الواحد والثلاثون
لفحت بشرتها برودة الجو وسقيع هوائه، مسحت وجهها بكفها لتفيق من سنة نعاس أخذتها ثم التفتت لتجد رأس جلال انحنت ساقطة علي زجاج السيارة قد بدا مُرهقًا ملامحه تتجرد من كل معالم الحيوية والعافية، ذابلًا شاحب الوجه كأوراق الخريف
خشيت عليه من لسعة البرد، أغلقت ذر جاكته وألقت عليه محبة منها طرف شالها تدثره بعناية، بعدما حاولت تعديل وضعية رأسه كثيرًا كم خشيت عليه من الألم..
ملست بكفها جبهته مرورًا بمقدمة رأسه ترفع خصلاته قليلًا حتى لا تضايقه وتُعكر عليه صفو نومه. أفاق مخدرًا بلمستها الشهية، إعتدل قليلًا ينظر لطرف شالها بإبتسامة راضية ثم إليها وقد انكمشت في حياء، أعاد إليها طرف شالها هامسًا (أنا مش نايم)
خرجت نبرتها معاتبة بدفء (الجو برد وإنت تعبان) مال ناحيتها قليلًا يضع رأسه على كتفها يهمس (أنا كويس)
إرتجف جسدها من قُربه المُهلك، تهمس بنبرة صادقة عفوية (ريحتك حلوة)
شعت ابتسامته، دوى قلبه بعنف يشاركه تلك اللحظات الساحرة، أمسك كفها يداعب أناملها برقة وهو يهمس بصوت عذب رائق (تحبي نعمل فَرح مع يوسف)
زاغت نظراتها وران عليهما صمت بارد، وانتظرها هو برفق وتجلد يشجعها بدفقة حنان منه، يشبك أنامله بأناملها فتقول وقد شعرت أن قلبها هو من إشتبك الآن ليس أناملها، فؤادها تعلق به ولا مفر، قيدها مُسيطرًا عليها مُتسلمًا القيادة (زي ما تحب)
رفع رأسه يستشف من ملامحها عزمها، لكنه جهل بها، فإبتسم وهو يعود لوضع رأسه على كتفها (خلاص نعمل فرح)
كان يعرف أنه باب لحياة أخرى جديدة، يلجانه سويًا، يكملان بعضهما البعض برغبتها.. حلوى تقارب وعقد أبدي وسحر لا يُفك.
خبأت ابتسامتها كأنه يراها، سعيدة للغاية وهذا جعلها تسأل حائرة (هل أحبته.؟هل نال جلال قلبها كما أراد.؟)
وصلا أخيرًا بعد إهارق وتعب مضني نال من جسديهما، ذهبت لحجرتها لتنال قسطًا من الراحة وتبعها هو(استعدادًا للنوم كعادتهما)
أفاقا بعد مدة قصيرة على رنين جرس مزعج، ينم عن همجية صاحبه وعدم صبره.. نهض جلال بينما ظلت هي بالفراش تتمطأ بكسل.
حين وصلها صوت جلال القلق البارد ولسانه يلفظ اسم الآخرى مُستنكرًا (مروة)
نهضت علي الفور مهرولة للخارج، حين تأكدت وإشتبكت نظراتها بمروة الضاحكة دق ناقوس الخطر بقلبها، وعزفت روحها سينفونية حزينة لا تعرف سبهها.
**********
لم يكن إستقبال براءة رائعًا، بل توقعت جمودها، لكنها ما أتت هنا الآن إلا لهدمها، والنيل من عاصم بعدما فعله وجلال الذي هرب بالدجاجة الذهبية، تذكرت اجتماعها هي ومروان ليلًا
استدار إليها بعد أن أغلق هاتفه، ملامحه تشع راحة ونظراته تلمع بظفر لا تفهمه، سألها بمرح (ها مش هتسافري لبراءة)
لاقى الأمر لديها استحسانًا رائع، ابتسمت له قائلة (أفهم الأول ناوي علي إيه..؟)
دار قليلًا حولها ثم هتف بسخرية مريرة (إنتِ مش عايزه تنتقمي من عاصم وتخطفي جلال)
إرتبكت من كلماته وإختراقه أفكارها ليسترسل وهو ينحني أمام أذنها اليمنى (وأنا عايز براءة وأقتل عاصم وأحسر عمتك وأعاقب جلال) رمقته بنظرة مستفهمة، قهقه عاليًا ثم انحني يداعب ذقنها بأنامله هازئًا (إنتِ ياروحي أكبر عقاب)
نفضت يده بقسوة، مزمجرة ليهدأها (هتروحي الأول وأنا بعدك) ثم غمغم بإبتسامة قاتمة (سقطة جلال الوحيدة أن لسه عنده قلب)
عادت لواقعها حين طرقت براءة علي الباب تطلب منها بنبرة حادة غليظة علي غير عادتها(تعالي اتعشي يا مروة)
نهضت لتقف أمام المرآة مبتسمة في خبث مُتغزلة في جمالها، مُعجبة بملابسها الضيقة وجسدها الطري، ثم خرجت بوجه غير الذي كان كان ترسم براءة مُزيفة وتلوّن ملامحها بالآسى الكاذب تراجعت بخجل مفتعل ليحثها جلال (تعالي العشاء جاهز) بينما زمت براءة شفتيها في حنق واضح وإعتزلتها في صمت مملوء بالنفور، إختارت مروة أن تجلس ملتصقة بجلال الذي حاول أن يبتعد أكثر من مرة حتى سئم الوضع في نفسه، بينما إحتفظت براءة بهدوئها رغم إشتعال نظراتها.
تبادلت مروة الحديث مع جلال بأريحية مُفرطة ودلال كاذب أثار غثيانه وإمتقع له وجهه لكنه خبأ ذلك لحاجةً في نفسه وبقي يراقب براء بشغف وقلب ينتفض لوعةً، تأسف جلال لمروة (معلش بقا يامروة إحنا بناكل عالأرض وإنتِ أكيد مش متعودة)
زجرته براءة بنظرة غاضبة، تجاهلها لتقول مروة ضاحكة (لا عادي كفاية الأكل جميل)
أكد جلال بإبتسامة لعوب (أنا الي عامله، كويس إنه عجبك)
همهمت مروة بتلذذ قبل أن تُثني عليه بتملق (برافو بجد) هز جلال رأسه وهو ينظر لبراءة الصامتة بتعجب منشغلًا بما يحدث لها، لو أنه لا يعرفها حقًا لقال مشحونة بالكراهية تجاه مروة لكن قلبها صافي لا يحمل لأحد بغضًا، ما تُعانيه براءة الآن شعور جديد يتذوقه لأول مرة منها.
نهضت حامدة الله، مكتفية بلقيمات قليلة، رحلت للمطبخ وتركتهما،ورحلت أفكاره وقلبه خلفها تاركًا ثرثرات مروة تشحن الهواء.
بعد العشاء خرج يجاور بركة في جلستها الهانئة يسألها عن أحوالها في غيابه ويحاورها في أمور تخص البلدة، وجاءت مروة تستأذن الجلوس فأذن لها بهزة رأس وأشاحت بركة متضايقة تسأله بعفوية (مين الغزية دي.؟)
كتم جلال ضحكاته بينما إمتقع وجه مروة وسألته بهدوء كاذب (فين الغزية.؟)
نظرت لها بركة نظرة طويلة قبل أن تقول بضحكتها العالية (إنتِ)
لاذ جلال بالصمت والترقب وثارت مروة، تنفض التهمة (أنا مش غزية)
هتفت بركة وهي تنظر لجلال منتظرةً تأكيد علي كلماتها التالية (مش ده لبس الغوازي.؟)
صمتت صمت بارد ثقيل ثم صفقت بحماس وهي تصيح بفرحة طفولية (دي الي هترقص ففرح يوسف..؟)
الأمر يحتاج مجهودًا جبار للسيطرة على ضحكاته الآن، شحذ ثبات وهمي يمنع بركة من الإسترسال لكنها زعقت معترضة توبخه (جايب الغزية تبات هنا ليه..؟)
نهضت مروة غاضبة من صمته وتوبيخ بركة، تنظر لملابسها الضيقة غير المحتشمةبلا مبالاة ثم رحلت وإنفلتت ضحكات جلال المستمتعة التي تراها بركة لأول مرة منذ زمن كأنه نال شيئا يرضيه.
بعد مدة طويلة تسلل لحجرتهما، وقد حلّ بها الصمت البارد والظُلمة الخانقة، اندس بجانب براءة التي ارتعش جسدها ما إن جاورها وجذبها لأحضانه كما يفعل، مسح دمعات سخينة تجمدت على خدها ثم همس لها بدفء لا يخلو من الجزع عليها(بتعيطي ليه.؟)
كأنه فتح لها باب الحزن، انهمرت دموعها وتهدج صوتها المبحوح ببكاء مرير زاد من قلقه عليها ولم يملك إلا أن يضمها بقوة لأحضانه، يهدهد حزنها بربتات حانية، هي لا تريد الكلام ولا الإعتراف بأسباب حزنها فقد تحتاج لأن تتدثر بحنانه وعاطفته، أن تختفي وتذوب بين ذراعيه وياحبذا لو دُمغت بصدره، أو جذبتها ذراعا قلبه الوهمية وأخذتها من العالم وخبأتها بحجرات قلبه الدافئة، رفع رأسه قليلًا مُنحنيًا على وجهها المتقلص بالحزن، لثم عينيها بتوسل حار حتى تتوقف عن ذرف الدموع، تلك التي كانت سياطًا من نار تُلهب روحه
استجابت له، سكنت متشبثة به، ابتلعت شهقاتها مترقبة تتقبل عطاياه بجوع ولهفة
ليكن لشفتيها نصيب مضاعف من الشغف وإن كان يكره أن يسبيهما في الظلام.
أول قُبلة تنطبع على الروح، تظل عالقة لا تُنسى، تحتفظ الشفاه بتلك اللحظات الحارة، يدوّن علي تجاعيدها الناعمة التاريخ وتحفره.
أخبرها دون كلمات أنها هي ولا سواها، حبيبته ونصف روحه، هدية القدر له ونبضات قلبه
لن يملأ عينيه سواها، هو رجل ثمل بعشقها وإن أحاطته ألف فتاة، يكتفي بها وإن أغرته نساء العالم أجمع، هي تمتلكه وليس لديه ما يُعطيه لغيرها.
نامت بعدها قريرة العين راضية، مبتهجة القلب، مُكتفية حد الرضا، وإن لم يبوح فحرارة أنفاسه فعلت، هو رجل تطيب به الروح ويسكن إليه القلب.
*********
عتابة لها كان خصامًا لازع، ثقيل علي نفسها بعدما خيبت ظنه ورفضت حين أمتثلت أمام الشيخ تقديم الموعد، نالت منه نظرة حزينة ولائمة واختفاء من أمام عينها يعاقبها علي عنادها، حتى إنه احتفظ بنظراته عنده ولم يطلقها تجاهها كما يفعل، بخل عليها بنظرة واحدة تروي ظمأ روحها الدائم له وتعطشها لقربه.. ناداها بجفاء (جميلة)
تهللت، ضحكت وقد آتى زورق النجاة لينتشلها من بحار خصامه، وقفت بطاعة وقال (بقالك كتير مزورتيش أمك..؟)
أخربته بنظرة حزينة (أيوه، لما بتغيب مبطلعش) لانت ملامحه وأخبرها بحماس (يلا إجهزي هنروح مع بعض)
أشرقت شمسها، ابتسمت له بحب تذيب بها صقيع غضبه، أومأت بطاعة، غادرت تستعد وبقي هو في انتظارها، حتى جاءت إليه وسارا معًا صامتين تثير الرحلة في نفسيهما شجن غريب، ألقى يوسف السلام على ساكني المقبرة وغمغمت هي مثله ثم وقفا في صمت مهيب وحزن.
ليتحدث يوسف مُبتسمًا (جيتلك اشتكيلك من جميلة) رفعت جميلة رأسها بمشاعر شتى تموج على وجهها الباكي فأسترسل هو (يرضيكِ الي عملته، أنا عارف إنك لو عايشه كنتي خدتيلي حقي)
ابتسمت من بين دموعها ليكمل هو (عارف إن محدش بيحبني كدك)وكان يقصدها
رفعت نظراتها إليه في عتب، لتلتقي نظراتهما ويتبادلان العتاب، أطلقت لسانها يوقفه (يوسف) أرادت به لومه، فكيف لا تحبه كيف له أن يشك في مقدار محبتها له وينكره.
لكنه أكمل متجاهلًا كل ذلك (عارفك هتقولي إيه ونفسك فأيه.؟ بقولك حاضر، ثم التفت لجميلة التي مازالت نظراتها متعلقة به (بس لما تزوريها وصيها علي يوسف وقلب يوسف)
ثم صمت يقرأ الفاتحة ويودعها بصوت خافت وفعلت هي مثله، مد كفه يطلب كفها ففعلت وأهدتها له. وسارا معًا عائدين. سألته (مكنتش أعرف إنك زعلان قوي كده.؟)
تنهد بصمت اكتفى به إجابه لتعتذر (أنا آسفة)
أخبرها دون أن يحيد بنظراته عن الطريق أمامه (لا تروحي للشيخ وتقوليله إنك موافقة تقدمي الميعاد)
وقفت مكانها معترضة بإرتباك، ليعود خطوتين ويقف أمامها (كله إلا كده هروح إزاي اطلب كده من الشيخ)
هز كتفية بلا مبالاة لتطلب منه بخجل (شوف أي حاجه ترضيك إلا دي)
أصرّ بعناد (لا هو ده الي يرضيني، أنا إجازتي بتبقا مش طويلة يعني اتجوز وأمشي ولو خدت رصاصة أطلع من الدنيا قبل ما أدخلها، يرضيكِ) رمقته بنظرة طويلة تحتضن بين جفنيها دموع متجمدة (قولتلك محبش السيرة دي)
لانت ملامحه وهو يخبرها بجفاء (اتعودي عليها أنا راجل مبحبش أأجل عمل اليوم إلى الغد علشان الغد مضمنوش عندي)
زفرت محترقة بالغيظ من كلماته التي شقت قلبها شقًا، دارت نظراتها في المكان تمسك دموعها عن البكاء ليتراجع عن قسوته وجفائة (طيب خلاص بس أنا ليا فذمتك ترضية)
أومأت موافقة دون ابتسام، ليضم كفها من جديد ويسيران معًا للمنزل.
******
استقبلت بركة مجيئة بقفز وصرخات متعالية
(يوسف جه) حين إقترب وسلّم عليها هتفت بعفوية (جلال جبلك غزية هترقص ففرحك)
حملق يوسف فيها مذهولًا ليأتي جلال من خلفها ضاحكًا ويقترب معانقًا صديقه في مودة، مُرحبًا بشدة، سأله يوسف يطلب تفسيرًا (هي بتقول إيه..؟)
أشار جلال لبركة (روحي اعملي ليوسف حاجه يشربها) رفضت بعناد وهي تدبدب بقدميها (لا لما أقوله علي الغزية)
دفعها جلال في تأفف، وهو ينهرها (يلا بعدين)
استسلمت له ليوضح جلال ليوسف متهربًا(بركة بقت بتتخيل كتير) حدجه يوسف بنظرة شك وريبة ليكتم جلال ضحكاته ويسأله في مبادرة يصرف بها ذهن عما قالته بركة (ها ايه الأخبار، طمني عنك)
بالداخل كانت براءة تلج للحجرة التي تقطن فيها مروة، جلست دون طلب الأذن ثم سألتها بحدة (جاية ليه يا مروة)
رفعت مروة رأسها ترمق براءة بغيظ حاولت مداراته جيدًا، من ألف وجه لها تلبست وجه الوداعة قائلة (قلقت عليكي لما مشيتي فجأة، ثم تابعت تستعطف براءة بندم كاذب وإستياء مفتعل (مش قادرة اتحمل عمتك ومروان غايب أنا تعبت يا براءة ونفسي حياتي تتغير للأحسن) لانت ملامح براءة وقد صدّقتها فتابعت مروة منتصرة (ساعديني أنا عارفة إني كنت سيئة معاكي بجد بس أنا بعتذر حقك عليا وخلاص عايزه اتغير وملقتش حد يساعدني غيرك) عصرت عينيها تبحث عن بضع دمعات مغشوشة تطلقهم لتستميل براءة وتكسبها لصفها.
ضمتها براءة بقلب كإسمها، تُهدأها واعدة لها بالمساعدة، تشاركها الدموع الصادقة.
من خلف الباب كان جلال يتميز غيظًا من الحية الرقطاء التي تستغل قلب براءة، هو يعرف مسعاها جيدًا ويسايرها لأجل أن تكتشف براءة مشاعرها تجاهه، خيط رفيع من الغيرة لاحظة الأيام المنصرمة مما دفعه لأن يستغل مروة لصالحه وبعدها سيطردها شر طردة ولولا حاجته لها لما وافق علي إقامتها هو ليس بغر ساذج ليُصدق تلك الأكاذيب والحجج الواهية هي تدبر لشيء ولن يسمح لها، سيأخد منها حاجته وبعدها لن يرحمها هي أيضا لها حساب يجب تصفيته.
انتفضت براءة على صوت هاتفها، مما دفعها لأن ترحل من حجرة مروة مُرتبكة، تطالع الهاتف بإهتمام جعل مروة تندهش منها وتقسم أن تبحث خلفها.
وقفت براءة بركن منزوي داخل المطبخ تراسل صديقها الذي غابت عنه لمدة طويلة،
مبتسمة تحكي له مشاعرها الجديدة وتحوّل مسار حياتها. وهو يستمع كعادته بصبر ولا يبخل عليها ببعض النصائح،
*******
جابت الحجرة بنظرة متفحصة، مملوءة بالترقب، نظرة ردت إليها خائبة في مسعاها، لا تحمل فوق جناحيها ملامحه.. خلت الحجرة اليوم منه، إرتاح بالها من مشاكساته لكنها قلقة بحق لغيابه.. جلست بينهم صامتة على رأسها طير الإفتقاد يرفرف بجناحيه، تسعى نظراتها كل دقيقة مهرولة لباب الحجرة ربما يأتي ويقتحم الجمع كما يفعل، لكن الخيبة كانت شرابًا مر ّ تجرعته لهفتها وسممت به إنتظارها، غابت عما حولها تفكر تغيب في قلقها وهي التي لا تعرف عنه شيئًا أين ذهب.؟ أين يختفي يومان.؟ حتى صغيرتها تسأل عنه باكية شوقها له، تذهب لباب شقته تطرقه دون أمل فتتقهقر دامعة لشقتهما، لا تيأس ولا تمل السؤال عنه (ماما فين لوكا) رفعت هاتفها مترددة في السؤال، تنظر لأسمه في حيرةً وإرتباك.
حتى حزمت متاع رغبتها وتسلقت حائط القلق تنظر من فوقه عليه (السلام عليكم، فينك إنت غايب انهردا..؟)
دقيقة اثنان ثلاثة... لايرد.. أمسكت بهاتفها ونهضت لعملها منشغلة البال، أثناء درسها وصلتها رسالة منه، ركضت أناملها بلهفة تفضها بترقب، خاب ظنها في رسالة مكتوبة قصيرة موجزة، هو يرسل رسالة صوتية بصوت هالك مهترى يمزقه السعال يخبرها بأنفاس لاهثة أنه يعاني التهاب رئوي حاد تحوم شكوك طبيبه حول أنها كورونا لذلك سعى للإنعزال بعيدًا عن الفتاة وعن الجميع والعزل وحده حتى يُشفى)
ارتجف قلبها رهبةً وجزعًا، تذكرت معاناتها ووحدتها، مخالب المرض التي فتكت بصمودها وقوتها والتهمتهما بشراسة، بكائها وإستنجادها، تذكرت ليالٍ حالكة السواد بأمل لا يشرق على قلبها.. شعرت أنها مسئولة عنه، واجبها يحتم عليها معاونته وعدم تركه إنسانيةً منها ورفقًا به، من أدرى بهذا المرض منها ومَن غيرها يستطيع قراءة شعوره الآن.. أنهت عملها وغادرت مصممة مقررة إقتحام عزلته ومجاورته في مرضه حتى يتماثل للشفاء ولا سبيل لرفضه.
في طريقها مرّت علي صيدلية، أتت منها بما تحتاجه وبعدها السوق حيث ابتاعت الكثير من الفاكهة والخضار والأعشاب.. وبعدها للمنزل مستعدة لرفضه متسلحة بالصبر والعزيمة لكن قبل أن تدخل (رنت علي هاتفه كثيرًا حتى أجاب بصوت ضعيف
(مالك قوم إفتح الباب أنا واقفة)
حاول الرفض لكنها أصرّت وطمأنته أن الفتاة ستعود بباص الحضانة فيمكنها الإعتناء به تلك الفترة، فتح باب الشقة بوهن وذبول
تأملته دقائق قبل أن تندفع للداخل بما تحمله وتغلق بقدميها الباب،تمدد مسترخيًا علي الآريكة منهكًا لا يستطيع جدالها أو سؤالها عما تفعل، وضعت الأشياء بالمطبخ وخرجت تسأله بإهتمام وهي تنظر لجسده الممدد بتعب بإشفاق (أكلت حاجه،و فين العلاج..؟)
هز رأسه برفض فجلست علي مقربة منه، تدفع كفها لجبينه في آلية متجاهلة انتفاضته وارتعاشتها هي، لتهمس بقلق (مالك إنت سخن)
أغلق عينيه مستسلمًا للوهن فاندفعت، تجلب جهاز الحرارة الذي إبتاعته، وجلست علي ركبتيها أمامه تهمس له برفق(افتح بؤك أقيس الحرارة)
فعل بصمت دون أن يفتح عيناه المغلقة، وانتظرت حتى أنهى الجهاز عمله الذي ما إن طالعته حتى شهقت (٤٠)
وضعت الجهاز جانبًا وأمسكت بذراعه تحسه بحنان (قوم معايا)
أصيب جسده بالخدر وسقط وعية في بئر مظلم تتعاقب عليه الصور والأحداث فبات يهذي محمومًا، لفت ذراعه حول كتفيها وأسندته حتى وصلت به باب الحمّام، أدخلته موقفة إياه تحت المياة المندفعة فوق رأسه بقوة، لينتفض مرتعشًا متوسلًا (كفاية يا حنان) توسلته بدفء (علشان خاطري اتحمل شوية) حين إشتدت إرتجافته وأفاق قليلًا أغلقت المياه وساندته ليخرج، أشارت للحجرة (غيّر هدومك وتعالى)
حين تركته مبتعدة، إرتبك جسده وكاد يسقط من فرط الإرهاق فعادت لمساعدته برضا وملامح مشفقة، أدخلته الحجرة وأجلسه على الفِراش ثم إبتعدت تجلب له بعض الملابس من خزانته، برغم خجلها إلا أنها واصلت ما تفعل مدفوعة برغبة حقيقة في مساندته، أخرجت ملابس ووضعتها جانبه مطرقة الرأس بحياء (بدل هدومك وتعالى بره لو مقدرتش تيجي ناديلي)
خرجت تبحث بين أغراضها عن الدواء الذي أحضرته، وبدأت في إعداد مشروب دافىء يسترد به جزءًا من عافيته تقدمت ناحية الحجرة تستأذن بطرقاتها للدخول فأذن لها وهو يتمدد على الفِراش متدثرًا، وضعت ما بيدها جانبًا وجلست أمامه، ناولته أولًا الدواء وبعدها المشروب الذي إمتنع عنه كالأطفال رافضًا بذمة شفاة جعلتها تبتسم (مش عايز مبحبش الحاجات دي)
قربته من فمه في عناد قائلة (علشان تخف أسرع وصدرك يبقا أحسن)
سعل بقوة فأبعدت يدها ليلتقط أنفاسه وقد استرد جزءًا من وعيه (إنتِ جايه ليه.؟)
همست وهي تقرّب الكوب من فمه في إصرار وجلد متجاهلة جفاء كلماته(مينفعش أسيبك) أكتفى بأن يرتشف المشروب من بين أناملها دون أن يتناول الكوب فقدرته لا تساعده، غير أنه مستمتع بهذا الأهتمام الوليد والحنان الذي يتدفق فيغمره، طعمًا آخر للإهتمام والعناية لم يتذوقه من قبل وهو الذي ظن نفسه منسيًا وحيدًا..
حين أنهى الكوب وضعته جانبًا ودثرته هامسةً بلطف (هجيب كنزي وأنومها وأرجعلك)
سألها وهو بين النوم واليقظة (مش خايفه تتعدي)
مسحت بكفها حبات عرق نبتت علي جبينه وهي تهمس بإبتسامة صافية (لا مش خايفة)
غادرت لشقتها، إستقبلت فتاتها، بدلت لها ملابسها وأطعمتها وحين ذهبت الصغيرة للنوم، أغلقت الباب وغادرت له..
تسللتلشقته مندفعة لحجرته فوجدته مازال نائمًا، صنعت له عصير طازج وغادرت تطرق مستأذنة الدخول، باعد بين جفنيه حين طرقت، نظر إليها ثم إعتدل يستقبل دخولها بصمت، جلست على الفِراش وناولته كوب العصير وهي تهمس بإبتسامتها (عامل إيه دلوقت.؟)
تناول منها الكوب مغمغمًا بالحمد، ثم وضعت بين شفتيه جهاز الحرارة مترقبة، بينما كانت نظراته تتجول بحرية عليها، سحبت الجهاز وحين قرأته هللت (الحمدلله الحرارة نزلت)
أفرغت الحبوب بباطن كفها وقربتها منه ليأخذها لكنها أشار لها بمكر (هاتيها)
قبضت عليها بأناملها ولامست شفتيه بهما كي يتناوله كانت بريئة بينما كان طلبه هو ليس بريئًا، كان رغبة متخفية منه وإشتياقًا للمسة من أناملها، جف حلقها من نظراته التي سُلطت عليها بإقتحام.. نهضت متمتمة بإرتباك متهربة (هعملك شوربة حالًا)
وصاها بوهن (خلي بالك من كنزي)
طمأنته بإبتسامة طوقت قلقه كعناق (متقلقش إحنا متعودين المهم تخف وتقوم بالسلامة)
تقدمت خطوتين ناحية فأستوقفها (متشكر يا حنان)
أدارت رأسها تخبره بنفس الإبتسامة (الشكرلله)
ذهبت للمطبخ بعدها تصنع له حساءًا وبعض العصائر الفريش والمشروبات الساخنة التي وضعتها في دورق يحتفظ بحرارته، حتى إذا غابت عنه وجد ما يشربه بالقرب منه، شبت على قدميها في محاولة بائسة لإلتقاط بعض الأواني المصفوفه في الأعلى بعيدًا، تأففت من بعد المسافة.. جلبت كرسي بلاستيكي صغير وأعتلته تجلب ما تحتاجه، لكنها غفلت عن كسر ساقه فأنزلق بها لينتفض جسدها للوراء فتلقفها مالك بين ذراعيه هامسًا (حاسبي ياحنان)
أحاطها مالك بذراعيه من الخلف، يمنع جسدها من السقوط، إلتقطت أنفاسها والتفتت تشكره بخجل (شكرًا)
بادلها الهمس معاتبًا دون أن يترك جسدها المحتجز بين ذراعيه (مش تاخدي بالك)
أحنت رأسها في حياء شديد من قربه منه بهذا الشكل، واستقرار ظهرها على صدره، بينما عيناه تنظر إليها تلك النظر التي تذيبها خجلًا
تململت عله يترك خصرها المُعتقل بكفيه، لكنه غائب، همست (مالك)
أجابها بهمس محموم (نعم)
همست تكاد تنزوي من شدة الخجل (ايدك)
تركها مرغمًا أبعدها عنه برفق، راحمًا توترها
سألها وهو ينظر حوله (بتعملي إيه.؟)
أخبرته دون أن تواجه نظراته (شوربة)
(تحبي أساعدك)
(لا) خرجت حادة قاطعة، فإنسحب لحجرته تحت نظراتها التي شيعته بخيبة.
في المساء وضعت طبق الشوربة جانبًا وقالت وهي تهم بالمغادرة موصية (أشربها وخد العلاج) أومأ بصمت دون أن تتحرك نظراته في اتجاهها لتعود وتسأله قلقة عليه (تحب نبات هنا جنبك)
لعنت تهورها الذي دفع نظراته أن تركض ناحيتها في إستكشاف وفحص أربكها ليُجيب غير مصدق يعبق الأمل صدره (ينفع.؟)
لانت ملامحها لنبرته، ابتسمت تخبره بتأكيد (اه عادي)
عاد يخبره بإحباط (بس كنزي)
طمأنته (متخفش هخليها بعيد)
غرق في الصمت البارد تدفعه رغبته لوجودها في الإلحاح عليها لتفعل بينما ينهره عقله. قدّرت هي صمته وتفهمته، خرجت تجلب الصغير وبعض حاجاتها وعادت إليه
ما إن رأها تدخل وتغلق خلفها تنفس براحة، خبأ ابتسامة خلف ملامح جامدة وسكن في ترقب، وضعت الصغيرة في حجرة أخرى ودثرتها ثم عادت إليه متخلية عن تحفظها تخبره (هغيب بكره علشان أطمن إنك معدتش هتتعب)
حملق فيها مندهشًا من اهتمامها وعطائها المفرط، عنايتها به دون كلل، أخرجته من شروده هامسة (الشوربة هتبرد)
إقترب يتناولها بشرود لتنهض هي تجلب له الدواء من ثم تعود لتجلس مرة أخرى متابعة، حينما ينتهي تناوله الدواء.
(هتسهر ولا تنام..؟) سألته وهي ترفع هاتفها تقلب فيه ليقول بكسل (نمت كتير يمكن أسهر شوية)
هزت رأسها متفهمة، تشاركه السهرة بصمت وعينان تتفحصان الهاتف بإهتمام جعله يسألها بضيق (بتسمعي إيه.؟)
أخفضت هاتفها وأجابت بملامح منشغلة مُفكرة، بنصف وعي (مسلسل تركي)
غمغم حانقًا لاعنًا وهو يشيح في رفض وإعتراض (كمان تركي)
رمقته بنظرة سريعة لا مبالية وعادت لهاتفها من جديد، ليغضب ويثور ناهضًا (أنا هنام)
حملقت فيه بدهشة، سرعان ما بددها ندائه المغتاظ من حجرته (قومي نامي ياحنان)
أطاعت بصمت، هي أيضًا مرهقة، متعبة الجسد بعد يوم طويل حافل.
في منتصف الليل تسللت على أطراف أناملها لحجرته تطمئن عليه وتباشر حرارته، التي وجدتها قد إرتفعت من جديد حين لامست بشرة عنقه وجبهته العريضة، زفرت بإستياء من المرض اللعين الذي أحال ملامحه الجذابة للشحوب والإصفرار، أيقظته بهمسها القلق (مالك خد العلاج)
تناوله بطاعة وعاد للغرق في اللاوعي، بينما جلست هي تصنع لها كمادات تساعد في خفض حرارته، ودون أن تشعر نامت واضعة رأسها علي صدره، موضع قلبه.
*********
بعد مرور يومين كان قد إستعاد صحته قليلًا وتماثل جسده للشفاء والعافية، إلا من بعد الآثار المزعجة والسعال الذي لا تنتهي نوباته
جلست أمامه تسأله حين إشتد بأس السعال ونحر حنجرته (مالك أعملك حاجه سخنة.؟)
إلتقط نفسًا وهو يخبرها بإستياء وغيظ مكظوم (يا حنان دمي كله ينسون)
ابتسمت له قائلة وهي تمط شفتيها مؤنبة(علشان صحتك، وعلشان تخف بسرعة كنزي هتتجنن عليك ونفسها تشوفك)
أراح رأسه على الحافة متعبًا خائر القوى (وهي كمان وحشتني)
رفع جفنيه الثقيلان يخبرها بإمتنان ونظرة نفذت لأعماقها (مش عارف من غيركم كنت هعمل إيه..؟)
غيرت مجرى الحديث، تبعد نظراتها عنه تحكي له يومها وقد ذابت الفواصل بينهما وبدأا إعتياد الحديث وتبادل الحوار بهدوء لا يخلو من شقاوته ومشاكساته رغم مرضه.
(في صح مُدرسة جات انهردا المدرسة.؟)
سألها بإهتمام وهو يدلك صدره بكفه (اسمها إيه.؟) قالت وهي تدور في المكان، تنظف وترتب (علا) كانت الانتفاضة من نصيبه، حملق يتأكد بصوت خشن (علا)
هزت رأسها وهي تعمل بآلية فعاد يسألها (سألت عليا..؟)
قطبت أول الأمر منزعجة قبل أن تتراخى ملامحها وتخبره بحنق إستطاعت تخبئته في نفسها (اه..؟ عرفت إزاي..؟)
صمت شاردًا ليعود علي كلماتها منتبهًا (كنت عايزه أقولك حاجه)
نهض من جلسته وأقترب منها يسألها بإهتمام دون أن يحيد بنظراته عنها (إيه..؟)
بللت شفتيها،وأخبرته بنبرة مرتبكة يشوبها الحرج (صدفة...) صمتت وتوقع القادم
(بتحبك) قذفتها في قلقل، دثرت بالمواجهة حيرتها المشتعلة ليخبرها بنبرة متهكمة متبلدة المشاعر (عارف)
بادلته النظرات ليحثها بإرتياح، متخطيًا الحواجز (عايزه تقولي إيه..؟)
انهمكت قليلًا في تقطيع الخضراوات تنازع رغبتها في البوح، لتقول بإستسلام (ليه أنا مش هي طالما عارف)
جاءها سؤاله زاحفًا ببطء، ممطوطًا.. يحفه الإنتظار (ندمانة..؟)
سقطت في فخة، وشركه الذي نصبه لها، اصطاد راحتها وأقلقها بسؤال لا تعرف إجابته حقًا، لكن ما تعرفه أن مرضه كان منحة لها لتتقبله، هدم الجدار الفاصل بين روحيهما وأعتادت.. سنين الغربة العجاف كانت أول دروسها أن تعتاد كل شيء وأي شيء، وتتقبل بنفسٍ راضية، وإن كرهته جملته لتُحبه.
مرضه والحديث معه، تقاربهما واهتمامها به ووجودها هنا الآن، أسقط كل حصن إحتمت خلفه وسهّل لها الأمور.
جرحت السكين الحاد إصبعها فتألمت، تركتها ملدوغة بغدرها. إقترب مزعورًا خائف يترقب
أمسك كفها وتفحصة مُعاتبًا بحنو (مش تاخدي بالك)
رمقة السكين بإمتنان لأنها أعطتها بعض الوقت للإجابه، منحتها هروبًا سلسًا من سؤال ستفتش عن إجابته ربما يومًا ما.
قادها للماء غسل الجرح بعناية ثم سحبها للخارج، حيث يقبع صندوق صغير يحوي بعض الإسعافات، عقّم الجرح وضمده تحت نظراتها المهتمة بتأمله.
التقط أنفاسه القلقة عليها، ورفع رأسه يخبرها بعطف (الحمدلله سطحي)
عاد لآريكته منهك بصمتها، مُتعب بأفكاره.
قرأت إحباطه في نظراته، لتخفف من وطأة شعوره تمتطي حماس زائف (ممكن مساعدة في الشغل قبل ما تيجي كنزي.؟)
قالتها وأقتربت تجاوره بعد أن أمسكت بحاسوبها المحمول، تابعها بنظراته ومازال على وضعه ممددًا وهي تجلس علي حافة الآريكة تسأله فيما يخص العمل وتستشيره في بعض الطُرق ليخبرها بهمس دافيء ولج لقلبها كسحابة صيف أمطرت علي صحرائه (شغلك حلو يا حنان)
ابتسمت لإطرائة، قرأت الإنبهار بنظراته الذابلة فانتشت، مست إبتسامته شغاف قلبها فإضطربت. إرتفع جسده قليلًا ظنته أول الأمر يتحقق من شيء في الحاسوب الموضوع على ساقها، لكن حين أقترب أكثر تصلبت، انتفضت من أنفاسه التي ضربت جانب وجهها ولونته بالحمرة، جمدت نظراتها علي الحاسوب بقلق بينما أناملها تتحرك بعشوائية علي الكيبورد تشاركها تلك البعثرة.
طبع قبلته على خدها الأيمن كما أراد.
سكب عواطفه وحرارة رغبته في تلك القُبلة، حط بجمرتين مشتعلتين في بصمة ولحظة لن تُنسى.
ثارت أنفاسها وقُيدت عن الهرب وأحاطتها أغلال المفاجآة، عاد هو لنومته مسحورًا مأخوذًا بعدما فعل وقد أسكره عطر أنفاسها، نال ترياقًا خاص أخذ به لعالم النوم والأحلام.
أوقعت الحاسوب، وانحت تجلبه في توتر وإنتفاض ثم رحلت لكن تلك المرة لشقتها.
ساندته تنهيدة خرجت من صدره المتعب وقد إجتمع عليه المرض وقوة اللذة حين وصله صوت إغلاق الباب وهروبها.
*****
في العمل تجنبت نظراته، تهربت منها لثقتها أن شيئًا بداخل كل منهما قد تغير، لم تعد هي النظرة ولا النبرة تبدلتا،لكن رغم ذلك لم تفقد اهتمامها ولا عنايتها له حتى يتماثل للشفاء ويفارقه السُعال ويسترد عافيته كاملة.
استقبله الجميع بحفاوة حتى وصل لتلك التي اتكأت بأسفل جسدها وهي تعقد الذراعين على طاولة، ترسل له نظرات مُتحدية، تجاهلها مُعرضًا عنها في صلف، جلس خلف مكتبه يضع علي أنفه وفمه كمامة بلون أسود كانت قد ابتاعتها له أمس، تبسمت بحياء حين تذكرت تأففه وإعتراضه على اللون،زمجرته وغضبه الطفولي وإستنكاره له لكنها كانت مستمتعة تغيظه من وقت لآخر، منتقمة منه على ما فعله وإجبارها لتبديل ذلك اللون، أحضرت له كوب اليانسون الذي يبغضه وأقتربت تضعه أمامه هامسة بتشفي (اليانسون) رمقها بنظرة زاجرة، ولسانه يعقل الرفض،ثم مالت ناحيته تسأله (أخدت العلاج..؟) هز رأسه صامتًا بشرود في مجيء علا وعودتها للمدرسة من جديد،قبل أن ترحل ويغوص هو في أعماله وأفكاره ومجيء علا رفع كفه في علامة التمام حيث ضم إبهامه وسبابته علامة الدائرة محركًا رأسه وهو يشمل ملابسها الجديدة بنظرة متفحصة، ضمت شفتيها خجلة من إهتمامه وملاحظته وسط هذا الجو، أومأت بنظرة شاكرة وابتعدت عنه تجلس مكانها دون أن تتركه عيناها.
كان نصيب علا أن تتقدم ناحيته بتمايل ودلال، حين وصلت استندت بذراعيها علي طاولته تقول بنبرة أثارت غثيانه من ميوعتها المفتعلة (الف سلامة عليك)
ردد هو بنفور واضح ونظرة ساخرة (أوفر)
احتدت عيناه لآخرى تراقبه بإهتمام، رفعت علا حاجبها وأدارت رأسها تنظر حيث يضع نظراته فلم تجد إلا حنان التي تتصنع الإنشغال هاربة بنظراتها المهتزة من عيون الجميع.
عادت إليه تخبره بوقاحة (لسه زي ما أنت)
إبتسم يخبرها بوقاحة تنافسها (وإنتِ لسه متتبلعيش، بتقفي في الزور)
فغرت فمها متعجبة، تُسقط من صفحة ملامحها الراحة، إغتاظت عضت شفتيها وزمجرت ليبتسم لها أروع ابتساماته ويشيح بكفه (يلا بالشفا)
نهض الجميع علي صوت الجرس وبقيت هي، لتخبره حيت إقتربت (هاخد الحصة بدالك إرتاح شوية) وضعت أمامه بعض الشطائر التي أعدتها له خصيصًا وخشيت أن تُقدمها له علي أعين الجميع خاصة أنهم لايعرفون بأمر زواجهما(دا الأكل ومتنساش الدوا بتاعك.
ذاق الاهتمام وأغترف حتى شبع، كان لها من اسمها نصيب، بل نبع لا ينضب وهو رجل جفت أودية قلبه منذ زمن وعطشت أرضه حتى تشققت، وهي الآن تغدق عليه بكرمها تمنح وادي الاحتياج عنده حنانًا وفيضًا كريم من العناية وهو الذي دُمغ النسيان بإسمه ولم تتذكره وتحتضنه سوى الوحدة،
حتى علا بخيلة المشاعر، جافة الطباع كرهها وفر من قسوتها، لكنه يريد حنان بكل عطاياها وما تقدمه له بسخاء، أطباق ملونة من عواطف شتى ومشاعر كان قد نسيها.
انسحبت بعد أن ضاقت ذرعًا بشروده وتأمله الصامت لها وبقي هو علي حاله يفعل ما أمرته بطاعة
********''