الفصل الثاني عشر
علي باب الشقة وجده يقف بهدوء ينافض اشتعال حدقتيه بالغضب، نظراته البارده الخالية من الحياة الخاوية كبئر فارغ الآن تشتعل تفور فيها المشاعر وتمتلئ فوهة البئر
ادخله جلال غير عابئ ليس الآن ولكن منذ زمن، هو رجل فقد كل شئ واستوطنت المرارة حلقه فلن يُهزم الآن وهو بصدد استرداد حقوقه المسلوبة وحصوله علي حقه المغتصب من الحياة في العيش.
انزاح تاركًا له حرية الدخول بصمت ينذر بخطر كلاهما يعرفه ويعيه توسط المكان قائلًا بنبرة مذبوحة مرتعشة:شوفتها.
المرارة غلفت حروفه لتستقبلها بعض من رياح الشفقة بعين جلال، شفقة لم تدم الا لثواني ليعود جامدًا لا يُقرأ وإن قُرأ لا يفهم
بحث جلال في جيوبه عن سيجارة بعينها هو الآن يحتاجها في جلسة كتلك ستحدد الطريق وعليه فليمتطي الهيستيريا والتغيب ليعبر ذلك الضباب، هدهد اللفافه بين انامله قبل أن يحاصرها بين شفتيه الجافتين بقسوة
ليهديه بعد أول نفس لا مبالاته:عارف.
سؤاله جاء مرتعش يوازي جحيم الاشتياق :هي فين.؟
مال فم جلال بقسوة قبل أن يطلق كلاب صراحته تنهش اهتزاز الأخر :ممشيتش وراها ليه وعرفت...؟
الصمت ابتلعهما ليكمل جلال وهو يستريح واضعًا ساقًا فوق الآخرى :ولا خوفت.؟
انهارت صمود عاصم وتبعها بروده ليبدو أكثر هشاشه وضعفًا :كنت عارف مكانها.؟
حك جلال ذقنه متابعًا :وإنت عارف إني عارف وخوفت تسأل.؟
صرخ عاصم بهستيريا :ايه خوفت خوفت دي..
يوضح الآخر بقسوة وأنيابه تنهش قبر الماضي لتعري جثث من الخطيئة :خوفت تمشي وتعرف مكانها ومتعرفش هتعمل إيه.؟ وخوفت تسأل وإنت عارف تبعات سؤالك ليا ياعاصم.... وهو دا مربط الفرس.
أصاب كبد الحقيقة تعرت مشاعر عاصم وفضحت ليبدو هشًا ضعيفًا منهزمًا.
خرجت براء علي صوتيهما، ما إن ابصرت عاصم حتى اندفعت إليه..
تتبعتها نظرات جلال بقسوة ولكن قبل أن تصل صرخ غضبًا كالجحيم :متقربيش منه..
ووقفت علي بعد منه تبتلع ريقها بتوتر وإهتزاز، نظراتها تتنقل بينهما بتيه، لينهض جلال من استرخائه متأهبًا يأمرها بفظاظه وغلظة :متقربيش
ثم وجّه كلماته لعاصم متلمسهاش متخصكش.
ابتسم عاصم بسخرية من تملك جلال الذي فرضه.
ليهتف عاصم ببرود استعاد واجهته :هاخدها..
اختبأت خلف عاصم تريد الحمايه والدعم هنا هي استدعت وحش جلال الكامن في مخبئة
:حاول.. النبرة حملت تحذيرًا ساخر
تواجها بعناد ليهدأ جلال فجأة ويخبره :خليها تدخل لغاية ما نخلص علشان الي هقوله مش هيعجبك.
تلك النبرة الخطرة والنظرات الواثقة جعلت عاصم يخبر براء :ادخلي يا براء..
حاولت الاعتراض ليمرر لها جلال تهديدًا صارم ارعبها عبر نظراته :ادخلي.
عادت لحجرتها مغلقة الباب خلفها ترتعد مما يدور ولم تستطع سماعه.
براء مش هتمشي وقبل ما تطلع من عتبة البيت ده هتوافق علي جوازنا وتباركلنا.
قالها جلال بحكمة وثقة بعيدة عن هزلية الموقف، ليرد عاصم بكبرياد وسخرية :ليه.؟
اشعل جلال لفافة أخرى ينهل منها ليواصل ما يحدث :علشان إنت مش عارف تحمي نفسك علشان تاخدها وتحميها.
رغم رصاصات الكلمات ابتلع عاصم غصته قائلا : الي مشيت وكانت تخصك يا جلال إنما دي لا محدش عينك وصي ولا حامي لها.
حك جلال خصلاته المشعثة قبل أن يقول بهدوء خطير :مليش مزاج اشرحلك حاجه مش هتفهمها لانك لو هتفهمها كنت حميت الي قبلها ومنعت عنها الأذي.
انكمشت ملامح القوة بوجه عاصم انزوت في ركن مظلم، أصابت كلمات أخيه قلبه، لتهدأ نبرة جلال وتلين بعاطفة :أنا عايز براء يا عاصم، طلعها بره دايرتكم وكفاية لحد كده.
سواء وافقت أو لا براء ليا ومش هسيبها تعاني تاني.
صامت وأفكار تتزاحم وتتعارك، نبضات ثائرة ودموع محبوسة قسرًا خلف جدران الصلابة، لم يستطع حماية براء ولن يستطيع، براثن أنوار ومروة وحده جلال من يستطيع يبدو أننا نحتاج لبعض الحزن والمحن لتظهر القوة وهذا ما حدث لجلال أثقلته المحن ليظهر الوحش الكامن بداخله ينهش من يسلبه أي حق ووهبه الخذلان الجمود ليكون صلدًا يخبئ من يحب ويحميه. أما هو نشأ مدللاً ابن أمه حتى فارقته الحبيبة لم يقدر علي الاحتفاظ بأحلامه البسيطه حتى أصبح ظلًا للخال
غادر للمطبخ وضع رأسه تحت صنبور المياه بينما كان جلال هادئا ربما يدندن بميزاجيه لا تعكس سوى خللًا بصاحبها وكأن ما حدث توا لم يكن يعنيه بل هو متفرجًا لعرض لطيف علي تلفاز.
_______________
نظراتها تضج بالحياة تتنقل حولها بإهتمام وهي تمسك بكف فتاتها الصغيرة.
استوقف سيرهما مقترح محمود المنبثق من بين شفتيه بالأمل :بقولك إيه بما إنك معايا تعالي نشتري شويه هدوم.
خرجت الذكريات من قبوها القديم حلقت فوق أفكارها تذكرها بعهد قديم كانت تخرج معه فيه لينتقوا الملابس سويًا، نظرت إليه ليبادلها نظرة تحمل نفس عبق الماضي وتهدهد تلك الذكريات التي استرسلت في مخيلتهما
:تمام مفيش مشكلة..
قالتها علي استحياء وهي تلمح ترقبه وحذره
سألها بإهتمام وخوف حقيقي لايتصنعه
:مفيش مشاكل لو اتأخرتي، مش هيحصل حاجه.؟
فهمت مقصده فأهدته اطمئنانًا :لا خالص متقلقش.
سكب حماسه وهو يتناول منها الصغيره ويحملها :تمام يلا بينا.
شاركته الأختيار والألوان أفاضت بالنقاش بكل حماس، ذكرته بما كان يرتديه ويفضله وما يليق به فاشترى دون تفكير، سعيدًا بالعودة والتقارب بالعهد الجديد مع الحبيبة الغائبة، متناسيًا جديده الذي بناه.
تناولوا الطعام ثم أوصلها للبيت وعاد هو لمنزله استقبلته زوجته على الباب بترحاب كما تفعل تخبره بحفاوة كم اشتاقته، ابتسم لها بعذوبة نابعة من ينبوع السعادة المتفجر بعقله، نظرت للحقائب التي أحضرها بصمت منتظرة تبريره، جلس يسأل عن أطفاله الصغار فأخبرته أنهم نائمون منذ وقت دخل حجرته وهي خلفه استعدادًا للنوم
فتشت الحقائب عاقدة الحاجبين في تساؤل غير منطوق ليبادر هو :ايه رأيك فيهم.؟
لاح عدم الرضا في نظراتها لتقول مفصحة عن دهشتها:غريبة من امتى بتحب الألوان دي يا محمود.؟
اقترب يتفحص ما أحضره برضا وقناعه
(عادي انا بحبها كان بقالي وقت مجبتهاش)
عقدت ساعديها تسأل بملامح جامدة
(ليه جبتها دلوقت.؟)
استاء من السؤال لكن ركله بلامبالاة
(عادي.. المهم حلوين.؟)
افتته بملامح يشوبها الضيق ولمحة سخرية
(المهم عاجبينك إنت)
لم يبال تمدد على الفراش مستعدًا للنوم لتلقي بسؤالها فوق رأسه (مش هتاكل..؟)
(لا)
ماذا كانت تنتظر أن يأتي لها بعد كل هذا الوقت جائعًا، خرجت وأغلقت الباب خلفها بإستسلام عقلها منشغل بكل التغيرات الجديدة والاختلافات التي تطرأ علي سلوكه وروتينيه حياته.. حتى إنها لم تستطع إكمال ما تشاهده أطفأت التلفاز وغادرت لتنام.
*******
في الصباح كانت تهاتف أخيها تسأله بصبر تحسد عليه (ها يا بلال عملت إيه.؟)
:ولا حاجه
هكذا ببساطة لفظها متخليًا عن حذره معها معلنًا التحدي.
عقلها يفور ويغلي غضبًا وغيظًا مما يحدث كلما فكرت فيما يحدث وما فعله معها أخيها واستباحته أموال غربتها تكاد تجن قهرًا وذهولًا
(طب أنا محتاجه فلوس عايزه اشتري شقة)
أجاب بكل برود (مالك بالشقة ما إنتِ قاعده عند بابا اهو)
زفرت بضيق من مراوغته، كان تجوب الحجرة ذهابًا وإيابًا تُهدئ لهيبها وتحتوي انفعالاتها، دفعت بقرارها
(أنا لقيت شقة وخلّصت فيها بس محتاجه فلوس)
زعق بغضب مفتعل وجد به ضالته المفقودة للصمود أمام إلحاحها، وزعزعتها إستقراره
(مين هيسمحلك تعيشي لوحدك، انتِ خلاص معدتيش بره مصر)
صرخت بإنفعال حقيقي(أنا حرة مش عايزه أعيش مع حد)
(هنا مفيش حرية، قررك مش بأيدك)
أخبرها بثقة وإصرار تلبسه لم يكن غريبا أو مودة منه لكن كان حلًا سريعًا يسعفه ويدير به دفة الحوار لصالحه فبدلًا من أن تنازع لأجل أموالها ستنازع لأجل حريتها واستقلاليتها وهكذا تريحه حتى يتدبر أمره.
أغلق بوجهها كعلامة إنتهاء الحوار بينما هي تنتحب بضيق وقهر كانت هو تعلو قسماته إبتسامة ظفر.
**********
يبتلع ريقه الجاف بصعوبة، يخطو ناحيتها بوجل لا يستسيغه لكنه في قرارة نفسه يهاب تلك المواجهة، رأته قادمًا فركضت ناحيته.. عينيه التقطت تحذيرات جلال بعدم الاقتراب فأمتثل
أحاطته بنظرات مهزوزه قبل أن تلفظ اسمه كقارب نجاه(عاصم)
ضم شفتيه مع شبه ابتسامه ارتسمت ليهمس بكلمات تقطر أسفًا(إزيك يا براء)
توسلته ببكاء صامت ثم تألفت كلماتها (أنا مش فاهمة حاجه وعايزه أمشي من هنا)
تاهت الكلمات خانه الثبات، دار بنظراته يستجمع ما يعينه علي إقناعها ليقول في النهاية حاسمًا (مش هينفع)
تسألت بهستيريا وهذيان، غضب مكبوت وهزيمة حيث الجميع تآمر عليها(ليه...؟)
صمت تام إلا من نظرات أسف وخزي، لتصرخ (مش هعمل حاجه.؟ خدو كل الفلوس...
صمتت تفكر تقلب نظراتها بين وجه عاصم وجلال الذي أتى داعمًا لها يحاول أن يسرب لها الأمان (أنتم متفقين.. مروة... اه. هي مش بتحبني ومروان عايز الفلوس)
حاول إسكات هذيانها لكنه فشل لتتوسله (طب وعمي..؟)
ليحسم جلال الأمر بقوة (عمك مات يا براء)
عيناها اتسعت بصدمة، تراجعت خطوتين لتؤكد بدموع محتجزة (كده فهمت بتتخلصوا مني... علشان الفلوس.. صح)
ثم خطت ناحية جلال تقول مواجهة له(وإنت مش عايز كمان ولا هتاخد نسبه)
انسحب صامتًا ما أقسى أن يرى انهيارها، هذيانها واقتلاع روحها المهلك.
(اجهزي علشان تشوفي عمك قبل الدفن)
قالها وغادر تركها وحدها، تصرخ.. تهذي وتحطم كل شئ.. لتخرج بعدها صامتة، متماسكة بإنكسار وجدت عاصم وجلال وآخرين يجلسون.. لم تسأل وقد كرهت أن تفهم، هنيئًا بالمجهول إن كان واضحًا وتستسيغه وسحقًا بالواضح المعلوم الذي تتيه فيه وتتخبط بين ظلماته.
نهض عاصم تقدم ناحيتها يخبرها بجمود جلال هيتجوزك يا براء
ليقرّ من خلفه بجمود (مش هتطلعي من هنا غير وإنتِ مراتي)
ابتسمت لهما بمرارة، هزت رأسها موافقة فما عاد شئ يهم، ظلت معه أم تركها المصير واحد فلتتقبل أقلهم خسائر.
بطاعه جلست متقبلة، صامتة يلفها تيه ودوامة التجاهل تنفذ بآلية حتى انتهى الأمر
تحرك عاصم والرجال خلفه وبقيت هي تحتجز دموعها، جسدها يرتعشق بقوة بعدما أدركته رياح الغدر والمهانة.
تنهد بإرتياح قبل أن يقترب منها، انكمشت رافضة قربه لكنه واصل ما يفعل، ضمها إليه بقوة، أراح رأسها فوق موضع قلبه ربما يهمس لها بمقدار حبه لها ورغبته فيها دون مقابل.
طبع قبلة فوق مقدمة رأسها وهو يخبرها بحنان لم يعرف إنه يمتلكه يومًا بعد ما مر به
(متخافيش إنتِ دلوقت فأمان)
لم تفهم، ولم تحاول هي الآن في غيبوبتها الخاصة تعاني وحدها.
______________
حين دخل ثلاثتهم ورمقتهم بعين خبير زادت ولولتها... أقتربت أنوار من براء تسألها بغضب مكتوم (كنتِ فين..؟ هربتي ليه ومع مين..؟...)
ما الجدوى من التبرير والحديث، علي مايبدو أن عاصم ترك صورتها مشهوهة، همست بإرتعاش ودموعها تتسابق (عايز أشوف عمي..؟
صرخت أنوار بإفتعال نال سخرية جلال (جايه دلوقت بعد إيه.؟)
رفعت ذراعها تحاول لطمها لتكن كف جلال مانعه، قيدها من معصمها بقوة قبل أن يدفعها وهو يحذرها بغضب (أوعي حتي تفكري مجرد تفكير تأذيها)
عقدت حاجبيها تستفهم، ليشير لبراء أمرًا وعينيه تعتقل نظرات زوجة أبيه بنارية وتحدي (ادخلي ودعي عمك علشان نمشي)
نظرت لعاصم تريد ايضاحًا لكنه كان مستنفذًا يريد ترك كل هذا العبث والهرب بعيدًا
ليفسر جلال وهو يضغط علي كل حرف يخرجه (براء مراتي هتعمل الواجب وتمشي)
شهقت بقوة متفاجئة لتطلق بعدها صرخات عالية جاءت مروة تركض على إثرها، من بين صرخاتها المتقطعة كانت تقول (عملتها يا جلال ياخيبتك فابنك يا أنوار)
فهمها عاصم واشتد غضب جلال لأجل أخيه، أما مروة فاستفهمت (في ايه)
اوضحت أنوار وعقلها كاد يصيبه الجنون (البت طبختها معاه هربت واتجوزته)
كانت منزوية بجانب جثة عمها تبكيه وتبكي حالها، تصلها الكلمات فيزاد بكائها وحسرتها، طبعت قبلة وداع علي جبين عمها وبعدها خرجت تعلن نفسها أسيرة لهذا الواقف
(خلاص يلا بينا)
هز رأسه متفهمًا خطا ناحيتها، أمسكها من كفها وسحبها خلفه يلعن حمايته لها وأنها تخصه يتحدى الجميع وأولهم زوجة أبيه التي تراه منتصرًا نال الدجاجة التي ستبيض له بيضة من ذهب.
هربت خلفه يبتلعها الزحام الذي استدعته أنوار بتعالي صرخاتها وإعلان عاصم موت خاله
************
جلست بجانب حماتها شاردة ملامحها تتمخض الألم والخيبة تنحسر ابتسامتها لتقع في بئر مظلم من الذكريات، شعورها كان حقيقيًا، زوجها يتغير يوميًا منزوي بهاتفه وخروجاته، بعيد عنها وعن أطفالها حتى حدث مالم تتوقعه وما ظنت أن تعيشه بعد كل هذا الاستقرار، هي التي جاهدت لتنزع حنان من قلبه وتقبلته بنصف قلب حتى حصلت علي قلبه كاملًا.. انتفضت لذلك الخاطر مال فمها بإبتسامة ساخره فهي لم تحصل علي قلبه من الأساس ما إن عادت حنان حتى عاد زوجها لعهده القديم
زوجها يهمس بإسمها في أشد لحظاتهم تقاربًا وحميمية .
وجعًا أحاط قلبها وبعثر نبضاته لتنهر دموعها تباعًا بأنين خافت.
سألتها والدته بقلق (مالك يا بنتي.؟ محمود مزعلك.؟)
بإبتسامة رافقت الألم صححت(لا خالص بس عينيا تعباني شوية)
رنين جرس الباب أجفلهما لتنهض مستأذنة فتحه لتجدها أمامها تسألها بإبتسامة رائقة غير منتبهة لنظرة الوعيد والكراهية بعيني الأخرى
(طنط موجوده)
نقولها مين.؟
تدعي الجهل عمدًا، لانت نظراتها المشتعلة قليلًا، فطنة منها وتريث لتخبرها الأخرى
(حنان)اناهى