"لحظات كاذبة"

50 4 4
                                    

رأيت ظل أخطبوط عملاق ظهر يتدلى من خلف الباب، كان غامق اللون وتنبعث منه مجسات كبيرة وكثيرة. بعد ذلك، وقعت دمية أخطبوط على الأرض فعرفت أن هناك خطرًا ما. كان الجميع في ذلك الوقت يستعدون للحفل ولا يعلمون المصيبة التي ستحل بهم. شعر أحدهم بالمصيبة وأدرك خطورتها فخطط للهرب. سمع أصواتًا مخيفة تثرثر على مقربة منه. سرى الخوف في عروقه وتفصد جبينه عرقًا فختبأ تحت الطاولة من شدة الرعب الذي تسرب إلى أوصاله. سمع همسات تهدده بالهلاك.. فهرب من تحت الطاولة راكضًا.. إلى أن ظهرت مرساة ضخمة من العدم شقت الأرض التي وقف عليها ليهوى الرجل إلى الأسفل وينقطع رأسه بطرف المرساة فتتطاير قطرات الدماء في الهواء لتستلمها الأرض وتبتلعها فتختفي كل معالم الجريمة في ذلك الحفل الصاخب.. كانت هذه ضحيته الأولى ويخطط بعد ذلك لإشعال النار بعد نصف ساعة، لتصيح موسيقاها وتتمايل راقصاتها مع ألسنة اللهب الملتهبة كما يريد أن يحدث تمامًا. فكر الشخص بالنجاة وحده لذلك يستحق الموت. وكان المجرم لا يعرف مكان اختبائه بالضبط، فأخبره بما ينوي فعله ليخاف محاولًا الهروب كما توقع لتنجح خطته المبتذلة.
كنتُ حينها جالسة مع الضيوف، أتحدث وأضحك معهم، فأتى أحد الضيوف وجلس قربي وأعطاني ربطة محكمة الإغلاق، وهمس لي قائلاً:
- غدًا، إن لم تتخلصي من الربطة، ستقابلين شخصًا تتقاتلين معه، وسيشوه وجهكِ الجميل.

ثم..
استيقظتُ من هذا الكابوس مفزوعة، بقلبٍ مهزوز، وأطرافٍ متحجرة كالصخر، لم أشعر بالراحة أبدًا إلا عندما نمتُ مع يسرى في تختها، وضممتُ كفها بين كفيّ لأستشر الدفء الذي حُرمت منه تلك الليلة.
في الصباح كنتُ لا أزال أتذكر تفاصيل الكابوس وكأنه حدث أمام ناظري الآن، وفي كل مرة كنتُ أسترجع شريط ذلك الرجل وكلماته لي، والشيء الوحيد الذي غاب عن ذاكرتي هو شكل ذلك الرجل، إذ لا أتذكره إطلاقاً، بعد أن أعطاني الربطة لم أرفع جفن ناحيته، تحجرتُ مكاني، كانت هالته قوية جداً، كلما أسترجعت ذكراه ينبض قلبي بقوة، وتندفع الدماء إلى عروق وجهي بسرعة، فقررتُ إخبار أيمن عسى أن يجعلني هذا أشعر بتحسن ولو قليلاً.

                        ༺༻༺༻
"أيمن"

كنت أكتب ملخصاتي عندما أتتني آمندا تقص لي كابوسًا زارها بالأمس، كانت يداها ترتعشان وهي تحكي كل واردة وشاردة في ذلك الكابوس البغيض، كيف يجرؤ على إخافتها هكذا، لو كان بشريًا للقنته درسًا لا ينسى، لكن ما بيدي حيلة الآن، سألتها بعد إنتهائها من السرد قائلًا:
- ظهر لكِ ظل قبيح يشبه الأخطبوط..؟
= لا أعرف إن كان قبيحًا لكنه كان ظلاً كبيرًا ذو مجسات كبيرة وغليظة..
- كيف رأيته من خلف الباب؟"
= لست واثقة إن كان بابًا تحديدًا .. فقد رأيتُ ذلك الظل من خلف زجاج كبير كما لو أنه باب زجاجي عريض ضخم وكانت تزينه قطرات الندى.
- حسنًا، بعدها سقطت دمية الأخطبوط .. هل رأيتِ ظل الأخطبوط بعدها؟
= لا، كان كما لو أنه تحول لدمية!
- رأيتِ شخصًا يخطط للهرب؟ .. بعدها همس له شخص بشيء جعله يختبئ تحت الطاولة .. ثم همس له مرة أخرى ليخرج من مخبئه الذي لم يستطع المجرم تحديده .. فيكون هذا خطأه الذي أوقعه ضحية لتلك الأمسية. كان يخطط المجرم بعد ذلك لإشعال النار في المبنى .. مهلاً .. كيف رأيتي هذا وأنتِ تجلسين مع الضيوف تتحدثين وتضحكين معهم؟
= لا أعلم! ، لا مستحيل في الأحلام كما تعلم!
- حسناً، ماذا عن تلك الربطة؟ .. وكيف كان يبدو ذلك الرجل الذي أعطاها لكِ
= لم أستطع الجزم بمحتواها .. ولا أتذكر كيف يبدو شكل الرجل الذي أعطاني إياها .. لكن .. يبدو كما لو أنه يعرفني هكذا شعرت في الحلم
وددت في داخلي لو أستطيع تهشيم وجهه ذلك الرجل، كيف يجرؤ على إرعاب أختي هكذا.. ويهمس لها بكلمات التهديد وهو يعرفها.. ذلك الوغد!
أردفت بعد أن صمت قليلاً فقلت بهدوء:
- لماذا قلتِ أن ذلك الرجل الذي حاول الهرب ولقي حتفه بأنه يستحق الموت لمحاولته الهروب وحده، لماذا؟
= لا أعلم!.. شعرت هكذا في الحلم!
قلت مندهشاً من ردها:
- هل يعقل يا آمندا أنكِ متواطئة مع المجرم لذلك لم تشعري بتعاطف مع ذلك الرجل المسكين؟
نظرت إلي بإستغراب وقالت:
= أيمن!، ما الذي تهذي به، نحن لسنا في قضية! .. لتحقق في الأمر بكل هذه الدقة، إنه مجرد كابوس أحببت أن أخبرك به عسى أن يجعلني أنساه ولا أتذكره مرة أخرى.
أسندت مرفقي على الطاولة وقلت:
- اعترفي، لن تدخلي السجن إذا ما أخبرتيني فأنا أخاك في النهاية ولن أوشي بك!
نظرت لي بملل وقالت:
= رائع! .. لقد فقدت عقلك تمامًا، عندما يجتمع حبك للقانون مع حبك للخيال هذا ما يحدث، سأذهب الآن وأرجو أن تنسى ما أخبرت عنه برمته
وقبل خروجها من الغرفة أضافت:
= رجاءً، أفصل بين الواقع والخيال في المرة القادمة!
جلستُ أفكر في ما قلت، ولوهلة شعرتُ أن خيالي كان أكثر من اللازم، وأني صدقتُ ذلك الكابوس وأخذته على محمل الجد قليلاً، بينما كانت أختي لا تريد سوى أن أستمع وتذهب في حال سبيلها، أي ما كان على التدقيق كثيرًا فيه، وسألتُ نفسي "هل أزعجتُ آمندا بهذا!"، أمسكتُ بقلمي وحركتُ يدي في دفتري لمواصلة ما بدأته، فإذا بتلك الأفكار التي تتعلق بالكابوس قد تفككت وتلاشت تحت ضغط التركيز الذي فعلته لمواصلة الدراسة بكل شغف وحب.

رحلة أحد عشر خريفاً حيث تعيش القصص. اكتشف الآن