الفصل الثالث والعشرون ج ٢

1.8K 112 18
                                    

مُعاب أنا دون شففة، ومبتلي بلا غفران...
يهتف متضرعًا في السقف، لكن روحه تتخطى ذلك الحد، روحه تهفو للسماء إلى رب القلوب والمستضعفين
رب بدور الذي قهرها
ورب ابنته الذي عاقها
ورب هذا الزواج العطب المُنتهي...

دمعة فلتت من مُقلته تروي أرض وجنته القاحلة، هذا الرجل لم يبكي إلا للشدائد حتى يوم وفاة جدته ما بكى رغم حبه القوي لها

لم عليه أن يعتل هكذا!!، في أكبر مواضع قوته وفي منتصف فخره...
الحادثة التي أصابته نتاجها كان مؤلمًا، قاهرًا لرجل في هيبة سالم الذي لا يتضرع من هذه الحياة سوى ولد من صلبه...
والآن هو غير ... قادر... على ... الإنجاب...
المرة الوحيدة الذي تشتت انتباهه ووقع من على فرسه ولكنها لم تكن صدمة بسيطة بل أعلته في إنجابه...
كانت المرة الوحيدة الذي اجتاحه فيها الندم نحو بدور...
وأخر مرة
أخبره الطبيب أنه عُقم مؤقت لكن الكلمة نفسها لها وقع مضاد لفخره، ومفتت لكبريائه...
سلوانه الوحيد هو أن يكون القابع في أحشاء خنساء ولدًا حينها ستُرد كرامته أمام جده وأبناء أخواله والقبيلة بأسرها
مسحَ دمعته واستقامَ من رقدته التي ظلَّ عليها الساعتين الماضيتين، لقد انعزلَ في غرفته المظلمة منذ شهر بعد أن صرخَ في الجميع ليتركوه وحده... مع علته!!

صوت خطوات قادمة تجاه غرفته جعلت جسده يتحفز للصراخ مرة أخرى، لكن الهدوء الذي عمَّ فجأة صرفَ انتباهه عمن غيّرَ رأيه عن مقابلته، أو هكذا ظن

فالثانية التالية كان الباب يُفتح ويدلف شخص منه، هذا استدعى عصبيته
-من الذي دخل دون إذني.. اخرج لا أريد أن أرى أحدًا
بهدوء كان صوت المفتاح يُنبهه للمرة الثانية للقادم

من يملك مفتاح هذه الغرفة وله الأحقية بالدخول؟
من سواها؟
بدور!
ابتلعَ ريقه الغاص في حلقه، أشاحَ بعينيه بعيدًا عنها لكنها عادت تخذله وتتوق إليها، فتمتمَ بالصبر بينما يراها تتقدم نحوه، بملامح جامدة وخطًا واثقة وظهرًا مستقيمً، ترى هل كان سيلاحظ لو كان الأمر غير الأمر؟
-كيف حالك يا سالم؟
هكذا؟ بكل هذا الفتور تسأله وهي تجلس مقابلة له على الفراش؟!
لا نظرة حنين
ولا حديث ينبض بالحب كما كان؟

أجاب هو من فرط تشائمه
-لم جئتِ يا بدور قلت أنني لا أطيق رؤية أحد
لم تعطه ردًا يُثلج صدره بل صمتت وصمت معها كل الحديث، ليتجرع هو هذا السكوت مغمغمًا بينما يطرق برأسه لأسفل
-جئتِ لتشمتي...
ارتفع طرفي شفتيها في ابتسامة دبلوماسية تُنافي الحروق الناشبة داخلها، هكذا كان سالم دومًا؛ دفاعيًا، لا يُحب أن تراه ​ضعيفًا
ولكن هذه المرة ليست ككل مرة...
-نحن لم نتحدث في الوضع الحالي بيننا وأنت نأيت بعيدًا كما لو أن المصاب يخصك وحدك
ضيّق عينه وكلامها المستفز يبعثر هدوءه، أردفَ من بين أسنانه متمنيًا ألا يكون ما تقصده ما قد فهمه للتو
-ما الذي تلمحين إليه؟
إنه يفقد توازنه.. نقطة لصالحها
قلّبت عينيها بضجر وهي تشير حولها حتى استقرت إشارتها نحوه، ثبتت قليلاً ثم تشدقت
-هذا كله، إصابتك، أنا وابنتيك إن كنت تتذكر.. لذا أنا هنا بخصوص هذا، شهر يكفي أن تتخذ قرارك بشأننا
ظلَّ صامتًا هذه المرة لا يعرف إلى ماذا ترمي لكن حدس خفي ينغص حذره ويُخبره أن القادم لا خير فيه...
سمحت لأظافرها المطلية أن تسلب أخر ذرة أمل قد يُلقيها في طريقها حتى تتعثر وتعود له منكسرة، فمسحت على وجهها لتيظهر اللون النبيذي القاني والذي تماشى مع سمارها بطريقة فاتنة
وبالفعل اشتعلت عيناه وانفعلَ بقوله وهو يقوم جالسًا
-هل جننتِ يا بدور تتأنقين وتضعين طلاء أظافر وزوجك مريض؟؟ حتى أنني لم أرَ قلقًا على وجهك ولا لهفة زوجة مُشتاقة لزوجها بعد شهر لمر تراه فيه
رمشت بعينيها لهجومه المباغت لكنها لم تتزحزح قيد أنملة، بل ظلت جالسة على الكرسي بظهر مفرود وعيون باردة أخفت خلفها جوارحها جيدًا، انتظرته حتى أنهى حديثه فردت ونبرتها يشوبها الضجر
-هل هذا وقته ياسالم؟ أنا أحدثك عن حياتنا الفعلية وأنت تحدثني عن المشاعر والاشتياق!! ألا يكفي أنني من طبخت لك وغسلت ملابسك حتى أنني كنت أطمئن عليك كل يوم من جدي لأنه الوحيد الذي سمحت له بالدخول
سينفجر... نقطتين لصالحها
أخذت نفسًا عميقًا وزفرته ببطء ثم استطردت بجدية وبسمة دبلوماسية تحف شفتيها
-حاليًا أنت مريض وقد يطول علاجك وأنا الشهر الفائت كله سهرت على راحتك كما أخبرتك وخنساء لم تفعل شيئًا بل تحججت بحملها لذا يا سيد الرجال عليك أن تعدل بيننا وتخبرها أن تتولى رعايتك الفترة المقبلة لأنني أنا الأخرى أم وعليّ التزامات تجاه بناتي "صمتت تبتلع ريقها ثم أردفت وهي تدعي التفكير... بنبرة خبيثة" أنا حتى لم أرها طيلة الشهر يبدو أنها لزمت غرفتها بعد مصابك عليك كل هذا الوقت لكن...
-لكن ماذا!
كان جسده ينتفض مع كل حرف تقوله، مترقبًا إن كانت ستزيد شكوكه نحو خنساء أم ستثبطها
في حين أكملت هي
-لم تزرها والدتها أبدًا ولم تأتي على طعام..يبدو أنني أخطأت في الحكم عليها فهي انزوت في غرفتها حزنًا عليك... أصيلة خنساء
بل خنساء ليست في المنزل وسيريها الأمرين حتى تتركه في منحته وتهرب لأهلها وهو من انتشلها من قاع هذا البيت وجعلها سيدة لها أسرة، هل ظنت أنه عاجز عن تأدبيها؟! هي تحلم بذلك وهو من سيجعلها تستيقظ على كابوسه

ما الهوى إلا لسلطان ... للكاتبة سارة عاصمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن