تهتز الطاولة برنين هاتف مستمر، يخرج من الحمام بصدر عاري ذو عضلات بطن سداسية، يضع على رأسه منشفة بيضاء اللون، يفرك شعره الرطب متقدماً ينظر إلى هاتفه فوق الطاولة، أخذه وجلس على الأريكة بعد أن ارتدى كنزة صوفية فيروزية اللون، حملق في الهاتف وجد عدة اتصالات من لؤي لم يستجب لها، فقد كان يأخذ حماماً يزيل به تعب يومه الحافل الذي قابل فيه "سيد فيصل" بعد مرور ثلاث سنوات على آخر لقاء بينهم، إندهش بعد رؤية ذلك الوابل من الاتصالات، إذ ليس من عادة لؤي أن يبدأ الاتصال به مهما كانت الظروف، فأصيب بالقلق الشديد، أعاد الاتصال به لكن أجاب الرد الآلي "عفواً.. لا يمكن الوصول إليه حالياً!" بسبب العاصفة، فأعاد الاتصال مرة ثانية وحصل على نفس النتيجة "لا يمكن الوصول إليه!" فأعاد الاتصال مرة أخرى واستجاب برنين طمأن نديم أخيرًا، بقية الرد على المكالمة، فتح الخط وأول ما سمعه نديم صوت مطر شديد وصوت بعيد متقطع لم يفهم منه شيئًا، فتحدث نديم بصوت عالي ليسمعه لؤي "لا أسمع جيدًا.. هل أنت في الخارج؟.. اذهب إلى مكان هادئ فأنا لا أسمعك!" استمر لؤي في التحدث لكن نديم لم يفهم منه شيئًا بل لم يسمعه حتى، فكرر مرة ثانية "لا أسمعك لؤي.. اذهب إلى مكان هادئ!" أغلق لؤي الخط فحملق نديم مندهشًا في الهاتف لثواني، بعد ذلك انتفض وتوجه بسرعة إلى خزانة الملابس وتناول معطفًا طويلًا أسود اللون، رن هاتفه مرة أخرى عندما كان يرتدي المعطف فلم يصبر لإدخال ذراعه اليسرى ففتح الخط وهنا سمع صوت لؤي ضعيف كئيب ليس فيه حياة قائلاً:
- نديم! .. لقد اختفت أمي
اضطرب نديم لكنه تمالك نفسه وقال بصوت هادئ:
- ماذا حدث؟
أجابه لؤي والفزع مسيطر على نفسه:
- عندما .. وقتها .. لا أعلم .. في الأسبوع الماضي نادراً ما أراها تعد الطعام .. غير متواجدة .. تكون في العمل كثيراً .. لا تحدثني .. ثم لم أجدها في المنزل ولم تعد بعد .. أنا قلق عليها .. أين يمكن أن تذهب؟ .. هل تخلت عني .. لماذا؟ .. هل أغضبتها بشيء .. هل أخطأت؟
قاطعه نديم قائلاً:
- إهدأ يا لؤي! .. ما الذي تهذي به؟ .. إن السيدة "جيهان" لن تفعل هذا أبداً .. لقد ذهبت إلى الخالة "نجلاء"
أجابه لؤي حائراً:
- ماذا!؟ .. هل تعلم بذلك؟
إرتبك نديم قليلاً قبل أن يقول واثقاً:
- لا أعلم .. لكن أعتقد أنها ذهبت لزيارتها فلن تذهب إلى غيرها .. أين أنت الآن؟
رد لؤي في حزن:
- تذهب دون أن تخبرني! ..
أجابه نديم بعد أن أدخل ذراعه اليسرى وعدل ياقة معطفه:
- أين أنت الآن؟ .. أريد مقابلتك
أجابه لؤي غاضباً:
- أبق في مكانك .. لا تأتي .. لقد اكتفيت! .. لست ولي أمري!!
أجابه نديم بهدوء ثابت على موقفه:
- سأتي! .. أخبرني أين أنت .. سأساعدك في البحث لذا لا تكن عنيداً
أجابه لؤي:
- سأرسل لك الموقع على الخريطة
أغلق الخط قبل أن يجيبه .. تنهد نديم ببطء وأجرى اتصالاً سريعاً بأحدهم ، بعد فراغه خرج لموقع سيارته وفتحها متنهداً يقول لنفسه "لماذا غيرت رأيي عندما أردت المبيت عنده .. والآن سأأخذ وقتاً طويلاً للوصول إليه وسط هذه العاصفة" قاد السيارة خارج المنزل ونزل ليغلق الباب خلفه، تباطأ مسيره نحو الباب بسبب قوة الرياح التي تدفعه عنوة إلى الخلف فيمسك بصعوبة أحد جنبات الباب ويغلقه فيسهل عليه إغلاق الآخر ويهرول بسرعة تجاه السيارة.
كان لؤي يسند ظهره على إحدى جدران المتاجر ممسكاً مظلته بقبضة واهنة،أنزلها عنوة تاركاً الرياح تعبث بشعره الذي ابتل بالكامل، وبلل كتفيه وجزءً كبيرًا من ملابسه، ينظر إلى الأرض وكأنه فتن بها، حتى لمحه نديم بعد أن كان على وشك الاتصال به، أوقف سيارته أمامه، فلاحظ ملابسه المبتلة وقال في نفسه بعد أن أغمض عينه اليسرى "يبدو أنه لا يلاحظ الأوضاع من حوله عندما يكون بهذا الحال"، أنزل الزجاج ناسيًا العاصفة فضربت الرياح والمطر وجهه بقوة فأغلقها بسرعة معاتبًا نفسه "ما الذي فعلته!"، ترجل عن السيارة ونادى لؤي إلا أنه كان شاردًا فلم يسمعه، فاقترب منه وأمسك مظلته ورفعها لتقيه من المطر وقال: لؤي.. لنعود إلى المنزل!
طالعه لؤي فابتسم له نديم بعد أن وضع يده على كتفه، شعر ببرودته فخلع معطفه وناوله إياه، إلا أن لؤي تجاوزه وأمسك مقبض السيارة يريد أن يفتحه، فتفاجأ بوضع نديم المعطف على كتفيه وأكمل مهرولاً إلى الجهة الأخرى ليتولى القيادة. في داخل السيارة وبعد أن هما بالمغادرة، تحدث لؤي أخيراً بعد صمتٍ طويل قائلاً:
- إلى منزل الخالة نجلاء.
تفاجأ نديم حتى كاد يجعله هذا يصطدم بعمود في وسط تلك العاصفة، فركن سيارته على جنب وقال:
- في هذه العاصفة! .. والمنزل بعيد! .. هذا صعب دعنا نذهب غداً!
صمت لؤي دون أن يجيبه، فتابع نديم:
- حسناً.. هل نتصل بالخالة نجلاء ليطمئن قلبك على والدتك؟
هزّ لؤي رأسه دون كلمة، تصنع نديم الإبتسامة وعبث بهاتفه يبحث في جهات اتصاله، حتى قال:
- وجدتها.. سأتصل بها الآن.
نطق لؤي دون النظر إليه:
- افتح مكبر الصوت لو سمحت.
نظر نديم إليه وسرعان ما أشاح بنظره وفتح مكبر الصوت كما أخبره، ردت الخالة قائلة:
- مرحبا نديم.. ما الذي تريده؟.. هل تطلب مني مرة أخرى أنـــ
هنا قاطعها نديم قائلاً:
- خالة نجلاء مرّ زمن طويل.. كيف حالك؟.. هل الخالة جيهان معك؟
ردت الخالة نجلاء وكأنها مستغربة من سؤاله:
- أجل! في نعمة والحمد لله.. نديم!.. جيهان أنت تعلم بأنهاـ
هنا قاطعها نديم مرة ثانية قائلاً:
- هي معك أليس كذلك؟ .. السيدة جيهان معكِ .. إن لؤي قلق بشأنها لأنها ذهبت دون ترك ملاحظة كما اعتادت أن تفعل وهو غاضب بعض الشيء أيضاً .. هل يمكنك إعطائها الهاتف لتحدثه فيطمئن قلبه قليلاً
ردت الخالة نجلاء بعد صمتها لثواني كما لو أنها شردت بذهنها قليلاً:
- نعم! .. هي معي .. ولكنها متعبة قليلاً أخبرتني أن أخبره بألا يقلق عليها وعادت إلى النوم .. هل لؤي قربك أعطه الهاتف أريد الحديث معه
نظر نديم إلى لؤي في حزن وناوله الهاتف إلا أن لؤي لم يرفع يده ليمسكه، فوضعه قربه بهدوء، تحدثت نجلاء بصوت حنون:
- عزيزي لؤي.. مر وقت طويل آسفة لأني لا أتواصل معك كثيرًا.. هل غيرت هاتفك؟ لقد حاولت الاتصال بك إلا أنني لا أحصل على رد، كيف حال صحتك؟ هل تأكل جيدًا؟ لا تكثر من تناول الوجبات السريعة، واحرص على تدفئة نفسك في هذه الأيام العاصفة والباردة.
نطق لؤي:
- أين أمي؟ ألا تريد التحدث معي؟ .. هل أغضبتها بشيء؟
أجابته الخالة نجلاء:
- لا، ليست غاضبة منك.. هي نائمة فقط!
صمتت لحظات وأكملت:
- تعلم أن قلب جيهان ضعيف وتحتاج إلى الراحة، فقد أتعبها العمل كثيرًا.. لم تخبرك خشية أن تقلق عليها وتترك الجامعة للحاق بها.. ستحزن إذا تركت دراستك وأنت مقبل على الامتحانات، تريدك متفوقًا ووجودها قربك قد يؤثر على علاماتك كثيراً وهي لا تريد هذا .. لذلك فضلت أخذ إجازة قصيرة ريثما تنتهي من الإمتحانات .. وأعدك أن أعتني بها جيداً فلا تقلق لن يصيبها مكروه
أجابها لؤي :
- شكراً لكِ .. إعتني بها جيداً
أغلق الخط وناول نديم الهاتف ، مال بجانبه نحو النافذة وظل يحدق في الخارج عبر الزجاج التي تنسدل منه قطرات المطر متتالية ، تابع نديم القيادة وسط العاصفة بتركيز شديد لم يزح ببصره عن الطريق لثانية ، رغم رغبته بالنظر إلى لؤي كما أعتاد دائماً لدراسة مزاجه.
في داخل المنزل بعد أن بدل لؤي ثيابه المبتلة ووضعها في المغسلة، حضر له نديم مشروب ساخن من الأعشاب وأخبره أنها ستساعده على النوم جيداً، نظر له لؤي بعد أن تناول كوب الشاي وأرتشف منه عدة رشفات فأبتسم لأول مرة منذ أن تقابلا في العاصفة وقال:
- يبدو أنني حظيت بصديق جيد يعتني بي أكثر من نفسي
ابتسم نديم وظل يقلب صفحات كتاب كان قد أخذه من مكتبته، مدعياً عدم سماع كلمات امتنان لؤي، خرج بعد أن تأكد أنه في سابع نومه، نزل من على الدرج ببطء وبخطوات هادئة متجنباً إصدار أي صوت ولو كان خافتاً، توجه إلى المطبخ وفتح الثلاجة أملاً أن يجد عصيراً يشربه، لم يجد سوى فاكهة البرتقال، أغلق الثلاجة بعد أن أخذ واحدة، حدث نفسه "يحب البرتقال كثيرًا.. لا أذكر خلو ثلاجته منه.. ألا يمل منه!.. ماذا لو اختار فاكهة حلوة المذاق كالمانجو مثلاً.. يحب الأشياء الحامضة حقًا!"
جلس على الأريكة وأجرى اتصالًا بالخالة نجلاء، يخبر نفسه بأن يعتذر إليها حتى لو تأخر الوقت، فتح الخط فقال نديم:
- مرحبًا خالة نجلاء.. أنا آسف للغاية لإقحامك في هذا الأمر مرة ثانية
أجابته نجلاء في الطرف الآخر جالسة على كرسي قرب النافذة في يدها ثوب قديم بالي ويبدو قديم الطراز:
- لا تعلم ما أصابني عندما جاريتك في تلك الكذبة.. خشيت إضطراب لؤي لذلك تماشيت مع كلامك.. لا تضعني في مثل هذا الموقف مرة أخرى
أجابها نديم:
- لن أفعل ذلك مرة أخرى.
أجابته وقد بدا في صوتها الحزن:
- ألن تخبره عن مكانها؟
أجابها نديم وقد أسند رأسه على الأريكة وطالع السقف:
- ليس بعد.. لن أخبره الآن!!
ابتسم وأخبرها بشيء ما.. ثم أغلق الخط بعد أن اعتذر منها على اتصاله في هذا الوقت المتأخر.
نظرت نجلاء إلى السماء المرصعة بالنجوم وحدثت نفسها "يبدو أنه تعلم لباقتك.." ابتسمت وأكملت "أليس كذلك جيهان".
أنت تقرأ
رحلة أحد عشر خريفاً
Fantasyانظر إلى السماء الغائمة وحيدة في ليل ساطع بسناء القمر، لم يتواجد سوى رجل غريب ذو عينين حمراوين ينظر إلي، تأتي الغيوم لتواري سناء القمر فتسطع عيناه الناريتين وسط الظلام، أزحف راكضة بين الزهور محاولة الهروب منه، كان سريعًا للغاية ويستطيع الإمساك بي في...