(بنكهة عشق)
كانت تمشي بخطوات سريعه أقرب للركض، ملابسها تناقض بساطة المكان حولها،دخلت محل العطارة الكائن بأخر الشارع، رمت سلامًا عابر على من حولها قبل أن تندفع لتعتلي سلمًا خشبيًا بسيطًا يعزل الحجرة الصغيرة التي ترتقيها عن ضجة المكان وصخب الأحاديث، يفرض رونقًا خاصًا على المكان الذي لا يرقى لأن يكون دكانًا صغير بل متجر كبير مقسم.
دفعت الباب دون إجتهاد في استئذان أو تكلف نفسها عناء الطرق، فانتفض الرجل الجالس على كرسيه بشموخ متأففًا
:( استغفر الله العظيم)
بينما كان هناك زوجان من العيون إرتفعت عن الأوراق تراقب ما يحدث بصمت
وقفت على الباب متخصرة تعاتبه بدلع : (طلعت من غير ما تصبح عليا ياحاج قولت لازم أجي بنفسي وأصبح) .
دار بكرسيه ناحيتها قائلًا وضحكة خشنة تسيطر على نغمته اللائمة:
(بلاش بكش ياست مروة وقولي إنك عايزة فلوس) .
رمقها الصامت بنظرة عابرة تضج بها المشاعر التي يحاول جاهدًا مداراتها
اقتربت من أبيها تفرض دلالها على المشهد ولم تنس قبل أن تتجه ناحيته أن تهدي الصامت نظرة جريئة، جلست أمام والدها فوق حافة المكتب تعاتبه بدلال :(اخس عليك ياسي بابا.)
تلبدت ضحكاته الرائقة ببعض سعال قبل أن يقول بنصف نظرة :
(خلاص يعني مش عايزه فلوس..؟)
تصنعت التفكير هامسة وهي تقترب منه أكثر:
(لو هتفهمني غلط خلاص.)
تناول محفظته العتيقة، يخرج حفنة سخية من الأموال لا يعرف عددها، قدمها لها بمحبة :اتفضلي ياستي ويلا على مشاويرك.
تناولتها بلهفة ثم إنحنت تطبع قبلة خاطفة على خده مطعمة ببعض النظرات الخاطفة للغريب الذي تنحنح ينبئهم بوجوده أو ربما يستعيد ثباته الذي بعثرته تلك المدللة بميوعتها ووهج أنوثتها الطاغي.
نهضت تودعه بعد أن أهداها نغمة رضا وإستحسان جاد بها فمه بعد تلقيه قبلتها،
حث الآخر قائلا :(يلا عاصم يا ابني نشوف شغلنا.)
نزع نظراته من تلك الراحلة وعاد للأوراق من جديد، لتفاجئهم الصغيرة بالعودة ليرفعا رأسيهما مستفسرين منتظرين القادم منها :
(بابا ممكن عاصم يوصلني.؟)
بملامح لاتفسر انتظر عاصم أذن الرجل والذي يدرك أنه لن يرفض للمدلله شيئا.
ترك الورق أمرًا بنفاذ صبر مفتعل :(يلا يا أستاذ وصلها خلينا نخلص.)
أومأ عاصم بصمت،ملتقطًا مفاتيح السيارة مغادرًا في طاعة، حينما أقترب منها غمزته في الخفاء، غمزة إرتج لها قلبه الكائن بين اضلعه.
ألقت بوجه أبيها قبلة تلقاها الرجل بإستحسان، وغادرت تركض خلف عاصم قافزة، بينما حافظ هو على ثباته،
تلك الصغيرة المدلله يقسم أن برأسها شيطان متربع، دلالها زائد وميوعتها طاغية، إنها تتذوق الكلمات قبل أن تلفظها، كما أنها مخادعة، عند هذا الحد قطعت أفكاره تسأله بتلك النبرة المغناجه:(ازيك يا عاصم عامل ايه.؟)
باقتضاب أجابها ونظراته تلتهم الطريق بإهتمام:
(تمام ظلت تثرثر وهو لا يشاركها الحديث، يتصرف معها كآلي. وعند وصولهم)
تأففت بضيق من صمته وعزوفه الغريب عنها بينما، غادرت مقعدها متخمة بالغيظ، لكن مثلها لا يعرف التنازل عادت على الفور اتكأت على النافذة تنظر إليه بإبتسامتها المغوية مثنية عليه:(لبسك انهردا حلو أووي.)
ظل على ثباته وجمود ملامحه لا يعكس لها سوى الصد المطبق بالصمت الخانق لها.
غادرت وتركته يشيعها بإبتسامة ساخرة، ونظرة تلتهمها بغير رضى، أثناء دخولها استقبلتها صديقتها هاتفة وعينها على السيارة :(مين ده.؟)
أجابتها وهي بملامح لا تعكس شئ :(دا عاصم) .
صاحت صديقتها بإنبهار وهي مازالت تتابعه بنظراتها :(دا عاصم.؟)
هزت مروة رأسها دون أن تهدي الواقف يراقبها نظرة :(اه هو.)
لكزتها صديقتها بحسد: (يا بختك ايه المز ده.؟)
غيرت مروة وجهة الكلام بعد أن ضاقت بإطراء صديقتها وانبهارها :(اطلبيلنا حاجه نفطر) .
وافقتها صديقته غير مهتمة بدوافع الآخري في تغير الكلام، فعاصم لم تحكي عنه مروة الا القليل، لكون صديقتها لا تهتم به لم يثر الأمر فضولها واهتمامها، فتجاهل مروة قد يعني شيئَا وقد لا يعني. على كل حال هي كاتم أسرارها.. عاجلًا أم آجلا ستعرف لو كان هناك شى.
نظرتا للقائمة وكل منهما شاردة في خواطرها.
___________
بين الزروع كان يشق طريق هادىء واثق الخطى لا يلتفت إلا أمامه في ثبات، قلبه يضرب بين جنباته لهفة لرؤية والديه واحتضانهما بعد غياب مدة طويلة بالجيش تلك المرة،حقًا اشتاقهما كثيرًا.. وتجرع مرارة فقدانهما كل تلك المدة…أبيه الشيخ رضوان..
نظر بعينين براقتين لزرعة الذرة التي حان قطافها بعد أن شد عودها ويبست… جرى ريقه على واحدة يشويها بصحبة والدته أمام الفرن متلذذًا بمشاكستها ومشاركتها صُنع الطعام الشهي والذي يفتقده كثيرًا.
اقترب يبحث عن واحد قد نضج ويقطفه، غاص بين عيدانها.. باحثًا بإهتمام.. حتى وجد بغيته.. نظر لها بإبتسامة وقد لفحه الشوق لزملائه وعساكره في الكتيبة، ربما يشتاقون مثله لتناول واحدًا مفعم برائحة الحطب حيث الدفء والنشوة.
قطب حاجبيه في شك وقد رنى لمسامعه صوت متواصل سريع غير معلوم، يردد عبارات غير مفهومة بالنسبة له.
ترك هدفة ودار يبحث عن مصدر الصوت حتى وجده يماثله في الهدف، اقتطاف إحداى أكواز الذرة..
رفع حاجبيه متوعدًا ذلك الحرامي الذي لايظهر من ملامحه إلا القليل… تسحب كاتمًا أنفاسه ليمسكه بالجرم المشهود، لتحل المفاجئة فوق رأسه
(إنها فتاة لكن ماذا تردد.)
هتف وهو يقبض عليها كالمتلبسة :( مسكتك يا حرامية بتعملي هنا إيه…؟)
تابع بإستنكار غليظ :( بتسرقي أرض الشيخ رضوان يا بجحة.)
.تسمرت مكانها مرتعبة، زاغت نظراتها وانعقد لسانها من وقع المفاجآة الشديد عليها.
استدارت له رغم علمها بهويته وكيف لا تعرفه.
ابتلعت ريقها وانتصبت توبخه رغم اهتزازها الداخلي :( وإنت مين بقا ياعم إنت وعايز إيه..؟)
اتسعت عيناه دهشة وأقترب خطوة يطرح ذهوله : (أنا مين.؟ مش عرفاني..؟)
عقدت ساعديها واندفعت تقول بلا مبالاة :( أيوة يعني إنت مين برضو.. ؟)
ابتسم قائلًا بسخرية لاذعة وعيناه ترفض الثبات على ملامحها تأدبًا: أنا الي بتسرقي أرضه يا أختي.
أشارت بيدها في تعالي : (آنسة من فضلك مش أختك…)
تسألت بمكر:( إنت بقا مين في ولاد الشيخ..؟)
ابتسم أكثر وقد راقه ذلك الحوار :( بسطاوي حضرتك.)
ابتلعت ضحكتها وتابعت وهي تنحيه جانبًا بيدها وتغادر من أمامه بثقة :( طيب أوعي بقا يا عم الضابط بسطاوي) .
غادرت بثقة، بينما نظر هو أثرها مذهولاً يسأل بضيق :( مين دي..حاسس إني شوفتها ؟)
يبدو أن صوته كان مسموعًا لتستدير باسمة تمرر إليه اسمها مرفقًا بإبتسامة مشرقة :( آنسة جميلة ياحضرة الضابط بسطاوي.)
تدلى فمه ببلاهة بينما واصلت هي السير بهدوء وثقة، وما إن ابتعدت وتأكدت أن نظراته لا تلاحقها استندت على النخلة العالية تلتقط أنفاسها الغائبة، كفها الصغير يستريح على موضع قلبها الخافق ولسانها يهمس بوله :( يوسف) .
كيف لا تعرفه ومنذ زمن لا تعرف مداه وعقلها لايفكر بسواه.. مخيلتها لا تعتنق إلا صورته..
_______________
