الخامس والثلاثون
وضعت الطعام أمامه الذي أرسله يوسف وهي تهز رأسها في إعتراض ويأس وقد رأت إن ما أتت به قبل ذلك كما هو، لملمت أعقاب السجائر قائلة بحزم (كفاية سجاير)
هدر بغيظ وهو يرمق الطعام بشهية مغلقة (قولتلك متجبيش أكل يا بركة)
تحدثت كأنها لم تسمعه، عاتبته وهي تنظر لرأسه الحليقة بحزن عميق (هتفضل كده ياحزين)
أشعل سيجارًا أخري رغم إهتزاز أنامله والشرود المصاحب له لكنها جلست أمامه لتحوز علي إنتباهه متوسلة بدموع أطلقت صراحها(براءة اتجننت يا جلال)
رمش بعينيه، يستوعب هذرها المُلطخ بالجزع، لتمسك يده وهي تهتف ببكاء شارحةً ما آلت إليه الأمور (بتكلم نفسها يا جلال)
أغمض عينيه ينازع الإشتياق والخوف، يشحذ همة تُعينه فأكلمت بركة متوسلة ثم صارخة تقحم الكلمات في أذنه وعقله عمدًا (مش بتاكل ولا بتشرب بتاخد دوا كتير وبتكلم نفسها)
تركها يطارد أشباحًا لا يراها سواه، صامت بائس، حزين، يعتّق الألم ويتجرعه كلما إشتاق و عز عليه الفراق..
اتصل به عباس على هاتف بركة، يسأله عن حاله ويرجوه العودة للضروة، ليتحدث معهما، لكنه إعترض، قال بغصة (كنت جاي ومقدرتش مش عارف ولا قادر.. خطوة واحدة مش عارف أبعد عنها هنا أنا قريب منها وشايفها)
(طيب هاتها يا ابني وتعالى نتكلم) قالها عباس يحاول إقناعه، ليهمس جلال برفض(مش دلوقت)
تخلى عباس عن الصبر، نهره بغضب لأول مرة(إرجع افضل جنبها، متفضلش لوحدك)
لا يعرف عباس أيقلق عليه أم عليها، يخشى على من فيهما من الوحدة.؟
عاند جلال، تحلى بالبرود والصمت وشعر عباس أن الأمر أكبر من تركها له في حزنه شيء غامض لا يفهمه .
أغلق عباس الهاتف يائسًا منه ليزفر جلال بإختناق، وضع ساعديه فوق رأسه بتعب،لن يتحدث عنها مهما حدث، لن يُفصح عما حدث ولا رسائل مروان، لن يقبل بأن يمسها سوء.
رحلت بركة كما جاءت، وجدت براءة مكانها منزوية ظهرها للحائط تضم ساقيها لصدرها، متغيبة عن العالم، غارقة في أحلام يقظتها،تطارد الذكريات بنظراتها في كل أرجاء المنزل ،أحيانا تتكلم كما لو أنه بجانبها، تحاوره وتتوسله ثم تبكي بقوة ومن بعدها ترتجف وتسأله أن يحيطها بذراعيه، تضطر بركة لأن تفعل، تجلب معطفه وتدثرها به فترفع لها براءة رأسها هامسة بنظرات غاربة خاوية (جلال) التى تمتليء خيبةً حينما ترى بركه
تضم المعطف كما لو أنه هو، ثم تتمدد على الأرضية الباردة لتغفو.. بينما تبقى بركة بجانبها تتسائل ماهذا الجنون.؟ كيف لعشقٍ أن يسلب صاحبه العقل..؟ أن يأخذ روحه ويتركه جثة باردة؟ لتدرك أن تلك الصغيرة التي آتى بها جلال في غفلة متفاخرًا أنها عروسه، عشقته حد اللامعقول.
**********
وقف عباس أمام الشُرفة يتنفس بعمق، يجلي صدره بهواء طلق، يفكر بهدوء، رغم يقينه وثقته بجلال إلا أنه خائف عليه كأب، يعلم مقدار توهته ووجعه كما يعلم جيدًا مدى عشقه لبراءة، تلك الصغيرة التي خبئها بقلبه لسنوات، يخاف عليها ويحميها بجنون،
ماحدث كان قاسيًا علي قلبه، لكنه يفهمه ويعلم كيف يفكر.
انتهت أفكاره عند هذا الحد، مسح وجهه بكفه زافرًا مع أنفاسه تضرُع خافت، جاءت إسراء من خلفه خائفة تزرف الدموع بقلق (جلال كويس.؟) هز والدها رأسه يطمئنها بحنو (كويس أنا متأكد)
سألته مرة أخرى و نظراتها تتبع نظرات والدها الشاردة (هنسيبه)
ثبّت عباس نظراته عليها قبل أن يقول بمغزى(لا مش هنسيبه.. كلميلي مالك)
في الناحية الآخرى كان مالك يستمع لما يُمليه عليه خاله بإنصات وإهتمام، يعلن موافقته المسبقة على كلمات لم تصل لمسامع حنان التي إنتظرت أن يُنهي مكالمته بصبر.
إعتدلت تراقبه بإهتمام حين وصلتها زمجرته الغاضبة (والله ما هسيبه، ابن....)
التفت ينظر للطفلة وحنان، هل يستمعان.؟
إعتذر بنظراته منسحبًا للحجرة يستمع لتحذيرات عباس بعدم التهور والتصرف الأهوج حتى يعود لجلال ويتحاورا في الأمر،ويعرض عليه المساعدة وعدم تركه بمفرده ولأفكاره، فليشاركه فيما سيفعل ويعاونه، كما وصاه بحسن رعاية براءة وإن إحتاج الأمر بالوشايه لها بمكانه لا ضرر فليفعل،أغلق مالك ملتقطًا الأنفاس من الوصايا العشر التي أملاها عليه عباس وألحّ عليه بها،غمغم بهزة رأس يائسة (المنحوس منحوس، كنت حاسس حد باصصلي فأم الجوازه دي)
نادته حنان علي إستحياء، فطلب منها أن تأتي ليتحدثا في أمر هام، يجب عليهما مناقشته..
طرقت الباب تطلب منه الخروج، تأفف من أفعالها، خرج مُرغمًا يغمغم بإستياء (اهو جلال صبر وسابها بمزاجها كان حصل إيه، دا صنف عايز الحرق)
قال منهزمًا بالواقع وهو يداعب خصلات الصغيرة التي جاءت تجلس على فخذيه فور مجيئة (حنان أنا مسافر دلوقت.؟)
سألته بإستنكار (السعودية..؟)
هز حاجبه قائلًا بشقاوة محببة (بعينك أنا قاعدلك) خبأت ابتسامتها من الظهور متصنعة الجدية وهي تسأله متجاهلة مزاحه(أمال فين..؟)
تنهد يلعن المسافات قائلًا (الصعيد لجلال)
(مين جلال) قطبت تستفهم فنظر للصغيرة قائلًا بمغزى (لو كنوزي نامت هحكيلك بإسهاب)
نظرت لهاتفها متهربة من شقاوته ومرحه تقول (حد قالك إنك منحرف ودماغك شمال)
طبع قُبلة على رأس الصغيررة المستكينة بأحضانه دون أن يُبعد نظراته عن أمها وهو يهمس(آه حنون قالتلي)
تلون وجهها بالحياء من تدليله، أشاحت تلتقط أنفاسها المشتعلة، تُصدّر له عدم المبالاة الكاذبة ليقول مازحًا (يابت)
تعللت مبتعدة عنه ليمازحها (هحضر عشا قبل ما تمشي)
(اهربي.. دا إنتِ وشك نور لما رجعتي شقتي)
قذفته بأقرب وسادة طالتها يداها، ليقهقه بإستمتاع، مُبعدًا عنه الوسادة.. تبدلت ملامحه حين عادت نظراته لما أمامه، أمسك بهاتفها الذي تركته ليكتشف أنها كانت تستمع لفيلم هندي كما تفعل دائما، عض شفتيه مُغتاظًا منها ليقرر تأديبها بكل عزم حتى تقلع عن إدمانها تلك العادة.
هل ينقصه أن تنشغل برجال غيره.
******
ومن داخل حجرته
نادها لتساعده بقصدٍ وفكرة عابثة تدور بعقله
حين أتت سألته ماذا يريد فأخبرها أنه يريد مساعدتها في جلب الحقيبة الصغيرة من فوق الخزانة، ببراءة تقدمت منه حيث يقف أمام الخزانه(هساعدك إزاي..؟)
جذبها بقوة حتى تشككت، ملامحه أوشت لها بأنه يتلاعب بها صح ظنها حين إحتجزها بين جسده وضلفة الخزانة، كلما تحركت سد الطريق بذراعه رافضًا أن يُطلق سراحها، ابتلعت ريقها بصعوبة حين رفعت وجهها تتبين ملامحه الماكرة ونظرة العزم المنبثقة (مالك اهدأ)
تصنّع البراءة وهو يُخبرها بوداعة كاذبة(إيه يا حنان أنا قولت ولا عملت حاجه.؟)
هددته بنظرة حادة، تفشىّ فيها الخوف(هروح شقتي)
قرص وجنتها قائلًا بعتب(تهديد ده.؟)
أبعدت كفه عنها زاهدة في لمساته غير البريئة (اه وإبعد خليني أطلع)
(ولو مبعدتش..؟) رمى سؤاله وعينها تجوبان طُرقات ملامحها ووديانها التي أزهرت بالإبتسامة (محكتليش برضو إتطلقت إنت وعلا ليه.؟) أغمض عينيه متأففًا قبل أن ينظر للإعلى بإستغاثة ويعود لها وقد تبدلت ملامحه(إيه فكرك بيها دلوقت إنتِ غاوية نكد.؟) مسعاها الحثيث لإغضابه إرتقى لحافة النهم والتشفي بعدما إحتجزها كجرو صغير يريد العبث معها (بجد..؟)
قضم شفتيه في غيظ منها قبل أن ينحني أمام شفتيها ليرعبها أكثر (اطمني لا خمورجي ولا بتاع نسوان، مش بخيل ولا كنت بمسيها بعلقة وأصبحها بعلقة، ولا بشخر ولا طلباتي مبتخلصش.. بس بمشي وأنا نايم لما حد يزعلني وميسمعش كلامي) قالها برضا تام وإبتسامة واسعه ليسرق منها خوفها وإرتعابها من مجرد فكر وسوس له بها شيطانه، تابع وهو يقترب أكثر يكاد يلمس أنفها بوجهه(وهادي وعاقل وبحب الفرفشة، بحب مراتي تهتم بيا، طلبات بسيطة صح..؟)
تحشرجت أنفاسها، أخفضت رأسها في خجل مرتعبة، ساقيها تتخبطان في توتر لتهمس بتشتت(بببسيطة)
إنحنى رأسه برغبة، يُمني نفسه بقبلة من شفتيها، ينال السحر ودفقة الحب. يفك التعويذة التي قيدت قلبه.. أغمض عينيه فهربت هي ونال الضربة والقُبلة من ضلفة الخزانة..
ضحكت بإستمتاع علي هيئته، ليبتعد يضع كفه علي جبهته متألمًا متوعدًا لها في حنق(ماشي يا حنان)
جمع ملابسه في الحقيبة الصغيرة وبعض أغراضه الشخصية،وخرج مستعدًا للمغادرة، وقف في الردهة الواسعة يبحث عنها، تنهيده مستاءة كادت تنفلت في يأس منه ليجد كفها تربت على كتفه من الخلف لينتبه فالتفت وهمس براحه(خلاص ماشي خلي بالك من كنزي، وطمنيني عليكي بإذن الله السبت بالليل هكون هنا، حصل أي حاجه كلميني)
بادرت هي مُقتربة منه تتعلق برقبته في عناق دافيء، استسلم له في إمتنان وحب، بادلها العناق بآخر قوي يحفره داخله حتى إذا ما أتت رياح الشوق تقتلع ثباته، إختبأ خلف حائط الذكرى مُحتميًا حتى يعود ويأخذ نصيبه من القُرب. أوصته هي تلك المرة بنبرة ناعمة صادقة (خلي بالك من نفسك، سوق بالراحة، لو احتجت حاجه كلمني)
إبتعد يقول لها بمشاكسة (أنا أصلا أول ما أنزل ترني عليا نتكلم لغاية ما أوصل، إبسطي يومين خطوبة بحالهم)
لا تعرف لما اندفعت تعانقه مرة ً أخرى بعدما إبتسمت من كلماته.. تركها مُرغمًا، ودعها ورحل، فيكفيه ما أخذ منها حتى يعود
******
رفعت رأسها المُتعبة، يتشابك لديها الواقع بالخيال، ترمق ما حولها بضبابية حتى تعبت وأراحت رأسها من جديد للأرض الباردة ربما تطغي علي غليان رأسها وتحتضنها بين ذراعيها... بين اليقظة والنوم توسلته أن يعود، أن يأتي إليها بإبتسامته الصافية التي تبتلعها.. أن يحتويها كما يفعل ويبهدد خوفها،همست لنفسها معذور فأنا أجهضت أمله بي، وخيبت ظنه مرارًا، فكيف يعود.
ثقل جفناها ولم تعد قادرة ولا مُفرقة .. شيء ثقيل يطبق على صدرها بقوة يكاد يُزهق روحها، يقيدها فلا تجد صوتًا تستغيث به أو تصرخ لينقذها أحد من براثن ذلك الوحش غير المرئي، اختض جسدها بعنف قبل أن تجد جسدها يرتفع قليلًا ليستقر بين ذراعين دافئتين تحيطانها بقوة، شهقت بعنف حين أفاقت علي رائحته التي تحبها مُدركة أنه هو، وهي الآن بين ذراعيه يربت علي خصلاتها بحنان بينما لسانه يتمتم بآيات قرأنيه جعلت صدرها ينشرح و ويتركها وحش الظلام وشأنها
رفعت رأسها تسرق نظرة، لتتضارب الصور وتختلط ما بين صورة والدها وجلال..
هل سيُعنيها الأمر إن كان هو أو والدها.؟
هزت رأسها بالرفض ورأسها تغوص وتتقلب داخل صدره، كأنها تطرق بابًا بعنف لُيفتح لها وتختبىء خلفه، ووجدت لسانها الثقيل ينطق (وحشتني يا جلال)
ووجدته يرد بنبرته الدافئة الحنون(وإنتِ كمان)
صوتها يشي ببكاء بينما عيناها مغلقة تسبح في الظلام ولا تشعر بلهيب دموع إذًا من أين هذا البكاء والعويل (متسبنيش أنا بحبك، متصدقوش)
ضمها أكثر يطمئنها كما يفعل(مش هسيبك أنا رجعت خلاص، إنتِ مني إزاي أصدقه، إنتِ بنت عمري)
توقفت عن البكاء، وقد دبت القوة في صوتها لترفع رأسها تطلب تأكيدًا (بجد...)
(مكنتش أعرف إني بحبك كده) قالتها بضعف وانهزام جعله يهمس في صبابة (أنا جواكي يا براءة)
ضمته أكثر وهي تتوسله بعطف وحرارة (متسبنيش.. خليك جنبي)
استيقظت بركة التي غفت مكانها، منزعجة.. تنظر حولها متفقدة المكان المظلم الفارغ إلا منهما قبل أن تقترب من براءة التي تهذي وتصرخ، وتضم جسدها بقوة
(براءة... براءة)
أفاقت لتأخذ نصيبها من الألم، تتحاشى النظر لبركة التي تحملق فيها بتوهة وإستنكار.
لتنهض من رقدتها معاتبة بركة (صحتيني ليه.؟ كان معايا دلوقت)
ضربت بركة فمها تسألها (كان فين يا حزينة.؟ إنتِ بتحلمي)
نظرت حولها ومازال تأثير الحلم عالقًا داخلها، لتعود لبركة بنظراتها المفجوعة (عارفه بس كنتي سبتيني أحلم)
ساعدتها بركة لتنهض، أسندتها لحجرتها التي ما إن عبرتها حتى دبت الحيوية في جسدها، وضُخت القوة إليها.. هرعت لملابسه تتلمسها، ثم عطره، أطلقته علي جسدها بسخاء تحت مصمصات بركة المشفقة، ثم انكمشت على الفِراش تغوص في أحلامها وهذيانها المرير، تنام وهي تهمس بتوسلاتها إليه كأنه يسمعها.
وهناك علي أطراف البلدة الصغيرة كان يمكث هو بداخل شقة صغيرة استأجرها ليظل بها بعيدًا متواريًا.. يقف في شرفتها بصمت مزقه صوت مالك الساخر (بتعد النجوم أكيد)
كان يعلم بمجيئة، أثناه عن فعل ذلك لكنه أصرّ بعناد البغال، بعدما أرسلت له بركة موقعه الخاص ليصل بسهولة
إرتخى جسد مالك المُنهك علي أقرب كرسي يلتقط أنفاسه وينفض عن جسده تعب السفر.. (قولتلك متجيش)
(قول عادي إيه المشكلة.؟) رماها مالك صوّب جلال الذي ظل قابعًا في الشرفة بحزن.
خلع مالك قميصه واتبعه بحذائه وعبر ناحية جلال يخبره بحماسة (جبتلك صنف إنما إيه.؟ كنت خايف من أي كمين)
قالها وهو يُخرج سيجارتين محشوتين، إلتقط منهما جلال واحدة على مضض وأشعلها كأنه ينتظرها بلهفة، فعل هو مثله، غامت عين جلال بذكرى كوب النسكافية فابتسم للأثر الذي تركته عالقًا بروحه.. ليمازحه مالك (إفتكرتها صح.؟)
رمقه جلال بنظرة زاجرة جعلته يجعد أنفه قائلًا (إيه كدبت.؟ يا أخي دا أنا شايفها فعنيك)
ثم صمتا طويلًا ليقول مالك بحماس(سبلي الواد دا هظبطهولك والله)
سحب جلال نفسًا قوي جعله يسعل بشدة تحت نظرات مالك القلقة، مسد جلال صدره وهويلتقط أنفاسه مُحذرًا مالك (خليك بعيد يا مالك أنا هتصرف)
لمعت نظرات مالك بالجدية والعزم وهو يقول (معاك يا صاحبي، يا نعيش عيشة فل يا نموت إحنا الكل)
ليضحك جلال ضحكة ملبدة علي كلماته، وهو يقول (الحشيش اشتغل بدري شكله)
همس مالك مُتحسرًا (آه ضيعتوا عليا ليلة الخميس منكم لله)
سخط جلال بضحكة متحسرة(إحنا شكلنا ولا وش خميس ولا جمعه)
سأله مالك وهو ينظر للسيجارة التي شارفت علي الإنتهاء (دا نحس، وتربية عمك عباس..؟)
ليقفز مالك لحديث أخر بعدما لأحظ إطراق جلال وعودته للشرود (البنت طيبة يا جلال وبتحبك متعملش فنفسك وفيها كده)
استوقفه جلال بهدوء (إنت مش فاهم حاجه)
نظر إليه مالك بإهتمام طالبًا منه برجاء أخوي(طيب فهمني يا ابن الحلال يمكن تطلع مني حكمة ولا كلمة كويسة) ابتسم جلال علي كلمات مالك الذي استطرد بنبرة صادقة (يا ابني الكتمان دا هيموتك ناقص عمر)
هزء جلال وهو يعود للفِراش الصغير متمددًا (الله ياصوت الحكمة والعقل)
ضحك مالك وهو يمرق داخل الحجرة (طيب إحكي الي عايز تقوله)
تمدد جلال على الفِراش بوهن وذبول لم يفت على عينا مالك المهتمة، ليدثره مالك وهو يقول (براحتك بس إعرف إني موجود دايما فضهرك)
أرسل إليه جلال نظرات ممتنة قبل أن يهمس بأسف يرجوه أن يقبله ويفهمه، لكن لا بأس من بعض البوح الذي لا يضر(هي الي مينفعش تتحكي فحدوته ولا قاعدة بسيطة، هي جوايا، بذرة إترمت ولقيتها بتكبر كل يوم)
هي السطر الناقص فحكايتي الي كل ما أقول هتكتمل حد يمسحه،هي الألم والدواء، التوهة واللقا، طول عمري مخبيها سر جوايا وعاهدت نفسي كل الي يخصها ليا لوحدي، حكاياتها متتقالش غير جوايا)
ثم نام أو ربما صمت غائبًا لكن كلماته كانت كافية، لجعل مالك يشاطره الشجن.. ينظر إليه بخوف ويطالعه بإشفاق وآسف..يستمع بإنصات يدفع عنه شظايا تلك الحرب بنظراته الدافئة وابتسامته
جلال لا يستحق أن يعبث أحدٌ له بحياته البسيطة التي رضيَّ بها، لا يستحق أن تُنهب خزائن أمانه، ولا أن تُدنس نعال الشياطين أرضه. لكنه يحترم رفضه، يقدر له كتمانه، سيظل بجانبه رهن إشارة حتى يسترد حقه المسلوب،وكيف لا وقد تعاهدا يومًا أمام عباس علي ذلك، الذي علمهما كيف يستغنوا عن أي شيء إلا بعضهما، غزل ثلاثهم في عقدة واحدة وأفهمهما أن سرهم في تلك العقدة، وسر القوة في محبتهم وتقديم ما يحتاجونه للغير، هم دائرة مركزها عباس.
قد يُغفل أحدهم عن الآخر سر، وقد يسقطعه عمدًا لم يكن لخبثًا في نفوسهما ولا كرهًا بل صمتًا وتحمّل حتى إذا ما أتت الريح العاتية تشابكت أيديهم بصمت.
هو يفهم جلال دون كلمة وجلال يفهمه ويحتوى صغائر الأمور بحكمة، يحيطه دائما بعنايته دون ملل أو شكوى حتى دون أن يسأله عما به يكتفي بالعطاء الصامت له ولإسراء. إن ضاقت دنياه يعلم إن بقلب جلال وعباس وإسراء متسح وواحات خضراء لا نهائية.
***********
يوم الأحد عصرًا وقد اضطر مالك للمكوث معه لسوء حالته النفسية وفرضًا نابع من قلقه وخوفه عليه وهو يراه هكذا لأول مرة
رفع مالك الهاتف يهمس بترقب خشية أن يسمعه جلال (أيوه يا إسراء، مبينمش ولا بياكل، معرفش أزاي.. حبوب إيه.. آه تمام هنزل أجيبها.. في العصير..؟ وأكلّم بركة تمام تجيبها هنا ماشي خلاص)
بعد مرور مدة طويلة كان مالك يقدم عصير لجلال به بعض المهدئات التي أشارت بها إسراء، حتى ينام ويرتاح قليلًا خوفًا أن يصيبه مكروه، أو تحدث إنتكاسه تؤذيه..
تعجب جلال من إلحاح مالك أول الأمر لكنه تجرعه علي دفعات دون أن يهتم فلطالما كان مالك غريب الأطوار لا يُفهم.
شعر بإرتخاء جسده فسأله بفظاظة (حطيت إيه يا زفت.؟)
قال مالك وهو يربت علي كتفه بمواساة (مُهدىء إرتاح شوية يا جلال مينفعش كده)
قال بوهن (مش عايز أرتاح ومش هعرف)
قال مالك بتأكيد وهو يساعده على الإسترخاء (دا علشان تعرف، وتعرف تفكر بهدوء بعيد عن الضغط العصبي والسجاير)
أغمض جلال يجاهد حتى لا يسقط، يعافر بجهد، يُحرّم علي جسده النوم بعيدًا عنها..
******
هاتفتها إسراء معتذرة متأسفة،نادمة ولأجل صفاء نواياها وشت لها بمكانه وأنها يمكنها مساعدتها برؤيته والإطمئنان عليه
لا تعرف كم من المرات سقطت أرضًا في طريقها إليه، كم مرة أنقذتها بركة من سيارة كادت ستدهسها دون رحمة بفعل شردودها، غير عابئة بالشتائم التي تؤطر خلفية الحدث
تتسابق مع الزمن والوقت لتراه، حينما وصلت
تركت بركة وصعدت الدرج مندفعة حتى وصلت ووجدت مالك في استقبالها، أدخلها قائلًا بإشفاق بعد أن لمحها وقد تبدل حالها ليصبح أسوأ من جلال ( هنزل شوية وأرجع) .
يبدو أنها لم تسمعه أو تهتم.. رماها بنظرات مشفقة حزينة وخرج مُغلقًا خلفه يترك لها الحرية وبعض الإنفراد بخصوصية..
تسمرت أمام الحجرة دقائق مرتبكة، خجولة.. وتائهة.. حتى حسمت أمرها وهرولت تجاهه، سقطت على ركبتيها أمامه تذرف الدموع بغزارة وهي تهمس بإسمه من بين شهقاتها(جلال جلال.) فرّق بين جفنيه المتثاقلين، غير مصدق يغمغم بإستياء حينما لمحها(الله يخرب بيتك يا مالك شربتني إيه.؟) أحتضنت كفه هامسة بلوعة وإشتياق (جلال وحشتني)
ظن أنه حلم فسايره أو ربما أعطاه مالك حبوب هلوسه لكن لا ضرر إن كان سيراها سيهلوث بها هي (وإنتِ.. ثم صمت ليغمغم وقد قارب على النوم (كدابه أهي جاتلك الفرصة أمشي تاني وإبعدي)
وضعت أناملها على شفتيه تتوسله (لا مش همشي وأسيبك، مقدرش أسيبك)
(عملت كل حاجه علشانك ضيعتي ليه كل ده)
همسها بتشابك لكنها استمعت إليها واضحه لتهمس متضرعة(أنا آسفة، والله بحبك، سامحني)
أطلقت شفتيه آخر نداء قبل أن يذهب للنوم ( تعالي فحضني متبعديش)
أطاعت انكمشت تحتضنه بقوة تهمس إليه بالإعتذارات والحب، تُغدق عليه بعواطفها تذيقه من القُرب والشغف أطنان حتى نام قرير العين، إطمئن قلبها فغادرت متثاقلة تحمل فوق قلبها الهم والجزع.
أوصلهما مالك للمنزل بسيارته وعاد، منتظرًا إفاقة جلال، استيقظ رائق البال، راحة غريبة تسللت لملامحه فلانت... نظر لماحوله بنظرات غامضة قبل أن يبتسم مالك وقد فِهم أن صديقه يحاور عقله متشككًا فيما رأي يظنه حُلمًا لكن على أي حال هو الآن أفضل كثيرًا.
غريب حبهما وتعلقهما الروحاني ببعضهما.
هل سينال هو يومًا حبًا كهذا.؟
هل ستمنحه الحياة عشقًا يليق بروحه وضياعه.؟ انحسرت أفكاره وتبدلت هتف لجلال (أنا هقوم علشان متأخرش)
ودّعه جلال شاكرًا ثم جلس مكانه مُتعبًا منهك الجسد والأفكار.
**********
قبل أن يصل، وصله اتصال منها رغم تجاهلها له وعدم الرد علي اتصالاته المتكرره، أجاب بضيق منتظرًا أن تجود بكرمها عليه، ليخيب ظنه سريعًا عندما وصله صوت الطفلة وكلماتها، ليدرك أنه اتصال خاطيء بعد ذلك وصله مقطع تيك توك قصير، فتحه علي مضض مشاهدًا، لتتسع عيناه دهشة وجنون مما يراه، كانت حنان وفتاتها يتبادلان الأغنية (بكلمك مش بترد مشغول طب ما تقول ما بقتش تحبني)
صرخ مهددًا بغيظ وحنق (ماشي ياحنان، آمال بس لبسالي الإسدال ومطهقاني فعيشتي... وأنا أصبر فنفسي أقول مكسوفه والله ما أنا سايبك)
لا يعرف كيف وصل الشقة، إلا أنه الآن يقف خلفها ممسكًا بعصا المكنسة يشهرها كسلاح مستعدًا للإنتقام منها خاصة وأنها لم تشعر بدخوله من شدة إنسجامها في تصوير فيديو آخر تتراقص فيه بجانب فتاتها، صرخ بإسمها.. فأوقعت الهاتف من يديها مفزوعة متمتمة بإسمه (مالك)
قفز بسرعة من فوق الآريكة لتجده أمامها، فتقهقرت متسائلة(في إيه..؟)
ضم شفتيه متوعدًا وهو يضرب الأرض بالمنفضة في تهديد صريح (بتعلمي البنت إيه.؟ فيديوهات تترقصي وأنا مصدرالي الإسدال وجو نبيلة الحايح ده، أجل يا سيدي)
ركضت هاربة من أمامه تحاول تهدأته وهي تكتم ضحكاتها من إنفعاله وتشبيهه الأمر(عادي فيديوهات لينا مش بنشرها) زعق بثورة وهو يضرب الكراسي وكل ما يطاله حتي يصل إليها(لا وليه انشريها ياعمري)
صفقت الصغيرة بحماس مستمتعة بالعراك والقفزات مشجعة حبيبها(لوكا اضربها)
رمي للصغيرة قبلة سريعة وعاد لوالدتها متربصًا، ركضت للحجرة وكان هو في أعقابها عازمًا، لحق بها وأغلق خلفه في حماس، غير مصدق تلك الفرصة التي جاءت إليه وأدخلتها مصيدته، نظرت للباب المغلق بقلق ، ليحرك حاجبيه قائلًا بشقاوة (وقعت ولا الهوى رماك) عضت شفتيها متحسرة قبل أن يدور خلفها في الحجرة (لا وكمان بتصل مبترديش ومطنشة)
سألته وهي تحاول الهرب بعزم (مبعتش رساله ليه إنك جاي ليه.؟) ترك العصا ورفع أكمامه ببط أمامها وهو يقول متلذذًا بزعرها (بمزاجي أنا حر)
ثم ارتفعت أنامله لتحرير أزرار قميصه وهو يغني مُقلدًا التيك توك (فيها إيه يعني ياللي بايعني لو تطاوعني يا واد وتميل)
ضربته بالوسائد صارخة، بضحكة عفوية ومزاج رائق تسايره في مشاغبته (إبعد عن وشي إبعد عن وشي)
خلع قميصه وألقاه بعيدًا فشهقت بخجل وخبأت وجهها بين كفيها متوسلة (مالك أوعى تتهور)
تأمل قميصها القطني القصير هازًا رأسه بمتعة ونظراته تغيب في رسومات التاتوه التي تناثرت على ساقها وكتفها وجيدها ومقدمة صدرها.. تنهد بقوة قبل أن يقفز ويُلقي بجسده فوقها فيقعان فوق الفِراش، احتجزها بجسده قائلًا (مفيش وحشتني، غيبتك طولت يامالك)
سخرت منه (هما يومين غيبة إيه دي)
قيد ذراعيها قائلًا (بقا كده)
توسلتها برفرفات رموشها في وداعة عله يلين (اصبر مينفعش الي بتعمله دا، كل حاجه برواقة وهدوء.. نكون مستعدين)
ابتسم يخبرها بمشاكسة وهو يحرك حاجبيه ليغيظها(أنا مستعد ورايق)
صرخت به في غضب مفتعل(ابعد بقا)
(إيه ده خوفت) قالها كاتمًا ضحكته، منحنيًا لعُنها الناعم فإرتجفت بقوة من لمسات شفتيه، أنفاسه التي بدأت تثور برغبة.. سكن جسدها فاقدة الأمل في الخلاص والهرب تترقب متمنية انتهاء الأمر سريعًا، فهو علي أيه حال يحق له وهذا اتفاقهما سويًا من الأساس ولا تملك الإعتراض أو ردعه، عكس ما توقعت دفن وجهه بين كتفيها وعنقها يتشممه وهو يهمس بصدق ونبرة طفولية (وحشتيني اليومين دول)
بعدها ابتعد عنها برفق، متجاهلًا، نهض فورًا متخطيًا لها تاركًا لها مكانها مذهولة من الزهد وإنقلاب الحال الذي أصابه، إعراضه عنها دون مقدمات كأنه لم يلهث الآن راغبًا.. إعتدلت تلتقط أنفاسها بروية، مفكرة تلملم خصلاتها وترتب ملابسها شاردة الذهن، َعقلها يسأل في زحام ما الذي منعه؟ لما إبتعد هكذا.؟ زفرت بضيق من اتجاه أفكارها تنهر نفسها بشدة، ماذا يهمها فليبتعد هذا ما تريده فلماذا تحتار)
بالخارج كان هو صامتًا يجاهد ليخفي ابتسامته، حين خرجت بنفس ملابسها إلتمعت عيناه ببريق خافت، أيقن أن خطته تسير كما أراد،وها هو يقطف الثمار سريعًا.
*********
قال منشغلًا بالجهاز متجاهلًا بعمد رد فعلها على كلماته(سمية جايه يومين)
نظرت إليه بلامبالاة قائلة (تنور بيت ابنها)
رفع نظراته إليها متشككًا في نبرتها، وهدوئها، عاد للجهاز منشغلًا بإهتمام جعلها تسأله وقد استفزتها ابتساماته وتنهيداته (إنت بتسمع إيه.؟) أجابها بلامبالاة (فيلم أجنبي) رمقته بنظرة غريبة، متفحصة قبل أن تسأله بتوجس (أفلام إيه..؟) نظر إليها بإستخفاف وحنق قبل أن يلوي فمه متهكمًا(اإيه البصة دي)
انكمشت ترمقه شذرًا (لا عادي)
ليقول وهو يتحاشى النظر لها(أنا فاهمك، بس الله يسامحك)
ترك سماعة الأذن وهو يهتف بنظرة باردة (ما إنتِ بتسمعي هندي ومعلقتش)
إرتبكت من هجومه عليها لتبرر (الهندي عادي..) استنكر بغيظ وهو يغلق حاسوبه(تكوني قاعده جنبي وتايهة معاهم دا عادي.؟) توترت من كلماتها قالت بعناد متهربة (اه.. إيه المشكلة كل واحد حر)
ابتسامة إحتلت ملامحه مسيطرة، وهو يؤكد بمرح (فعلا كل واحد فينا حر)
تقلصت ملامحها بألم، مُفكرة قبل أن يباغتها بسؤاله(صحبتك طلعتلك الورق ياحنان.؟)
جامد الملامح فقط بريق مرحه وإبتسامته، نبرته تقطر آسفًا لكنها انكرت وتلاعبت بتوتر(ورق إيه.؟)
مط شفتيه قبل أن يُخبرها بثبات يكظم خلفه غيظه(مش طلبتي منها تطلعلك ورق علشان ترجعي الكويت ياحنان)
انتفضت من جلستها، تحتمي خلف غضب وعصبية غير مبررة، بينما ظل هو باردًا جامد الملامح (إنت بتتجسس عليا.؟)
حرك لسانه داخل فمه وعيناه تتوقفان عليها بصبر، فرك كفية قبل أن يهمس بثلجيه وجفاء(شكرًا، أنا سمعتك صدفة وكان صوتك عالي)
خجلت من اتهامها له، تقهقرت فارغة النظرات ، تشعر بخطأ فادح وندم ليستطرد بنظرة خاوية عميقة الآثر في نفسها(كملي يا حنان فالي يريحك، والي يخليكِ مبسوطة)
سألته بتوهة وجع (والإتفاق.؟)
أجابها ببرود (قولتلك إتلغى مش مصدقة ليه، عن إذنك معايا شغل) قالها وإبتعد غادر، ظل طوال الليل يتجول بسيارته حتى عاد مساءًا، أبدل ملابسه ودخل المطبخ..
شعرت بحركته خارجًا، ضجيج الأواني وصلها فإرتدت مئزرها واندفعت للخارج تبحث عنه حتي وجدته منهمكًا فيما يفعل، منشغلًا عما حوله بأفكاره، تشاركه أنفاسه تلك المعارك التي تدور بمخيلته وتظهر بوضوح على هيئة ألم جمدها وأعتصر بقبضته قلبها.
(بتعمل إيه.؟)
(متشغليش بالك) قالها دون أن يهتم أو يبالي بوجودها، نائيًا بنفسه عنه.
راقبته بتردد قبل أن تتقدم لمساعدته(مقولتليش ليه عايز كيك كنت عملتلك) تعالت نبرته، أمطرها بالقسوة والجفاء(قولتلك متشغليش بالك، اتفضلي روحي أوضتك)
عضت باطن شفتيها غيظًا وحنقًا من انفعاله وصراخه عليها لتواجهه (إنت بتزعقلي ليه.؟)
شملها بنظرة غامضة قبل أن يتحاشها من جديد متنهدًا بيأس(حنان لو سمحتي أنا مش فمزاج رايق للكلام دلوقت لو سمحتي ادخلي، لو عايزه ترجعي شقتك مفيش مانع)
فغرت فمها غير مصدقة لتهاجمه بدموع حبيسة(إنت فيك إيه.؟)
ضرب على رخامة المطبخ بعنف أفزعها، سلب نفسًا قوي ونظر إليها قائلًا من بين أسنانه(إنتِ مش هتمشي عايزه إيه دلوقت مش عاجبك رد فعلي ليه.؟)
عقدت ساعديها أمام صدرها مبررة بحزن(مش عايزه حاجه... ثم همست بنبرة متقطعه(متزعلش)
عاد لهدوئة الغريب وبروده قائلًا بإبتسامة ساخرة (لا متقلقيش مش زعلان لو عايزه مساعدة كمان ولا زقة للورق قوليلي أنا حبايبي كتير)
قالت بفظاظة وضيق من بين أسنانها المطبقة(لا شكرًا)
جلس فوق كرسي مريحًا رأسه المشتعل فوق رخامة المطبخ الباردة، مُحبطًا حزينًا بائسًا يضيق يصدره وتنغلق أنفاسه،أسلمت أفكارها وأذنها لعلا هو يرى ويتجاهل بصمت، توددها لعلا واهتمامها بالسماع لها، أكثر من مرة يلمحها تجالسها تنصت لما تقوله بإهتمام
لاتثق في نفسها ولا فيه تترك أفكارها لغيرها يشكلونها بغباء، والدته مرة وعلا مرة
متجاهلة قلبها ودقاته وإحساسها
به الذي تنكره وترفضه كأنه ذنب.
بينما دخلت هي هناك تجوب حجرتها في ضيق، تكاد تبكي إختناقًا.
********
حين إلتقاها ووقف أمامها مد كفه بإبتسامة باردة، بملامح صلبة، نظرت لكفه بقلق قبل أن تخفض نظراتها هامسة (أنا آسفه مش هقدر)اكتفت بأنها شملته بنظرة سريعة تتعرف بها علي شكله، تعرف بها هوية المجهول الذي طاردها كل تلك السنوات
ووضعت كفوفها الباردة في جيوب الجاكي الرجالي الخفيف الذي إرتدته و أدرك علي الفور أنه يخص آخر إفترق عنها، هي الآن تتبع أنفاسه وتطارد رائحته ووجوده، سحب كفه وأعادها لمكانها ثم جلس وجلست هي علي طرف الكرسي الخشبي العريض أمام النيل ، هتف بحماس ضعيف ونبرة مرحة بعض الشيء (مصدقتش لما قولتيلي إنك عايزه تقابليني بعد كل السنين دي)
شبح ابتسامة مرّ علي شفتيها قبل أن تغوص نظراتها في النهر قائلة (كنت محتاجه أكلّم حد، إنت أكتر حد أعرفه بعده، ثم صمتت طويلًا وقالت بنبرة فقدت قوتها (أومعرفوش)
أخرج سيجارًا أشعله وهو يقول بترحاب رغم جموده (أنا تحت أمرك)
مسد موضع قلبه مستعيدًا رباطة جأشه متأهبًا للحديث معها (كلمتيه.؟ )
أجابته بخيبة ومازالت كفوفها الباردة تندس بجيوب معطفه(كتير ومردش)
إحتد لأجلها، صارحها بقوة (خلاص سيبيه وعيشي حياتك)
قالت كأنها مُغيبة لا تسمعه متجاهلة كلماته الباردة مثله (طول الوقت كنت بسأل شوفته فين وإزاي معرفوش، رغم إنه أخوعاصم،تابعت بمرارة صبغت كلماتها التالية
بس إكتشفت إني من كتر ما شوفته إعتدته وإحنا لما بنعتاد بننسى، لما غاب عرفت إني شوفته قدام اللجنة كل يوم مستنيني، شوفته هو بيجيب نتيجة الثانوية، شوفته ماشي ورايا فكل ركن في الجامعة إيدي لمست إيده وأنا بنقل جدول محاضراتي لما إعتذرت ابتسم ومشي، شوفته فكل مرة روحت فيها للدكتور لوحدي، شوفته فكل مكان روحته والناس بتسهلي كل حاجه كإنهم عارفين إني جايه، شوفته وأنا خايفه من مروان ولوحدي في الجامعة، شوفته وأنا ببكي مش عارفه أذاكر، شوفته جنبي فكلما مرة ركبت فيها عربية بالليل، شوفته وأنا بشتري هدومي لوحدي ومش عارفه أختار، إكتشفت إنه كان طول الوقت معايا ومحستش)
إهتز جسده من كلماتها، أوقع سيجاره وإرتبك.. لترمقه بنظرة صلبه قبل أن تهتف بنغمة حزينة (يحقله، يزعل ويغضب ويبعد... يحقله حتى إني موت علشانه)
إرتجف بقوة تلك المرة، أحرقته السيجار فرماها وتألمت نظراته، إعتذر بإبتسامة شاحبه لمقاطعتها(آسف)
نفض كفيه وقال يجاهد ليثنيها عن عزمها (دي بداية النهاية، انسي وإبعدي)
قالت بنبرة متحشرجة وعينان تمتلأن بالدموع تنظران إليه برفض (هستناه، كل ساعة وكل دقيقة وكل ثانية)
أكد بحده كأنه يكره ما تقول (مش هيرجع ابدأي من جديد)
همست بصفاء عينان تبتسمان (قلبي بيقولي هيرجع)
سخر في فظاظة وتحامُل لا تعرف أسبابهما (قلبك بيخدعك)
ضحكت وبكت في ذات الوقت وهي تتذكره لتقول بشجن (جلال أحن من إنه يفارق وأجمل من إنه يقسى، هياخد وقته )
إبتلع ريقه ومعها غصته ليصارحها بتوتر (هتكلميني تاني) قالها بإرتجاف بعد أن قرأ النهاية في نظراتها المودعة
قالت تستعد للنهوض بملامح جامدة لا توازي ملامحه الباردة التي أربكت دواخلها منذ أتت(مينفعش)
قال محتدًا بفظاظة وقسوة (إنا عايز نكمل )
اتسعت ابتسامته حتى إلتهمت ملامحها أخرجت كفها البارد ومدته وهي تهمس (دي أخر مرة)
اهتزت نظراته على كفها الممدودة، أيقن من عزمها أنها النهاية فمد كفه التي تماثل كفها برودًا وأحتواها هامسًا بلوعة (مش هنساكِ وهفضل عندي أمل، أنا موجود لو احتاجتيني)
مسحت دموعها هامسةً بوله(أنا مش محتاجه غيره، أبويا وأمي وأخويا وأختي وصاحبي وحبيبي وصاحبي، قلبي موجوع كد ماهو كل قلبي وأهلي)
رمقها بتعاسة وخيبة قبل أن يهمس بنظراته الباردة (مع السلامة يا براءة)
سألته بإرتجاف (معرفتش اسمك.؟)
زاغت نظراته، فغر فمه بذهول غير منطوق، قبل أن تتحول ملامحه للركود البارد (هتفرق.؟) هزت رأسهابتفهم(لا خلاص) انسحب مطأطأ الرأس ليبتعدا كل واحدً في طريق.
انتهى