"التخاطر يمنعها العشاء"

34 4 3
                                    

"أيمن"

دلفنا إلى هذا العالم قبل شهور وتحديدًا أربعة أشهر سُرقت من حياتنا على هذه الأرض الغريبة، قطنا مملكة الشمال وفي منزل الخالة رزان بداية حتى استأجرنا منزلاً بالقرب منها وسكنا فيه، كانت الأيام باردة وسريعة الزوال، مرت دون أن نعرف بصيص أمل واحد يعيدنا إلى وطننا، المعلومات التي جمعتها لا تزيد على حد معرفتي بالمملكة، كيف يحكمها حاكم قاسي يوقع أشد العقاب على رعاياه، كيف يستقل غلظة وبطش الشبح لمصالحه وخلافه مع الشرق، لا يخلو يوم دون موت أحد رعاياه بسببه حتى صار اللون الأسود الزي الشائع في تلك القرى المسكينة التي لا تتوقف بيوتها عن النحيب، حاكمها فاسد، ظالم، لا يهتم برعيته، يموت الكثير بسببه ولا يحرك ساكنًا، ألمني خطابه عن تعازيه للموتى ضحايا متعة الشبح، تحدث وكأنه يعتذر عن سرقة كعكة أثناء طبخ والدته وليس عن قتل بشر بلحم ودم وأقارب يحزنون عليهم. يؤسفني أن فريقًا منهم يؤيد ويحب الملك رغم عدم مسؤوليته واهتمامه بهم. وأولئك الذين يكرهونه لا يستطيعون الحديث أو معارضة معاملته كما السابق بوجود ذلك المدعو بالشبح، سلاح بشري عديم الإحساس يقتل دون أن ينتابه عتاب الضمير إن كان لديه ضمير من الأساس! يطمئنني عدم اقترابه من القرية التي نسكن بها منذ اقتحامه المنزل سابقًا. أُرسلت إلى الخالة رزان تعزيزات مالية على ما أتلفه الشبح من المنزل، كان تصرفًا غريبًا منهم. فما رأيته لاحقًا كان مختلفًا تمامًا عن معاملتهم. رأيت أنهم لا يأبهون بالتعويضات ويقتلعون الضرائب قسرًا حتى من العوائل العسيرة. فعندما تساهلوا معنا كان الشك يأكلني من أنهم سيأخذون ضرائب أعلى مقابل ما يدعونه من قطع معدنية رأفة بنا. في تلك الأشهر بحثت أكثر عن هذه الأرض وغرائبها، علمت حدود هذا العالم الذي يتكون من خمسة ممالك، مملكة الشمال وتدعى إمبراطورية اللافا، مملكة الشرق وتدعى إمبراطورية ببيبرس نسبة لاسم حاكمها، مملكة الجنوب المنفصلة لأكثر من سبعين عام ودائمة الحروب رغم الهدن التي تعقد بكثرة وتزول بسرعة وتدعى إمبراطورية آشينيا، مملكة الغرب التي ينتمي إليها صاحب القلنسوة الزرقاء وتدعى إمبراطورية آريا، والخامسة المملكة المستقلة التي تقبع وسطهم وتدعم كل الممالك وهي إمبراطورية أرامينتا العريقة، هذه خارطة المكان وتتقسم لقرى ومناطق متشعبة غريبة لم تسمع بها أذان هذه المنطقة المستضعفة في مملكة الشمال، الجميع مشغولون بالعمل ودفع الضرائب، عملت مع أحدهم في مطعم بينما يعمل لؤي على تقطيع الأشجار في الغابة وتكسيرها وبيعها مع فؤاد، كان يتكاسل ويقضي وقته في النوم فبحثت له عن عمل يدب به النشاط ويزيل الخمول المسيطر عليه، أدهشني عدم إعتراضه ومباشرته في نفس اليوم بذلك، بينما أعمل في المطعم بخدمة الزبائن كنت أستمع لقصص وأحاديث كثيرة تجعلني أتعرف أكثر على طبيعة المكان، وأعود في المساء لتناول العشاء مع أصدقائي، كانت آمندا مريضة ولا تعد الطعام، أنقذنا لؤي بإجادته الطبخ فقد كانت زينب تجرح نفسها كثيرًا عند استخدام السكين لحدة حوافها، نقوم بزيارة الخالة رزان كثيرًا، وتأتي دائمًا للإعتناء بآمندا في مرضها، بعد أن احتار الأطباء في علتها، لم أخبرهم عن أمر الختم خشية أن يقلقوا دون فائدة، أذهب دائمًا نهاية كل أسبوع للبحث عن الأصلع الذي أخبرني عن الختم، أملاً أن أعرف أكثر عنه وأجد حلًا للمعضلة. بحثت كثيرًا أسبوعًا يلي الآخر، وفي المرة الخامسة عثرت على تلميذه وسألته عن معلمه، إلا أنني لم أجد عنده شيئًا قد يفيدني في معرفة سبب إختفائه، وفي إحدى المرات وأنا أنقذ فتى من ثور هائج بسرعتي، نبتت في عقلي فكرة بدراسة قوتي، وبعد أكثر من محاولة أدركت أنها تنسجم مع التفكير وكلما زادت إرادتي زادت قوتي. عدت بتفكيري عندما واجهت الشبح للمرة الأولى، كيف تمنيت أن يسعفني الوقت وأصل سريعًا. إفترضت بأن قدرتي تشكلت عندما تمنيت ذلك وأنها تحقق مطلبًا لقدرة واحدة تأملها مليء صدرك، ولكن سرعان ما سخرت من هذا الافتراض وذهبت لاصطياد حيوان في الغابة، بذلك القوس الذي تدربت كثيرًا على استعماله ولم أتقنه بعد.
بعد أكثر من تسع محاولات فاشلة افترشت الأرض واضعاً يدي خلف رأسي أنظر إلى السماء الصافية التي غادرتها غيوم الشتاء لأسترجع كيف كانت زينب تفرح وتلعب بالثلج مع يارا كل يوم، ولؤي الذي يتذمر كلما قررنا إزاحة الثلج من سطح المنزل عندما ينزلق ويسقط في كوم الثلوج، يكره الشتاء غالبًا، وآمندا التي تراقب بياضه من خلف النافذة دون أن تنطق بشيء، تغيرت كثيرًا منذ تلك الليلة التي مرضت فيها أول مرة بسبب الختم، صارت تبتسم معظم الوقت دون كلمة، وتقول أشياء غريبة مثل أنها تستيقظ دائمًا على صوت محرك وصافرة قطار، رغم أن لا قطار في هذا العالم، ظللت أفكر حتى مر جواري أرنب فقفزت وأمسكت به إلا أن صوت الغربان التي حلقت فجأة أفزعني فأفلته ليهرب ركضًا خلف الشجيرات، حملت قوسي بمضض وأنا أشم غبائي بعدم استخدام سرعتي لإمساكه، تنقلت متسللًا بين الأشجار وأنا أنظر لمجموعة البط التي تجمعت تسبح وتتمشى قرب البحيرة، عرضت ابتسامتي وجهزتُ قوسي استعدادًا للإطلاق وأنا مطمئن البال بأني سأصيب إحداهن بذلك العدد المتجمع بلا شك، كبرتُ الله لينطلق سهمي ويشق بطن إحداهن فأقشعر بدني وأنا أهمس لنفسي "سيتعذب قليلاً!"، أخذته وأنا سعيد بإنجازي، حدق بي الصغار بإعجاب وصاروا يقفزون فرحًا قبل أن يركضوا ليخبروا والدتهم بالداخل، كنا عند الخالة رزان ذلك اليوم، خرج فؤاد وربت على كتفي مهنئًا هذا الصيد الثمين، خرجت آمندا ونظرت إلى صيدي فأبتسمت لها بفخر فهي تحب لحم البط كثيرًا، حتى تفاجأت بها تحمله بين يديها لتحتضنه والدموع تنهمر من عينيها تصرخ فيّ: "لماذا لا تصطاد بحرص أكثر.. إنظر إليه لا يزال حيًا ويتألم بشدة!" نظرت إليه كان يتحرك قليلاً فألمني صدري لذلك فقلت بأني سأذبحه، وعندما حاولت أخذه منها صفعت يدي وقالت "لقد مات الآن" تنهدت وقلت "هذا جيد لنطبخه إذاً" حدقت بي بقوة وكأنها لا ترقب بذلك حتى قالت وهي تمسح دموعها "سأدفنه.." إندهشت وكان فؤاد مذهولًا أيضًا فقال:
- آمندا! .. إنه صيد! .. لماذا تتعاطفين معه هكذا؟
فقلت مردفًا :
- كما أنك تحبين لحم البط كثيرًا!
حدقت بي مطولًا ، وما إن أخذته منها حتى ركضت بعيدًا ، ذُهلت من تصرفها الغريب هذا ، وعند العشاء ذُهلت أكثر من عدم تناولها شيئًا منه مع أنه اللحم المفضل لديها ، وفي يوم لاحق كان فؤاد قد أحضر دجاجة فذهبت لمساعدته في ذبحها و نتف ريشها وعندما كنت أجهز السكين ، أتتني آمندا تقول بتوتر تفرك أصابعها :
- لا تذبح تلك الدجاجة
نظرتُ إليها متعجبًا وقلت:
- والدجاجة أيضًا!، لا تخافي، لن أعذبها كتلك البطة، سينتهي الأمر سريعًا
ذهبتُ مع فؤاد وعندما أوشكنا على ذبحها، أوقفتنا قائلة:
- اذبحوا أخرى! .. لهذه كتاكيت صغار وهي أمهم!
أخبرتها:
- الدجاج لا يحتاج لوالدة عكسنا نحن البشر!
وحركت يدي أريد ذبحها فأستوقفتني مرة أخرى تمسك ذراعي وتجذبها بقوة فأفلت السكين خشية إيذائها لتقع على الأرض، لم أعلم ما أصابها وكدت أصرخ فيها قبل أن يأتي لؤي يحمل خشباً كثيراً، نظر إلينا مستغربًا وقبل أن أخبره ما الذي يجري، طلب من آمندا أن تساعده في حمل قطع الأخشاب إلى المخزن، لم ترد أن تذهب رغم طلب لؤي منها المساعدة، فأفلت لؤي بيده كل الخشب ليسقط على الأرض، فتهرع آمندا أخيرًا إلى مساعدته بجمعها، وبعد ذهابهم نظرت إلى فؤاد آسفًا أقول:
- إنها ليست على سجيتها، صدقني!

رحلة أحد عشر خريفاً حيث تعيش القصص. اكتشف الآن