"ليالٍ زابلة"

12 2 7
                                    

"آمندا"
في هذه الأرض الغريبة، تركني أخي، دون أي حساب لذلك القلق الذي يلتهمني، اختفى!، مر شهران على غيابه، تعبت من الانتظار، فكرت في اللحاق بهم كثيرًا، لكن ولطبعي الذي دائمًا ما ينتظر، لم أستطع فعل شيء سوى الدعاء لهم بالسلامة، في منزل الخالة رزان، وفي إحدى غرفها البسيطة، جلست بهدوء أنتظرهم، حتى ذلك اليوم الذي سمعت فيه بأني سرقت سيفًا وأموال أحدهم، آخر ما قد افعله في حياتي السرقة، سيف! وأموال، أي كذبة مصطنعة هذه، لو اختاروا شيئاً أفضل من ذلك لغفرت لهم، ما حاجتي للسيف!، لم يكن استغرابي من الأمر ضرورياً بقدر حاجتي للإختباء كما لو أني فعلت ذلك حقاً!، رفضت بادئ الأمر وكنت أريد إثبات عدم فعلي لشيء مشين كهذا، ولكن الخالة رزان أخبرتني بضرورة حمايتي وأنها وعدت أيمن بعدم إظهاري لأحد كائناً من كان، لذلك أمتثلتُ لأوامرها وقررتُ الصعود لسقف المنزل من العلية بحيث لا يراني أحد، ولكن ما لم أكن أتوقعه تعرضهم للعنف من الحرس الملكي، يقبض قلبي تعرضُ أحدهم للأذى بسببي، فأخبرتُ "بوتشي" أن يتحقق من الأمر بدخوله المنزل، وهو كلب كان مالكه قد طرده لعدم استطاعته الاعتناء به فأهتممتُ به نيابة عنه بأخذه إلى الغابة حيث يعيش بسلام، كان وفياً بإنقاذ "يارا" من ذلك الاصطدام العنيف، كان الحارسان يقفان قرب الباب، استغربتُ مثولهما هناك فقد بدا لي بأنهما لم يقوما بشيء من العنف الذي أراه، وما أن استوعبتُ أنه ثالثهما، أتفاجأ بضربه على مؤخرة عنقي، شلت حركتي أولاً، قبل أن يتلاشى وعيي تدريجياً.
عندما فتحت عيني، رأيت السقفَ عاليًا وضبابيًا بعض الشيء، جسدي ثقيل ولا أستطيع تحريكه، حركتُ عيني في الأرجاء، كان المكان نظيفًا وأنيقًا، وملمسُ الفراش الذي أرقد عليه ناعم كالحرير، ببطء حاولت النهوض فألمني رأسي، لم يتواجد أحدٌ داخل الغرفة، بدت في عيني واسعة وجميلة، كما لو أنها إحدى غرف القصر التي أقرأ عنها في الروايات، تذكرت ما حدث في المنزل، وحاولت التفكير في الاحتمالات التي قد تحدث معي، كتعرضي للاختطاف مثلاً، حتى فُتح الباب، وضعت يدي على شعري ومررتها لأطرافه التي بالكاد تصل كتفي، فرقدت أغطي جسدي ورأسي خاصة، سمعت تحريك كرسي بجواري، ثم صوت أنثوي ناضج يقول:
- ظننتكِ لن تستيقظي أبداً بعد تلك الضربة التي أخذت منك ثلاثة ليالٍ لتستعيدي وعيك!
همستُ لنفسي "نمتُ ثلاثة ليالٍ!.. هذا لا يصدق!"، وضعت الفتاة قدميها على فراشي وقالت:
- ألن تتحدثي معي!، نحن وحدنا، لا داعي للخوف!
نهضتُ أنظر لها وأنا أقبض الغطاء بقوة إلى صدري، فضحكت وقالت:
- لا تخافي!، لن أعذبك بتهمة السرقة.
نظرتُ إليها بحدة وقلتُ:
- لم أسرق شيئاً!
صمتت تنظر إلي، حتى جلست جواري تمسح شعري، فهمست لي قائلة:
- أطراف شعرك متساوية، قصت بإتقان! أحسدك عليه، هل فعلتِ هذا بمفردك؟
أجبتُها:
- لا!، إنه أخي، لماذا؟
قالت:
- يبدو عظيمًا عليك!، لا أملك الشجاعة لقص شعري رغم تلف أطرافه، ولا يوجد من هو بارع ومهتم بمثل هذه الأشياء، لمَ تغطيه بذلك الوشاح المهتريء، إنك تحجبين جماله!
قلت لها:
- نعم، يسمى حجاب!
ابتعدت لتجلس على الكرسي وتضع قدمًا على قدم، وهي تقول:
- إذاً!.. اعترفي بفعلتك وسيكون العقاب يسيرًا إذا ما أعدتي المال لصاحبه
أجبتها مجددًا بصورة أكثر جدية:
- قلت لك بأني لم أسرق شيئًا!، تعلمين ذلك!، لو كنتم مشتبهين بي حقًا أليس من المفترض أن أكون في السجن!
نظرت حولي ثم أضفت:
- هل سجنكم جميل كهذا في العادة؟
صمتت واعتدلت في جلستها، وقالت بشيء من الاحتقار تعجبت منه:
- اصمتي أيتها القبيحة!
ذهلت من التي تعجبت من جمال شعري للتو، فقلت:
- أصغي إلي وإن كنتُ فتاة قبيحة!
فصفعتني وقالت حانقة:
- أكره الجميلات اللاتي لا يثقن بجمالهن، اسمعي!، سأمنحك هذا اليوم فاعتني بنفسك وفكري في جريمتك، قبل أن يبدأ التحقيق التعذيبي غداً!.. وقتها ستفقدين الكثير من الجمال!
لا أعلم ما شعرت به وقتها، فقد ألمتني الصفعة كثيرًا، ما حكايتها تقول حينًا جميلة ثم قبيحة ثم جميلة مرة أخرى، لم أسرق شيئًا لأفكر به، سأفقد الكثير من الجمال!، إذاً أنا جميلة! ايمكنني قول ذلك!، رنّت كلماتها في أذني عندما صفعتي، فقلت بخفوت "جميلة!".
في عصر ذلك اليوم، حاولت فتح الباب لكن لم يجدي الأمر نفعاً، طلبت من الخادمة التي أحضرت لي الطعام أن أقابل تلك السيدة التي تحدثت معها سابقاً، فبدل الإجابة عن سؤالي إنتبهت لخدي وصارت تقول بصوت مرتفع" أنا آسفة سيدتي!، هل فعلت بكِ جويس ذلك؟، أخبرني سيدي بعدم إدخالها ولكني لم أنتبه لها، أرجوكِ سامحيني! " أخبرتها أنه شيء بسيط، مع أني لم أعتقد ذلك وكنت أخطط لكيفية رده يوماً ما، لم تستمع إلي وأحضرت صندوق الإسعافات الأولية كما لو أنه شيء كبير، وضعت لي ضمادة لاصقة بيضاء على خدي بعد أن مسحته بشيء بارد أضاف شعوراً جميل لحرارة خدي، شكرتها بينما قابلتني بالاعتذار، علمت وقتها بأنني تعرضت للاختطاف وليس الاشتباه بالسرقة، تمنيت أن يتعلم أخي الدرس وأن لا يتركني ورائه مرة أخرى قبل أن أتمنى سلامتي من أسباب الاختطاف، جلست أفكر في جويس، أعتقد أن لها قرابة بالذي خطفني، شتمت غبائي من عدم سؤالي الخادمة عن سيدها، فعلى الأغلب بأنه من أرسل الجنود لاختطافي، راجعت فكرة الاختطاف تبدو غير متناسقة مع موقفي، وفكرة السرقة أيضًا، إحتار عقلي في سبب مجيئي لمكان جميل كهذا، أردت النظر عبر الشرفة ولكن وجدتها مغلقة بباب منفصل عنها فقلت لنفسي بصوت مرتفع" يالحداثة هذا المكان، هل أنا في قصر حقًا!؟"، أجابني أحدهم:
- نعم، أنتِ كذلك
استدرتُ خلفي بسرعة، لم يكن هناك أحد، والباب مُغلق. تأكدتُ بمحاولتي فتحه، ظننتُ بأنني تخاطرتُ مع أحد الحيوانات في الخارج، وذهبتُ إلى فراشي، لم أستطع النوم، جلستُ على الأرض وأردتُ ضرب رأسي بها، وفي لحظة ما توقفتُ وشعرتُ برغبة في البكاء، أسندتُ ظهري بحافة السرير، وجلستُ القرفصاء، بعيداً أفكر في رفاقي وأسباب تأخرهم، فوجدتُ نفسي قد ضعتُ في سبات عميق.
في الصباح وجدت نفسي على الفراش نائمة، نسيت غفوتي على الأرض، أخبرت نفسي بأنه لأمر طبيعي أن يستيقظ المرء دون وعي ويذهب إلى الفراش بتلقائية، لم أفعل شيئاً مميز ذلك الصباح، أحدق في السقف فقط، حتى موعد الإفطار الذي بعد تناوله شعرت بنعاس غريب، كنت أتحقق قبل تناوله إن كان به سمّ أو شيء غريب، لكن ولسوء حظي وثقت به، فكانت النتيجة محطمة للآمال، لا ثقة في هذا العالم، هذا ما حفرته في عقلي منذ ذلك اليوم.
عندما فتحت عيناي مرة أخرى، وجدت نفسي في مكان شبه مظلم، على الأرض جلست أحك شعري الذي تبللت أطرافه من رطوبة المكان، جاءت نفحات الخريف اللطيفة عبر فتحة التهويه في أعلى الجدار، إنتبهت وقتها ليديّ المقيدتان دون قدميّ، حاولت فكها فسمعت وقع أقدام يقترب، دق قلبي ونظرت بترقب إلى الباب، حتى دخلت جويس ومعها حارسان يحملان دلاء ماء كبيرة، فقالت بصوت ساخر:
- هل تشعرين بالبرد؟، سنحرص على تدفئتك!
لم أجبها، فأشارت لأحدهم أن يتقدم، سكب الحارس كل الماء البارد مع قطع الثلج على رأسي، غطيتُ أنفي وكتمت صرختي وإرتعاشي، نظرتُ إليها وقد إلتصق شعري بوجهي، فقالت ضاحكة:
- تبدين كالقط المبلل، كم هذا مضحك!
أبعدتُ بعض الخصيلات عن عيني، وقلت:
- ستندمين كثيراً!
اقتربت مني بابتسامة تخفيها، وقالت بهدوء بعد أن وضعت إصبعها على خدي المضمد:
- أيا كانت القوة التي تحملينها في القلادة لن تتفعل فقد سلبتها منك!
تحسست عنقي، فأطلقت ضحكاتها الحادة، الشيء الذي أثار حفيظتي، فضربتها بقبضة يدي ضربة علوية على فكها، عندها حاولت أن توازن نفسها وبسبب الماء سقطت على ظهرها، هرع الحارسان إليها، وأحدهما يخرج سيفه وقبل أن أفكر بتفادي ضربته، أمرته جويس بعدم التعرض لي هاتفة:
- توقف!، أنا من سأتولى أمرها!
وقفت بصعوبة وتعرجت فأستندت بذراع الحارس تنظر إلي بشراسة، حتى تقدمت نحوي وسحبت شعري بقوة ثم هوت بوجهي داخل الإناء الآخر، حاولت الإحتفاظ بالهواء داخل رئتي إلا أن هذا لم يجدي نفعاً فهي تخطط لقتلي، ولم أستطع المقاومة بسبب القيود، حتى أخرجتني لأستنشق بعض الهواء بصعوبة، إرتجف جسدي مع رطوبة الهواء وصرت أطلق من فمي بخاراً بسبب برودة جسدي والهواء، أرتعش بقوة، فقالت لي بشفقة:
- أنتِ ضعيفة أكثر مما توقعت!، ستموتين من البداية بهذه الطريقة، بينما أهدف لتعذيبك!
نهضت وسارت نحو الباب وقد تبعها الحارسان، وقالت قبل أن تغلق الباب:
- ضعيفة!، لا عجب أن يتم التخلي عنك!
نزلت هذه الكلمات كالحجر على قلبي الزجاجي فانكسر شيئا فيه، ذهبت لإحدى زوايا الغرفة، غير مهتمة بشبكة العنكبوت التي التصقت بثيابي المبتلة، فككت وثاقي بصعوبة بعد ان تجمدت اطرافي، جلست القرفصاء والدموع الساخنة وحدها ما اشعرتني بحرارة ضعفي.

رحلة أحد عشر خريفاً حيث تعيش القصص. اكتشف الآن