الجزء 50

151 8 1
                                    

مات صاحبا الرسول "أبا بكر" و"عمر".. وتولى الخلافة بعدهما "عثمان ابن عفان" واتسعت دولة "محمد" لتكون من الصين إلى تونس.. ولو تُرِكت بضع سنين كانت ستغزو العالم كله.. فقد بنى "محمد" جيلًا كاملًا من الشخصيات اللامعة النادرة القوية المخلصة بطريقة لم تحدث في التاريخ من قبل ولن تحدث في التاريخ من بعد.. وإن أعظم حضارات العالم تفخر لو وجد فيها شخص واحد من هؤلاء.. فكيف بحضارة فيها أكثر من مئة ألف منهم.. لم يكن مناسبًا أن أعتمد على أحدٍ في بثِّ سمومي هذه المرة.. كان من المحتّم أن أنزل بنفسي إلى ساحة الأحداث.. وخلعت عني هيئة الثعبان واتخذت لنفسي هيئة بشرية.. ونزلت إلى المدينة المنورة.. المكان الذي ربَّى كل هؤلاء الرجال.. نزلت إليها على هيئة رجل أسود قادم من اليمن.. بل شيطان أسود.. شيطان يدعى "عبد الله".. "عبد الله بن سبأ".

بدأت أخلط سما فكريًّا عزافًا لحقنه في قلوب هؤلاء.. نظرت إلى عقيدتهم وكتّابهم ورسولهم فلم أجد ثغرة أنفذ منها.. لكنني أمعنت النظر وأمعنت حتى وجدتها.. وجدت الثغرة التي سأحقن فيها سمومي كلها.. فبعد وفاة رسولهم اجتمع كبار صحابته في سقيفة بني ساعدة ليختاروا واحدًا منهم خليفة للمسلمين.. لكنهم أغفلوا واحدًا من أهم الصحابة.. رجل شديد الأهمية لم يكن في هذه السقيفة معهم بل كان مشغولًا يغسل جسد النبي "محمد" تجهيزًا لدفنه.. كان هذا هو "علي".. "علي بن أبي طالب".. ابن عم الرسول وصهره.

المشكلة أنه كان من المستحيل التأثير على عقائد هؤلاء الرجال أبدًا.. بل إنني خِفت على عقائدي كشيطان أن تتأثر لو اقتربت منهم.. لذا كان يجب أن يكون السم سياسيًا هذه المرة.. سياسيًا بحتًا.. إن "علي بن أبي طالب" من آل بيت النبي وسماه الرسول وليّ المؤمنين فكيف يجتمعون بدونه في السقيفة ويختارون خليفة لهم بدون حتى أن يأخذوا رأيه.. ضيقت عيني المشقوقتين في رضا شيطاني ومضيت في طريقي.

لكنني خرجت من المدينة مدحورًا مذمومًا.. لقد أجمع أهل المدينة كلهم على رأي السقيفة.. وبايع الكل بلا أدنى تردد الخليفة "أبو بكر".. حتى "علي" نفسه بايعه ببساطة.. هؤلاء يعرفون كلام رسولهم جيدًا.. فقد رتب أكثر من مرة أصحابه حسب الفضل "أبو بكر" ف "عمر" ف "عثمان" ثم "علي".. ومزاعمي أن هؤلاء الثلاثة قد سرقوا الخلافة من "علي" ثلاث مرات ضاعت في الهواء.. فكيف يسرقون الخلافة ولم يخرج أحدهم منها حتى بثوبٍ جديدٍ بل ماتوا جميعًا مديونين.. قدموا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله.

لكن هذا السم الذي حضرته ولو لم يكن قادرًا على التأثير في هؤلاء فهو قادر على التأثير في ضعاف أو حديثي الإسلام.. وبهذا توجهت إلى الشام.. وحاولت نشر فكري هناك لكنني خرجت منها مدحورًا مرة أخرى.. فكان أمير الشام "معاوية بن أبي سفيان" يدير الشام بطريقة يستحيل معها أن تشتعل أي فتنة.. فخرجت من الشام وتوجهت إلى العراق.. وهناك فقط وجدت ضالتي.

في البداية نشرت مطاعن عديدة في كل أمراء البلاد.. فإذا تقبَّلها الناس سيكون سهلًا عليهم أن يتقبّلوا مطاعن في الخليفة "عثمان بن عفان".. وبالفعل تقبَّل كثيرٌ من الناس كلامي ومنهم كبار قواد الجيوش مثل "الأشتر النخاعي".. تقبَّلوا مطاعني في الأمراء وتقبَّلوا مطاعني في "عثمان".. وظللت أطعن وأطعن حتى سار معي ثلاثة آلاف رجل ودخلنا المدينة وواجهنا الخليفة "عثمان" بمطاعننا وطلبنا منه أن يخلع نفسه عن الخلافة ويولي "علي". . لكن حتى هذه كان الرسول قد أخبره شخصيًّا بها.. فقد قال له إن هناك منافقين سيأتونك ويطلبونك أن تخلع قميصًا قمصكه الله فلا تخلعه.. وبهذا رفض "عثمان" أن يخلع نفسه من الخلافة.. وبهذا حاصرناه ومنعنا عنه الماء.. حتى قتلناه.

وبهذا بايع الناس "علي بن أبي طالب" خليفة.. لكن اختلف أكابر الصحابة؛ فريقٌ رأى أن يقتص الخليفة "علي" من قتلة "عثمان" أولًا وإلا لن يبايعوه.. على رأس هؤلاء "عائشة" زوجة الرسول و"طلحة بن عبيد الله" و" الزبير بن العوام"..

الفريق الآخر وهو فريق الخليفة "علي" رأى أن يؤجَّل القصاص.. لسبب سياسي بحت هو أن القتلة من أكابر قبائل العراق وشرق المملكة الإسلامية وهم حديثي الإسلام.. فلو تم القصاص الفوري منهم ستنشق نصف المملكة الإسلامية عن الخلافة.. وقد استخدمتُ رأي "علي" السياسي هذا شر استخدام.. فأشعت في معارضيه فكرة أن "علي بن أبي طالب" كاره ل "عثمان بن عفان" ولهذا هو يُقرّ قتلته على ما فعلوه.. وإنما يتخذ حجته السياسية هذه ذريعة ليساعد القتلة على الهرب.. ويبدو أنني بدأت فعلًا في إشعال النار.

قرر "طلحة" و"الزبير" أن يسافروا إلى العراق للقصاص من القتلة بأنفسهم ومعهم خمسة آلاف رجل.. لكنهم أخذوا معهم "عائشة" زوجة الرسول لترقيق قلوب القوم هناك.. ولما وصلوا للعراق طالبوا القبائل بتسليم قتلة "عثمان" للقصاص لكن القبائل رفضت رفضًا شديدًا كما توقع "علي".. وبدأت الحرب.. وقتل جيش "طلحة" من القبائل الكثير.. وقتل القليل من قتلة "عثمان".. أيضًا كما توقع "علي".

هنا انطلق "علي" بنفسه إلى العراق لحل هذا النزاع وعاتب "طلحة" والزبير" و''عائشة" على عدم تصديقهم لنظرته السياسية التي توقعها.. فهدأوا جميعًا وبايعوا "عليا" بالخلافة واتفقوا على رأيه.. كان يبدو أن "علي" نجح في إخماد النار التي أشعلتها.. لكن هيهات.. ففي الليل بعد أن نام الجميع.. تسللت ورجال معي إلى مخيمات رجال "طلحة" وقتلنا منهم نفرًا يسيرًا.. ثم ذهبنا لمخيمات رجال"علي" وقتلنا منهم نفرًا يسيرًا.. ونادينا في كلا الطرفين بينما أغار علينا الطرف الآخر الحاقد.. وهكذا قام الرجال والتقت سيوفهم.. ونزل "علي" ينادي الجميع أن يوقفوا القتال.. ونزلت "عائشة"على جملها ونادت في الجميع أن يوقفوا القتال حتى أصابت ناقتها سهام كثيرة لم يدرِ أحد من أين تأتي.. فأحاط "علي" بجمل "عائشة" بجسده في مشهدٍ بطولي حقيقي ومهَّد لها الطريق لتخرج من الساحة.. ثم أمر نساءً من آل بيته لمرافقتها إلى المدينة.. قُتِل "طلحة" بسهم مجهول.. فلما رآه "علي" بكى..

أنتيخريستوسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن