طوق العبودية

411 25 11
                                    

"طوق العبودية "

لوس انجلس
العاشرة صباحًا عام 2018
نظر لي متعجبًا من شرودي بعيدًا، أشار بيده أمام وجهي لينبهني.

-فاطمة!   ألم تجهزي بعد ؟ سنتأخر عن موعد إقلاع الطائرة!

أبتسمتُ له بشفاه  متوترتين أكثر ممّا مبتسمتين:

- حسنًا، ثواني فقط!

وقفت أمام المرأة ألقيتُ نظرة ثقة بالنفس وأنا أنظر لثيابي المحتشمة، ثم خرجت شبه مسرعة وأنا ألحق بزوجي.

ما أن جلست في مقعدي داخل الطائرة،  ربطت حزام الأمان وأمسكت بيد زوجي بينما الطائرة بدأت بالطيران… ..

وإذ ببوابة الزمن تفتح و تُلقي بي إلى جوف ذلك الماضي وتلك الحياة المؤلمة والصعبة التي عشتها في ظل عائلة متطرفة الدين ورجعية المباديء التي تكاد تكون بعيدًا عن الدين المتسامح الذي أوصى به الرسول الاعظم (ص).

المكان النجف الاشرف
الثالثة ظهرًا من عام 1995

كنتُ جالسة أستمع لأبي يقرأ القرآن؛  فلصوته صدًا محببًا جميل وجهوري،  أقتربت منه وأحطت رقبته من الخلف بذراعي الصغيرة كما أعتدت:
- أبي أترك ما بيدك وخذني لمدينة الألعاب،  جميع صديقاتي سوف يأخذهن والدهن.
رفع نظره لي و فاجأني التغير في أسلوب كلامه معي:

- فاطمة!   إن ما تقوليه لرجس من عمل الشيطان، الدين الأسلامي حرم مثل هذه الأماكن. 

نظرتُ لجبينه الذي تغضن بالعرق وبانت تجاعيده توسعت عيناه بدا كعيني صقر ينظر لفريسته تأهبًا للأنقضاض عليها، إبتسمت له ظنًّا مني إنه يلاعبني ويمازحني بحركات وجهه.

- حسنًا لنلعب معًا، دعني أجلس على ظهرك وأنت تسير بي كما نفعل دائمًا.

لكن يده التي أمتدت لتهز أكتافي الصغيرة  قد صدمتني و أدهشني ردّ فعله وغلاظة كلماته:
- إيّاك ان تتفوهي بهذا الكلام! 
  تغير والدي وأتبع رجالًا شوهوا الأسلام بتطرفهم،  وكنت أنا ضحية ذلك.
قيدتُ بحبالٍ من العبودية بإسم الدين، أصبحت دمية تحركني مباديء أبي الرجعية، حتى صدقت بداخلي هذه المباديء وتصورت أنها  الأسلام الصحيح.
 

في عام 1999  ظهيرة أحد الأيام
في غرفة الجلوس
بلغتُ العاشرة من عمري وقد مرّ على سن التكليف عامًا، أخبرني والدي أن المرأة عورة يجب الأ يظهر منها أي شيء.

رفعت عينين دامعتين وأنا انظر للنقاب الذي أحظره لي:

- لكن يا أبي معلمتي تقول جائز اظهار الوجه والكفين، وأن الأسلام حرر المرأة من العبودية ورفع من مكانتها وحرم وأد البنات. 

زجرني بعنف:
- إسمعي يا بنت؛  دعك من زمن الجاهلية،  فالنساء مكانهن  في البيت،  كما لا يحق لهن التعلم و الأختلاط مع الرجال في مجال العمل والدراسة، من الغد لن تذهبي إلى المدرسة.

مددتُ شفتي المرتجفتين إلى الأمام، و أنتابتني موجة من البكاء:

- أبي معلمتي حكت لنا قَصَصًا عن نساءٍ في زمن النبي يعملن بالتجارة و  النبي كان يوصي بتعليم المرأة، لاتحرمني من حقي بالتعليم.

أخذ يردد بتذمر:
- معلمتك هذه تشوه الدين الأسلامي بقصصَها.

ذلك اليوم تركت الدراسة وكل أحلامي؛  بسبب أب أتبع رجالًا شوهوا الدين و  جعلوا من الدين ستارًا  يطوق به النساء. 
قد تناسوا إن المرأة هي البنية الأساسية لأجل تكوين مجتمع متكامل،  فكيف للمجتمع أن يكون ذو شأن أن كانت -النساء- أي  النصف الثاني للمجتمع يقع في قعر الجهل. 

وفي عام 2003
عصيرة أحد الأيام

كان هذا يوم زواجي؛  أمسكت بأجنحة الحمائم لأطير معها الى ذكرى ذلك  اليوم.
زوجني أبي لأبن رجل دين  و زوجي كان   طالبًا بالحوزة الدينية آن ذاك،  ، لم ابلغ من العمر إلا الثالثة عشر،    لم يرأف لصغر سني كنت طفلة تتوق لحضن أمها بدلًا من  الزواج وتكوين عائلة بهذا العمر.

بعد إنتقالي لعائلة زوجي أختلطت عليّ الأمور،  كانت عائلة متدينة وملتزمة بالدين لكن رأيت التسامح و الأحترام للمرأة،  أضافة أن بناتهم يظهرن وجوههن و جميعهن متعلمات،  أصبحت  مشتتة ما بين مباديء  أبي وبين مباديء زوجي وأهله. 
على يدّ زوجي تعلمت معنى الدين الأسلامي الصحيح،  أنه الدين الذي رفع من مكانة المرأة،  فهي تلك التي تقف مع الرجل لتبني المستقبل،  و ضروري تعليم النساء لأجل خلق جيل متكامل من كل النواحي.

تغيرت حياتي؛  عدت للدراسة و أكملتها، أرتدي الثياب التي تناسبني كمسلمة لكن دون مبالغة وتطرف.
  أنا الان مهندسة في احدى الشركات في أمريكا ، وزوجي شيخًا وداعيةً للأسلام،  خاصمني  أبي بعد أن تمردت  جميع مبادئه،  وها أنا اليوم أعود لبلدي لأرى أبي المريض.

عام 2018 مساء نفس اليوم
في أحدى المستشفيات

عدت من ذكرياتي  وهبطت طائرتنا و ذهبنا من المطار إلى المستشفى. 
أمسكتُ مقبض الباب وبتشجيع من زوجي، دخلت لغرفة الأنعاش لأرى أبي شاحبًا وقد أحاطته أشباح الموت،  فتح عيناه ألآتي فقدتا بريقهما لتلتقيا بعينيّ، رأيت فيهما  نظرة أعتذار،  فأهطلت مقلتيه دموعًا لتسقي صحراء وجنتيه القاحلة، شددت على يديه وهمست له:
- لقد سامحتك يا أبي،  فسامحني لأني كسرت طوق عبوديتك.
- آسف يا فاطمة، فهمت خطأي متأخرًا.
أمتدت أصابعي  وهي تمسح الدموع من حدقتيه، وقد ارتسمت على شفتي أبتسامة……
               
                                    تمت
بقلم  وئام علي .

انكسار ناي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن