انظر إلى السماء الغائمة وحيدة في ليل ساطع بسناء القمر، لم يتواجد سوى رجل غريب ذو عينين حمراوين ينظر إليّ، تأتي الغيوم لتواري سناء القمر فتسطع عيناه الناريتين وسط الظلام، أزحف راكضة بين الزهور محاولة الهروب منه، كان سريعًا للغاية ويستطيع الإمساك بي في أي لحظة لكنه فضل إبقاء مسافة بيننا عمدًا، أطل القمر على إستحياء بين الغيوم ليرشق ظل الرجل الطويل على طول الطريق أمامي، كنت أركض وأركض رغم انقطاع أنفاسي، أتعثر تارة وأهرول بتفتور تارة أخرى حتى لمحت من بعيد "محطة قطار" فركضت بسرعة نحوها رغم التعب الذي تغزى علي، توسلت إلى سيد المحطة أن يدير القطار عكس عقارب الساعة لتخطي هذا البُعد والعودة إلى بُعدي الطبيعي، فتح لي السيد البُعد رأيت الرجل المطارد يتخطاني راكضاً وكأنه لا يراني كنت أريد أن أطلق تنهيده معلنة نجاتي لكني لم أسعد جداً وطلبت على عجل من السيد أن يفتح عربة القطار، دلفت داخل العربة التي كانت عبارة عن غرفة حديدة صغيرة خالية من الأشياء، دخلت العربة على عجل وعندما استدرت لأطمئن أن الباب محكم الإغلاق تفاجأت بالرجل وهو ممسك بالباب على مصراعيه، والهواء القوي يتلاعب بشعره الطويل، وبشعري الذي بالكاد يصل أكتافي، اتسعت حدقتا عيني وقلبي يطرق بقوة لدرجة شعرت بأنه سيقفز من قفصي الصدري.. دخل وأقفل الباب ورائه نظر إليّ وكأنه يقول بأنه لن يسمح لي بالإفلات منه مجدداً، استلقيت على جانبي الأيمن وأنا ألهث من طول الركض بأنفاس متقطعة ومخنوقة مغمضة عيناي بقوة، قلت بتحسر أني سأسامحه إن تركني أمضي هذه المرة، نهضت ونظرت إليه، كان يجلس عند الباب بهدوء لا نظير له مغمضاً عيناه، جلست قبالته جلسة رسمية واضعة يديّ الصغيرتين على فخذي وأحكمت قبضتهما قوياً، ثبت عيني فيهما وبأنفاس متقطعة قلت:
- عذراً.. لكن.. هذا ليس.. ما.. اتفقنا عليه
على حين فجأة وضع يديه على كتفي فانتفضت مفزوعة وزادت طرقات قلبي أكثر فأكثر وأنا أنظر إلى ملامحه الخالية من التعبير.. أسند ظهري على جدار العربة وقال لي بصوته المبطن:
- لا تهربي مرة أخرى
وضعت يدي فوق يدي الأخرى على صدري أتحسس نبضات قلبي المتسارعة لكن هذه المرة بدت وكأن فيها نوع من الإطمئنان الذي أفتقدته قبل لحظات..
في تلك اللحظة استيقظت بشعور قريب في صدري نظرت إلى السقف ووضعت يدي على قلبي لأستشعر نفس الشعور الذي راودني في الحلم.. ما أعذبه كما لو أنني وقعت في الحب. ظللت أحدق في السقف لبعض الوقت ثم نهضت تجاه النافذة أنظر من خلالها لسناء البدر الذي يوشك أن يكتمل أحدث نفسي "هل لؤي على ما يرام يا ترى!"༺༻༺༻
بعد أسبوعين من بداية الامتحانات، حل صباح آخر يوم من الامتحانات، الجميع سعداء بهذا، ويتحدثون عن خططهم لقضاء الإجازة الموسمية، متناسين أن هذا ليس الوقت المناسب للحديث، إذ لم تبدأ جلسة الامتحان الأخيرة بعد، تسير عقارب الساعة بخفة لتعلن عن تبقي نصف ساعة على نهاية الامتحان، يقلب لؤي قلمه بين أصابعه باحثاً في عقله عن مقال غاب عن ذهنه فجعله حبيس تلك الجدران، خرج معظم الطلاب منذ منتصف الجلسة، فرحين تعلو وجوههم الابتسامات السعيدة بسهولة الامتحان.
وصلت آمندا الكلية تتجه لأحد المقاعد التي على مسافة من قاعة امتحان لؤي تريد أن تنتظره هناك، وقبل جلوسها رأت زينب التي كانت تجلس بقاعة أخرى عن التي يجلس فيها لؤي، فذهبت إليها تسألها عن الامتحان، أبدت زينب ردة فعل جيدة تجاهه وجذبتها للخروج لتناول الطعام، إلا أن آمندا استوقفتها دون أن تخبرها عن السبب واقترحت عليها أن يجلسان قليلاً في تلك المقاعد، وافقتها زينب وجلستا فبدأت بإخبارها عن الامتحان وكيف كانت متوترة منه إلا أن آمندا لم تعيرها بالا وكانت شاردة في ذلك الباب الذي يحجب عنها رؤية لؤي، أدركت زينب أن صديقتها في عالم السهى لا تلقي لها بالا، فجذبتها من شرودها قائلة:
- آمندا .. هل أنتِ قلقة عليه كل هذا القدر؟
أفاقت آمندا من شرودها فخالفتها قائلة:
- ليس كما تظنين .. لست قلقة!
إبتسمت زينب ووضعت يدها على خدها تنظر إليها قائلة:
- أرى أنكِ محرجة من قول هذا .. وهذا واضح بالنسبة لي .. أنتِ تنتظرين خروجه أليس كذلك؟
أحمر وجهها خجلاً وقالت بعناد:
- ليس كذلك .. هيا بنا إن كنتِ تريدين ذلك!
إبتسمت زينب بمكر ونهضت قائلة:
- حسناً .. هيا بنا!
نظرت لها آمندا بإندهاش وكأنها لم تتوقع هذا فقالت بتلعثم:
- حسناً .. ولكن .. إنتظري قليلاً بعد
جلست زينب والإبتسامة لم تمح من محياها وكأنها توقعت هذا، فقالت عابثة:
- أشم رائحة زكية تنبعث من قلبك!
صمتت آمندا بعد أن تحولت لكرة حمراء من الخجل، حتى رأت لؤي يخرج من القاعة، فخفضت رأسها تراجع كلماتها، فمر لؤي بجوارهما وتجاوزهما بخطوتين دون كلمة حتى قالت له آمندا:
- لؤي! .. كيف كان الإمتحان!
بعد قولها هذه الكلمات كانت قد لاحظت متأخره تجاوزه لهما دون تحيته التي إعتاد أن يلقيها عليهما، فتوقف بعد أن خطى خطوة أخرى وإلتفت بصوت منخفض يقول:
- كيف حالك؟.. كور قبضته وأبرز أصبعه الإبهام مشيرًا أنه بخير وراح في طريقه دون إلتفاته.
سكنت دواخل آمندا وكان محياها ملطخًا بالحيرة وشيئًا من الإندهاش تنظر إليه إلى أن أختفى من أمامها فقالت لزينب باسمة:
- يبدو أنه متوتر من الإمتحان.. قليلًا!
نظرت زينب بإستغراب لما قالته آمندا فقد بدا لها تمامًا أن لؤي تجاهلها بشيء من الإختصار إلا أنها أنكرت الحقيقة تمامًا وبدلتها بعذر واهن، أكملت آمندا قائلة:
- هيا بنا لنتناول الطعام، لقد جعت كثيرًا.
ذهبت وكانت آمندا حائرة من تصرف لؤي ولم تجد له تفسير سوى أنه قد يكون متوترًا جدًا ولا يريد الحديث مع أحد، هذا ما جال في خاطرها ولكنها سرعان ما تجاهلت الموقف ولم تفكر به كثيرًا، حتى ذلك الشعور المختلط فضلت تجاهله والانشغال عنه، وأكملت يومها بشكله المعتاد مع زينب، لاحظت أثناء ذلك وجود لؤي من حولها أي أنها تشعر بمراقبته حتى وهو يتحدث مع سامي على مسافة ليست ببعيدة عنهما، استغربت وجوده في الكلية حتى هذا الوقت إذ دائمًا ما يخرج منها بمجرد انتهاء الدوام وخصوصًا هذه الأيام، لكن لم تهتم كثيرًا فاليوم هو آخر يوم والكل يريد قضاء وقت أطول من المعتاد في الكلية.
اعتذرت زينب من مرافقة آمندا إلى المحطة وأخبرتها أنها ستزور عمها لذلك ستذهب بطريق مختلف عن المعتاد، فبقيت آمندا في مكانها تريد أن تستريح قليلاً قبل ذهابها، فجاء مصادفة زميلها من كلية التمريض وسألها عن حالها وتبادل معها أطراف الحديث رغم أنها تريد أن تخلو بنفسها وترتاح قبل ذهابها، لم تمنع زميلها الثرثار التحدث عن هواياته رغم سهولة ذلك، لكنها فقط تريد أن تظل في نفس المكان الذي يجلس فيه لؤي، شردت كثيراً أثناء تحدث زميلها "جابر" معها، فبادلته بمجاملة ليست من عادتها، بعدما ذهب جابر أرادت آمندا المغادرة دون التأكد من وجود لؤي، قلبت هاتفها في حزن بعدما فكرت أن لؤي قد رأها مع شاب لأول مرة، تذكرت أنها لم تتحدث مع شاب من زملائها سوى هذا اليوم ومن بين جميع الأيام، تقلب هاتفها عندما اقترب منها لؤي رأت حذائه وتعرفت عليه إلا أنها لم تكن تعلم ماذا تفعل، ناداها قائلاً:
- آمندا.. كيف حالك؟
نظرت إليه وكان واقفًا بينما هي جالسة على المقعد، أجابته:
- بخير والحمد لله.. ردت عليه السؤال فأجابها بنفس الإجابة، صمت للحظة، نظر أمامه وقال:
- في الصباح.. في قاعة الامتحان كنت قد طلبت الخروج إلى الحمام ولكن بشرط واحد وهو أن لا أتحدث مع أحد أبدًا.. لذلك وقتها.. لم أرد التوقف.
لحظتها شعرت آمندا بشيء من الإندهاش لولا أنه ينظر بعيدًا لكان قد لاحظ إندهاشها، فقالت ولا تزال لم تستوعب بعد رغم شعورها بالاطمئنان:
- لم أفهم.. لماذا؟
حدق فيها ثم حدق بزاوية عينه اليمنى للأعلى وقال:
- أخبرت مراقب الامتحان أنني لن ألتفت أو أحادث أحدًا مهما كان.. لذلك حاولت إنهاء الأمر بسرعة قبل رؤية المراقب فقد كان يسير خلفي.. لذلك..
قاطعته وقد فهمت أخيراً السبب فقالت:
- تعني بأنك لم تخرج لأنك فرغت من الامتحان وإنما خرجت وعدت مجدداً؟
نظر لها وهز رأسه مجيباً "نعم" فقالت بعد أن ظهر عليها الاطمئنان:
- ظننتك متوتر من الامتحان لذلك ذهبت بسرعة
قال لها بأن الأمر ليس كذلك، فحمدت ربها سراً وسألته عن الامتحان، فقال يشرح بشيء من التفصيل ناسياً أنها ليست من مجاله، رغم أنها لم تفهم معظم حديثه إلا أنها استمعت إليه دون أن توقفه بكلمة، بعدها ذهب وبقيت وحيدة حين وضعت رأسها على حقيبتها تفكر كيف أنها بحثت عن عذر ولم تتقبل أن يتم تجاهلها، وهي التي كانت واثقة أن لؤي بالتأكيد سيفعل ذلك لسبب ما، فسعدت لحسن ظنها به وأنه وضح لها السبب منتظراً الوقت المناسب، لحظتها رجعت بذاكرتها لحديث لؤي أنه ما كان عليه التوقف، ما كان عليه أن يتحدث معها، رغم ذلك توقف ورد عليها، لم يسعه تجاهلها، أدركت هذا كله، فحمّر وجهها ودسته بين يديها.
كان لؤي مشغول الفكر بوالدته، ها قد انتهت الامتحانات أخيراً فمتى ستعود إليه، عندما دخل المنزل، جلس على الأريكة وحيداً غائصاً فيها يفكر في ما سيأكله، سمع صوت والدته ورائه على حين فجأة تضع ذراعيها على صدره وتهمس له قائلة:
- لقد عدت!
أنت تقرأ
رحلة أحد عشر خريفاً
Fantasyانظر إلى السماء الغائمة وحيدة في ليل ساطع بسناء القمر، لم يتواجد سوى رجل غريب ذو عينين حمراوين ينظر إلي، تأتي الغيوم لتواري سناء القمر فتسطع عيناه الناريتين وسط الظلام، أزحف راكضة بين الزهور محاولة الهروب منه، كان سريعًا للغاية ويستطيع الإمساك بي في...