الخاتمة

13.1K 503 125
                                    

الخاتمة

(ما طمره التامور وطمره)

قبل أن يعاني ويلات هذه الكسرة المهينة، هزمه بقــــسوة تخلي الأقرب إليه عنه، فأدرك وتدارك معنى أن يكون وحيدًا، في ذيل قائمة الاهتمامات، ومنسيًا بين أسرته، لم يكن مُصانًا بالدرجة الكافية التي جعلت عائلته تضعه فوق أي اعتبار، لم يجد والدته بجواره، ولا والده في محيطه، ليذودا عنه، ويوقفا بطش هذا الحقير النجس، الكل اختفى فجأة من المشهد، وكأنه وُلد يتيم الأبوين، بلا سند أو معين. تركه "ممدوح" وسط محيط وجعه الراسخ، وعلى وجهه علامات الألم والرعب، فقد تأكد أن تكون عقوبته ذات أثر مخيف وغير قابل للنسيان. راح يئن أنينًا خافتًا، جاهد لوأده، وكأنه يخشى إن ارتفع صوت بكائه أن يكتشف أحدهم ما تعرض له، حينها لن ينجو من هذا الشعور المذل أبدًا، بل سيلازمه حتى مماته!

اعتدل "أوس" من نومته المهينة، وبحث عما يغطي به جسده، فالتقط الملاءة، ولفها بيدين مرتعشتين حوله، قبل أن يهرع نحو باب الغرفة ليوصده من الداخل. لن يسمح لأي فرد بأن يرى آثار وحل القذارة الذي وقع فيه بممارسات زوج أمه اللعين عليه، بكى مع كل محاولة منه للسير بتؤدةٍ تجاه الحمام للاغتســال، أراد بشدة تطهير جسده من موضع لمساته المحرمة، لم يكترث إن كان الماء المنساب على بدنه باردًا، أم دافئًا، أم حتى حارقًا، المهم ألا يبقى أي أثر ليده عليه.

جروحه النفسية قبل البدنية لم ولن تندمل بسهولة، بل إن ندوبها الموحشة ستظل معالمها موجودة لتذكره على الدوام بأنه كان الضحية، المجني عليه، بأنه اُغتيل، وأعيد اغتيــاله في كل مرة كان يرى فيها هذا البغيض قبل أن يجهز عليه تمامًا في مرته الأخيرة.

اختلطت دموعه الحارقة بقطرات المياه، تعهد لنفسه بأن تكون آخر مرة يظهر فيها ذلك الضعف، لن يسمح لأحدهم بالمساس به، بالسير على حطامه، ودعسه كحشرة لا قيمة لها، سيخفي ذلك الجانب المخزي منه للأبد، وكأنه لم يكن من الأساس. أغلق الصنبور، وخرج مبتلًا وهو يلف جسده بهذه المنشفة الصغيرة، كان لا يزال يرتعش، وارتجف أكثر مع رؤيته للفراش، ذاك الذي شهد على لحظات نحـــــره، أغمض عينيه بعدما التف بظهره ليقول بصوتٍ مهتز ومختنق:

-ده كابوس، كابوس...

حاول السيطرة على الرجفة العظيمة التي تفشت فيه، وأكد لنفسه:

-مافيش حاجة حصلت! مافيش!

اتجه بعدها إلى الدولاب وفتح الضلفة ليجد حقيبته التي أحضرها والده قبل عدة أيامٍ، فتش بداخلها عن ثيابه، تأوه من الوجع، فتنفس بعمقٍ ليكبت هذا الشعور المؤلم، ثم بدأ في ارتداء ملابسه على مهلٍ، رافضًا أن يكون جسده مكشوفًا لكائنٍ من كان!

لم يقوَ على الجلوس، ظل واقفًا أمام النافذة، يراقب بعينين خاليتين من الحياة، ومن خلف الستائر المنسدلة الفضاء الممتد على مرمى بصره، قست ملامحه، وأصبح أكثر جمودًا وصلابة، أخذ على نفسه ميثاقًا غليظًا، بألا يدع ما حدث يسيطر عليه، لن يجعل مشاعره تسوقه، وقلبه يقوده، بل لا مكان للعاطفة في حياته، آن الأوان ليطمر ما خاضه ذلك الطفل الضعيف المضطهد في التامور، ويحل كبديل عنه آخر مطابق في الصفات والسلوك لمن نجحوا في إفساده، المهم ألا يصبح كما كان سابقًا!

رحلة الآثام - الجزء السابع - سلسلة الذئاب -كاملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن