صمتت ليان لبضع لحظات و هي تستعيد ذكريات هذا اليوم ... هذا اليوم الذي قلب حياتها رأساً علي عقب ... هذا اليوم الذي اعتقد هي انه النهايه ... و لكنه كان البدايه لكل شيء ....
فلاش باك ~~~~~~
قبل شهر من بدء العام الدراسي الجديد~~~~~~
و في ازمير تحديدا عند قصر ايلغاز يلديرم ....
كان قصر إيلغاز يلديرم يقع عند أطراف مدينة إزمير ... محاطاً بهدوء يليق بعائلة عريقة ... لم يكن قصرًا ضخمًا مبالغًا في فخامته ... بل بيتاً واسعاً يجمع بين الرقي والدفء العائلي .... يتكون من طابقين فقط .... بني من حجر فاتح اللون يلمع مع ضوء الشمس وسقف مائل .... أما نوافذه الكبيرة ذات الإطارات الخشبية الداكنة فكانت تسمح بدخول الضوء إلى كل أركان البيت .... وفي واجهته باب خشبي ثقيل ...
أمام القصر امتدت حديقة واسعة .... على الجانبي تناثرت شجيرات ياسمين وأزهار ورد ملونة ... وفي الوسط نافورة صغيرة دائرية ينساب منها صوت الماء ليمنح المكان شعوراً بالراحة .....
وعند دخول البيت .... كان البهو الرخامي يستقبل الزائر بلوحة كبيرة على الجدار تصوّر أجيال عائلة يلديرم القديمة .... وكأنها تذكر الجميع بتاريخها العريق .... من هناك تنفتح الأبواب على غرفة معيشة واسعة ... أثاثها من الخشب الداكن والكراسي مكسوة بأقمشة فاتحة ....
القصر كله كان يعكس شخصية إيلغاز يلديرم .... رجل غني من عائلة عريقة ....لكنه لم يلهث وراء المظاهر ... بنى بيتاً أنيقاً وراقياً .... لكنه في الوقت نفسه مليء بالدفء ... بيت يليق بأن يجتمع فيه الأحباب وتُحفظ داخله الذكريات ....
نزل إيلغاز من الدرج بخطوات ثابتة .... بدا في أوائل الأربعين من عمره ... طويل القامة ... ذو جسد رياضي يوحي بالحيوية رغم سنواته ... كان يرتدي بدلة أنيقة زادت من هيبته .... وعلى ملامحه وقار طبيعي يفرض احترامه دون جهد ... ابتسم ابتسامة هادئة وهو يقول بصوت دافئ : صباح الخير يا حبيبتي ....
خرجت إيليف من المطبخ مرتدية مريلة بسيطة ... تحمل بيدها منشفة صغيرة ... وعلى وجهها ابتسامة ناعمة ...كانت في مثل عمر ايلغاز غير أن التجاعيد الخفيفة حول عينيها لم تنقص من جمالها بل زادته عمقاً و رقه ... جسدها ظل محتفظاً بشبابه ... كانت إيليف بطول ليان تقريباً ... غير أن إيلغاز ظل أطول منهما بفرق واضح ... وملامحها تشبه ليان إلى حد كبير .... كأنها صورتها لكن في نسخة أكثر نضجاً و وقاراً ....
ابتسمت إيليف وهي ترد برقة : صباح النور يا حبيبي ... تعالَي يلا عشان نفطر ....
جلس إيلغاز على الكرسي وهو ينظر نحو الدرج قائلاً : ليان مش هتصحى تفطر معانا؟ ...
ايليف وهي تضع الصحون على المائدة : لو الحكايه فيها اكل ... خمس دقايق و هتلاقيها هنا ... قالت و هي تتظاهر بالزعل : و بعدين يعني لو ليان ما صحيتش ... مش هتفطر معايا؟ ....
وفي تلك اللحظة ... نزلت ليان من غرفتها بخطوات سريعة .... ترتدي بيجامتها البسيطة ... وشعرها ما زال مبعثراً من النوم ... لكن ملامحها المشرقة منحتها جمالاً طبيعياً رغم ذلك ... ابتسمت وهي تقول بمرح : أيوة طبعاً .... لازم ليان تصحى عشان يفطر معاكي .... هو انا اي حد ولا اي؟ ....
ضحك الاب علي غيرتهم بخفه ... بينما اقتربت ليان من والدها ... وانحنت لتطبع قبلة رقيقة على خده قائلة بابتسامة : صباح الخير يا بابا ....
نظرَت إيليف إليها بملامح يغلب عليها غضب مصطنع .... كأنها تغار من نصيبها في الدلال من ابيها .... التفتت ليان بسرعة نحوها ...وقبّلتها هي الأخرى على خدها ... ثم همست بخفة : صباح الخير يا ماما ....
ابتسمت إيليف برضا وهي تراها تجلس إلى المائدة .... فيما بدأ الصباح يزداد دفئاً بجو العائلة الصغير ....
أيلغاز وهو يبتسم لليان : صباح الخير يا عيون بابا ....
وضعت ايليف آخر طبق على الطاولة وجلست معهم ...
ايليف وهي توجه حديثها لإيلغاز : هتيجي ف نفس ميعادك انهارده؟ ... ولا عندك اجتماع بعد الشغل؟ ....
إيلغاز، وهو يرفع كوب القهوة ببطء ويشرب رشفة هادئة ابتسم و قال : لا لا ... معنديش اجتماعات ... وممكن أجي بدري انهارده ... على الساعة ٧ مثلاً ...
ليان عيناها تتسعان بالدهشة : مش المفروض انت بتتحرك من الشركة على الساعة ١١؟ ....
إيلغاز بنبرة مطمئنة : انهارده بلال هيجي من اسطنبول ... ف هيستلم الإدارة النهاردة .... والشهر الجاي كله ...
فجأة تغيرت ملامح إيليف ... ارتعشت شفتاها وخفت لهجة صوتها .... كأن ذكر اسم بلال لمس خيطاً حساساً داخلها ...لكنها أخفت التوتر سريعاً .... رفعت وجهها بابتسامة هادئة وأرادت أن يبدو كل شيء طبيعي ....
إيليف بصوت يكاد أن يُسمع : قصدك إيه إنه هيستلم الإدارة الشهر الجاي؟ ...
إيلغاز مبتسمًا وهو يضع كوبه جانباً : انتو قضيتوا أغلب الإجازة في إزمير ... بسبب شغلي واجتماعاتي ... عشان كده أنا عايز نستغل الشهر ده قبل ما دراسة ليان تبدأ ... وناخد رحلة عائلية لإيطاليا ...
شهقت ليان من الفرحة .... وقفزت في مكانها ... وعيونها تتلألأ : بجد!! ...
قفزت نحو والدها .... احتضنته بقوة ودفء .... وابتسامة عريضة تغمر وجهها و قالت : شكرًا أوى بجد يا بابا ...
إيلغاز وهو يطبع قبلة خفيفة على خدها و يبتسم بطمأنينة : العفو يا حبيبتي ... هو أنا ليا مين غيرك إنتي وإيليف عشان أفرحه ...
ثم نظر إلى إيليف بعينين مليئتين بالحنان والفضول : إنتي مش مبسوطة ولا إيه؟ ...
كان قلق إيليف من مجيء بلال في تلك اللحظة أكبر من أي شيء ... لكن حاولت تهدأ وتبتسم : لا إزاي ... مبسوطة طبعا ... ربنا يخليك لينا يا حبيبي ...
جلست ليان مكانها مره اخري ... و فجأه قالت و هي تبتلع الطعام : بس يا بابا اللي اعرفه ان عمو بلال شريكك ف شركه إسطنبول بس صح ولا اي؟ ....
ايلغاز : اه يا حبيبتي هو شريكي ف الشركه دي بس .... بس لما عرف اني محتاج اجازه شهر قال انه ممكن يستلم الاداره مكاني ... و بعدين انا هثق ف مين يعني لو موثقتش فيه ... دة عِشره عمري هو و اسماعيل ...
نظرت إيليف إلى إيلغاز بعد كلماته وعيناها تفيضان بالشفقه والحب ... بدا لها مدى طيبة قلبه ... وكيف أنه لم يظن فيهم يومًا سوءًا ....
ايلغاز و هو ينهض بعد أن انهي طعامه : يلا انا هقوم بقي .... عقبال ما اجي تكونوا رتبتوا الشنط بتاعتكم ... و شنطتي معاكم بالمره ... عشان نركب الطياره علي بليل و نوصل الصبح بدري ناخد اليوم من أوله ....
وقفوا الاتنين على الفور ... أومأت إيليف وليان معًا ... ثم اتجهوا نحو الباب ليودعوا إيلغاز ....
وضعت ايليف يدها برفق على كتف ليان .... كأنها تمنحها دعم ودفء في نفس اللحظة ....
نظروا إلى إيلغاز بابتسامة دافئة .... مليئة بالحب والامتنان .... كانت كل واحدة منهن تشعر بمزيج من الفرح والحنين ... رفع إيلغاز نظره إليهما ... وعينيه تفيضان بالامتنان والحب ... ابتسم وقال بصوت مليء بالعاطفة : إنتوا أحلى حاجة في حياتي ... من غيركم مكنتش هعرف أعيش ولا اكمل حياتي و لا حتي انجح ف شغلي... انا بحبكم جدًا ...
ثم اقترب منهم ... وحضن كل واحدة على حدة ... وملأ قلبهما بالدفء والأمان ....
إيليف، وهي تعانقه برفق وتربت على كتفه : خلي بالك على نفسك يا حبيبي ... بحبك ...
ليان وهي تمسك يده وتبتسم : و انا كمان بحبك يا حبيبي ... متتاخرش بقي ...
ابتسم إيلغاز لهاما مرة أخيرة ....ثم خرج من البيت ...
ظلّت إيليف وليان للحظة تتأملان المكان ... ثم توجهتا ليجمعوا السفرة .... و يبدآن في ترتيباتهما استعدادًا للرحلة القادمة .... وقلباهما ممتلئان بالحب والدفء العائلي ....
كان وداعهم عند الباب يبدو كأي وداع معتاد ... عبارات حب ... حضن دافئ .... و ابتسامات ... لكن هذه المرة ... كان هناك شيء مختلف ....شيء غامض لم يستطع أحد منهم تفسيره ....
أنت تقرأ
قصة حياتنا
Romanceلم تكن أعينهم تراهم خطرًا ولم يتوقع أحد أن دخولهم الصامت سيُغيّر كل شيء في البداية لم يتغير شيء واضح لكن شيئًا غير مرئي بدأ يتحرك في الخلفية الأحاديث اختلفت، التفاصيل لم تعد كما كانت، والراحة التي اعتادها الجميع بدأت تتلاشى وكل ما ظنه الجميع ثابتًا...
