الجزء 51

140 9 0
                                    

وقُتِل "الزبير" بطعنة غادرة أثناء صلاة الظهر.. وأتى من يُبشر "علي" بقتل "الزبير" فقال له "علي" أن يبشر قاتل "الزبير" أنه في النار.. ودفنه "علي" بنفسه وقال :

- إني لأرجو أن أكون أنا و"طلحة" و"الزبير" و"عثمان" ممن قال الله فيهم (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين)

وبما أن العراق كانت مكانًا غير مستقر فقد فضَّل "علي" أن يحكم المسلمين من الكوفة.. وبهذا كاد "علي بن أبي طالب" أن يطفىء النار مرة أخرى..

ولكن هيهات.. لازلت هنا.. لازال الأسود بن السوداء "بن سبأ" هنا.. كانت هناك العديد من الثغرات قد تكونت الآن.. ف "علي" أثناء تحقيق سياسته بتأليف قلوب قبائل العراق اضطر لإبقاء من كان منهم قائدًا للجيش كما هو.. ومن هؤلاء كان "الأشتر النخاعي" أحد رموز التمرد على "عثمان" وغيره الكثير.. وصرخت بين الناس أن انظروا كيف ترك "علي بن أبي طالب" مدينة رسول الله وذهب ليقيم الخلافة من الكوفة مهد قتلة "عثمان بن عفان".. انظروا كيف كان جيشه يقاتل جيش "عائشة" و"طلحة" و"الزبير" ويقتل منه من يقتل.. ويرفض أن يقاتل من قتلوا "عثمان بن عفان".. ألا يدل ذلك على حقده على "عثمان بن عفان"؟ ولكن صرخاتي تلك لم تؤثر سوى في حديثي الإسلام.. فالمسلمون يعرفون جيدًا من هو "علي بن أبي طالب".. ابن عم النبي.. وزوج ابنته "فاطمة".. ومستشار الثلاثة خلفاء الذين كانوا قبله.. قال فيه النبي " إن الله جعل ذرية كل نبي من صلبه وأبى أن يجعل ذريتي إلا من صلب علي".. و"من كنت مولاه فعلي مولاه".. فلم تجد صرخاتي صداها.

لكن ما ساعدني بشدة كان أن هناك بلدًا واحدًا فقط معارضًا بأكمله لموقف "علي بن أبي طالب" السياسي منذ البداية ورافضًا أن يبايعه إلا بعد أن يقتص من قتلة "عثمان بن عفان".. بلد واحد فقط لكنه شديد الأهمية.. الشام.. بأميره "معاوية بن أبي سفيان".. ونفر من الصحابة الكبار أبرزهم "عمرو بن العاص"..

لما أتيت الشام قبل مقتل "عثمان" لم أتمكن من فعل شيء.. أما الآن ومع تبنّيهم هذا الموقف المعارض.. صار إشعال النار عندهم أسهل بكثير.

فذهبت بصرخاتي إلى أنصار "علي بن أبي طالب" وقلت.. إن "معاوية بن أبي سفيان" يرفض مبايعة "علي بن أبي طالب" لأن "علي" قتل خاله وقتل أخوه.. كما أنه كبير قبيلة بني أمية التي منها و"عثمان بن عفان".. فهو ولي دم "عثمان".. وهو يقدِّم ولاءه للدم على ولائه للخليفة.. لكن صرخاتي لم تجد لها صدى كبيرًا في تلك الأيام.. فالناس كانت تعرف من هو "معاوية بن أبي سفيان".. تعرف أنه من القلة الذين ائتمنهم النبي "محمد" على تدوين القرآن.. وعنه يحفظون أحاديث كثيرة جدًا.. ودعا له "محمد" فقال "اللهم اجعله هاديًا مهديًا".. والمسلمون يتعاملون مع دعوات النبي معاملة الدستور.. بل إن أخت معاوية هي زوجة النبي "محمد".. ولذا يلقبونه بخال المؤمنين.. وهم يثقون به تمامًا لأنه ورغم أن "عمر بن الخطاب" أثناء خلافته عزل الكثير من الولاة مثل "خالد بن الوليد" و"أبو موسى الأشعري" و"سعد بن أبي وقاص" و"عمار بن ياسر" إلا أنه لم يعزل "معاوية بن أبي سفيان" أبدا.. وذلك لشدة حنكته في الإمارة وعدله.

لكن طال إصرار "معاوية" على رفض مبايعة "علي".. ونصح الصحابة الخليفة "علي" بأن يخرج ليعيد الشام إلى حُكمه.. فخروجها عن الخلافة يجعل غيرها يستمرىء الخروج على الدولة.. وبهذا خرج "علي" بجيش قوامه مئة وعشرون ألف رجل إلى الشام ليعيدها.. وجهز له "معاوية" جيشًا قوامه تسعون ألف رجل.. كنت في غاية السعادة.. فالصحابة.. أصحاب القلوب الذهبية على وشك التقاتل مع بعضهم البعض.. وتقاتلهم هذا يعني سقوط دولتهم.. ويعني أن الثعبان سيجد ضحية جديدة.

التحم الجيشان وسقط قتلى ما يقارب الأربيعن ألفًا.. لكن كان هناك شيء عجيب في هؤلاء القوم.. توقفت قليلًا لمحاولة استيعابه.. هؤلاء يتقاتلون بالنهار.. وفي الليل يتزاورون.. القرآن يدوي في ذلك الجيش.. ويدوي في الجيش الآخر..

كل طرف مؤمن أنه يقاتل لأجل الدين.. الطرف الأول يقاتل لأجل تفعيل حد القصاص لأن في تعطيله مخالفة لشريعة الله.. والطرف الثاني يقاتل لأجل استقرار الدولة الإسلامية.. يتقاتلون ولا يكره طرف منهما الطرف الآخر.. بالعكس يعظمون بعضهم البعض.. وفي المعركة يظل الرجلان يتلاحمان بلا قتل.. فكل القتل الذي حدث في المعركة كان بفعل أتباعي.. قتلة "عثمان" الذين كانوا في جيش "علي" لكن لما كان صحابيان يتقابلان فإن سيفيهما يصطكان ببعضهما بلا قتل وقلباهما سواء.. وقفت بين هؤلاء وهؤلاء.. ليس لمثل هؤلاء وضعت سُمي.. لقد أشعلت ما ظننته نارًا في القلوب.. فأصبحت النار بردًا وسلامًا عليهم كأنها لم تكن.. أنا أضيع وقتي هنا.. هؤلاء سيصطلحون بعد حين ويعودون أشد قوة مما كانوا.

وبالفعل اصطلح الرجال.. وعملوا هدنة لسنة.. خلال هذه السنة زحفت على ضعاف النفوس والإيمان.. فلست أقدر إلا عليهم.. جعلت نفرًا كثيرًا منهم يعتبرون كل من شارك في المعركة بين الصحابة كافرًا.. وجعلتهم يحاولون الانقلاب على الخليفة "علي".. الذي انشغل تمامًا بمحاربتهم والقضاء عليهم حتى قتله أحدهم.. وهو"عبد الرحمن بن ملجم".. الذي ظنَّ بكل السم الزعاف الذي أودعته في قلبه أنه قتل "عليا" وأنه سيدخل الجنة.. وقد قال الرسول إن قاتل "علي" هو أشقى الآخِرين.. وقال أيضًا أن الطائفة التي ستقتل الخوارج هي أقرب الطائفتين إلى الحق وهي هنا طائفة "علي بن أبي طالب".. أما الطائفة التي ستقتل "عمار بن ياسر" أثناء الفتنة فهي الفئة الباغية وهي هنا طائفة "معاوية بن أبي سفيان".. العجيب أن النبي "محمد" كان يقول أحاديثَ عن أحداث حدثت بحذافيرها بعد موته.. هذه الأمة عجيبة.. حقًا لم يرَ التاريخ مثل هذه الأمة على الإطلاق.

تولى الخلافة بعد موت "علي بن أبي طالب" ابنه "الحسن".. وقد عمل عملًا بسيطًا أصلح به كل شيء.. بعد ستة أشهر على خلافته ذهب إلى "معاوية" وتنازل له عن الخلافة.. وبهذا اصطلح الكل ولم يعد في قلب أحد على أحد مأخذ.. هذا الرجل غريب.. كان منذ البداية ينصح أباه "علي" بكل النصائح التي لو كان اتبعها كانت المشكلة ستنتهي.. فنصحه ألا يخرج وراء "عائشة" إلى العراق.. وألا يخرج لقتال "معاوية".. والآن تنازل عن الخلافة.. وقد قال عنه جده النبي إن الله سيصلح به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين.. ومرة أخرى.. تحققت نبوءة النبي كما قالها تمامًا.. وانتهت الفتنة تمامًا وخمدت النار.. وزالت السموم.. ونظرت إلى نفسي.. لقد فشلت مع هؤلاء.. حقًّا لقد فشلت.. من أي شيء صُنعت قلوبهم بالضبط؟.. من أي شيء صُنعت؟

تمَّت

أنتيخريستوسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن