الثاني والثلاثون

3K 97 1
                                    

الثاني والثلاثون
لاحظ الهمهمات حوله، ومصمصات الشفاه، النظرات التي تلتهم حنان وتنهشها دون رأفة، شيء ما يدور خلف ظهره لا يفهمه، لكنه ينتظر حتى حين.
جاءت إليه، جلست أمامه تستأذن بإبتسامة (مالك ممكن أدخل معاك الحصة بليز.؟)
مال للأمام قليلًا يسألها بإبتسامة رائقة(ليه بقا.؟) قالت بعفوية (بصراحة الدرس دا رخم أوي يا مالك عايزه أسمعه منك) شعّت إبتسامته، لمعت عيناه وهو يوافق (قشطة)
مازحته هي وقد إعتادت شقاوته وبساطتها معه (قشطة) لاحظت شحوبه وإرهاقه فمدت يدها بعفوية تتحسس جبينه وجانب عنقه، أرتعش مُبتعدًا عنها يلومها بصوت منفعل حاد(حنان)
سحبت كفها مُغمغمة بإعتذار، خجلة من فعلتها البريئة العفوية، حزينة من رد فعله(آسفة أنا بس قلقت تكون حرارتك إرتفعت تاني)
نظر إليها طويلًا قبل أن يهمس لها (مفيش حاجه) ثم مال برأسه يطلب منها بمرح(أدي دماغي كلها يا ستي)
إبتسمت إبتسامة قلقة مُضطربة جعلته يلوم نفسه ويؤنب لسانه، هي تعامله بأريحية تهتم به كما لو كان طفلًا، منذ مرضه وهي تتفقد أحواله وتتحسس جسده من وقتٍ لآخر.
نهضت مُكدرة الخاطر، وقد خلت الحجرة من المعلمين في هذا الوقت، إندفت ناحية ركن القهوة تصنع لنفسها مشروبًا تلتهي فيه، بينما تمسك هاتفها تبحث عن تتمة فيلم هندي كانت قد أجلت مشاهدته طويلًا،
صنعت لنفسها القهوة وجلست في مكانٍ قصي، منعزلة عنه تمسك هاتفها منسجمة فيما تشاهد، تحتاج لأن تغيب قليلًا عن الوقع مع الخيال.
زفر بضيق من تهوره وقسوته، جلد ذاته علي تكديرها وتعكير ميزاجها، بدأ يفهمها قليلًا حين تحزن أو تغتم، يدهسها الواقع تهرب للخيال تاركةً كل شيء خلف ظهرها في فسحة من الوقت.
نهض من مكانه، سار حتى جلس وجاورها دون أن تشعر، خطف الهاتف من بين أناملها فشهقت برعب، لولا أنه هو لصرخت..
سألته بحدة (في إيه..؟)
أنزل كمامته يسألها (مش هتحضري الحصة.؟)
أخبرته بجفاء وهي تحاول أن تأخذ الهاتف منه (لا خلاص)
نهض قابضًا علي هاتفها يخبرها بعناد (خلاص مفيش تليفون)
تأففت بضيق من فعلته، إقتربت تحاول أن تجذبه منه، سألها حين لفحته أنفاسها (زعلتي ليه.؟)
قالت بغضب وهي تشبّ علي قدميها لتأخذه (مزعلتش هزعل ليه أنا فعلا غلطانه )
هنا أدرك  حزنها، توقف يخبرها بنبرة دافئة (لا مش غلطانه ولا حاجه، أنا بس الي متعودتش حد يهتم بيا كده) إبتلع ريقه مُثبتًا نظراته عليها وقد رقت ولانت من كلماته.
صمتت مهزوزة المشاعر، لكنها ما يأست أن تأخذ هاتفها، أمسك بكفها اليمنى ورفعها لفمه، حملقت مذهولة، قبل أن يأسر نظراتها ويُلقي عليها تعويذته الساحرة، طبع في باطن كفها قبلة إعتذار حارقة وهو يهمس (متزعليش)رمشت تستوعب ما يحدث وتلك المشاعر المتدفقة، عاطفته التي تسربت إليها، وجيب قلبها العالي... أفاقت وسحبت كفها بينما إبتسم هو بعذوبة زادته وسامة خطفت روحها، أعطاها الهاتف قائلًا بحماس وقد راقه رد فعلها وخجلها (يلا علي الحصة..؟)
أخذت الهاتف وإبتعدت مُطرقة الرأس، تلملم أوراقها تحت نظراته. لاهية عن تلك التي إقتحمت خصوصية الحدث وصورته، ثم أرسلته لجميع المعلمات تحت سطر كتبته بتشفي وإنتصار فضيحة المغرور.
تناقلت الألسن ماحدث، إنتشر المقطع كالنار في الهشيم، المعلمات تتحدثن عنها بالسوء.
الجميع يعلم، النظرات تحوم حوله ولا أحد يجرؤ علي التفوه، حتى استدعاهما المدير لمكتبه وصارحهما بالأمر، كان رجلًا عاقل يعامله كإبنه، قصّ عليه أنباء ما قد فاته و مالك أخبره بزواجهما وطالعه علي عقد الزواج والتاريخ. ظلت هي صامتة بصدمة
ليخرج من الحجرة ثائرًا،  يسحبهاخلفه غير عابيء بالنظرات ولا هتافها المنزعج وصراخها عليه بالتوقف، وصل لحجرة المعلمين والمعلمات ثم ترك كفها، إنزوت تراقب بملامح مغلقة وقف أمامهم بشموخ، صلبًا جريئًا والجميع ينظر إليه بترقب مجنون (مين صوّر الفيديو.؟)
صمت الجميع كأن على رؤسهم الطير، تبادلوا النظرات في قلق، ليتقدم قليلًا ويتوسط الحجرة زاعقًا (حنان مراتي)
تتسارع النبضات بفزع، غرق الجميع في الصمت والدهشة ليقترب مالك من عفاف وينحني هامسًا بفحيح (يحقلي أرفع عليكي قضية تشهير وأبهدلك..؟)
إرتبكت عفاف، سألتها بإضطراب وتلعثم (وأنا مالي يا مستر مالك.؟)
صعقها بإبتسامة ساخرة قبل أن يهمس مُهددًا (مراتي أشرف منك ومن عشرة زيك)
إنتفضت تلملم ما بقي من كرامتها ليصرخ بها مالك (وحياة أمي يا عفاف ما هعديها)
حاولت صدفة الحديث والدفاع عنها لكنه صرخ بها في جنون (اسكتي إنتِ بدل ما أتكلم وتزعلي)
نهضت تسأله بثبات زائف (قصدك إيه..؟)
إستعد ليبوح برسائلها، ليفضحها كما فُضحت زوجته ونهشتها الألسن، لتقترب حنان وتمسك بذراعه رافضة (مالك) أمر الرسال قد عرفته منه حين صارحته بحب صدفة
إستدار إليها فهزت رأسها رفضًا، توسلته ألا ينطق بكلمة آخرى ويتركهما لله، إمتثل لها لكنه نظر للجميع مُهددًا متوعدًا علي السواء (كلمة زيادة عني وعن مراتي مش هقبلها، ومش هحترم حد.. وإلي حصل مش هعديه بالسهل)
نطقت علا بغيظ تسفّه من غضبه بحمق(خلاص خلصنا، بعدين في بيت يلمكم بلا قلة أدب) هذا ما جادت به قريحتها المتجرحة النازقة
(إنتِ تخرسي، وياريت تنقطينا بسكوتك)
ذابت في حرجها مما يحدث وقد صوّبت إليها اليوم ضربتان قاضيتان، أخذت حقيبتها وخرجت على أعين الجمع، بينما أخذ مالك حنان وغادر ليجلس بها في حديقة المدرسة يلتقط أنفاسه ويهدأ.. علي عكسه كانت هي هادئة مُبتسمة، مُطمئنة البال مما أثار تعجبه ودفعه ليسألها بغيظ (ولا هامك)
ضحكت ضحكة قصيرة لذيذة، بدلت حاله وأثارت الشغب بدقاته، تعجّب منها، فإسترسلت توضح (لا عادي هو أنا كنت مع راجل غريب يعني)
هزء من منطقها (يا سلام)
صمتت قليلًا ثم أخبرته وهي تحدجه بنظرة لامعة وملامح راضية منتشية  تهديه سر السعادة والهدوء  (أول مرة أحس إني مطمنه، إني مش خايفة، إن في حد بيهتم بيا ويدافع عني) نزع نظراته من أسرها، مال يلتقط أنفاسه مسحورًا مُخدر الحواس وقد ذهب غيظه، ألقت تعويذتها وتركته تائهًا في سحر كلماتها (متتعصبش وتزعل نفسك)
التفت يسألها بجدية (مين سماكي حنان.؟)
ابتسمت مندهشة السؤال لتخبره بإحباط (ماما) غيرت الحديث (وريني الفيديو)
أخرج لها الهاتف وأعطاه لها، شاهدت ثم إبتسمت هامسة (حلو سجلولنا لحظة حلوة)
رمقها بغيظ قائلًا (إنتِ بس حني علينا وهغرقك لحظات حلوة)
أعطته الهاتف موبخة بإستياء (إنت متعرفش تسكت خالص، لازم تضيع كل حاجه)
(استوينا لحد ما اتهرينا أرضي عني بقا)
قالها وهو يميل ليضرب كتفه بكتفها غامزًا، فتضحك مُعاتبة (إحنا هيتصورلنا مسلسل كامل كده)
قال جملته التالية بصدق (لو هتبقي مبسوطة وماله)
هربت كعادتها من أمامه، تعرفه متى يكون صادقًا ومتى يشاكسها، تعودت أن تفصل بين كلماته وتسايرها حسب ميزاجيته.
******'*'
طرق باب الشقة، فنهضت تفتح وهي تعرف أنه هو، إرتدت اسدالها وفتحت الباب تستقبله بإبتسامة رائقة، لونت الخيبة ملامحه حين شملها بنظرة سريعة متفحصة، أدخلته وأغلقت قائلة (كنزي بتسأل عليك)
جلس أمام التلفاز، يسأل عنها (هي فين.؟)
أجابته حنان وهي تُعد له ما يشربه (تعبانه شوية ونامت) إنتفضت بقلق من جلسته، تقدم يسأله بجبين منعقد (حنان أوعي تكون إتعدت.؟)
حدجته بنظرة متأملة قبل أن تهدأه (لا متقلقش بسيطة) هتف برجاء وهو ينظر للحجرة (ممكن أدخل أشوفها..؟)
هزت رأسها تخبره بإشفاق(آه طبعا)
إنسحب من أمامها دخل الحجرة، جلس بجانب الصغيرة يربت على خصلاتها بحنان ورفق، ثم انحنى يطبع قُبلة على جبينها يتقصى بها حرارتها، حين إطمئن قلبه نهض عائدًا للجالسه أمام التلفاز.
جاورها وهو يلتقط كوب المشروب، نظر للشاشة بإستياء وقد أدرك أن الجميلة مُغيبة مع أبطالها، زفر بحرقة قبل أن يناديها من بين أسنانه بغيظ (حنان)
أفاقت منتبهة تسأله بنبرة دغدغته (نعم يا مالك.؟) مسح وجهه محاولًا السيطرة، نبرتها تحوي دلالًا فطريًا، عفوي يسلب عقله هو لم يسمع إسمه ينطق هكذا من قبل.
عاد لواقعه يخبرها (بابا وماما جاين بكره..؟)
إعتدلت تستفهم (تمام ينوروا)
تنهد بقلق قبل أن يخبرها (هنضطر نقعد فشقة من الاتنين) نظرت أمامها شاردة الذهن قبل أن تعود إليه بالموافقة المهزوزة (تمام مفيش مشكلة)
سألها بعد أن سحب ريمود التحكم وأغلق التلفاز (طيب هنقد هنا ولا هناك)
تنهدت بضيق قبل أن تخبره بإستسلام (الي يريحك) غروب شمسها، تقلُّص ملامحها بالحزن أخبره بعدم تقبلها الأمر خاصة أنها تفهم معنى وجود والديه وأنها مُطالبة بأن تظهر كزوجة حقيقية. إرتشف من الكوب قليلًا ثم وضعه فسألته بإهتمام (تحب تتغدى.؟)
هز رأسه بالنفي فعادت لصمتها وإنشغالها، لمجاورة الحزن.. إستأذن المغادرة لا يريد الضغط عليها كثيرًا فهو يعلم أنها إعتادته لا تقبلته، هيئت لروحها أرضًا تخطو فوقها حتى تصل إليه..
في اليوم التالي بعد العمل كانا قد جمعا كل الأغراض الخاصة ورتبا شقته للإقامة، إختارت هي وفتاتها حجرة صغيرة وأذعن هو بإستسلام دون إعتراض. إستوقفته أكثر من مره تخبره برجاء (مالك أنا هعمل كل حاجه إرتاح إنت علشان متتعبش)
تأفف يخبرها بملل(أنا كويس متقلقيش، ياريت تعامليني إني كبير شوية)
تجاهلته مُدركة أنه لن يستسلم لن يبايعها علي الصمت،بعد قليل جلست متعبة تلتقط أنفاسها بإنهاك، فجاء وجاورها قائلًا (كفارة)
ابتسمت بصمت، ليخرج من جيبه عُلبة مخملية صغيرة، فتحها وأخرج منها خاتم زواج
لم تهتم له، ظلت علي حالها دون إنبهار
أمسك بأناملها المرتعشة وأدخله فهمست بضيق يطبق علي صدرها(شكرًا)
إمتقعت ملامحه، رد فعلها ضايقه وهل كان يظنها ستقفز فرحًا؟ سحبت كفها وانزوت في فقاعة الأفكار حتى أخرج من جيبه سلسال بسيط من الفضة مد كفه لها به يخبرها ببعض الخجل (دي هدية مني، شكرًا)
أدركت أنه فهمها، قرأ أفكارها في نظراتها.. خاتم الزواج كان لابد منه لأجل مجيء والديه وهذا السلسال لها منه لوقفتها جواره في مرضه، ابتسمت متذكرة كوب الشاي فحدجته بنظرة ماكرة وهي تقول (رشوة دي) زم شفتيه مستغفرًا قبل أن يُطالعها معاتبًا (قلبك أسود وشياله)
إستنكرت ضاحكة (أبدًا والله بس بردهالك)
أكد بنبرة صادقة رقيقة أودع فيها كل عاطفته (عارف إن قلبك مفيش أطيب منه)
وقفت تستأذنه المغادرة (تصبح علي خير هدخل أنام جنب كنزي)
حرّك مفاتيحه بمكر قائلًا وهو يشملها بنظرة خبيثة(كنزي هتنام جنبي)
هزت رأسها كأن الأمر لا يهمها، ولا يُشكل أهمية أو ضغط فليفعل ما يحلو له، ابتسمت ترفرف بجفنيها مُعلَّقة بإستفزاز(وماله)
ثم غادرت تكتم ضحكتها، دخلت الحجرة وأغلقت خلفها متلذذة، تُدير المفتاح ببطء مُغيظ متشفية فيه.
********'
خرجت مطمئنة البال، ترفل في الشقة براحة كبيرة وجرأة  متيقنة من نومة وأنه لن يقبض عليها، فيمنكها الآن التخلي عن إسدالها والقيام ببعض أعمال الشقة في هدوء.
ابتسم برضا حين تسللت للخارج ببجامتها الخفية متخليه أخيرًا عن إسدالها القميء، جعد أنفه في استنكار وهو يتذكره سابًا له، متوعدًا بحرقه قريبًا.
تمدد في الظلام يراقبها بصمت بعد أن أغلق الحاسوب والهاتف حتى لا تشي الإضاءة بإستيقاظه فتهرب لحجرتها، نهض متسللًا على أطراف أنامله حتى وصل إليها وانحنى هامسًا (بتعملي ايه دلوقت)
قفزت صارخة تاركة كل مابيدها يسقط، التقطت أنفاسها برعب تحول لغضب حين استدارت له فوجدته مبتسما منتشي بفعلته الحمقاء (أنت إيه..؟ شيبتني يا أخي)
على ضوء مصباح المطبخ لمح بطرف عينيه التاتو الذي طبعته على كتفها هازًا رأسه بإحباط مغمغمًا (يستفزونك ليخرجوا أسوأ ما فيك ثم يقولون هذا أنت)
هتفت بغضب (بتقول إيه؟)
اكتفى بأن يلتهم كل ما تطالعه عيناه منها في جرأة
فتعللت بغضبها منه، إستنكارها لما فعل، خبأت خجلها وتوترها فيهما وهرولت غاضبة في إعتراض، ظنت تستطيع الهرب منه، كيف وهو عازم ويتابعها واليوم مستيقظ لأجلها هيهات، أمسك بذراعها سحبها غير منتبه للمياه أسفل قدميه فأختل توازنها وسقطت وهو نال عقابًا من سقوط يماثلها بكت دون دموع من أفعاله الصبيانية، وتأوه هو(آه يا ضهري)
ضحكت من قلبها علي تألمه وسخافة الأمر، بينما إعتدل هو ممسكًا بظهره في ألم، مدت كفها تريد إعانه منه لتنهض ففعل ليتجاورا أرضًا ضاحكين.
سألها بإهتمام لأول مرة (عيشتي مع جوزك كام سنة.؟)
أجابت بصدق شاردة في ذكرياتها(تلت سنين)
سألها بنبرة مرتجفة، تتهدل منها خيوط الحزن (حبيتيه.؟) هو يعلم محمود هو حبها الأول
إبتسمت تخبره بصدق (لا كنت عايزه يحميني بس) قالتها وهي تضم جسدها مستعيدة ذكرياتها الحزينة، إسترسل بغصة لا يعرف سببها (ومحمود.؟)
وجدت في الظلام ما يُعينها على البوح دون خجل،متسترة بسواده، أطلعته علي ما في قلبها بصدق هامسة (هتصدقني لو قولتلك مش عارفة)
رأت في الظلام هزة رأسه لتستطرد بمرارة (خايفة أقول لا يبقا كل الي عدى من عمري كان وهم وخايفة أقول اه...)
قطع كلماتها مُهددًا بغيظ (قولي وماله علشان تبقا ليلتك سوده)
صمتت مندهشة من كلماته زمجرته وإهتزاز جسده بغضب مكبوت (إنت إلي سألت)
قالتها من بين أسنانها، ليدفعها من جانبه قائلًَا(يلا يا ماما روحي نامي سديتي نفسي)
نهضت تعرج بساقيها، تتكيء على كل ما تقابله حتى وصلت للحجرة، دخلتها وضربت الباب خلفها بقوة جعلته يهتف (بابا أبوكي هو)، قالها وأخرج من جيبه سيجارًا محشو، أشعله في الظلام، ربما يبدد سحر كلماتها، ويمحي تأثيره تأثيرها هي عليه.
*********
كان إستقبال حنان لهما رائع مليء بالمودة، هيأت لهما المكان جيدًا موفرة كل سُبل الراحة، إجتهدت في صُنع المزيد من الطعام، كل الوصفات والأكلات التي اشتاقتها يومًا في غربتها وتمنتها واشتهتها نفسها، تعمل بحماس وكان هو مُشفقًا عليها خائفٌ يترقب، توجس في نفسه خيفة من مجيء والدته الآن، يخشى علي حنان وفتاتها من لسان والدته.
جلست سمية والدته وجاورها زوجها عبدالله
إبتسم الرجل بود لحنان (الف مبروك يابنتي معلش جات متأخرة)
هزت حنان رأسها متفهمة تبادله المودة والكلمات(الله يبارك فحضرتك ياعمي)
إمتقع وجه سمية ومال فمها بضيق جعل مالك يزفر بإختناق وحرج، داعب الرجل الفتاة بطيبة ولطف (اسمك إيه.؟)
أخبرته وهي تتسلق لتجلس فوق ساقي مالك الذي ساعدها لتستقر (كنزي)
قرص الأب وجنتها مُفصحًا عن سعادته وإعجابه (اسمك حلو)
ثم وجّه كلماته لحنان المنكمشة بعدم إرتياح (ربنا يخليهالك يا بنتي)
(تسلم ربنا يخلي حضرتك)
نظرت الصغيرة لمالك تحتضن وجهه بكفيها هامسةً (بابا مالك عايزه شيكولاته)
ابتسم برقة مُعلنًا موافقته (عيون بابا)
إستنكرت سمية بحنق رددت بإنزعاج وتعالي بغيض(بابا)
تحفز مالك، رمقها بنظرة مشتعلة مُهددة أن تتوقف عن إلقاء الحماقات لكنها عاندت بكبرياء(هي بتقولك بابا..؟ )
إبتلعت حنان ريقها مُحرجة، لاتدري ماذا تفعل  لتقول بإضراب وتلعثم (معلش هو مالك الي أصرّ إنها تقوله يا بابا)
انتبهت الصغيرة لما يحدث، ذبذبات مالك الغاضبة وصلتها فإبتعدت تستنجد بذراعي أمها التي حملتها وضمتها إليها.
أكد مالك بقسوة متحديًا والدته(آه أن قولتلها، كنزي بنتي)
رفعت حاجبها تقول بجدية قاتمة (مش بنتك ومتعودهاش علي كده..)
توتر الجو، لتنفلت من مالك الكلمات دون وعي (أنا حرّ..)رغم سعادتها بدفاعه عن الصغيرة ونظراته التي كان يرسلها من وقت لآخر كأنه يطمئنها ويستأذنها الصمت والصمود، لكنها مُنزعجة لأجل علاقته بوالدته التي ظهرت جليًا. حتى إنه إكتفى حين جاءت بسلام عابر ضايقها.، نهضت مستأذنة لإعداد الغداء، هاربة من الجو المشحون، تاركةً لهم مساحة من الخصوصية.
آسف مالك لأجلها، هاجم والدته بغضب مجنون (ليه كده .. بتعملي كده ليه..؟)
مصمصت والدته بإستفزاز، مندهشة بغرابة، مستنكرة هجومه(إيه.….? متبقاش طيب كده.؟) ضحك بسخرية مريرة لاذعة وهو يهتف بعد أن تجمدت الضحكة (حياتي أنا حر فيها) هدأهما والده بإستياء (خلاص كفاية)
نظر إليه مالك قائلًا (حضرتك مش شايف، كلامها)
نظر الرجل لزوجته يلومها (سمية إحنا اتفقنا علي إيه.؟) أدارت رأسها تلوّ ح بكفها مستهينة، لينهض مالك غاضبًا تاركًا لهما ويذهب لزوجته التي وجدها منهمكة في تجهيز السفرة بملامح لا تُفسر، منغلقة لا يستشف منها ما يدور بعقلها، لتصدمه بإبتسامتها وطلبها (شوف كده يا مالك كله تمام.؟)
مسح وجه بكفه قبل أن يستوقفها بحدة (حنان)
(نعم)
هتف من بين أسنانه (متبينيش إنك مش زعلانه)
عادت للمطبخ وهي تقول بهزة كتف لا مبالية (بس أنا مش زعلانه)
ذهب خلفها، فأشارت له أن يحمل بعض الأطباق ويساعدها ففعل وذهب خلفها لتقول بهدوء (مالك طبيعي مامتك متتقبلش ده، حقها)
قبض على ساعدها يهتف بغضب (حقها إيه؟ إيه ده.؟) نظرت إليه مُعاتبة (إنت متضايق مني أنا ليه دلوقت.؟ أنا بقولك الحقيقة)
إغتاظ أكثر، تركها يدفعها بعنف وهو يهتف بإقرار  (كنزي بنتي)
هدأته بإبتسامة تحاول بها إمتصاص غضبه (خلاص بنتك متزعلش)
إشتعلت ثورته، جن جنونه من هدوئها البغيظ لنفسه، إبتعد صارخًا (بتعامليني كده ليه..؟ أنا مش مجنون ولا طفل)
أغمضت عينيها، ضمت شفتيها في آسف من ثورته، من إنتزاع المرح بعينيه، وتألمه الذي تلمحه مع هروب نظراته منها، تمتمت (أنا آسفة) هرب كما تفعل هي دائما، ذهب للحجرة وأغلق على نفسه.
*******
في السهرة أثنى والده على طعام حنان ، شاكرًا داعيًا لها، مُستمتعًا بما قدمته، مما جعل مالك أخيرًا يبتسم وقد يأست منه ومن عودة المرح لصوته، لكن أبت سمية إلا أن تُعكر صفو تلك اللحظات حينما هتفت الصغيرة بعفوية (تيته تيته) إنزعجت سمية بشدة،صرخت بالصغيرة معنفة (بنت متقوليش تيته)
عادت الصغيرة لوالدتها منكمشة تخبررها بهمس (شريرة)
صرخت سمية محتدة، تجابه قلب بريء عفوي في عنفوان (إنتِ مش متربية)
قامت حنان تحمل صغيرتها معتذرة بدموع حبيسة (آسفة بجد)
لكن سمية إستوقفتها بغضب مشتعل (استني عايزين نتكلم)
نظرت حنان لمالك في إستنجاد حقيقي، لكنه صمت منتظرًا مما جعل حنان تتراجع عن هروبها وتجلس، نهض الأب زافرًا بحنق بعد أن خابت نظراته الرادعة في مسعاها وتجاهلتها سمية مصممة على أفعالها، حمل الطفلة عن والدتها وإستأذن ساخطًا ناقمًا علي زوجته، سلّمت حنان فتاتها وطأطأت رأسها في ألم، اقترب منها مالك يلتصق بها في دعم جعل والدته تبتسم ساخرة.
رغم دعمه كانت حنان حزينة، باهتة، ذبلت منذ مجيء والدته التي ترميها بكلمات قاسية من وقت لآخر وتعنف فتاتها دائمًا
(مفيش حاجه في الطريق.؟) قلّب مالك نظراته، قبل أن يخفضهما وتبادر حنان بتلعثم (ربنا يكرم)
سألت بغباء وهي تعتدل متحفزة (ليه لسه.؟)
نظرت حنان لمالك تستنجده ليقول منهيًا الجدال(عادي.. كل حاجه بتاخد وقتها)
صرّحت والدته في جفاء (مش إنتَ مرضتش ترجع لعلا، وقولت أتجوز حنان سبق لها الخلفة)
أفلتت حنان شهقة ضعيفة، قبل أن ترفع كفها المرتعش وتكمم فمها في محاولة بائسة للصمود، راق الأمر لسمية فأكملت
أمر مالك حنان دون أن يحيد بنظراته عن والدته (روحي شقتك يا حنان)
قبل أن يكمل كانت تتخطى عتبة الشقة في هروب، تأذن لمالك أن ينفجر بقسوة. تاركًا لغضبه أن يقوده (في إيه.؟ أنا حر أخلف مخلفش)
وازته والدته في القسوة (لا مش حر دا اتفاق وأنا شيفاك إستحليت الوضع، الموضوع شكلة مش خلفه بس، إنت عايز تغيظني)
هز رأسه يطلق كلماته بحرية، غير منتبه لتلك الي وقفت تسترق السمع في بكاء صامت (أيوة بغيظك ومش فارق معايا أخلف أو لا، مستمتع بالي بيحصل، وأنا شايف علا بتتحرق قدامي )
صرخت والدته (دا إيه لعب العيال والجنون ده)
هدأ قليلًا، تملكه البرود وهو يخبرها (سميه زي ما تحبي)
سألته والدته (وعلا عقابها هيطول)
استهزأ بصلف، مستفزًا في عناد (جينا لمربط الفرس هي اتصلت عيطتلك ولاإيه..؟)
أخذت نفسًا عميق قبل أن تقول بغرور (رجع علا وخليها حنان زي ماهي للخلفة، تخلف وخد العيل تربيه علا)
حدجها بنظرة غامضة، قبل أن يصارحها بما يكنه داخله (أنا محبتش علا ومش عايزها.؟)
ضربت كفًا بكف، لا يرضيها عبثه ولا كلماته، سألته(ليه.؟ ناقصها إيه.؟ وإيه فيها ست حنان كمان أحسن منها)
نهض، دار حولها مُفكرًا قبل أن ينحني ويهمس أمام وجهها (لإن علا نسخة منك)
فغرفت سمية فمها ذاهلة، مدهوشة ترفع إليه نظرات مهتزة إنتشى بها ليسترسل (علا عايزه تدي متاخدش، بتستنزف الي قدامها، ليها كيان وعايزه تعمل كارير وأنا أصقف وأشجع ومينفعش أعترض)
ظلت علي جمودها تستمع له بصبر، فأستطرد وقد لمعت عيناه حين نطق ما يخصها، ودبت الحياة في ملامحه وهو يحكي (حنان بتدي من غير حساب مبتبخلش، ) صمت يلتقط أنفاسه ليكمل (عايز حنان بطيبتها وجدعنتها ورقتها محتجالي وأنا محتجلها أكتر)
ابتسم رغم شحوبه، يهمس بإرتباك (عمري ما حسيت إن حد بيخاف عليا، ولا أهم حد.. بقع وأقوم واتعب وأخف كله لوحدي، هي غيرت ده فعز تعبي سندتني، بتديني الي إنتِ بخلتي عليا بيه)
وواصلت وكأنه ما نطقه هذيان لم يغير شيء، مجرد كلمات عابثة (يعني مصمم، خلاص خد الي عايزه من حنان وشوف غيرها)
يأس، تجمدت مشاعره لكنه واصل بشجاعة مُهددًا (مراتي وبنتي خط أحمر، الي يأذيهم يأذيني، هتيجي تقعدي من غير ما تزعليهم أهلا وسهلا مصممة تنكدي عليا وتدمري حياتي إنسيني وخليكي فغربتك وفلوسك)
زعقت تستوقفه (ولد)
شملها بنظره مستخفة قبل أن يرحل، وتصطدم عيناه وجسده بأخرى واقفة متصلبة الجسد لا تعي ما يحدث، سوى أنها سقطت في بئر عميق جدًا،تخطاها صامتًا بمزاج سوداوي كئيب وجُرح قلب ينزف، هو في أشد حالاته ضعفًا، لقد تعرى أمامها اليوم بسبب والدته..
حل الصمت ضيف ثقيل علي النفس، بعد أن دبت الحيوية في شقته عاد كل شيء كما كان، برودة وجفاء، حوائط تشاركهما الألم ببرودتها
هو ينعزل بعيدًا عنها يتجنب الإجتماع بها واللقاء، ألف إعتذار لن يكفيه، مهما برر لن يمسح أثر كلمات والدته من قلبها وما إستمعت إليه ، وهي تحبس نفسها داخل شرنقتها ومشاعر مختلطة تتعارك داخلها، لا تدري سوى أنهما إبتعدا من جديد، إعترافه بالحب كان مزيف مثل كل شيء أراد به عناد والدته، والثأر لكرامته، ما بينهما ليس حبًا ولن يكون، هي فقط وعاء صالح للإنجاب.
ذهب لخاله إشتكى له أخته، قسوتها إقتلاعها بذور الأمان بقلبه،ثار، حطم، ثم بكى كطفل، تجرد من أثقاله وأحماله. إحتواه الآخر كما يفعل غمره بأبوته ومحبته، رمم شروخه بكلماته الطيبه، أعاد بناء ما تهدم في نفسه، حاول رأب الصدع.. وإحياء كل ما سممته والدته وقُتِل داخله، خرج مُتجردًا من أدرانه، نظيفًا سليم الصدر، عادت إليه ضحكته
اشترى الكثير من الحلوى وعشاء جاهز ليجتمع معهما من جديد ويعود لحياته، استقبلته بجفاء وقد عادت لشقتها من جديد محتمية بها، تغلق باب قلبها وروحها وتوصدهما بقوة، نامت الطفلة وتركته جالس لا يعرف أي حديثٍ يبدأ، ظلت هي بعيدة بروحها وجسدها وأفكارها تنتظر خروجه (أمشي يا حنان.؟)
تركت أظافرها التي قضمتها بضيق، حدجته بنظرة طويلة بائسة ثم قالت بروح خاوية (براحتك)
أخذ نفسًا طويل عبّق به صدره وهو ينظر للطعام الموضوع والحلوى وقد خاب مسعاه إليها، حين نظر إليها وجدها أقامت الجدار المنقض بينهما، توسلها بنبرة خافتة (ممكن نتكلم.؟)
نظرت أمامها قائلة بفظاظة (براحتك اتكلم.؟)
استجمع شتاته الضائع، لملم كلماته ورتبها داخل عقله لكنها تناثرت من جديد وفرّت هاربة، هرول خلفها يستنجدها لكن لا مفر، بقلبه غصة موجعة تمنعه لا يعرف سببها.
إستقام دون كلمة، دون عتاب.. أو حتى توضيح وتركته هي غير عابئة لما يهمها الأمر من الأساس.؟ فليفعل ما يشاء ويتركها وشأنها.. غادر وأغلقت خلفه بسرعة كأنها تخشى عودته، وقف متجمدًا غير مصدق بينما جلست هي أسفل الباب تبكي بصمت، مندهشة من هذا الإنهيار الذي لا تعرف سببه.
توبخ نفسها وتلومها تصفعها بألف حقيقة، ثم تسأل لما البكاء.؟ ، لكنها عاجزة عن معرفة الإجابة، هي فقط تائهة، متخبطة.. ووحيدة.
*********
انحني يوسف يقبل كف أمه هامسًا (ربنا يخليكِ لينا) ربتت الحاجة على كفه هامسة بعاطفه (ويخليكم ليا ويفرحني بيكم)
ثم إسترسلت بنظرات لامعة (متعرفش فرحتي كد إيه إن ربنا أرادلك وهتتجوز)
تمتم يوسف برضا (الحمدلله)
صمت قليلًا بإرتباك وتوتر قبل أن يهمس برجاء حار (خلي بالك من جميلة يا أما)
ضربته والدته على خده برفق معاتبةً(بتوصيني علي بتي) ابتسم هامسًا وهو يجلي صوته بحرج (عارف يا حاجه، بس أنا قصدي حاجه تانية)
انتبهت الحاجة له ليتابع موصيًا موضحًا ما عُلّق بصدره ولا يستطيع أن يبوح به لأحد غيرها(جميلة صغيرة، وملهاش حد يقف معاها ويكلمها) صمت فحثته الأم بنظراتها ليقول (محتاجه دلوقت أم، خليكي معاها وفهميها، هي أكيد خايفة ومتوترة)
ضحكت الأم قبل أن تضربه بخفه على كتفه ساخرةً (الكلام ده تقوله لنفسك ومتشيلش هم جميلة)
عقد حاجبيه بعدم فِهم أو ربما هروبًا من الموقف لتقول مطمئنةً له (متقلقش ولا تخاف عليها، إطمن.. جميلة صغيرة أيوة بس عقلها يوزن بلد)
ابتسم تأكيدًا لما تقول، لتضحك من جديد هازئة (والله شكلك إنت الي خايف ومتوتر وعايز الي يقف جنبك)
استنكر مُدعيًا الغضب (أنا).. قالت مخمومة القلب بنصف نظرة (أمال أنا)
ثم دفعته بعيدًا برفق قائلة(بتوصيني علي بتي دا أنا مربياها وأعرفها أكتر منك)
إستقام يقول (طيب حاضر)
طرقات الباب جعلته ينتبه مترقبًا لتقول والدته غامزة (دي جميلة، بعتلها تيجي تقرألي شوية قرآن)
أذنت لها بالدخول، ليقول يوسف وهو يرمق جميلة التي تفاجئت من وجوده (أنا والشيخ مش عاجبينك) رفعت جميلة نظراتها إليه في شوق ونهم لتطرده والدته ملوّحة بذراعها(يلا إطلع وإقفل الباب وراك)
نظر لتلك الواقفة قائلًا كأنه يوجّه إليها الحديث(ماشي يا حجة أنا سهران فأوضتي لو احتجتي حاجه تعالي) ختم كلماته بغمزة شقية، جعلتها تتورد في خجل وقد فهمت أنها المقصود بالفعل.
(لا مش عايزه حاجه يلا) قالتها والدته، ليتحرك ببطء شديد وهو يقول بإبتسامة (لتكوني مثلا عايزه تراضيني بحاجه)
ابتسمت مُطرقة الرأس في حياء، لتقول الحاجه  بأمر وهي تطالع ولدها بخبث(اقفلي الباب وراه يا جميلة)
غادر للباب عبره للخارج واستدار يقف أمامها وهي تمسكه مستعدة لإغلاقه ليهددها بهمسه ونظراته الماكرة (الترضية هتيجي ولا وأخدها أنا بنفسي..؟ ) تلميحاته لها أربكتها، أشار لساعته مُحركًا شفتيه بالوقت المعلوم الذي سينتظرها فيه.. لتقول والدته من مكانها (امشي يا يوسف وخليها تدخل)
رحل، وحين إختفى أغلقت متنهدة بهيام، لتضرب الحاجه على الفِراش بجانبها آمره (تعالي يا جميلة)
أطاعت بعقل نصفه معها والنصف الأخر معه هو حيث يكون.
***********
عاد من الخارج يحمل فستان الزفاف الذي أرادته وإختاره هو كما طلبت، رغم حنقه وغيظه بعدما تركته طوال الليل غير مهتمة إلا أنه يشعر بشوق شديد لرؤيتها، دخل المنزل بهدوء فتش عنها بعينيه قبل أن يسلّم علي والديه ويجالسهما واضعًا مابيده جانبًا
(فين جميلة..؟)
تنهدت الحاجه بضيق أربكه، قبل أن تهمس بأسف وحزن (جميلة فوق)
إرتعب من نبرة والدته المشروخه بالحزن، فاترة الحماس، لكن والده قطع بكلماته الأفكار المتناوشة داخل عقله (إطلع يا يوسف فوق شوفها، إقنعها تنزل تروح الدكتور)
انتفض ملدوغًا بالكلمات، يحملق برعب مستفسرًا بقلب يضرم في صدره نيران القلق والخوف (دكتور ليه خير.؟)
هتفت والدته بآسف مشفقة علي بكريها حزينة علي الفتاة (نار الفرن انهردا هبت فوشها يا ولدي)
صرخ بزعر وقلب ينتفض داخل صدره (إيه خلاها تروحي ناحيتها انهردا)
تنهدت الحاجه موضحة (كانت بتجهزلك الغدا زي مابتحب وحصل إلي حصل)
سألها بوجع وألم إخترق صدره (راحت للدكتور؟ الحروق خفيفة ولا شديدة.؟)
تحدث والده قائلًا (مرضتش تطلع معانا وقالت هتستناك) ثم تممت والدته الكلمات
(مرضتش تخليني أشوف، ولا عرفت إيه صابها)
ترك كل شيء خلفه، ركض يلتهم الدرج مُتقطع الأنفاس، حتى وصل لحجرتها، طرق  هو يناديها بنبرة منزعجة (جميلة)
غطت حروقها ونهضت بتثاقل، قبل أن تفتح تأكدت بأن لا دموع بوجهها. فتحت له وقبل أن تتحدث دفعها ودخل، أغلق خلفه وسحبها لأحضانه، دثرها بعاطفته.. ضمها إليه بقدر خوفه وجزعه لما أصابها، أبعدته تخفي ألمها عنه، همست بإبتسامة مهتزة (أنا بخير)
رمقها بنظرة متفحصة قبل أن يعترض  (كدابة، إنتِ مش كويسه)
إبتعدت قليلًا توليه ظهرها قائلة (لا أنا بخير)
سحبها لتعود، قال بحدة (يلا بينا نروح للدكتور)
رفضت بشدة(لا أنا كويسه مش محتاجه دكتور)، جذبها لتصدم بصدره، ركضت نظراته عليها مفتشةً ليقول بحدة (طب وريني الحروق)
حررت ذراعها من قبضته، إبتعدت مرتبكة تخبره كذبًا (مفيش حاجه أوريهالك)
نهرها بحدة، يوقف إسترسال غبائها رافضًا عنادها وحماقتها (جميلة)
أغمضت عينيها، تضغط بقوة علي ثباتها رغم الألم والحرقة الشديدة بجلدها الملتهب(مفيش حاجه متقلقش) تستعطفه بهمسها تحاول نفض قلقه، لكنه عنيد مثلها (وريني يا جميلة الحرق أشوفه وأعرف هجبلك علاج إيه)
تأففت بضيق، قبل أن تخبره بملل من جداله (هات أي علاج للحروق)
شملها بنظرة قاتمة، مشتعلة بالغضب قبل أن يخرج ويتركها تبكي بألم، لم يستغرق الأمر طويلًا.. عاد إليها بالدواء من جديد تسلمته منه شاكرة وأغلقت، رفضًا لوجوده، لمعاونته، تقطع عليه طريق المساعدة ، أن يكتشف ما أصابها وتراه نظراته، هو غاضب منها، ثائر لأجلها تعلم لكنها لا تقدر وعليه أن يتفهم
خلعت عنها العباءة نظرت للسعات النيران المتفرقة بحزن، مقدمة صدرها وجيدها وأخرى على كتفها،كلما مرت أناملها علي الحروق إزداد بكائها وتسألت (هل يحق له أن يعرف ويرى ما قد يصل إليه الأمر)
دار في الحجرة يلهث، يزرعها أرضها مجيئًا وذهاب، يفكر، غاضبًا من عنادها وتصميمها ألا يساعدها حتى والدته، لمح بعضها أسفل وجهها بقرب الذقن لم يكن سهلًا، ولا بسيطًا بل ظاهرًا، يستطيع أن يرى ألمها، أن يشعر بتعبها ويفطن لدموعها الحبيسة،لكن هل يفعل رغًما عنها.؟ ، هل يقتحم الحجرة مُجبرًا لها علي فعل مالا تحب..؟
قرر يفعل، أن يطمئن عليها، طرق فأدركت أنه هو ولن يهدأ ، أو يتركها لنفسها وعنادها وهي بحاجته، الحروق متشعبة ولا تفهم لأي درجة تنتمي وماذا تفعل.؟ دخل متنهدًا حين وجدها تجلس علي طرف الفراش تائهة، تنظر للدواء بضياع، إقترب منها ضمها إليه بقوة قبل أن يهمس بشبح ابتسامة (عندي الحل)
رفعت نظراتها إليه متلهفة، ليخبرها وهو يضم وجهها بكفيه (خليني أساعدك من غير ما أشوف) إحتارت، قطبت مستفهمة بشك، نظر حوله حتى رأي حجابها مُعلق، تركها وإستقام أحضره وعاد ليجلس بجانبها، ربط عيناه به في عصابة قوية، تحت نظراتها المتفاجئة المتسعة، ليبتسم هامسًا برضا (كده تمام..؟)
رفعت كفها تتلمس جانب وجهه هامسة بعشق (قلبي مبقاش كافي لحبك) قال مازحًا بضحكة رزينة (دا إستغلال مقبلش بيه، بعدين قلبك مش كافي أتجوز واحده تانية يبقا قلبين)
(لو تقدر تمام) قالتها بغرور وقد لفظ الكدر أنفاسه الأخيرة من قلبها، وجوده بجانبها واهتمامه بمساعدتها، ومسعاه لقلبها هما الأمان لها.
نهضت تنزع عنها ملابسها، تجردت من إسدالها، محتفظة بقميص قطني بحمالات رفيعة، لتظهر الحروق واضحة، أقتربت أكثر تسمح له بحرية البحث، وجّهت كفه أول الأمر بعد ذلك حفظت أنامله الطريق وتنقلت علي الحروق بحذرٍ وإرتباك سيطر عليه.
انتهى وطلبت منه الإنتظار، إرتدت ملابسها بسرعة، ليبتسم هو ساخرًا من تلك الفقرة المُشوقة، لم يبقى إلا يومان علي زفافهما هل ستفعل بعدها كما تفعل الآن.؟
حررته بأناملها من الظلام، نزعت عنه غطاء عينيه، فركهما قليلًا ثم نظر إليها يسألها بحنو (بتوجعك.؟)
هزت رأسها هامسة بخجل (شوية)
رفع حاجبه يستدرجها هامسًا بجدية كاذبة (كنتِ بتقولي إيه من شوية.؟)
تهربت، تصنعت عدم الفِهم والتغافل ليقول بمكر (كنتِ بتقوليلي أجيب قلب تاني يساعد معاكي)
عضت شفتيها خجلًا من نظراته المصوبة تجاهها، ليعاتبها بإبتسامة (بتقولي أغاني حضرتك.؟)
سلمته نظراتها، دخلت أسره راضية، وهي تهمس بنظرات متوجة بالعشق (الأغاني الحلوة لو متقالتش ليك تتقال لمين يا يوسف)
أشار لها أن تقترب، فأطاعت إندست بأحضانه بين ذراعيه، يضمها ويدنيها من قلبه، هو يخبرها بحشرجة تأثر (أحلى يوسف بسمعها منك، مش عايز حد يناديني بعديها بإسمي)
إبتعدت هامسة بشقاوة (طيب يلا ياحضرة الضابط علي أوضتك)
(مش هتشوفي الفستان)
همسها دون أن يتحرك، يترقب رد فعلها،بشغف قفزت تسأله بفرحة (بجد فين.؟)
رفع حاجبه يسألها بخبث(هتقسيه.؟)
رنت لمقصده، لمكره وشقاوته التي أضاءت بعينيه، حدجته بنظرة تماثله مكرًا (لا خلاص بعدين)
إستقام، مُتجهًا للباب مُحبطًا وإن كان يريدها حقًا أن ترتاح، وتخلد للنوم بعد إرهاق، لا يريد الضغط عليها فيكفيها ما حدث اليوم.
***************
طوت الورقة بعدما كتبتها، طبقتها ودستها أسفل الوسادة مُفكرة، هل ما تفعله كافٍ.؟ هل تلك الكلمات ستصل إلي قلبه وتكشف له عن مشاعرها، عن عشقه الذي إحتوى ربوع قلبها، ليتها تستطيع أن تنطقها لفعلت؟ لو تملك الجرأة لسكبت تلك العواطف أمام عينيه.. أغمضت عينيها مُتحسرة، ليت لها أحد تستطيع مشاركته الأمر.
دخل الحجرة ليجدها شاردة الذهن، تحملق في سقف الحجرة بضيق، جلس ينبهها لدخوله (براءة) أعتدلت متهربة النظرات فأسترسل (مطلعتيش ليه.؟)
نظر للقلم الذي بين أناملها منتظرًا حديثها لتقول (سبتكم براحتكم)
رفع حاجبه للأعلي يتفحصها قبل أن يمازحها بغلظة(حضرتك مُضحية بيا لمروة.؟ أطلع أكمل.؟ )
إنتفضت، تخبره بنفور واضح (لا طبعًا)
سألها وهو يتمدد يعطيها ظهره في لا مبالاة (أمال مش هامك ليه.؟ثقة ولا بايعه)
إبتلعت ريقها الجاف بصمت، قد ماتت كلماتها والآخرى هربت، إستعاذ من يأس بدأ يتسرب إليه في غفلة وحطّم ثباته،ثم غفي وهو يعلم أنها لا تملك، ولا تقدر على إفلات إعتراف هو يعرفها كخطوط يده يحفظها عن ظهر قلب، لكنه والله مُتعب جادت الدنيا بأكبر همها فوق رأسه، شربة هنيئة من الحب لا يظمأ بعدها فهل يحدث.؟
ظلت هي مكانها منكمشة صامتة حزينة تقلّب كلماته علي جمر الآسف،ثم زحفت والتصقت به حيث ملجأها وسكينة قلبها، درعها الحامي وملاذ روحها، هي أدمنته وكفى تسرّب هو داخلها ولا مفر.
في آذان الفجر استيقظ، نفض عن عينيه آثار النعاس، أبعد ذراعها التي تحيطه برفق.. و تسلل للخارج، توضأ وحمل سجادته فوق كتفه وخرج، بين زروعه العالية أدى الفرض وجلس لا يعبأ بنسمات البرد التي ضربته، رفع نظراته للسماء هامسًا بوهن وقد أوشك صبره أن ينفذ، يدعو الله الثبات والقوة وأن يمنحه السكينة، ناجاه بضعف وتوسله بحرقة أن ينقذه من كل شعور يحطمه..
حين إنتهى تمدد على العشب وأضعًا كفيه تحت رأسه، مغمض العينين في هدوء وسكينة، مستمتعًا بالسكون والراحة، سامحًا لوهج الشمس المتسرب علي إستحياء أن يمنحه قُبلة الصباح، وقوة المقاومة، كل يوم يسرق من لهيب الشمس قبس ترياقًا ودواء.
تسللت تبحث عنه في شك، بدأ يتسرب إليها، وغيرة حارقة، كلماته ترن في أذنها وكأنها ما نامت ولا إرتاح عقلها من الضجيج..
لم تجده في المنزل، رغم راحتها لذلك لكنها قلقة،.. خرجت تبحث عنه بين الزروع والأشجار، تخترق الحشائش الطويلة، تفرّق بين جدورها الخضراء باحثةً عنه، تنهدت بيأس
ووقفت تنظر للسماء بتوسل، خطوة للوراء جعلتها تتعثر وتسقط فوقه، تأوهت بألم
وشمِت هو (أحسن)
استوت رأسها على كتفه الأيسر يتمددان بطريقة عكسية فقط الشفاة مقابل الأخرى (طلعتي ليه.؟) يعرف الإجابه، شعر بقلقها ليلًا وأيقن من استيقاظها مبكرًا (بدور عليك)
(أنا موجود) ابتسمت بحنو حين أطمئن قلبها، تلذذت بذلك الإقتراب وتلك اللحظات المسروقة من الزمن، همست وصوت دقات قلبه تصلها، تصنع لها نغمة في خلفية اللحظة
(جلال.. احكيلي عنك)
ضمت شفتيها كما تفعل، مترددة توبخ نفسها على حرية الكلام، وإبتسم هو، لانت ملامحه برضا(عايزه تعرفي إيه.؟)
(كل حاجه)
همس بصدق بعد أن سرق أنفاسًا بعبقها (إنتِ كل جلال ) رمى مشاعره المشتعلة تحت أقدامها علها تخطو عليها بإطمئنان وتُلقي عليه محبةً منها، مالت تحدجه بشك، ظنته يهرب منها لكنه صادق بقدر أنفاسه وعدد دقات قلبه التي وشوش بإسمها في حجرات قلبه، عادت نظراتها للسماء من جديد، دقات قلبيهما تتحد ترقصان في شغف محموم.
أراح رأسه علي الحشائش، سحب جديلتها الطويلة ومددها على صدره يمرر كفه اليمنى على عُقدِها مسحورًا، قبل أن يفيق هامسًا (كنت جايبلك حاجه معايا امبارح)
انتظرته برفق، بشغف وقلبٌ ثمِل، فإستطرد وكفه تترك جديلتها وتتحسس جيبه (نسيتها فجيبي، ولسه موجوده)
حرر لوح الشيكولاته، رفعه فوق عينيها هامسًا (خدي) تناولته بخجل، فتحته، قبل أن تتذوقها هي كانت قطعة صغيرة تندس بين شفتيه طالبة السماح بالعبور، هي لن تفعل بدونه، فكيف وقد إعتادا أن يقتسما حتى الأنفاس.
تناولها بصمت بأعين مغمضة، تستشعر اللذة، هكذا استمرت هي تتبادل معه القطع، وهو صامت داخل فقاعة تحتويهما سويًا ومع إلتهامه لأخر قطعة، قضم بحنو أطراف أناملها متعمدًا، لعق ما لطخته الشيكولاته من الأطراف، سحبتها بخجل وظلت كما هي تجاور رأسها قلبه، بينما تحرسان شفتيها شفتيه، تتلهف لما يعبرهما من حروف.
دثرتهما حرارة الشمس، صفعتهما بحدتها  التي اشتدت، ليأمرها بالإعتال، وخلفها هو.
أراحت جديلتها على كتفها تستأذنه بحياء (جلال إيه رأيك أقص شعري)
رغم تقديره لأخذ رأيه في الأمر واستئذانها، إلا أنه صمت مُفكرًا قبل أن يقترب ويجذب جديلتها في رفق ولين يطويها على كفه، سامحًا لها بحرية الإتيان برضا وإن كانت مُرغمة على هذا الإقتراب بفعل الجذبة، همس أمام شفتيها بإعتراض(لا) رمقت جديلتها الملتفة على كفه ثم رفعت نظراتها بكلمات غير منطوقة وإقتراح قرأه بسهوله فإبتسم يخبرها (ولا تفكيها) اندهشت، حدجته ببلاهة جعلت إبتسامته تتسع أكثر وتنير وجهه ليتركها قائلًا (يلا نفطر)، أحاط خصرها بذراعه وهما يسيران ناحية المنزل.
انتهى.

بنكهة عشقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن