"الفاجعة"

44 3 1
                                    


"آمندا"

حلّ صباح يوم الخميس لتتفتح فيه زهور سعادتي رغم الأجواء الغائمة في السماء، نظرتُ إلى السماء الضيقة من نافذة غرفتي، أدخلتُ أشيائي في حقيبتي لبدء يوم طبيعي كطالبة جامعية مجتهدة، توجهتُ إلى المحطة بأسارير مفتوحة ومزاج وردي لامع، رأيتُ شحاذًا يتوسل المارة لإعطائه سهل المال، أعطيتُه نصف مصروفي اليومي وأخبرتُ نفسي أن لا بأس بهذا سيدفع أيمن ثمن وسائل النقل عند عودتي، ومضيتُ وقد زاد سروري أضعافًا، وصلتُ الكلية، بدأت المحاضرات، استمرت، ثم انتهى الدوام بسرعة أكثر مما كنتُ أتوقع، ذهبتُ إلى كلية القانون لألتقي بأيمن، فإذ أجده يتحدث مع شاب وقد بدا الشحوب على وجهه، إقتربت منهما فإذا بذاك الشاب هو نديم صديق لؤي المقرب، عندما لاحظ نديم إقترابي غير موضوعهما، ظن أني لن ألحظ هذا ولكني تجاهلت الأمر، لأنه لو أراد معرفتي بالأمر لما تجاوزه، لن أتطفل، ألقيت التحية عليه، رد علي بلباقة وأظن أنها عادته، أخبرنا أنه سيقلنا إلى المنزل فلديه عمل في المشفى قرب منزل لؤي، سعدت لهذا، أتى لؤي من بعيد مهرولاً، وعند إقترابه تابع مشياً، وقف أمامنا واضعاً يداه على ركبتاه بأنفاس متسارعة قال:
- آسف على التأخير..
قال أيمن:
- لا بأس فقد وصلت آمندا الآن.
ابتسم لؤي ابتسامة جميلة لم أرها قبل هذه اللحظة، إلا أن أيمن لم يتفاعل كثيرًا وأشاح بنظره في حزن، علمت أن هناك خطب ما، مزاج أخي ثابت لا يتغير كثيرًا، تذكرت حديث نديم معه وشحوب وجهه، فأدركت أن نديم أخبره بشيء كان سببًا في ردة الفعل هذه، لا أشعر بالارتياح له أبدًا.
داخل السيارة كنت أنظر لنديم هذا الذي لا يكف عن الابتسام لي كلما تلاقت أعيننا، كشرت أنيابي لغريب الأطوار هذا، لماذا يبتسم لي؟، كان أيمن على غير العادة مشغولًا بهاتفه لا يتحدث سوى قليلًا ويعود لفقاعة صمته، كان لؤي سعيدًا نوعًا ما، أخبرنا نديم ببعض مواقفه المضحكة مع لؤي، فيرجوه لؤي أن يتوقف عن الحديث عند شعوره بالخجل والإحراج الشديدين، إلا أن نديم واصل حديثه قائلًا:
- عندما رأيته أول مرة كان في الخامسة من عمره.. يلعب بعربة صغيرة يتحدث معها.. فضايقه "منير" وأخذها منه فحاول أخذها منه بكل الطرق ولم ينجح.. فأخبرني أن أتعامل معه وقال لي بكل حزم "أليس صديقك!.. أوقفه وإلا تعرضت للتوبيخ معه من قِبل والدي" إنبهرت من جرائته وتحدثه بكل تلك الطلاقة رغم صغر سنه، ولكن ما إن أخبرته أني لن أوقف منير حتى صار يبكي بغزارة، فصرنا نهدئه وأعطيناه لعبته، حتى أننا اشترينا له آيسكريم ليرضى، ومع ذلك نعتنا بالوحشين!!
ضحك نديم بينما أمال لؤي رأسه إلى الزجاج خجلاً من نفسه، أعجبتني قصصهم الطريفة فقلت:
- لقد كان بغاية الظرافة، لا أصدق تنمركما عليه!
ابتسم نديم وقال:
- لهذا لم نستطع إعادتها له بسرعة
قال أيمن بينما كان يثبت نظره على الهاتف:
- نديم! .. أنت تعرف لؤي منذ الصغر إذاً
أجاب نديم:
- نعم .. رغم أنّي كثير الانتقال وقتها
تحدث لؤي وقد بدأ في صوته الحزن:
- عندما انتقلت أول مرة بعد حادث منير شعرت بالحزن كثيراً .. اختفيت بعدها ثلاث سنوات .. كان الأمر صعباً عليّ إذ لم أملك صديق غيرك..
ابتسم نديم قائلاً:
- ماذا حل بأصدقائك الذين يتشاجرون من أجلك؟
نظر لؤي للنافذة وقال:
- ليسوا أصدقاء..
ابتسم نديم وقال موجهاً نظره لأيمن بمرآة السيارة:
- كيف كنتما في صغركما؟
أجاب أيمن:
- لقد كانت آمندا طيبة لذلك كنت أحميها دائماً.
نظرت باستغراب إلى أخي، أليس بوسعه التفكير بغير ذلك، كان مهووس بالدراسة منذ صغره يسعى للمركز الأول في كل شيء، ليس في الدراسة فقط.. لا عجب نسيانه أموراً أقل أهمية من الدراسة، كان يحميني دائماً، هذا ما قاله. وضعت يدي على جانب رأسي لأتذكر موقفاً دافع فيه عني، تذكرت كيف أركض إليه خائفة من كلب يطاردني فيبعده عني، عندما أجرح قدمي يحملني إلى المنزل، حتى عندما تضايقني صديقاتي يخيفهن من أجلي، حسناً هذا ما يقصده بحمايتي دائمًا، ابتسمت وقلت:
- حسناً! .. ربما كنت أحتاج الكثير من العناية وقتها.
حل صمت مريب، كنت أنظر من خلال النافذة، مر وقت طويل تسير به السيارة، منزله بعيد للغاية، تساءلت إن كان يصل في الوقت المناسب إلى الكلية، سرحت كثيرًا حتى أخذتني ذاكرتي لحلم ضيق كنت قد خبأته بعناية في طيات عقلي، رأيت فيه أشياء تتكسر من حولي وشخص غاضب ويصرخ بشدة حين أفقت بسبب تربيت أيمن على كتفي.. كنا قد وصلنا إلى المنزل.
عند البوابة وقبل دخولنا، رأيت نديم يتحدث مع أخي عند السيارة وكأنه يكمل حديثه الذي قاطعته سابقًا، رأيت لؤي يفتح الباب بالمفتاح ويدعونا للدخول، كان المنزل نظيفًا، ذو رائحة طيبة، جلسنا على الأريكة وكاد قلبي يقفز من قفصه، أنتظر قدوم والدته بفارق الصبر، وقتها قال لي أخي:
- آمندا.. أعلم أنكِ رقيقة القلب ولن تستطيعي حمل هذا العبء، لكن أرجوكِ تماشي مع أقوالي مهما كانت!
ما الذي يقوله؟.. لماذا هو بهذا الحزن؟.. لم أكن أدرك أن ما قادم ليس سوى الحزن يمشي بأقدامه الملتوية.

رحلة أحد عشر خريفاً حيث تعيش القصص. اكتشف الآن