«أنجزتُ الواجب يا معلّمي!». صاحت إيمار تلوح بحماسة بأوراقها الحاوية على تدريب الدّرس السّابق، جزء منها سعيد حقًا بتخطّي الدّرس الذي وجدتْهُ صعبًا عليها، وجزء آخر مكافئ للأوّل يبتغي التّخلص -ولو لبعض الوقت- من الهموم الواقعيّة الثّقيلة، عبر استبدالها بهموم أكثر لطفًا.
توقفت بصدمة أمام باب غرفة الشّاب حينما تنبّهت لانهماكه في أمرٍ ما يقوم به، كان يجلس محاطًا بالعديد من المجلّدات المصنّعة يدويًّا والمزيّنة بأقمشة تعرفها جيدًا، فقد ساعدت في صناعتها؛ قدّمت المشورة لصانعتها حول مدى جماليّة القِطع وإن كانت تحتاج إلى المزيد من الإضافات لتتحسن أم لا، ونعم هي تعدّ ما فعلته مساعدة ذات قيمة عالية.
رمَت الأجنبيّة أوراقها وانضمّت إلى معلّمها تحاول فهم ما يقوم به، أخبرها بإيجاز أنّه يجهّز بعض الآيات ليعلّمها للأطفال، وفق اقتراح قدّمه المؤذِّن الذي يحبّ.
تولّت إيمار أمر التّجفيف، فكانت تأخذ ما ينتهي المعلم منه وتصفّه بانتظام في مكان مهوّى جيدًا، محاولةً خلال ذلك تأدية القراءة الجهرية كما علّمها، فيثني عليها بين الحين والآخر، ويصوّب أخطائها حينما تخطئ.
ستعود لديارها متقنة استخدام اللّغة التي ادّعى معلّمهم الأعظم -بجهل منه- أنّ الكتابة والقراءة بها صعبة وتتطلب جهدًا فائقًا وربما بعض المعجزات! ستتفاخر أمامه بما علّمها إياه صديقها الأصغر، وستعلّم الراغبين أيضًا!.
اقشعرّ بدنها لهاجس تملّك منها إبّان تفكيرها، هل ستجد مَن تعلّمه حينما تعود إلى ديارها؟.
شعر الشاب بالشّحنات الطّارئة على الجوّ الذي كان لطيفًا حتى لحظة واحدة مضَت، تابع عمله بصمت مدعيًّا أنّه غافل عمّا يجري.
في وقت سابق، ربما كان سيسعى لإظهار مهاراته في استنباط الهواجس العابرة، وسيحاول تقديم المواساة الصّادقة للمفتقِدة، ذلك حينما كان مترفعًّا عمّا يواسي بشأنه، أما اليوم وقد وُضع في موقف مشابه، فهو يدرك أنّ احترام حُزن الفاقد أثمن لديه من أي تفاعل مع هذا الحزن.
وكيف لا يُدرك وقد تاه في نواميس الحزن حتى جُفّت مآقيه، وما أعانته مواساة ولا شفقة؟. وحده التّركيز بشيء آخر هو ما ينفع، هذا ما توصل إليه، وهذا ما سيفعله.
خطفَت أم أحمد بثوب صلاتها مرّات عديدة أمامهما باحثةً عن شيء ما، ولم تقبل أن تُفصِح عن مطلبها مهما ألحّا عليها بالأسئلة، فانصرفا عن سؤالها وعادا لعملهما مجددًا، وكانا قد اعتادا الموقف بالفعل.
«هل سترافقينني اليوم؟». تساءلت المرأة الأكبر وحصَلت على إيماءة قبول كردّ، فخرجت ولمّا تحصل على مطلبها المجهول بعد.
«إنهما يكتبان شيئًا ما». نقلت السيدة الخبر لزوجها بصوت منخفض مخافةَ أن يصل إلى المقصودَين.
«جيد». تمتم أبو أحمد بينما يستقيم على مهل حاملًا مصحفه بعد أن أغلقه، سار به إلى ركنه الخاصّ حيث يضع كتبه، فوضعهم فوقهم، والتفتَ إلى زوجته يتحدث مجاريًا إياها في همسها: «حذارِ أن تغفل عينك عنهما يا أم أحمد».
-
«فليحفظكما الله يا ابنتيّ». تمتمت زوجة المؤذّن، وأخذت مسارًا معاكسًا لما أخذته أم أحمد وضيفتها.
سارت المرأة بتثاقل وفي يدها تعتصر رسالة مؤلمة لقلبها، كانت تعلم أنّ رسائل كثيرة توافق مضمون ما وردها في الأمس، قد ورد إلى بعض البغداديين على مدار الأيام الفائتة، اجتاح الوباء العديد من المدن، ومن شدة ما ألمّ بالنّاس من يأس راحوا يُحمّلون الحمام الزّاجل بكلماتهم الوداعيّة ووصاياهم الأخيرة ويرسلونها إلى الأهل والأحباب، وأحيانًا يرسلونها نحو وجهات عشوائيّة تمامًا...
طرقَت الباب الأول، ومن بعده الثّاني والثّالث، وعندما تاهت عن العَدّ أوقفَت ولدًا وطلبت منه أن يطرق الأبواب مطالبًا النّاس بالاجتماع في نقطة علام تنتظرهم فيها، وستتابع على ذات المنوال في الأحياء القادمة.
«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته». استهلّت كلامها بالسّلام، وتابعت رغم أنّ ما قرأته في الوجوه من حولها ينذر بالسّوء ولا شيء غير السوء، تابعت: «كما تعلمون يا أخواتي وإخوتي، فإنّ البلاء ألمّ بالعباد، وما لنا غير الدّعاء. لذلك ندعوكم إلى دعاء جماعيّ على نيّة رفع البلاء، سيكون ذلك في صلاة العشاء، نرجو منكم أن تشاركونا الدّعاء، الجميع بلا استثناء، والآن أستودعكم الله، يتوجب عليّ إكمال طريقي».
تطوّع البعض لمساعدتها في مسيرتها، فقبلت المساعدة من سيدة، وأرشدت ثلاث أخريات إلى الطّرق التي اتبعها مرافقوها.
وأما الرّجال المتطوعين، فطلبت منهم أن يلتحقوا بزوجها في المسجد لكي يروا ما الذي يستطيعون فعله.
-
أنت تقرأ
أنفاسُ دجلة
Historical Fictionبقلمي: ꪜꪖ᥅᥅ꪗ تاريخية اجتماعية التصنيف العمري: +16. قصدت الأجنبية ‹إيمار› أرض العباسيين سائلةً المساعدة. بوصولها تغيّرت الكثير من الأشياء بالنسبة لمدينة بغداد ولأهلها. مكتوبة بإضاءة من مسابقة سامراء من حساب الأدب الكلاسيكي العربي، لكنها -لعدة ظروف...