ارتفعت دقات الساعة لتملأ الغرفة الهادئة نبضاً، جلس لؤي على كرسي المكتبة يحتضن كتاباً محدقاً في السقف، حرك الكرسي يميناً ويساراً، نظر إليه وأزال باقي الغبار بيده ووضعه على الطاولة وأسند رأسه عليه محدقاً في الساعة يراقب عقاربها، حتى سرح بعيداً إلى ما وراء الماضي..
حينما كان والده لا يزال موجوداً معه، كيف كان يداعب شعره، ويأخذه إلى النادي لمشاهدة إحدى المباريات، عندما كانت الأجواء سليمة وصحية لحدٍ ما، حتى حلت بعض الخلافات تعبت فيها والدته أكثر من مرة ورقدت في المشفى كثيراً، وقتها ودون سابق إنذار وجد والداه ينفصلان، حزنت والدته كثيراً عندما طلقها وسافر خارج البلاد، كان يراقبها من خلف الجدار وهي غارقة في الدموع حتى اعتاد على رؤية ذلك، تتعب كثيراً وترقد في المشفى معظم الوقت، فيأتي إليها دائماً بعد المدرسة ليطمئن عليها، وبعد شهور استعادت والدته صحتها وصارت تعمل، يغضبه تهاون والده لعدم إرسال المال إليها وعدم السؤال عنها، يتساءل كيف يمتلك والده قلباً قاسياً إلى ذلك الحد، ألم تعني له العشرة شيئاً ليتخطاها بهذه السهولة، وعند وفاتها لم يحضر جنازتها، ما أقسى قلبه لا يوجد به كحبة خردل من الرحمة هكذا كان يفكر لؤي، منذ انفصالهم لم يره أو يسمع صوته حتى أنه نسي شكله. نهض من مكانه يقول لنفسه "لن أتذكر من نسيني منذ عقد مضى" ذهب لغرفته يبدل ثيابه ويرتدي معطف بندقي اللون بغطاء رأس كبير وبنطال جينز غامق اللون، نزل خطوة بعد خطوة على الدرج ينظر لساعة هاتفه.༺༻༺༻
مسح على رقبته قائلاً:
- "من أين أبدأ..!"
أسند أيمن ظهره على الجدار مقاطعاً يداه على صدره ونظر إلى نديم الذي قال:
- منذ زمن بعيد.. عندما كان لؤي في العاشرة من عمره كان والداه يختلفان كثيراً عن السنوات الماضية.. مشاكل بسيطة لدى أي زوجين إلا أنهما استثناء.. لا يجب على فيصل أن يجادل جيهان كثيراً وإلا ساء حالها وانتهى بها الحال في المشفى بعد كل خلاف أو نقاش، مرة بعد مرة قرر والد جيهان أن يستعيد ابنته منه وأخبره إن تسبب في سوء حالتها فلن يغفر له أبداً وإن كانت ابنته هي المخطئة، مرت بعدها أشهر وأتم لؤي الحادي عشرة من عمره وهو يرى ابتعاد والديه شيئاً فشيئاً، تذهب جيهان لزيارة والديها كثيراً، وعندما تذهب لعائلتها تكون صحية بشكل كبير، فعائلتها تهتم بها كثيرًا، بينما في منزلها لا يتواجد فيصل غالبًا، يهتم بعمله أكثر من ارتباطه بعائلته، حتى أتى يوم تحدث فيه والد جيهان إلى فيصل وطلب منه الانفصال عن جيهان فهي تتعب كثيرًا معه، ليس على السيد فيصل الاستماع لوالدها ولم يعر كلامه اهتمامًا كبيرًا لأنه يحب جيهان ولا يريد طلاقها، مر بعد هذا الحديث شهران وحصل خلاف آخر، عندها كان السيد فيصل يريد السفر إلى الخارج وأعربت السيدة جيهان عن معارضتها وطلبت بقاءه بشدة وإلا فلن تتحدث معه أبدًا، ولأن فيصل كان يعاني من ضغوط في العمل كثيرًا وأتته الفرصة على طبق من ذهب للاستثمار خارجًا، أراد الذهاب بشدة، فقال لها "إذهبي لمنزل عائلتك"، فقالت له "أتقصد بهذا الطلاق؟"، فلم يجيبها، فسألته مرة ثانية فأجاب بلحظة غضب " نعم، أقصده فلتذهبي إذاً! "في ذلك الوقت تمالكت جيهان نفسها كثيرًا ولم يصبها شيء، حتى أنه استغرب وظن بأنها تريد هذا منذ زمن وأنه خلاصها، تذكر كلمات والدها بأنها تكون أفضل حالًا معهم منه، فسافر وهو يظن بأنها ستكون بخير وأن هذا أفضل لها، بينما مرضت جيهان كثيرًا بعد ذلك ومنعت أخبارها عنه، كان يسأل أختها نجلاء كثيرًا عن حالها فسألته "ألست من طلقها؟ .. إن كنت تحبها هكذا لماذا طلقتها منذ البداية!"، مرت ثلاثة أشهر بعد ذلك ولم يرجعها بعد، وكان كما حاله يسأل عنها فقط فأخبره صديقه ذات مرة "أنت تهتم بها كثيرًا لا أصدق مدى غفلتك.. لما لا تعود وحسب! .. الآن عليك تجديد العقد ثانية بمهر جديد أيضًا.. أسرع كفاك مماطلة من الواضح أنك تحبها كثيرًا" بعدها فكر بأنه لا يستطيع العيش بدونها حقًا وأنها تهمه كثيرًا، وقتها حاول العودة إليها إلا أن جيهان رفضته رفضًا باتًا قائلة "لقد انتظرت ثلاثة أشهر.. انتظرتك لتتراجع وتعيدني انتظرتك لتحدثني .. انتظرتك كثيرًا إلا أنك لم تهتم ولم تتحدث معي أو تسألني عن حالي ولو لمرة! .. لقد انقضت المدة التي ذكرها ربنا في كتابه .. تلك المدة التي حددها ربنا لتتراجع عن قرارك دون عواقب أضعتها هباءً .. لن أزيدك غيرها ولا أريدك بعد الآن! " ، لم تعد جيهان لفيصل ، ولم يتزوج فيصل بعدها أبدًا ، وأنشغل بعمله ، علم أنها تعمل فأصبح يرسل لها مالًا أضعافًا تكفيها عن العمل إلا أنها رفضت ماله أيضًا ، أصر فيصل على أخذه وعلل أن لؤي ابنه ويريد الإنفاق عليه ، فأصبحت تأخذه منه، إلا أنها لم تنفق منه وصنعت حسابًا باسم لؤي وجمعت كل تلك الأموال هناك ، في كل شهر يرسل لها المال تضعه في حساب لؤي دون أن تأخذ منه شيئًا ، استمر الأمر لسنوات حتى أصبح لؤي يافعًا بعمر السابعة عشر عندما توفيت السيدة جيهان في إحدى الليالي القارسة بسبب إهمالها للدواء ، كنت مع السيدة جيهان فترة طويلة كنت مساعدها وكانت تهديني الكثير من الكتب الطبية والثقافية كانت تعاملني كابنها، تأثرت بها كثيرًا فقد كانت معلمتي ووالدة صديقي، أحترمها وأحترم فيصل كثيرًا وأعلم حبه واعتنائه بجيهان إلا أنها لم تعطه فرصة لإصلاح خطئه، لم تعطي لنفسها فرصة لإصلاح خطئها وسوء الفهم الذي تدخل بينها وأضعفهما، كان الأمر صادمًا عندما علم فيصل بوفاتها حتى أنه لم يقوى على الذهاب إلى جنازتها، وظل يلوم نفسه إلى هذا اليوم وحرم نفسه مقابلة لؤي الذي غاب في هلوسته فلام فيصل نفسه على ذلك أيضًا، كنت متدرب وقتها فأجتهدت بالطب واعتنيت بلؤي من أجلهما، عملت في مشاريع مع السيد فيصل التي زادت دخلي واشتريت سيارة وأجرت شقة بالقرب من منزل لؤي في كثير من الأوقات، لم أخبر لؤي لأنه كان يكره اهتمامي به أحيانًا. ظللت أراقبه وجعلت علاجه من أولوياتي. كان صحيح العقل والبدن، إلا أن صحته النفسية متضررة للغاية. شوشت ذكرياته حتى أنه يختلق أمورًا لم تحدث له من قبل. صار يكتب وكنت أقرأ كل كتاباته حتى أني أختلقت عليه أمرًا بأنني أصنع مانجا وأستلهم من كلماته الغزيرة. صار يكتب ويكتب، أردت إفراغ حزنه على الورق، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا. في إحدى المرات، عندما كان يشاهد الأنمي، استوعب أن والدته مختفية وصار مضطربًا كثيرًا. فأختلقت عليه أمر ذهابها للخالة نجلاء، حتى هدأ ومرت الأيام بخير. وقتها أتت نجلاء لزيارته، فكان عند العشاء يتمتم ويشرد كثيرًا. فقلقت عليه وباتت تلك الليلة عنده. وفي الصباح، عندما كانت تنظف المنزل، خرج لؤي وارتطم بالأرض. هرعت إليه فنظر إليها ببرود وتمتم بعض الكلمات وابتسم قائلاً "آسف أمي، لم أقصد هذا، سأنتبه عند اختيار الكلمات لتكون مناسبة سأذهب إلى غرفتي الآن.. "كان الدرج مبلل لم ينشف بعد، قلقت عليه من أن ينزلق مرة أخرى، بعد ذلك أنتبهت لكلمة أمي وتذكرت حديثي عن هلوسته، فكان هذا أشد على قلبها بعد أن رأته بأم عينيها، بعد ذلك أصبحت تطمئن عليه من حين إلى آخر، وتتحدث معه عبر الهاتف، لم تكن تستطيع تمالك نفسها أمامه لذلك خففت من زيارته كثيراً، عندما صادق أيمن أصبح أفضل حالاً وكأنه تعلم كيف يكون صديقاً لأحدهم، صار أكثر سعادة معكم، حتى أنه نسي كثيراً حزنه وإنزاح الثقل عن قلبه قليلاً بوجودكم، لا أستطيع التعبير عن مدى إمتناني لكم، أشكركم جزيل الشكر على ذلك.
كانت آمندا تحدق في يديها شاحبة الوجه لا تستطيع نطق كلمة، بينما تشمع أيمن على الجدار منذ بداية حديث نديم، فقال نديم متابع:
- إنه بخير لا تقلقوا عليه.. إلا أن هناك أمراً ما.
نظرت إليه آمندا مستغربة قائلة:
- ما هو؟
= لؤي لا يعرف والده.. يكرهه ويُلومه على موت والدته وتخليه عنه، حتى أنه يظن أنه تزوج بامرأة ونسي أمره يعيش حياته على أكمل وجه.. يظن بأنه أسوء رجل في العالم.
قالت آمندا بحزن:
- هذا طبيعي.. فهو لم يره أبداً منذ إنفصاله عن والدته ولم يسمع عنه شيئاً!
هز نديم رأسه وقال:
- يجهل لؤي أشياء كثيرة عن والده لم يحاول مرة أن يستفسر عنها.. هذا غريب!
صمتت آمندا، فقال أيمن:
- دعني أسألك يا نديم.. من أين للؤي بنفقة المسكن والمعيشة لا أعتقد بأنه يعمل!
أجابه نديم قائلاً:
- المنزل ملك لؤي فقد سجله والده باسمه بعد وفاة والدته.. أما النقود!.. لقد كانت جيهان تعلم بأنها لن تعيش طويلاً بعد زيادة مرضها لحد لا عودة فيه.. فأعدت العدة لذلك.. عندما كان يرسل لها فيصل المال.. لم تكن تأخذ منه شيئاً بل تخزنه في حساب لؤي الذي يزداد شهراً بعد شهر، سنة بعد سنة حتى صار غنياً لا يحتاج للعمل ينفق منه طيلة السنوات الثلاث الماضية ولم يصل لنصف مخزونه حتى.. بالنظر إلى الوضع الآن أعتقد بأنه سيسألني عن أصل ماله الذي لم يعلم عنه شيء فقد كان في هلوسة يظن بأنه مال والدته سأله أيمن مرة أخرى:
- مع من كنت تقف بالضبط؟
ابتسم نديم وقال:
- لقد كنت مع السيدة جيهان كثيراً ولم أسمع عن السيد فيصل منها سوى أنه الرجل الوحيد الذي أحبته
أندهش أيمن وقال:
- حقاً! .. ومن أين تعلم بكل تلك التفاصيل عنهما؟
أدار نديم الكرسي تجاهه وقال:
- كنت أعلم أنهما منفصلان إلا أن السيدة جيهان لم تذكر لي شيئاً سيئاً عن فيصل بل كانت تحكي لي عن كل الأشياء الجميلة التي منحها إياها .. لم أسمع منها قط شيئاً يجعله سيئاً أو قاسي .. بعد وفاتها أخبرتني الخالة نجلاء بكل شيء عندما علمت بقربي من أختها جيهان
صمتوا للحظات حتى قالت آمندا:
- ماذا عن السيد فيصل؟
أجابها نديم مبتسماً:
- الرجل لا يتحدث عن علاقته مع زوجته عادة كالمرأة، إلا أنني رأيته يبتسم كثيراً عندما يشرد ويكاد يبكي أحياناً أخرى.. لقد كان يلوم ويعاقب نفسه على أي شيء حدث في الماضي والحاضر لما حدث لابنه.. يسأل عنه كثيراً حتى عندما أكون منشغلاً أو على وشك الدخول لعملية، لا يكف عن الاتصال بي.. أقول دائماً لما لا يقابله وحسب!
لمع غشاء دامع في عيني آمندا قائلة:
- الدنيا قاسية!
أغمض نديم عينيه وكأنه يتذكر شيئاً، فقال:
- أخبرت سيد فيصل عن شفاء ابنه من الهلوسة منتصف هذا النهار عبر رسالة إلكترونية.. مجرد استلامه وقراءته الرسالة، اتصل يخبرني بأنه سيأتي لمقابلتي لمعرفة الكثير من التفاصيل.
ضحك مضيفاً:
- مع أن التفاصيل واضحة ولا تحتاج للشرح!.. أعتقد أنه سعيد ولا يستطع الإحتفاظ بهذه السعادة لوحده.
نظر كلاً من أيمن وآمندا إليه بدهشة وقالا:
- هل سيأتي الآن؟
أجابهما نديم:
- سيأخذ وقتاً فمنطقته بعيدة
حدث نفسه "لقد تأخر لؤي.. سيذهب بسرعة إن علم بأن آمندا غير موجودة.. سيتأخر فيصل قليلاً.. ماذا أفعل؟.. هل أؤخر آمندا قليلاً!" نظر إلى أيمن الذي حدق فيه فأغمض عينيه يبتسم له وحدث نفسه مجدداً "لن يسمح لي.. تخبرني هالته بذلك" تقدم أيمن ووضع يده على الكرسي قائلاً:
- هل هناك شيء آخر تريد قوله يا نديم؟
أومأ نديم نفياً، فقال لآمندا:
- سنذهب إذاً..
عند باب المشفى قال لآمندا:
- لقد فاتك الاختبار والمناقشة.. إن كنتِ ترغبين بتعويض هذا فلتأتي غداً سأساعدك في هذا.
نظرت آمندا إليه مبتسمة وأومأت برأسها موافقة وتابعت مسيرها، وقتها كان أيمن يسير ورائه فطوق يده على كتفه ينظر إليه قائلاً:
- أنت! .. لا تخطط لإقحام أختي في شيء أليس كذلك؟
شعر نديم بوخزه إذ كان هدفه أن يرى آمندا كتابات لؤي إلا أنه أنكر الأمر قائلاً:
- بالطبع لن أفعل ذلك!
إبتسم أيمن ونظر إليه بحدة قبل أن يذهب قائلاً:
- هذا جيد
وقف نديم يلوح لهم بيده على إمتداد كتفه، فوضع يده بصدره وقال يحدث نفسه " كاد يلتهمني! .. هل هذا ما يسمى غيرة الأخوة .. هل شعر بالخطر فحاول تهديدي .. ياللشباب إنه لأمر مطمئن .. هذا الجانب منه كعصير الليمون حامض ومنعش! " إبتسم وتابع سيره قائلاً:
- أعجبني هذا
أنت تقرأ
رحلة أحد عشر خريفاً
Fantasyانظر إلى السماء الغائمة وحيدة في ليل ساطع بسناء القمر، لم يتواجد سوى رجل غريب ذو عينين حمراوين ينظر إلي، تأتي الغيوم لتواري سناء القمر فتسطع عيناه الناريتين وسط الظلام، أزحف راكضة بين الزهور محاولة الهروب منه، كان سريعًا للغاية ويستطيع الإمساك بي في...