السادس والعشرون

3.5K 112 3
                                    

السادس والعشرون
جاورها في الفراش، فإنكمشت متدثرة جيدًا بالغطاء، مُغمضة العينين بترقب مصحوب بألم حاد برأسها، أقترب جلال منها حتى التصق بها، ارتفعت أنامله لضفيرتها تمر على عقداتها بإشتهاء لفكها والعبث بخصلات شعرها.. سألها وذراعاه تمتدان لتديرها ناحيته (الصداع خف.؟)
أولته وجهها هامسة بأعين مغمضة وملامح أصابها الشحوب (لا)
أمسك بمقدمة أنفها يعاتبها بحنان (مأخدتيش مسكن ليه.؟) وضت كفها على صدغها هامسة بإرهاق وتعب جلب الدموع لعينيها فأنسابت مسترسلة تعلن وجع صاحبتها، مما جعله يهمس قلقًا عليها (براء في إيه.؟)
أبعدت جفنيها تطالعه كشمس مشرقة، تخبره بتوجع (مش عارفة حاسه ممكن يكون بداية برد) إعتدل من نومته، مال ناحية أقرب كومود جلب من الدرج الصغير الحبوب المسكنة وكوب ماء، ناوله لها هامسًا بحب (قومي طيب) رفعت رأسها المُثقلة بالألم في نصف اعتدالة، وضع حبة الدواء بين شفتيها فأرتجفت ابتلعتها مُتبعة لها ببعض رشفات من الماء.. وبعدها عادت لإنكماشها.. أعاد كل شيء مكانه وأقترب يدلك لها رأسها هامسًا (تعالي أدلكلك رأس بزيت لافندر)
أقترب منها يُنفذ ما قاله أنامله، تتنقل بحيوية في فروةرأسها ليسألها هامسًا (ها بقيتي أحسن)
أجابته بخفوت وقد إستراحت لما فعله وأسترخى جسدها المتعب(اها) جذبها لتتوسد ذراعه الأيسر ثم ضمها إليه، دون إعتراض منها أو إمتناع عصي من جسدها.. الذي تقبل دفء صدره بترحيب وحب، تسللت رائحة عطره الممتزجة برائحته الخاصة فإستكانت متلذذة محتمية به في إطمئنان جلب ابتساة شقية لشفتيها وكأنها نالت مكفأة همست بعفوية سيقتلها يومًا عليها (ريحتك حلوة)
ابتسم بحبور علي ملاحظتها، ليرفع كفه ويربت على خصلاتها بحنان ودفء جعلها تقترب أكثر وتغوص بين ذراعيه بشده كأنها تخشى أن يُفلتها أو تضيع هي.
ظلا هكذا حتى ذهبا للنوم، استيقظ باكرًا فتح جفنيه ليجدها كما هي منكمشة بأحضانه ذراعها اليسرى تُحيطه وكفها تقبض على ملابسه كأنها تخشى أن يُفارقها.. أبعدها عن ذراعه بحنو ونهض، دثرها جيدًا بعد أن منحها بضع قُبلات رقيقة على جبينها وأنسحب.
**********
استقبلتها عفاف بترحاب شديد وجاورتها صدفة لمعرفة تلك التي تحظى بعناية مالك ولا يرفع عينيه من عليها، رمقتاها بإعجاب لا يخلو من حسد عُلّق بنفسيهما من جمال تلك التي تجالسهما ببراءة يمارسون عليها براعتهما في سلب المعلومات والثرثرة الفارغة (اسمك إيه)
ابتسمت بنعومة هامسة وثغرها يندي بإبتسامة رائعة (حنان)
علق بروحيهما شعور عميق بالحقد لا يقدران علي صده من جاذبية تلك المهلكة (بتدرّسي إيه بقا.؟)
ألقتها صدفة من بين شفتيها المبرمتين جفاء، لتجيبها حنان بعفوية (لغة عربية)
لتتردد بين عفاف وصدفة نظرة غامضة سرعان ما اختفت وحل مكانها توتر وحزن وخيبة نبتت بنفس صدفة وهي توميء (بإبتسامة مهتزة)
رمت عفاف نظرها للورق بيد حنان متسائلة بترقب (إداكي فصول إيه مستر مالك.؟)
تعجبت حنان باديء الأمر من ذكر اسمه لتقول وهي تنظر للورق (تالت بنين ورابع بنين وخامس بنين)
كتما انفعال ظهر علي ملامحهما، ليسألاها بجد وهما يرمقان بعضهما بإندهاش أزعج حنان وأقلقها (بجد!)
هزت حنان رأسها بتأكيد وسؤال يتردد يركلانه لبعضهما بنظرات مضطربه (ليه..؟)
همت صدفة أن تُخبرها لكن دخول مالك حجرة المعلمين جعل عفاف تلكزها مانعة بغمزة لتتقهقر كلمات صدفة (لا خالص)
تخطاهم مالك دون سلام، راميًا التجاهل جلس خلف مكتبه بينما هي تجلس بجانبهما حول طاوله كبيرة تقع في منتصف الحجرة، ظل يُقلب في أوراقه يُعلن إنشغالًا مفتعل بينما عقله وأذنيه معهما وقد جذبته ابتسامتها التي وزعتها لهما بسخاء، بطرف عينيه كان يقتنص نظرة حين أمسكت به بادلها واحدة غير مهتمة مستهينة وكأنها ليست هنا، انسجمت مع عفاف وصدفة تبادلهما الحديث المطعم بضحكات قصيرة جذابة أهلكت مشاعره وسرقت نبضاته وانتباهه ليتلكأ سامحًا لنفسه بتأملها بينما أنامله تُحرك سلسلة مفاتيحه مُصدرة نغمة رتيبة مزعجة جعلتها ترمقه بضيق، تبادلا النظرات لبعض الوقت، سرعان ما أحفضتهما متذكرة ما حدث ورؤيته لها، تضجرت وجنتاها بحمرة جعلت قلبه يخفق مطالبًا تذوقهما بإشتهاء غريب عليه، جف حلقه من منحنى أفكاره الذي سلك طريقًا مُربك جعل نظراته تلتهمها وعقله يدور في دوامات ما يريده منها والصفقة التي يريد عقدها معها فهي وبعد تفكير طويل الأنسب.
نهضتا عفاف وصدفة من جانبها مستأذنين بينما ظلت هي مكانها تُقلب هاتفها بإهتمام متجاهلة وجوده تمامًا وإن كانت نظراته تنقذ لها فترتجف بخجل، شعور بالحصار من جعلها تتململ بضيق وكأنها محبوسه بين قضبان جفنيه، رفعت له عينان محتدتان لكنه ابتسم هازئًا، تبدو كقطة ناعمة لا تجيد الشراسة.. غريبة كيف عاشت وحدها ببراءتها وعفويتها كيف سُجنت في الغربة ولم تتبدل
نهضت متضايقة تلملم أوراقها بعبوس لوّن محياها الناعم، رغم ارتجافتها مرّت بجانبه رافعة رأسها بصلابة واهية ليستوقفها بنبرته الرخيمة (كنزي فين..؟)
شددت من إمساك حقيبتها متسائلة بتقطيبة زادتها حلاوة (لقيت حضانه قريبة)
أجابها وهو يتفحصها بنظرات جريئة ضايقتها (قوليلي مكانها علشان أشوف كويسه ولا لا..؟)
(إنت مالك) قالتها بإندفاع مندهشة من تدخله في حياتها رافضة اهتمامه بالطفلة وتقربه منها غير المرغوب فيه.
رماها بنظرة نارية قاسية تحمل من الوعيد أطنانًا ليُجيبها بجفاء (أنا أعرف الأماكن هنا أكتر منك)
أصرت علي موقفها مستنكرة ونظراتها تتهرب منه في قلق (برضو متدخلش، مش عايزه مساعدتك)
تصلّب فكة، عيناه طفت عليها بنظرة غامضة، مظلمة بإنفعال مجهول جعلها ترمش محاولة الثبات ليخبرها بهدوء (تمام)
صدره متأجج بالغضب، مستعر بجحيمه، عيناه تمرران توعد وإستهانه، وأخيرًا أهداها ابتسامة كتعويذة ملعونة تجاهلتها وغادرت ليهمس (ماشي يا حنان)
بالخارج كانت صدفة جالسة محزونة تنظر للحجرة بحسرة وضياع، خائفة من حنان التي جاءت لتقلص فرصتها في الحصول علي هذا المغرور القاسي، بعد أن أخذتها علا بضع سنوات وأعادته، ليتجدد لديها الأمل وتمتد بروحها جسور الطمأنينة رغم جهلها بأسباب الإنفصال..
تنهد وهي تسترجع صورة حنان تلك المدللة اللذيذة، صاحبة الثغر الباسم بشهية تفقد أي رجل صوابه، اعتنائها الواضح بملابسها وإن كانت لا ترتدي سوى الأسود ذلك اللون الذي يظهر جمالها وبياض بشرتها أضعافًا بعكسها هي العادية جدًا بملابس عادية.
لعنت حظها العاثر وقلبها الذي دق لرجل عابث مثله كعاصفة لا يتم التنبؤ بها،ثم نهضت تواصل عملها بإرهاق ورغبة مقتولة بالإحباط.
بينما كانت الآخري داخل الفصل تحاول السيطرة علي الأطفال جاهدة، تكاد تبكي من فرط يأسها ومشاغبة الصغار التي لا تنتهي،حتى نهضوا والتفوا حولها يهللون ويرقصون برعونة وضحكات جلبت الآخر الذي استغل الفرصة ودخل زاعقًا (ولا....
ليركض التلاميذ إلى أماكنهم خوفًا وارتعابًا منه ومن نظراته المتوعدة القاسية، إرتاح لهدوئهم ثم التفت إليها وقد انكمشت ملامحها تتأرجع بين الغضب والخوف منه (ايه يا أستاذة مش عارفه تسيطري علي الولاد)
حاولت التحدث والدفاع عن نفسها بخجل من نظرات الصغار التي تتنقل بينهما بشماته واستحسان لما يحدث لها
(محتاجه حد ييجي يسكتهملك)
أغمضت عينيها لثواني تسلب نفسًا قوي قبل أن تفتحت شفتيها محاولة الحديث وردع أذاه عنها لكنها ابتلعت الكلمات ضامة شفتيها بحزن، جعل ملامحه تلين رغم سعادته والتشفي المتراقص من نظراته.
دس كفوفه في جيوب بنطاله قائلًا بنبرة مستهزئة (انشفي شوية يا أستاذة، بعد كده هاجي الأقيهم ضاربينك)
هنا تعالت ضحكات الصغار المترددة بين الحذر والإستمتاع بهذا الحوار الساخن، حينما شجعهم مالك بإبتسامته المتراقصة في دعوى صريحة لمعاقبة تلك المائعة.
حين رن جرس يُعلن إنتهاء الحصة جذبت حقيبتها غاضبة واندفعت أمام نظراته راحلة، تتقلب في نيران غيظها منه،بعد أن أحرجها وسوّد وجهها أمام التلاميذ
********
دخلت جميلة الحجرة بحذر تتلفت لمحتوياتها بإشتياق، تسلب أنفاسًا معبقة برائحته وقد حمل إليها الهواء أنفاسه التي نثرها هنا. وضعت راحتيها علي قلبها تُهديء من دقاته التي تعالت من إحساسها به.
قلبها يثور مُطالبًا به، أفكارها لا تعتنق سواه،جلست تحمل المصحف الخاص به، تفتحه لتبدأ قرأتها اليومية داعية الله أن يحفظه لها ويرده سالمًا رنين الهاتف جعلها تغلقه عبوس خفيف يزين جبينها المنكمش بحذر، من سيتصل بها الآن في هذا الوقت..؟
ترددت قليلًا، وضعته جانبًا علي أمل أن يكف المتصل عن الاتصال لكن هيهات استمر بإلحاح بغيض جلب الغيظ والغضب لنفسها، فرفعت الهاتف توبخه (الووووو)
ليأتي إليها صوته مُحملًا بالإشتياق واللهفة
(الوووو)
فغرت فمها مندهشة سعيدة غير مصدقة وهو يكرر بهمس خافت حذر (ايوة يا جميلة)
انتفضت لن يليق الجلوس بحدثٍ كهذا، بينما تحتاج مشاعر لإتساع الفضاء كي تحتويه، نطقتها بلهفة وتأوه خافت تتذوق اسمه (يوسف)
ضحك لرد فعلها وفضحها مشاعرها التي لطالما خبأتها بتماسك، ليخبرها بنصفة ضحكة ومشاعر ملتهبة (وحشتيني)
أدمعت عيناها سعادة، ضحكت وبكت في لحظة واحده توحدت فيها أنفاسها الثائرة بحنين (إنت بجد..؟)
هتف مبتسمًا بمرح من بين أنفاسه المتعالية (ركزي أنا وقتي قليل)
(عامل إيه..؟ إنت بخير إنت كويس)
القتهم دفعة واحدة متسارعة تتخبط في مشاعرها ليهمس بنبرته الدافئة الرزينة (أنا بخير متخافيش) دقائق تبادلا فيها الأنفاس الحارة لتهمس بلوعة لا تخلو من خجلها وحرجها للإفصاح (وإنت وحشتني أووي يا يوسف)
بمشاكسة محببة سألها (أوووي أوووي يعني.؟)
هزت رأسها كأنه يراها لتهمس ما بين البكاء والفرح (أيوة)
ليخبرها هو الآخر بحشرجة تأثر (وإنت كمان)
ليخبرها ضاحكًا مُجليًا صوته الذي تأثر (كفاية كده لأخدلي رصاصة وأنا مش مركز)
انتفض قلبها وجعًا وخوفًا من كلماتها لتُجيبة بنبرة متوسلة ناعمة هدهدتها بالعشق لتصل لقلبه مخترقة لعمق ثباته (بعد الشر عليك يا حبيبي)
نظر للفضاء حوله بعد صمت قصير قابل به كلماتها التي أصابت قلبه، ليهمس ضاحكًا (كده الرصاصة جات منك يابنت أم عامر)
توسلته بحرارة متغاضية (خلي بالك من نفسك)
أغمض عينيه يخبرها (مبقتش ملكي خلاص)
أسبلت جفنيها في خجل متلذذة بغزله، غير مصدقة أنه الآن يهمس لها بكلمات صريحة مشتعلة،بسرعة تبدلت نبرته ملأها الحزم لينتشلها من غرقها قائلًا بصوت رخيم (سلام دلوقت)
هتفت تسأله بلهفة الانتظار(يوسف) لكنه قطع ما بينهما ناهيًا(لا إله إلا الله)
(محمد رسول الله)
أغلق تاركًا لها تضم الهاتف تتنسم به حضوره، تغمض عينيها رافضة الخروج من تأثيره أو السقوط من الغمامة الوردية التي حلقت فوقها،تشعر وكأن كلماته لثمت أُذنها بحنون، منحتها ضمة قوية بين ذراعية كتلك التي ذاقتها قبل سفره، مازالت تشعر بها مازال تأثيرها عالقًا بروحها.
بينما كان هو بعيدًا يرجو الإفاقه، يضع رأسه تحت الماء علها برودتها تطغي على هذا التأثر ويفيق مما سقط فيه، ما كان يعرف أن عشقها تغلغل داخله، وأن بذور الحب التي ألقتها ستنبت زهرًا بين جنباته، فتزهر معها روحه الجافه، مشاعر جديد يعيشها معها لأول مرة وكأن العالم لم يكن فيه ما يليق بقلبه.
حتى أتت تلك الصغيرة ليتفاجيء بأن لديه قلبًا يعشق ويرغب، أكثر ما يدهشه أنه لم يكن يفطن لكل تلك المشاعر من قبل ولا يعرفها حتى جاءت هي.
إشتاقها بشدة، يشعر بوخزة في صدره نتيجة إفتراقه عنها حتى أنه لا يطيق صبرًا على عودته مُجددًا لها.
أدى صلاة الفجر وخرج يباشر عمله بذهن حاضر وروح غائبة.
**********
قررت أن تراقبه، تتجسس عليه، حتى تعرف من تلك التي شغلته وبدلت حاله وأورثته كرهها والنفور منها، استغلت دخوله المطبخ تاركًا الهاتف مفتوح فأمسكت به، تبحث بعينين مرتجفتين تترددان علي باب المطبخ بحذر وترقب حتى لا يأتي ويمسكها بجرمها يكفيها ما تعانيه من جفاء وقسوة .
بحثها القليل المرتبك لم تخرج منه إلا برقم هاتف غريب مسجل بأسم كنزي، قطبت متحيرة منشغلة الفؤاد من تكون أيعقل أن تكون بنت أختها، سجلت الرقم بسرعة ثم تركت الهاتف وأعتدلت متطلعة لشاشة التلفاز بشك بدأ يفور داخلها سارقًا هدوئها وراحة بالها.. جاورها بعد أن رمقها بنظرة مستخفة.. سألها بخبث وبنظراته بعض التشفي (بلال ملقاش حنان..؟)
تأملته بنظرة طويلة قبل أن تتنهد قائلة (لا)
رماها بنظرة سريعة قائلًا بملل (تلاقيها سافرت).. يحاول أن يصرفهم عن التفكير فيها، وملاحقتها وإن كان يشعر أن الأمر بالنسبة لهم لا يعني الكثير، علي العكس رحيلها أراحهم وربما جدد آمالهم في عودة أموالها.
يظللها صمت مخيف، نظراتها تتيه فيما حولها
وجنون شيطاني جعلها تظن أن زوجها قد يكون علي علاقة بحنان..
لم تصبر حتى الصباح، حين دخل لينام رفعت هاتفها تتصل بالرقم الذي وجدته وقلبها يخفق بزعر حقيقي من مجرد التفكير في الأمر
ليأتيها صوت الأخرى الناعس، تظلله سحابات النوم.. كتمت شهقتها بباطن كفها تحبس صرخة بإسم الأخرى كادت أن تنفلت من بين شفتيها.. أغلقت علي الفور وظلت مكانها كتمثال نُحت من صخر تكرر بذهول (حنان حنان) لتفيق من صدمتها تضرب وجهها بخزي هامسة (بيخونوني يا نهار أسود)
نهضت تدور حول نفسها لاتدري ماذا تفعل.؟
حتى هداها شيطانها أن تخبر زوجة أخيها..
التي ملأتها حقدًا وكرهًا ناحية أختها، ورسمت لها الخطة التي تتبعها لتنتقم منهما.
*******
يهاتف إسراء ليطمئن عليها، يتحسس الأخبار ليعرف ماذا فعل عاصم جعلها تعود لعزلتها وبكائها والذي أخذه عليه مالك ولا يكف عن الوعيد والتهديد وإرسال الشتائم.
ظل يدور بهاتفه حول براء التي كانت بالمطبخ تُعدّ طعام الغداء، يتابعها بعينيه من بعيد مُهتمًا مراعيًا، بينما ضحكاته مع إسراء ومشاكساته لا تتوقف مما جعل الأخري تتأفف في ضيق من انشغاله الطويل بالحديث مع إسراء وتغبطهما علي تلك الضحكات الخافتة والابتسامة الرائقة ووسط كل ذلك كان شعور غريب يتأجج داخل صدرها كالنيران، يجعلها ترمقه بطرف عينيها من وقتٍ لآخر في ملل وضجر واضح لعينيه، ظنًا منه أنها قد تعبت.
تعالت ضحكاته مرة أخرى مما جعلها تُلقي بكوب زجاجي أرضًا متعمدة مترجمة غيرتها بأفعال لا تُفهم، تجهلها هي نفسها،لكنها تريده أن ينتبه لها ويغلق الهاتف.
خبأت ابتسامة الانتصار حين لمحته يأتي ناحيتها مهرولًا يسألها بقلق حقيقي ونظراته تتنقل بين الكوب المكسور ووجهها (إنتِ كويسة.؟)
هزت رأسها بموافقة، ليستدير عائدًا لهاتفه من جديد مما جعلها تتأفف حانقة، مغتاظة، جلست علي ركبتيها تُلملم الزجاج المكسور دون انتباه، ليتوقف سيره ويستدير علي صوت تأوهها وتألمها، أفزعته رؤية الدماء ووجهها المنقبض بألم أغلق علي الفور معتذرًا لإسراء واتجه ناحيتها يعاتبها بقلق(مسكتيه ليه كنت هجمعه)
رغم ارتياحها لإنهاء المحادثة إلا إنها هتفت محتدة تصب فوق رأسه غيظها دون وعي (إنت مش فاضي)
تأملها قليلًا منزعجًا من حدتها مندهشًا من كونها تشاركه الحديث بأريحيه ليمسك بكفها وينهضها ويأخذها مبتعدًا عن المطبخ.
عصر الألم صفحة وجهها فانكمشت نادمة حانقة علي تلك المشاعر الغريبة التي هاجمتها وكبلتها لتفعل ما فعلت، مشاعر لم تجربها من قبل ولا تعرفها من الأساس، تسألت داخلها ما الذي يضايقها من مهاتفته لإسراء، لما شعرت بالإنزعاج الشديد لذلك الأمر، بينما هو صامت يعمل بجدية لتطهير الجرح ووضع ضماد عليه غير منتبه لنظراتها التي تخترقه وتقلب وجهها بالعواطف.
انتهى ثم نهض يخبرها بإهتمام (هجمع القزاز وأرجعلك)
أراحت رأسها على ظهر الآريكة مُفكرة نظراتها لا تفقد أثرها، تتأمله بنهم جديد عليها، تتابعه بإهتمام وليد، التقت نظراتهما في حديث صامت بدا فيه تائهًا ليسألها بقلق (إنتِ كويسه..؟)
أومأت بصمت فعاد لعمله من جديد، وظلت هي منشغلة الفكر تراقبه حتى آتى وجاورها من جديد سألته بإهتمام (أول مرة أعرف بعلاقة إسراء وعاصم منك.؟)
امتدت أنامله تقرص خدها ضاحكًا (هو إنتِ كنتي تعرفي إيه فالبيت اصلا.؟ إنتِ طول الوقت يا فالمطبخ يا محبوسة فأوضتك)
ضيقت عينيها الواسعة على ملامحه المبتسمة بسؤال (وإنت عرفت منين.؟)
نظر إليها نظرة نفذت لأعماقها وهو يهديها همسه الخافت بغموض (أنا أعرف كل حاجه عنك علي فكرة)
تهربت من نظراته تتلاعب بجرحها متسائلة(منين بقا)
شاكسها وهو يمسك مقدمة أنفها قائلًا (عيب يابنت تسأليني سؤال زي ده)
ألحّت بشفاة ممطوطة (لا بجد عرفت منين)
نهض متهربًا منها راميًا كلماته (من العصفورة)
تأففت بإحباط لتهربه منها وإبتعاده رغبًة في عدم الإفصاح، سألها (بركة فين.؟)
نهضت عازمة على إنهاد ما بدأته لأجل الغداء قائلة (أكيد عند البط بتاعها)
أومأ لها وعادت هي لمطبخها حائرة في تلك المشاعر التي إنتابتها منذ قليل.
******************'
تتبعت زوجها كما قررت حتى وصل مقصده، صعد أحمد للأعلى متجهًا لمالك الذي استدعاه علي وجه السرعة ليتحدث معه بشأن حنان والقرار الذي اتخذه، بقيت هي حائرة مصدومة، مترددة في الصعود خلفه تنازعها الرغبة في مفاجآته بينما عقلها يخبرها أن تتمهل ولا تستجيب لثرثرات زوجة أخيها المُحرضة. ظلت هكذا واقفة جادة الملامح شاخصة بضياع علي رقم الدور الذي توقف عنده المصعد، حتى جاء حارس العمارة وسألها عن مقصدها فوجدت عزائها في أن تسأل أولًا (الأستاذ الي طالع ده رايح فين.؟)
أبى المصارحة رغم حيرته هو حقًا لا يعرف أحمد هل يقصد مالك أم السيدة حنان، زاغت نظراتها برجاء خبأته بحفنة نقود أخرجتها ليمتنع الرجل رافضًا لتسأله ثانيةً بإرتباك
(في واحدة اسمها حنان ساكنه هنا..؟)
امتنع الرجل عن الإجابة زامًا فمه في ضيق لتصعد السلالم
مبتعدة متخذةً طريقها للأعلى وكلما قدمت ساق آخرت الثانية، بداخلها تثاقل لعين.. وقلب تعلو دقاته بفزع، إختارت أن تصعد عبر السلّم ليمنحها مزيدًا من التريث والتروي وحسن التفكير لكن هيهات كانت تشتعل كمرجل وجسدها يتحفز..
وصلت للطابق المعني سَهَل عليها وجود الصغيرة أمام الشقة تلعب، ضاق صدرها وانقبض لكنها لن تتراجع، تخطت الصغيرة التي نادتها بلطف (خالتو) ودخلت الشقة ترمي بنظراتها في الأركان علها تجد بغيتها
ركضت الصغيرة ناحية شقة مالك تخبره بضحكة (خالتو.. خالتو)
فزع أحمد نهض من جلسته مندهشًا، رمقه مالك بعدم فِهم وقلق تجاهله أحمد وحمل الصغيرة ليتحقق من زعمها.
سحبه مالك من ذراعه يوقفه قائلًا بحكمة (استنى إنت..)
تراجع أحمد جامد الملامح مترقب وجاوره في وقفته مالك آسفًا حتى جاء صوت زوجة أحمد الصارخ لتتبدل ملامحه لآخرى منفعلة.
خرجت من المطبخ على نداء أختها الصارخ بإسمها، وقفت مكانها متصلبة حتى إقتربت منها أختها وصفعتها بغتتة في إنفعال أهوج، وضعت حنان كفها على موضع الصفعة ذاهلة بينما إعتلى التشفي ملامح أختها التي صرخت بإتهام جائر (بتهربي مع جوزي يا حنان.؟) بتخونيني..؟)
حملقت حنان مصدومة تستوعب مايحدث، لتتابع أختها مستغلة الصمت (اشمعنا جوزي أنا.؟) أضاءت نظراتها بالحسرة وهي تسترسل (كنت حاسة هتعملي كده)
همست حنان بدموع مسترسلة وجعًا وقهرًا (أنا..؟)
ترك الطفلة لمالك واندفع ناقمًا صدره يتأجج بالغضب والنقمة حتى وصل ووقف خلفها يعلن عن وجوده (اهلا يامدام)
استدارت ترمقه بإزدراء فيبادلها إياه بمقت تقدمت منه تصرخ (اهلا شرفت يا خاين.. يا واطي)
من خلفه مالك كان يتمتم بذهول (أوبا)
سألها أحمد بهدوء غريب (مشبعتيش فضايح وهتكملي عليا)
هدأهما مالك ببرود، كأنه لا يريد أن تؤخذ كلماته علي محمل الجد (خلاص يا أحمد خدها وأمشي)
ارتبكت من وجود مالك لكنها تابعت بغباء وحمق (تعالى شوف صاحبك)
كز مالك علي أسنانه بغيظ من طيشها ورعونتها متمنيًا لو حطم أحمد عظامها، لكنه إنشغل عما يدور بتلك المنكمشة أرضًا بأعياء واضح ودموع لا تمتنع تحتضن فتاتها الباكية بقوة رغم ارتعاشة جسدها واختضاضه بالبكاء المكتوم.
هتف أحمد بصبر بعد أن رأي حالة حنان السيئة وإنهيارها (لينا بيت نتكلم فيه.)
إعترضت استدارت تنظر لأختها بحقد تخبرها بتوعد (بيت إيه دا أنا هفضحكم هنا)
هتف مالك بغضب مشتعل لم يستطع كبحه (ما تهدي يا مدام) ثم غمغم بقهر (إنتِ عايزه تتربي) التقطها أحد من فم مالك، أقترب منها يصفعها بغضب ووسط إرتباكها وذهولها لم تجد ما تتفوه به ورفض مالك التدخل، كأن مايحدث يلقى بداخله صدى مفرح منتشي.. ثم جذبها أحمد خلفه بقسوة متجاهلًا سُبابها ليتوقف نافضًا ذراعها يُعلن بجفاء (إنتِ طالق)
دوت الكلمة حتى وصلت لمسامع مالك الذي ابتسم بغل متشفيًا مغمغمًا بإنتصار (جدع يا أحمد راجل)
انتهى.

بنكهة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن