في إحدى ليالي الشتاء شديد البرودة في بغداد ، كان أبو نواس جالساً في مجلس الرشيد، فقال له الرشيد: هل لك أن تجلس هذه الليلة، وأنت عريان من الثياب، وأغراه بمبلغ كبير من المال، فطمع أبو نواس في عطية الرشيد، وقبل العرض السخي، ثم خلع ثيابه، وجلس طول الليل عريان يقاسي من شدة البرد، وكلف حراساً لمراقبته، ولما حل الفجر، ذهب أبو نواس على عجل إلى الرشيد، وهو بحالته تلك طالباً ما وعده الرشيد به، فقال له الرشيد: أخبرني ماذا رأيت في ليلتك هذه، قال: رأيت ضوءاً من بعيد جداً كأنه لهيب نار، فقال له الرشيد: قد دفئت منه، وليس لك حق فيما وعدناك، فقال له أبو نواس، يا سيدي، إنها بعيدة جداً لا أكاد أراها، وقد شارفت على الموت من شدة البرد، فقال له الرشيد: ليس لك عندنا حق، وأمر بإخراجه، فأخرجوه على حالته تلك، وبعد أيام، فكر أبو نواس، وقال: لابد لي أن آخذ ما وعدني به الخليفة، أو أكثر منه.
ودخل على الرشيد في ساعة من ساعات أنسه، فقبل يده، وقال: يا سيدي إن جلوسك في القصر في أيام ينثر فيها النسيم رقته، وتبث الخزامى عطرها، ويغطي الأقحوان سطح الأرض الذي اكتستها الخضرة، وإني أدعو سيدي إلى قبول دعوتي بقضاء ساعات في ذلك المنظر البديع، لتناول الطعام. فقبل الرشيد الدعوة، وفي ذلك اليوم المحدد، خرج الرشيد مع خاصته، وأوقد أعوان أبي نواس ناراً تحت شجرة، وأمرهم ألاَّ تنطفئ أبداً، وأحضر لحماً وخلافه ووضعه في الطناجر، فوق أغصان الشجر، وأخذ أبو نواس في مآنسه الرشيد، ومنادمته بسرد القصص العجيبة، وقول الشعر الرائق الذي ينسل من فمه كالماء الزلال، وبعد حين أحسَّ الرشيد بالجوع، فالتفت إلى أبي نواس، وقال: أين طعامك لقد بلغ منا الجوع مداه، فقال له أبو نواس: إنه يا سيدي على النار، وإذا أردت أن تتأكد من صدق ما أقول، فدعنا نسير بين هذه الزهور الجميلة لأريك ما أنا بصدد إعداده، فقام الرشيد مع أبي نواس، وبعد أن وصلا إلى تلك الشجرة، وجد الرشيد النار تحتها، والطناجر فوق غصون الشجرة مليئة باللحم وغيره، فالتفت الرشيد إلى أبي نواس، وقال: وهل يستوي الطعام وهو بعيد عن النار، فقال يا سيدي: وكيف لي أن أتدفأ في يوم شديد البرد وأنا عريان على نار لا أكاد أرى ضوءها، فتبسم الرشيد، وأمر له بجائزة جزله
أنت تقرأ
نوادر الأدب العربي
Literatura Faktuيمثل هذا الكتاب مجموعة من النوادر و الطرائف التي تخص الأدب العربي و التي تبرز عظمة اللغة العربية و جمالها. ارجو ان تستمتعوا بها.