اصطدام

8.8K 161 7
                                    

مستشفى نامق بعد الظهيرة :

كان وقت راحة الطبيبة أخيرا فجلست لتشرب كوبا من الشاي خارج المشفى عندما طرأ على رأسها ذلك المغطى بالسواد الذي خرج من العدم في مقابلتها صباحا كانت تتسائل حقا عن سره و لكن عقلها كان يقول لها أن هذا لقاءها بهذا الرجل هو فقط ضمن الأشياء التي لا يجب أن تفسر بينما قلبها كان يخبرها بأنها ستلتقي بهذا الرجل مرة أخرى و بينما هي شاردة في أفكارها كثيرا جاءها اتصال كان من السيد نجاد " ألو سلام عليكم " أجابت سريعا " و عليكم السلام . كيف حال طبيبتنا الخاصة الْيَوْمَ " سأل بودية كما اعتاد فهو يعتبرها أختا أصغر له - أو على الأقل يريد أن يظهر أمامها كذلك - فهي معه منذ أن تخرجت كما أن لهم نفس الأصول المصرية و و يجمع بينهم كل النسب و كل اللغة " هل تمرين علي الْيَوْمَ ؟ فجراحنا ليست جيدة جدا " قالها و هو يحاول ألا يقلقها فهو يعلم كم ان مشاعرها تهتز كثيرا - حتى و إن لم تكن تظهر ذلك - للغرباء قبل الأصدقاء " يا الهي لماذا لم تقل يا سيد نجاد أكون عندك فورا " قالت و اغلقت الخط سريعا كانت تعلم ان استدعاء السيد نجاد لها ليس جيدا أبدا فبالإضافة إلى وضعه السياسي و الاجتماعي الذي يمنعه من زيارة المستشفيات ككل المرضى فإنه لا يطلب الزيارات المنزلية في غير أوقاتها إلا عندما يكون الوضع صعبا بالفعل و هي تكره صبره ذاك على الألم أكثر من كل شئ..
###
أستأذنت ميرا من المشفى و انطلقت مع سائق سيارة الأجرة الذي أرسله السيد نجاد فقد كان المكان بعيدا نائيا لظروفه الخاصة تلك ، كان الظلام قد بدأ في الحلول عندما وصلت ضغطت على الجرس و انتظرت حتى فتح السيد نجاد بنفسه " أهلا بالطبيبة " أجاب بابتسامة مرهقة و كأنه ارتاح فقط من عناء هذا الألم عندما رآها فقط
التقت عيناها السوداوتان الواسعتان بعينيه الرماديتان كل منهم يحمل أسى أكبر من الآخر و لكنه صامت " لماذا أتعبت نفسك عليك أن تستريح كان من الممكن أن يستقبلني أي أحد " قالت و هي تدخل متفادية النظر له أكثر
" ماذا نفعل أيتها الطبيبة..في النهاية قد تركتنا مريم و ذهبت أيضا لذلك قلت لأستقبلك علكِ لا تذهبين.." اندهشت للحظة " أخي نجاد ماذا تعني بأن مريم ذهبت ؟ ماذا عن ( دينيز ) ؟ كيف حاله كيف يتقبل ذهاب أمه ؟ " كانت تناديه أخي كلما انفعلت نفسيا و كانت هذه النقطة التي يريد الوصول إليها ، فهو لطالما أراد الوصول لها فقط..
" إنه لا يعلم . بالطبع لم أستطع أن أقول له أي شئ ، في النهاية كان واضحا جدا أن هذا ما سيحدث صبرنا خمس سنوات عبثا ! أحيانا أقول لو كنّا انفصلنا من البداية ، لو أن دينيز لم يعرف أمه أبدا ، لو أنني لم أدخل مجال السياسة و أتعرف عليها الإطلاق.." كان منفعلا بعض الشئ لأجل طفله و لكن انفعاله لأجل نفسه كان كله لأجل استعطافها فقط فهو تزوج من أجل هذه المرأة لأنه يعلم أن ميرا لن تقبل به و بعد كل هذا الوقت عندما وجد أنه لم ينسَ و أنه فشل في زواجه لأنه لم يتخطى شعوره ذال بأي شكل من الأشكال قرر أن يحاول الحصول عليها مجددا على الرغم أن محاولته الأولى كلها كانت تنتهي عند نقطة واحدة مباشرة قبل أن يعترف.
" ربما هناك طريقة.." حاولت أن تصلح الأمور بعقل غير مستوعب مجددا
" لا يوجد ربما أيتها الطبيبة لا يوجد ! لو كان هناك كنّا وجدنا طريقة على الأقل لأجل ( دينيز ).." قاطعها نجاد مما جعلها صمتت بحزن فاقدة للأمل
و على ذكر دينيز فقد جاء - الصغير صاحب الأربع سنوات - مسرعا عندما علم أم ميرا بالأسفل " أختي ميرا " نادى بطفولية و براءة و حب غير عالم بما حدث في هذا العالم من شرور و مصائب و ما سوف يحدث..
" حبيبي ، صغيري ، أجمل من الكون أنت يا دينيز " قالت و هي تضمه إلى صدرها و تتأمل ملامحه التي تشبه ملامح والده كثيرا لون الأعين ، الفم الدقيق و الأنف الصغير كان نسخة مصغرة عن والده يحمل نفس جماله الآخاذ بالإضافة إلى روحه المرحة التي لم تجدها عند أي طفل آخر " أهلا أختي ! قد اشتقت إليكِ كثيرا أنا وحدي طول النهار حتى أمي لا أعلم أين هنا و ماذا تفعل " ضمته أثر عندما قال هذا و قبلت شعره الطويل - الناعم ، البني - ذاك و نظرت إلى والده نظره حزينة فبادلها تلك النظرة و قبل أن تستطيع قول أي شئ طرق باب المنزل كالمجانين و كأن القيامة قامت و أحد ما يريد هدم ذلك البيت عليهم
###
" ماذا يحدث ؟ " سأل نجاد بانفعال رجاله الواقفين حول تلك الشرفات التي تحد صالته الواسعة من كل اتجاه " لا نعلم ماذا يحدث عند الباب الرئيسي يا سيدي؟! " أجابوا بخوف " إذا لماذا تأخذون رواتبكم يا هذا ؟" تحول نجاد لوحش قاسٍ ، يفعل دائما عندما يغضب و لكنه كان يخفي كثيرا من القسوة أكثر بكثير مما يظهر .
لم تستطع ميرا مشاهدة هذا الموقف حيث أنها كانت اصطحبت دينيز إلى الأعلى ثم نزلت مجددا لتجد ان انفعال نجاد زاده سوءا و جراحه التي أصيب بها في حادثه الأخير تنزف مثل الأخدود " أخي نجاد " قالت و هي تذهب مسرعة إليه " لا يوجد بي شئ لينتهي هذا الكابوس أولا و لنرَ هذا الأمر " كان يبعدها عن نفسه لأنه يعلم أنه قد يؤذيها في هذه الحالة
كٌسر الباب لينفعل نجاد أكثر و أكثر و تصطدم أعين نجاد و ميرا بالسواد التام - يعني - بفرحات ، لم تستطع ميرا أن تنكر تلك الرجفة التي أصابت قلبها عندما رأته فتلك الرجفة كانت اعلانا صامتا بداخله عن صدق إحساسها ، رغم أنها لمحته لجزء من الثانية و لكن ذلك السواد لا ينسى..تلك الهالة من الأسى و الحزن و الغضب و الدمار و الدم و الرماد التي حوله لها عبق لا ينسى .
فتحت فاها في ذهول للحظات غير مدركة أنهم يصوبون الأسلحة إلى رؤوسهم ، غير مدركة أن قدرها الذي ارتبطت بقدره في تلك اللحظة قد صبغ بلون الدم فعليا و أن الألم الذي سيعيشانه قد كتب على جبينهما منذ زمن طويل.
أدركت أخيرا ما حدث عندما وقف نجاد أمامها يحميها - لطالما فعل - فمن لا يحمي حبيبه من يَحمِ و لكنها لم تكن تعتبره أكثر من أستاذ و معلم و أخ و ليس أكثر من ذلك حتى أنها لم تتعدَ تلك الحدود الرسمية معه و لو لمرة و لكن عين الحب لا ترى ذلك
" انظر يا أخي ما هذا القصر ! انظر إلى الأنوار انها كافية لإضاءة اسطنبول بأكملها و انظر إلى الأثاث و إلى هذا القصر اقسم بأن حتى السلاطين لم يعيشوا هذه الرفاهية " علق عابدين بظرافة مثل العادة
" ايه والله صدقت يا عابدين و لكننا جئنا نحول هذا المكان إلى قبر يا عابدين لأذكرك فقط" قال فرحات وهو ينظر ببروده المعتاد رغم أنه - و إن أنكر - قد علقت عينه على الطبيبة للحظات فنظراتها تلك - كأنها تعرفه - كانت تثير فضوله و تلك كانت المرة الأولى منذ الأزل التي يشعر فيها فرحات بأن شيئا مات بداخله بدأ يعود للحياة رويدا رويدا رغم أنه لم يكن يدرك ذلك بعد

حب ابيض اسود...(الحب القرمزي)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن