خلف ثلة مرتبة من ستائر حريرية معطرة تربّعت حسناء رهيفة القوام أعلى كومة من الوسائد الطرية، تستمع لما يدور في الحجرة المحجوبة عنها من سير وأحداث يتخللها البعض من الغناء الصادر عن حناجر تمرّست على مدار سنوات طوال إعداداً لمثل هذه الجلسات.
صدحت الفتيات المتفرّقات في أرجاء المكان بمقاطع من أغنيات تعلّمنها وتدربن على إنشادها جيداً حتى بلغت الواحدة منهن مرتبة كفيلة بأن تبوئها شرف الجلوس ها هنا وسط هذا الكم من متذوّقي الفنون سلسوا المعشر؛ عوضاً عن أماكن أخرى تفوح منها روائح قذرة لا تزيدها نفوس مرتادوها سوى عفناً على عفن...
بعيداً عن هذا وذاك، كانت الفتاة وراء الحجاب تصغي بوهن إلى الأنغام البديعة غير صارفة جهدها فيما لا طائل منه؛ تكتفي بأن تبتسم بلطف محافظة على تركيزها ما أمكنها إلى ذلك سبيلاً، فهي بعد كل شيء ليست بحاجة إلى فهم جميع ما تزوّدها به أذناها من كلمات جلّها غريب عن مداركها؛ ربما لم يرتئي معلّمها غاية يرجوها من إطلاعها على صورهم حتى...
الشعور المفاجئ بملمس يد شائكة فوق كفها البارد بعث عبر بدنها رعشة أخبرتها بحقيقة قد بلغتها مسبقاً؛ ذلك أنها لن تعتاد واقعها المرير مهما حيَتْ.
بصعوبة حافظت على هدوئها المصطنع ولم تزل بسمتها عن شفتيها إذ إن العبارة الكرارة من فاه مشرفتها الراحلة حاضرة في ذهنها أينما ولّت أو أدبرت، العبارة إياها ترن في دماغها في هذه اللحظة تسمعها بوضوح وكأنها تردد بلسان قائلتها «قد حُرّم عليكِ اقتناء سلاح حامٍ، ولكن ثقي بي إن ابتسامتك المشرقة هذه هي خير الحِمى وأشدّها أثراً».
«ستحبين الفقرة القادمة فابقي صاحية لها» ما كان من المخاطَبة سوى أن أومأت مراراً تؤكّد حُسن إصغائها.
حلّ الصّمت في المكان حينما أُزيحت الستارة من طرف المحظية الوافدة حديثاً إلى الدار، والتي ضعُفت لهنيهة أمام رغبتها الدفينة في الاطمئنان على أحوال قريناتها، فرفعت ناظريها تجول بينهنّ ولكنّها سرعان ما أخفضت رأسها مجدداً بخيبة تزامناً مع التماسها بغضاً وليداً من لدن عيون لطالما رمقنها بحنوّ فيما مضى. هل حقاً تحسدنها على مصيرها المشؤوم؟ ودّت بصدق أن تُطلق ضحكة صاخبة؛ ورغم أن الأمر سيبدو مألوفاً نوعاً ما إلا أنها قد اكتفت من لعنة جذب الاهتمام لكل وأي شيء تقوله أو تفعله، هي الآن تتمنى لو أنّها ترمش فتستحيل سلحفاة مع قوقعة مجانية حامية من شرور العالمين.
قاطع نجواها الصوت الباح لمالكها يرحّب بضيف قدِمَ توّاً، التفتت نحو الرجل بصمت وفكرة واحدة تعمّ دماغها: عليها أن تحافظ على هذه القوقعة المدفوعة بكل ما أُوتيتْ من إصرار وعزيمة.
«يقولون إنّ حُسنكِ تشرذم في ساحات المدينة، فهل كُسِر غرورك المزعوم أخيراً؟» ما أن اتّخذ لنفسه مجلساً بين الحاضرين حتى تكلّم الوافد الأخير مخاطباً مَن كشفت - إزاء سؤاله- اللثام عن وجهها المدمَّر قبل أن ترفع رأسها عالياً تعاود الغناء بحماسة غير آبهة بالعازفات المسارعات إلى مزامنتها، ولا بمَن أعرضَ عنها فتعوّذ من شيطان وحده مَن يراه بينما أخذ يرتّب أوراقاً قد جلبها رفقته استعداداً لما هو قادم.
في الناحية الأخرى هزّ هبة الله رأسه نافضاً عنه أفكاراً لن تمنحه سوى بؤساً قد تشبّع وروحه منه، ثم تعدّل في موضعه يستذكر بداخله أبيات أمضى ليال في حفظها سراً وجهراً على مسمع ناظمتها بغية التوصل إلى صورة من شأنها أن تُرضي توقعاتها مرفوعة السقف وربما مزال سقفها...
«اليوم سألقي عليكم قصيدة تشرّفتُ بأدائها للمرة الأولى صباح إلبارحة في بلاط الحاكم» صرّح الدخيل.
استمر الحكيم المتدرِّب بالتمتمة والاستذكار، تراقبه بمتعة جارته جهة اليمين، وكانت قد صمتت عن إنشادها بأمر من مُقيم المجلس ترقباً لفقرته المفضّلة، ألا وهي الشعر.
لشدة حبه لهذا الضرب من الفن الذي يراه أم الفنون وأبيها، قد تغاضى عن حكمه الشخصي بحقّ الشاعر المتفاخر أمامه؛ إذ إن الأخير يمتلك موهبة فريدة غطَّتْ على مساوئه -ولو جزئياً-.
ولهذا السبب ذاته، جارى السيد سليم إلحاح إبنيه؛ حينما علمَت شاعرته الصغيرة بعادة ضيف أبيها بأن يلقي أشعاره مرّتين، الأولى في بيت الخلافة والثانية في بيتهم، عزمَتْ على تحصيل ما سيبيّته من أبيات بهدف نظم مجموعة مقابلة فتلقّنها لتوأمها ليناظر بها أثناء الفقرة إياها، وهي إذ اكتفت بهذا الآن إلا أنها موعودة بفرص كثيرة للبوح بإبداعاتها دون وسيط؛ ولكنّ ذلك سيحدث ما أن يجد والدها شاعراً يستحقّ أن يُناظر أثمن جواهره، هي نوعاً ما قد شرعت بالاقتناع بما صاغ أبوها من رأي بعد التعامل مع عشرات الشعراء المبدعين؛ جعلوه مجتمعين يصرّح بلا أدنى ندم أو تردد بقناعة يخالها نهائية ومفادها أنّ الفنانين الموهوبين ربما تسرق مَلكتهم هذه البعض من الحيّز المخصص لأخلاقهم وسمات جيدة أخرى ربما قُدّر لهم أن يوسموا بها...
-
أنت تقرأ
أنفاسُ دجلة
Historical Fictionبقلمي: ꪜꪖ᥅᥅ꪗ تاريخية اجتماعية التصنيف العمري: +16. قصدت الأجنبية ‹إيمار› أرض العباسيين سائلةً المساعدة. بوصولها تغيّرت الكثير من الأشياء بالنسبة لمدينة بغداد ولأهلها. مكتوبة بإضاءة من مسابقة سامراء من حساب الأدب الكلاسيكي العربي، لكنها -لعدة ظروف...