فرشت الخادمات بساطًا مطرّزًا أنيق التصميم أعلى مائدة أرضيّة عائلية الحجم، وعليه صففنَ أطباق العشاء، جنبًا إلى جنب مع فناجين الشاي المزيّنة بزهور الرياحين طيّبة العطر.
تحدّث مالك المنزل موجّهًا أمره إلى خادمة فتيّة كانت تحمل إبريق الشّاي: «أخبري السيد عارف أن يمنح جميع العاملين في رحاب المنزل إجازة أسبوعية ليجهّزوا بيوتهم للشهر الفضيل، وأن يصرف لهم أجورهم مقدمًا».
«سمعًا وطاعة يا سيدي».
«بأمان الله يا ابنتي.
لا تنسي أن تُعلمي الخادمات الجدد أنّ الإجازة غير إلزامية وتستطعنَ البقاء هنا خلالها إلّم يكن لهنّ مأوىً آخر».
التذكير الأخير باغت به الفتاة قبل أن تخرج أخيرًا، وكان قد استدركه حينما وقعت عينه على محظيته التي ترتشف الشاي بصمت منزويةً على نفسها.
ولم تستفق الفتاة من شرودها إلّا على يد تحيط كتفها وصاحبتها تحييها بودّ، ثم سرقت حبّة فستق من طبق الجارية لتدسّها في فمها بالخفاء.
نقر السيد كفّ ابنته وقاطع حديثه مع ابنه ليؤنبّها: «لم تعودي فتاةً صغيرةً يا يمامة! عليكِ أن تتجنبي ما يؤذيكِ».
وكانت اليمامة قد اقتحمت المكان رفقة أخيها منذ لحظات تزامنًا مع خلوّه من عاملات المطبخ.
«اتركها تواجه عواقب أفعالها يا أبتِ. ما هي سوى لحظات وتغطيّها البثور، وحينها ستعضّ أصابها ندمًا».
دارت دفّة التأنيب صوب هبة الله، الذي أومأ بطاعة لأبيه يطمئنه أنّه لم يكن يشمت بشقيقته وإنّما يحذّرها فقط.
جُذب الأب إلى قهقهة خافتة ندّت عن المحظية، كانت تستمتع بمناوشات التوأم وتحبّ عفويتهما.
تظاهر أنّه لم يرها فلم يعقِّب، كان يمقت اهتزاز ثقتها بنفسها، هذه الصفة السيئة التي تكبّلها خوفًا وحرجًا في مواقف لا تستدعي أيًّا منهما!.
وعوضًا عن ذلك، تابعَ حديثه مع وحيده قائلًا: «الأمر لا يحتمل التأخير، ولكنّي اضطررتُ لانتظار فترة الإجازة السنوية تجنّبًا للفتِ الانتباه».
«وما الذي سنفعله في مكة يا أبتِ؟». تساءلت اليمامة، وكانت تضمر سؤالًا أكثر أهمية لم تفصِح عنه، فما الذي أبدل عقل والدها وجعله يحفّزها بنفسه على السفر في حين أنّه كان يحرمها حتى وقتٍ قريب من التجوال بمفردها في السوق!.
«أخوكِ سيرعى أمورًا تخصّني هناك. تعلمان أنّي لم أعد أطيق مشقة الترحال... كما أنّكِ ستحظين بفرصة زيارة البيت الحرام؛ حلمكِ الأكبر، فلمَ التردد الآن؟». استرسل الأب في الكلام غاضًا الطرف عن ابنه الذي كان يرمقه باستنكار خجول، هو الآخر لا يصدّق هذه الادعاءات...
ثم حوّل نظره إلى المحظية الصامتة يسألها: «هل تودّين السفر معهما؟ ستكون الرحلة آمنة وممتعة، أؤكد لكِ ذلك». كان يتمنى لو يستطيع أن يأمرها بذلك لأنّه لا يتوقع القبول منها، ولكنّه لا يريد من هذه العلاقة الباردة أن تبرُد أكثر.
أنت تقرأ
أنفاسُ دجلة
Historical Fictionبقلمي: ꪜꪖ᥅᥅ꪗ تاريخية اجتماعية التصنيف العمري: +16. قصدت الأجنبية ‹إيمار› أرض العباسيين سائلةً المساعدة. بوصولها تغيّرت الكثير من الأشياء بالنسبة لمدينة بغداد ولأهلها. مكتوبة بإضاءة من مسابقة سامراء من حساب الأدب الكلاسيكي العربي، لكنها -لعدة ظروف...