«أتشعرين بتغير العم أب أحمد اتجاهي مؤخراً؟ هل ارتكبتُ خطأ ما؟». تساءلت إيمار بينما تتعاون الامرأتان في توضيب الحجرة الصغيرة التي تتحوّل في كلّ مساء إلى منامة للمقيمة الغريبة، ارتياب جسيم غزا تفكير الأخيرة، الإحساس بذنب لا تدري أيّان افتعلته يعتصر فؤادها.
خلال ما مضى من أيام كانت قد طوّرت علاقة ودية رفقة الرجل الطيب؛ حتى لكاد أن يعوّضها عن أب لا تعرفه...
وهي حقاً لم تحبّذ الشعور بالنبذ -وإن كان باطناً غير ظاهر- ممَّن لامس بعظيم نبله روحها.تربّعت أم أحمد أرضاً بعد أن ألقت عنها ما يشغلها، أدركت المرأة ما تحاول الأجنبية إيضاحه لها، وفراستها هذه مقدَّرة بصدق لدى إيمار.
طبطبت المرأة الأكبر سناً على الفراش الوثير بجانبها تحثّ مَن طاوعتها على مشاركتها المجلس، وإذ فعلت هي صمتت متيحة الفرصة بالكلام للتي باشرت قولها: «انظري يا إيمار، لو أنّك أخطأتِ لكان أنّبكِ فهذا طبعه... أما عن خطبه، فهذا أمر يطول شرحه وأخشى أنّني لا أمتلك الحق في الإفصاح عنه. فاطمئني إذاً ولا تسمحي لسيئات الأفكار أن تقتحم عقلك الظريف هذا، أعشقه فائضاً بالمعارف والأخبار التي لا أفهمها». نهايةً بعثرت المرأة بعضاً من خصل ضيفتها فانخرطت الاثنتان في سلسلة من الضحكات المبهِجة كآخر حدث لهذا النهار الرتيب.
-
تناثر أريج القهوة في ريح الصباح العليلة فتمازجا بمثالية كمُلتاعَين تقابلا بغتةً بعد غياب دام عمراً بأكمله.
ازدادت إشراقة المنزل مع وفود الرجلان المزدانان بحلّتين نظيفتين قد خصصاهما مسبقاً لغرض وحيد، وهو لديهما الأرفع منزلة، فلا حدث يضاهي في أهميته لقيا ملاكيهما وتحيتهما يرتجيان بذلك من خالقهما خيراً وفيراً وغبطة خالصة لا يحدّها كدر ولا سوء.
كثاني نشاط يفتتح به يومه الجديد بحث أحمد عن والدته بغية التودد والتحبب لها؛ وهو حسبها مختبئة -كسابق عهدها- هرباً من تملّقه الساذج لها، ولكّنه يأس فعاد خالي الوفاض معكّر البال، ولعبوسه الوديع قهقهت إيمار تقرر آسفة لذاتها قطع متعتها الحالية بإخباره أن أمه قد خرجت مبكراً لغاية في نفسها لم تفصح عنها.
وما كان من الولد الكبير سوى أن أومأ يدّعي التفهّم، وقد توصل أخيراً إلى السبب الذي جعل أبوه ينتظر خارجاً من أجله، وإذ علم نوى الانضمام إليه لولا أن دلفَ الزوجان في تلك اللحظة يبتسمان بشرّ مثيرَين بذلك دهشة الشابَين الحاضرَين.
-
لاحقاً أوضحت أم أحمد ما فعلته وتسبب بسعادتها هذه؛ بلا أي أثر لذنب هي أقرّت بما نسجته من أكاذيب على مسمامع سيدات الحي بسلاسة ومهارة فقط كما تنسج بضائعها، وكان مما كذبت بشأنه أنّ ضيفتهم الغريبة ما هي سوى امرأة فارسية اتخذها رجل قريب من العائلة زوجة، ثمّ أودعها لديهم إلى حين فروغه من مشاغله وموافاتها تالياً، منوّهةً فيما اختلقتْه من روايات إلى أنّ الزوج المزعوم ثريّ وصاحب مكانة رفيعة ضمن الحاشية الحاكمة.
حينما انتهت المرأة من تلاوة حكايتها الملفّقة التفتت صوب إيمار توعذها أنّها منذ اليوم وحتى وقت طويل لن تسمع ما يسوئها أو يكدّرها، واتفقت الاثنتان على وجوب مداراة الأجنبية لوجهها عن الأعين الفضولية بكل ما أوتيت من عزيمة، مكتفيتان بذلك انتقاماً بسيطاً ممَّن امتهنوا النميمة مهنة تطوعية بلا أجر سامحين وسامحات للإثم المقنّع بدثار الفضول أن يستحوذ على أرواحهم، فينغّصون بعمد وبغيره حيوات مَن ثار شعورهم المقيت إيّاه نحوهم...
وكان هذا بمثابة إسدال الستار عن المشكلة ولمّا تزال بعد في مهدها، ولكم سعدت الأجنبية بما علمته من بادرة نيّرة بيّتها سيد المنزل وصمت عنها مرغَماً لسوء ما أُجبِر على مجابهته وحيداً خلال الأيام الفائتة؛ تذكيراً بكبرى مصائبه التي حسبها -حتى حلول هذه الحادثة- عادية، عابرة، ومطويّة بعيداً في الذاكرة.
-
في وقت لاحق من ذلك اليوم، وفي طريقهما إلى مجلس القاضي -ترافقهما السيدة أم أحمد- استرسل الرجل في قص حكاياته التي يراها شيّقة عليهما بهدف اختصار المسار الطويل وتهوين الرحلة المُتعِبة.
ازدانت وجنتا إيمار من تحت القماش لطيف الملمس بحمرة نقية مشابهة لخاصّة صديقتها الأكبر سناً، واللتي تأثّرت بالقصة المضحكة أيّما تأثر، فغمرت الدموع عيناها وأخذَتْ تتعوّذ من شرّ الضحكة المباغتة؛ وهي استمتعت حقاً بما تحصّلت عليه بالنتيجة من توبيخ اعتاد زوجها على ترديده إزاء ما يدعوه تطيّراً مسيئاً لكتاب الأقدار المحفوظ عالياً بمشيئة حقّة.
-
أنت تقرأ
أنفاسُ دجلة
Historical Fictionبقلمي: ꪜꪖ᥅᥅ꪗ تاريخية اجتماعية التصنيف العمري: +16. قصدت الأجنبية ‹إيمار› أرض العباسيين سائلةً المساعدة. بوصولها تغيّرت الكثير من الأشياء بالنسبة لمدينة بغداد ولأهلها. مكتوبة بإضاءة من مسابقة سامراء من حساب الأدب الكلاسيكي العربي، لكنها -لعدة ظروف...