كاملاً لسبب هي غافلة عنه...

دقائق مضتْ غاصت خلالها إيمار في أفكارها السلبية في معظمها.

وما أن استعادت واقعها حتى خاطبتها مضيفتها تتساءل عن حالها، وتسرّها بإخبارها أنها قد استحضرتها في صلاتها.

وردّاً على الاستفسار الذي استشعرته على طرف لسان المرأة الأكبر، روت إيمار باختصار عمّا حلّ بأرضها من مآسي، وأنها قد جاءت تبتغي شفاء عاجلاً لملائكة من بني جلدتها تركتهم خلفها لا تدري أساءت أحوالهم أكثر بعد؟

حزنت المضيفة والتي عرّفت بنفسها إلى إيمار بأنّها أم أحمد؛ حزنت أشدّ الحزن لما يعايشه شعب لا تعرفه، ورقّ قلبها إذ أُخبرت بوضع الصغار الذي يتساقطون منذ زمن كالشهب أفراداً وجماعات أمام أعين أحبتهم وذويهم ممن وقفوا عاجزين إزاء ما يحلّ بأبنائهم ولا هم يدركون لذلك سبباً حتى...

ظنّت العباسية أنها لم تسمع باسم مملكة ضيفتها مسبقاً، ولكن الأخيرة أسرَّت لها بأنهم قوم مسالمون، تعدادهم قليل، يحصرون ذواتهم في منطقة ضيقة، إذ إنهم يخافون الاختلاط لهول ما ترد إليهم من أخبار عن وحشية وقسوة الشعوب المجاورة -القوية منها بالتحديد- وما يبيّتوه من نوايا فظيعة لسائر الشعوب التي يخالوها لكبر في نفسهم أدنى منهم خِلقةً وخُلقاً...

تحفّظت أم أحمد على حقها في الرد، هي خيرُ من يدرك مدى الجور الذي قد يفتعله المحتل الذي يظنّ نفسه عارفاً، بحقّ مَن يعتقد أنهم حفنة من الجهلة؛ غاية وجودهم الأسمى لا تعدو عن 'حقهم' في التشبه بالمعتدي نقيّ المِلّة والأخلاق، أو أن يذعنوا له مكشّرين بلا مقاومة عن ضعفهم واستكانتهم...

-

بعد مدة قصيرة أمضتها الامرأتان في النقاش والتعارف، استأذنت السيدة من ضيفتها تُعلمها بوجوب قيامها لغرض اعداد الطعام لزوجها وابنها العائدَين قريباً ليخمدا جوعهما بعض الشيء قبل الخروج مجدداً لاستكمال ما عليهما من أعمال.

أنفاسُ دجلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن