الفصل الخامس عشر
قطع الهدوء مرة أخرى دخول تليد بكامل هيبته..عليهم وعيناه تحمل بريق غريب لامع لم تراه فيه من قبل..توجه الى أمه مال عليها وضم رأسها التي رفعتها اليه..فطبع قبلة على جبهتها وهو يقول بهدوء..
"صباحك رضي يا ست الكل"
ابتسمت أحلام برضي حقيقي وهي ترد صباحه بسعادة:
"صباحك فرحة وهناء ترافقك من قلبي دائماً يا رجل أمك وسندها الدائم"
نظرت من خلفه تبحث عن سر شقاء إبنها وسعادته سوياً وهي تقول:
"أين عروسك..ألم تستيقظ بعد"
ضحك تليد بتوتر مرغماً وحاول أن يداري تلك المشاعر الغريبة التي حركتها فيه كلمة أمه (عروسة بعد سنوات من عذابهم سوياً..وكم كانت محقه بها) عاد لوقاره..وهو يقول بسكون:
"تقصدين زوجتي..أي عروس يا أمي بعد سنين من الزواج!!"
تنهدت أحلام بلوم وهي تنظر له رافعه حاجبيها تخبره:
"لا هي عروسك..في نظري الى ان تبشرني بحملها أول طفل منك يا سيادة الصحفي"
قاطعت أثيلة حديثهم قبل أن يجيب أمه دخلت بإرتباك مطرقة الرأس بوجنتين مشتعلتين بشدة وكم كانت مكشوفه جداً بخجلها..وارتعاش جسدها الغريب..مد ذراعه اليها وسحبها الى جانبه عندما مرت بجواره وحاوط كتفها بتحفظ و قال مبتسماً لأمه:
"قريبُ جداً أمي..أتعشم في ذلك"
قطعت هدير حديثهم الذي لم تفهمه أثيلة وهي تضحك بصوت رنان قائله:
حديثكم ذكرني بإحراج زوجتك لزوجة عمك بالأمس عندما حاولت ان تقلل منها في مجلس النساء لتكون الضربة القاتلة لها من زوجتك وهي تخبرها..بخوفك عليها من مخاطر الإنجاب بل وحطمت غرور عواطف كلياً عندما إدعت الخجل وهي تسألها الدعاء لها بحمل طفلها منك الذي تتمناه أكثرمن أي شيء بالدنيا."
أشاحت أثيلة بوجهها وهتفت بغضب وخجل للغاية:
"الله يخربيتك يا هدير..يا حمقاء ما الذي ذكرك بهذا اأامر والأن؟؟"
نظر تليد طويلاً لجانب وجهها الذي تشيح عنه فهمس لها بصوت أجش صادق بعد أن رأي إنخراط أمه وهدير في الحديث بعيد عنهم:
"وقحتي الصغيرة هل تتمني حقاً طفلي وتطلبين من الحريم الدعاء لك"
عضت أثيلة على شفتيها قائله برقه:
"انا لست وقحة أرجوك توقف..كان رد فعل لحظي على جنون تلك المرأة.."
شهقت أثيلة وحاولت التراجع عندما إمتدت يده من خلف ظهورهم تدعب خَصرها بوقاحه..نظرت الى وجهه الهادئ ولم يتخلي عن وقاره لحظة بذهول وكأنه لا يتلمس خَصرها بحميمية مهلكة..مال اليها يتنحنح بخشونة وأخبرها هامساً:
"تمالكي أعصابك..وتصرفي بطبيعية يا أثيلة المكشوفة لكل من حولك..حمرة خديك كأنها إعلان وقح عن كل ما حدث بوضوح..انتصبت من جانبه منتفضه وإبتعدت عنه هاربه..فجلبت أنظار أحلام وهدير التي تعلقت بها بتعجب..
ارتبكت للحظات ولم تجد ما تخبرهم به عن سبب انتفاضتها رفع تليد حاجبيه بشقاوة متحديه..انها تستطيع ان تبرر موقفها..عندما زاد ارتباكها أنقذها كعادته وهو يقول بجدية:
"لقد إشتاقت أثيلة لوتين وتريد رؤيتها أين هي"
ردت أحلام..ولا تستطيع محو إبتسامتها السعيدة والمتعاطفة مع زوجة إبنها فأخبرهتا برفق تدعي عدم انتباها لم يحدث:
"هي في الحديقة الأمامية حبيبتي تستطيع التوجه اليها ونحن سنلحقك على الفور ."
وكأنها كانت مهربها الذي تريد اذ انطلقت دون تباطؤ لحظه واحدة مندفعة الى الخارج مباشرة..نهض تليد هو الأخر مودعاً وهو يقول بنوع من المدارة:
"أمي لا أريد لأي أحد أن يصعد لغرفتي كما طلبت منك سابقاً..هناك بعض الأوراق الهامة ولا أريد لأحد العبث بها"
أومأت أحلام بهدوء دون رد..لن يخاطر أبداً بأن يكتشف أحد..ما حدث ليس لشيء يخجل منه..ولكنه فقط يصر أن لا يهتك أحد ستر خصوصيته أبداً حتى وان كان أزال بنفسه شرشف الفراش وأخفاه في شنطة سفره..أوقفته أحلام وهي تقول:
"أين ستذهب الأن إن وزوجتك لم تتناول شيء من الأمس وأنا قد جهزت لكم الإفطار بنفسي بناء على طلب زوجتك"
نظر الى ساعته و أخبرها بتعجل:
"ليس لدي وقت أمي وفود العائلات المهنئة بالتأكيد بدأت في الوصول الى (المقعد الكبير ) وانا وعدت حسن بالحضور معه مراسم الترحيب كامله"
وقفت أحلام وقالت بحزمها وسيطرتها الأمومية المعتادة:
"لن تخرج من هنا إلا بعد تناول افطارك إعتبره أمر يا سيادة الكاتب أم ستكبر على أمر أمك"
هز تليد رأسه مبتسم وهو يقول مدعي الاستسلام:
"أمري لله يا أحلام..ولأصدقك القول أنا أشعر بالجوع الشديد يكاد يفتك بمعدتي"
اقترب منها وقبل أعلي رأسها بحنان قائلاً:
"اشتقت لطعامك جداً أمي ولن استطيع ان أقاوم تسلطك"..
رفعت أحلام يدها التي تحمل خيوط الزمن المتعاقبه تربت على كتفه الصلب. شعرت بالرضي اخيراً وقد عاد تليد القديم كلياً لها..لم يعاتبها عن ما حدث بكذبها عليه وقتها بل ورفض الاستماع الى تبريرها..دائماً كان يكتفي بقول شديد الغموض لم يحن وقت العتاب بعد..ولكنه أبداً لم يجافيها وأبداً لم يبتعد عنها او عن شقيقته..قطع رنين هاتف هدير حديثهم وهما يسمعان صوتها يرد بخفوت رقيق مبتسمه:
"مرحباً أصيل..أه نعم جاهزة من الأمس لا عليك لم يزعجني الأمر بالطبع..هل نسيت أني معالجة نفسية وأقدر الحالات الطارئة..في حفظ الله أنتطرك"
رفعت عيناها تخبر كليهما:
"أصيل سيأتي بعد دقائق..الى خارج المنزل ليصطحبناً انا ووتين"
أومأ كليهما بموافقه..وراقبا انسحابها..الى الخارج لتستعد كما يبدو:
بينما هي شعرت بالخوف الشديد دون سبب والأغرب لاشتياقها لأصيل بعد فراق يومان..لما تشعر كأنهم عامين..لقد سافر أصيل قبلاً لأسابيع عدة ولكنها لم تشعر بكل هذا الحنين اليه..توجهت للغرفه تلملم أشيائها هي وإبنتها وابتسامة مشجعه واعدة همست لنفسها:
"لا تتخادلي..او تَجبُني يا هدير نحو هدفك انه والد طفلتك وحب حياتك وستكسبيه رغماً عن أنفه وأنف نعمة الشامتة"
......
من الأمس وهو يقاوم أن يأتي الى هنا,يسلح نفسه بكل قوة يستطيع الحصول عليها ليقاوم هذا الخاطر الذي أصبح يعصر قلبه وعقله,تواجد إمرأته وإبنته جواره وتحت ظلال عاطفته دائماً..كان ينازع منذ الأمس وصوت هدير الذي حمل بين طياته خيبة الأمل حتى وإن لم تُظهرها له أحزنهُ..ولكنه لم يتغلب على القدر وخاطر بأن يقابلها هي سبب وجعه الكامن لسنوات,من قهرت رجولته وعرته أمام مرآة حقيقته,خانع لئيم,ضحي بها من أجل نفسه ولم يرحم طفولتها وخضع لعادات قاتلة أجهضت طفولتها وقتلت بُرعم مزدهر لصباها..حبيبته وإبنته الأولي,شقيقته بل كانت شق من روحه!!
وها هو الآن يقف على بوابة بيتهم الخارجية,ينظر لها بكامل بهائها بذلك الجلباب الحريري الناعم بلونه الرمادي ولفة وشاحها الحريري يماثل لون المرجان كما اتفق,فتشرد بعض من خصلات شعرها وتلتفت حول وجهها المشع تعطيه هالة من السحر والرضا..راضية سعيدة وضحكاتها تتعالى بصفاء مع إبنته..
هل عاقب نفسه ومعشوقته وقطعة من روحه وقلب حبيبته متمثلة في وتين القلب دون أسباب ؟!
"أصيل أتي عمتي"
قالتها وتين لتلفت الأنظار التي تعلقت به..لم يمنحه الوقت الهروب من المواجهة كعادته بل تسمرت قدماه بشوق سنين مضت,لا يجد قدرة له على نزع حدقتيه عنها,بل عينيه تطوف حول وجهها بصفائه وبهائه دون سيطرة..يتفحصها كلها وعينيه تحتضنها دون أن يتجرأ على التقدم خطوة واحدة ليدفنها بين شقي روحه ليكتمل أخيراً الجزء الناقص عندما نزعها والده منه وبسببه هو دون قدرة له على الاعتراض .
تسمرت هي الأخرى للحظات,عيناها المتوسعة تبرق بها دمعة وحيدة بلمعان غريب..بادلته النظرة بنظرة والخفقة بخفقة والوجع بوجع..حرمان من حضن آمن لفظها لأعوام وإن كانت رفضته قبلا. ولكن هم من بدأو الأمر!!
( والبادئ كان أظلم,متجبر,على ضعفها وقلة حيلتها وقتها )
انتصبت في وقفتها تعدل من وشاحها جيداً ونظرت له بعيون جامدة شامخة..تركت وتين من بين يديها,فإنطلقت الطفلة اليه مباشرة,فمال بجسده يحتضن إبنته دون تحفظ وقبل رأسها ووجنتيها وأخبرها ببضع كلمات لم تصل اليها ثم إعتدل بعدها وأمسك بيد إبنته وعاد بنظراته اليها..وجهه كان يحمل ألم عظيم متعاقب,لم يكن أبداً أصيل أخوها الذي تعرفه..
إبتلعت ريقها المتوتر عندما رأته يهم بالمغادرة,ففكت عقدة يديها بخيبة لم تعلم سببها!! ما الذي كانت تنتظره منه ؟!
وما الذي تريده منه ؟! حضن حنون دافئ وإحتواء أخوي كالذي تراه بين تليد وهدير ؟!
صوتها تحشرج جداً وقالت بغصة أنين بذكريات ولّت:
"هل مازلت تسهر أنت وأبي ليقص عليك حكاية القدامة في ليلة شتوية باردة وهو يُشعل (المنقد) بنفسه ويعد عليه القهوة العربية بعد أن تأتي أمي بشرائح ( الفايش) والعسل والسمن ؟!"
تسمر للحظات في مكانه,هدر قلبه بجنون,و نبضاته تعالت بأنين ذكريات كان يشاركها إياها عندما كانت تندس بينه وبين والده,ويقوم النزاع بينهم بمشاكسة منه لها..ليجعلها تنتصر وهي تندس تحت جناح والده .وكان صوته جامد كجليد حاد قاتل له قبلها عندما قال:
"نعم مازلنا كما نحن كل ليلة ويوم"
أغمضت عيناها تقاوم دموعها المتوجعة ونزيف روحها,وصوتها كساه الالم عندما سألته مرة أخرى:
"وهل وتين تشاركك ؟! هل مازلت تصر أن القهوة مضرة لها ؟! هل يزعجك تعلقها بوالدها ؟! مازالت تغضب ووجهها يتغضن بالرفض عندما يضمها هي ويتجاهلك ؟!وهل مازلت يا أصيل تمثل الرفض لها وينكشف كذبك وجمود قلبك,عندما يسرح أبيك في الحديث وينساها,ولكن عيناك أنت التي تحاوطها,وتسرع اليها بحنان تضمها لصدرك وتحملها الى غرفتها بنفسك,تهمس لها في أذنها انك ملاكها الحارس الذي ستنقذها دائماً ؟!"
تسارعت أنفاسه وعاد ببطء درامي على عقبيه ونظر لها بذهول ولم يجد قدرة على الرد..مازالت تذكر كل شيء,تخبره عن وتين وهي تقصد نفسها..صمت ليسمع صوتها تسأله بتأوه:
"هل مازلت تهرب بوتين الى تلك الغرفة المهترئة من الطين في ( الزرعة البحرية) من المنزل تلاعبها وتصنع لها عرائس من التراب,وحُلي من البوص,وتقرأ لها لساعات عن حوريات البحر اللاتي يحملن لون عينيها وتغيظها بأنها جنيه وليست من البشر,ولكن أباك عطف عليها وأخذها ليربيها ؟!"
ضحكت بمرارة وعيونها تزرف غلالات متعاقبة وتردف بسخرية:
"الحمقاء..كانت تصدق كذبتك تماماً يا أصيل"
رفعت عيناها ببؤس تسأله:
"هل مازلت تخاف أن يري أحد حنانك أو لعبك معها فيتهمك بالنقص في رجولتك,ويشكك في قدرتك على قيادة العائلة من بعد خطاب ؟!"
تجمد أصيل وهي تكشفه أمام نفسه وتُبسط حقيقته التي لم يستطع أن يفهمها أو يعرفها أحد يوماً..حاول التسلّح بجموده المعتاد ونظر لها بعينين نافذتين وهدر بها وقد كشفت زيف صرامته عندما قال:
"كفي توقفي !!ما الذي تحاولين فعله تحديداً بإثارة ذكريات لم أعد أذكرها"
عم سكون جزئي بينهم رفعت عينيها التي تجمدت وأخبرته بصوت هادئ تماماً بنبرات غريبة:
"أكملتم حياتكم يا أصيل ولم تلتفتوا للوراء أبداً بعد أن تخلصتم مني !إن كنت أنت نسيت فأنا لم أنسَ قط.."
هم أصيل بجموده مرة أخرى للمغادرة دون كلمة واحدة فشيعته بعينيها بمرارة..وقلبها طعن بخنجر سام أشد وطأة,وأقسي بكثير من ذلك الخنجر الذي ذُبحت به سابقاً..إستدارت هي الأخرى وكادت أن تعود لبوابة المنزل الداخلية,عندما وجدت تليد يقف بها متجمد الملامح,عيناه تبرق بغضب أعمي ووعيد قاتل..فتح ذراعيه بدعوة صامتة اليها,قبل أن تأخذ قرارها في الهروب اليه كان صدرُ آخر وحنان أسمي وشوق جارف !وقلبُ أخر نازف متوجع بأنين ذابح مثلها زرعها في ثنايا روحه وإعتصرها كإعصار جارف لكل حصونها..أخبرها بصوت مستنزف ساخط:
"تباً لك ولجمودك !تباً لتلك الدماء القاسية التي ورثتيها منا !!إشتاقتك يا شق نفسي,وافتقدتك يا وجع روحي!!
أه يا قرة عيني أنا قبل أن تكوني روح خطاب..جفائك زاد يا ابنة أبي"
يدها تعلقت به كغريق فقد كل أمل في النجاة,وفاجئته يد بحار خرج من الأساطير الهلالىة من بين أمواج البحار العاتية لينتشلها من الضياع..بكائها زادت وتيرته,صوت وجعها وشهقاتها المتقطعة التي جعلت الحجر يتلوي في موضعه كانت تصم أذان كل محيطهم..إعتصرها أكثر وحملها كطفلته الصغيرة حملها ولم يجد قدرة او هوادة أن يبعدها عنه للحظة واحده,زرع بدل دموعها قبلات أخوية متلهفة حنونة عوض نفسه سنين من الحرمان..عاد وأمسك برأسها ودفنها بين أضلعه وهدر بها:
"لا لم يعد أي شيء كما كان! لقد ذهب الحب والحنان والأمان الذي كان في بيتنا معك"
تأوه أكثر بصوت مكتوم وأغمض عيناه بتشدد وهو يقول:
"لقد ذهبتي أنتِ وأخذتي كل فرحة وسعادة معك,ولم تتركِ بين ربوع دارنا إلا الوجع والأنين,كلنا نعاني من بعادك يا شق روحي"
يدها إلتفت حول عنقه تتعلق به كتعلقها القديم..وأخبرته بحشرجه مريره معترفه:
"وأنا افتقدت حنانك جداً..مشاكستك الخاصة جداً بي..حتي تطرفك وجنونك الذي كان يغضبني ويصيب قلبي بالحزن بكسرك لخاطري ( توحشته ) جداً جداً..يا أصيل"
ضمها أكثر وأكثر اليه يعتصرها بين يديه الحنونين..ولا يجد قدره على الرد لدقائق طويله..لم يستطع الإنفصال عنها..كل ما يدور بخاطره شيء واحد الهروب بها من هنا مرغمة يعيد زهرتهم التي قُطفت قبل الأوان الى مكانها الطبيعي بينهم..يرويها من حنانه ويرتوي من وجودها تحت جناحه ورعايته..يكمل شقه الذي نقص بإبتعادها عنه..
رفع وجهه عنها رأي وجه تليد خلفها مباشرة وكل خليه فيه تقف متحفزه..يحتويها ويدعمها بصمت..وهي في أحضانه هو من أحق بيها منه ؟!
أغمض عيناه بيأس صحح لنفسه..بل هي أصبحت مِن أملاك تليد لاغيره ومباركة خطاب..هو وحده منقام ببناء أثيلة الجديدة بقوة غريبة تنبض من كل خلية فيها..أثيلة التي عرفها وإكتشفها من خلال مراقبته الخفيه لها..
كان انهياره بمقابلتها التي لم يكن أبداً بإستعداد لها أكبر من تحمله..انفصل عنها بشكل سريع قاتل لكليهما..إبتعد عنها خطوات للوارء بشكل سريع..وجهها يتغضن بوجع غير مفهوم..هز رأسه برفض لم تفهمه..إستدار على عقبيه وخطف إبنته وحملها بين ذراعيه يضمها بغرابه..
شهقت أثيلة من إنفصاله مستنجدة وشعرت بالخواء والفراغ لقد فقدت ذلك الدفء سامي المشاعر بأحساسيس لم تفهمها..استنجدت به تناجيه الرجوع لسد تلك الفجوة التي كانت تحاول إغلاقها لسنين وعاد هو عبر حضن واحد لفتحها:
"أصيل..اخي"
لم يسمعها ولم يبدي ردة فعل واحدة في التوقف او الرجوع اليها راقبت هروبه بعين دامعة..توقفت هدير لثوان متردده في إختيارها..نقلت بصرها بينهما بألم على كليهما..لمن تبقي ومن تدعم..
أشار لها تليد بعينيه أن تلحق بأصيل وإقترب لضم جسد زوجته المرتجف من الوراء ليدعمها من سقوط وانهيار محقق همست بضياع وهي تتشبث بذراعيه الملتفة بحنو حولها:
"لقد هرب مرة أخرى يا تليد..هرب وتركني وإبتعد..لماذا؟؟ ما الخطئ الذي ارتكبته ؟؟..انا لا أريده ان يتركني الان أرجوك إسأله ان يعود"
كان تليد يتأمل الموقف دون حديث..راقب كل انفعالات صديقه..ومواجهته اخيراً بأخته..التي كان يتهرب منها لم يستطع ان يلومه او يحكم عليه بإجحاف وجفاء ليس به...فرجوعه اليها وكل ما قاله مر بعقله كلمة كلمة فحلله بأدراك:
"أصيل تائه..ويتألم دفع ثمن فعلته الهوجاء وحمل نفسه كل الذنب لخطط القدر وعادات رضخولها جميعاً..ولكنه يظن نفسه يدفع الثمن..فأصيل وحده هو من حوسب من الجميع وتحمل كل الذنب بضمير مثقل يشطره لنصفين متنازعين همس بجانب أذنها يخبرها بصوت أجش رخيم مهدئاً:
"إلتمسي له العذر حبيبتي..لقد أخبرتيه أنك تعلمين طبيعته..لم يتركك ويبتعد بخاطره..امنحيه الوقت ليسترد روحه ويستوعب ما حدث..أعدك أنه سيعود يطلب ودك بنفسه"
استدارت بجانب وجهها تراقب ذلك الحنان والوعد الصامت والثقة في عيناه أخبرته بصوتِ طفولي مستنجد:
"سأنتظره..كان يفعل دائماً هذا بي يغضبني ويعود يطلب ودي..تليد أخبره أني أسامحه..أخبره أني أريد العودة لأرضي التي إنتُزعت منها..أحتاج ذلك الدفء منه هو بالذات ليغمر البرودة التي أصابت قلبي لسنوات"
ضمها مهدئاً وحاول أن يخرجها من وجعها وهو يستدير بها الى داخل المنزل..وقال بغيرة تسللت الى قلبه مرغماً:
"وأنا..يا بحرية ماذا كنت لسنوات؟؟ ألم أدفئ قلبك ؟!"
تسمرت مكانها على أول درجة من السلم وإبتسمت بشجن وهي تسحب إحدي يديه ووضعتها على قلبها مباشرة قائله بإعتراف قاتل جداً وخاص جداً جداً:
"أنت كل شيء..أنت تسكن هذا فأنا جُزءاً منك وأنت كُلي.."
قال بصوت مبحوح ذاهل:
"أثيلة..حوريتي البحرية ."
قاطعته وهي تكمل مستسلمة:"أنت حبيبي أنا..ولكن هو أخي أصيل ملاكي الحارس كما كان يدعي حتى وان لم يفعلها أبي لوقت طويل من طفولتي وشريك ألعابي الذي لم يعرفه احد أبداً إلا أنا"
كان ينظر لها بعيون مفعمة بعاطفه أخرى جديدة..اعترافها المستمر يذيب أشياء وأشياء من جليد روحها..ينصهروا كما ينصهر هو معها وفيها..ضمها أكثر تحت جناحه وكله عزم على إعادة الجزء الذي نقص فيها لتحصل على توازنها..ان كانت منحت أصيل مسامحة لم يطلبها..يجب ان ترضخ أخيراً لتقابل الأخر المعذب بطلب غفرانها ( خطاب)؟!!!!!!
........................
سبقها الى شقتهم العلوية بصمت ولم يتبادل حتى السلام مع أحد وحجب نفسه كلياً عنهم..تنهدت بتعب وحاولت شحن طاقتها لم عزمت عليه..تبعته سريعاً وحاولت اللحاق بخطواته..أوقفتها فاطمة وإنتزعت منها وتين بصمت..وقالت بحزن عاصف:
"هل قابلها؟!"
تنهدت هدير وأخبرتها:
"نعم ورغم أنها لجأت اليه وانهياره معها إلا أنه هرب بجفاء يا عمة كعاداته"
رتبت فاطمة على كتفها وهي تقول بجدية:
"أتركي وتين معي الليلة واذهبي اليه وحدك أنتِ من تستطيع مؤازرته حبيبتي"
ابتسمت هدير اليها بود ممتنة وقبلت وجنة إبنتها:وتوجهت الى السلم بإندفاع سريع للذهاب اليه"
وفور ان دخلت الى غرفتهم اذهلها ما رأت..كان أصيل يجلس على الفراش عاري الجذع إحتضن رأسه بكفيه هز رأسه برفض..رفع وجهه بملامح قاتمة وعيناه طرفت بدمعة وحيدة متحجرة بشموخ رجالى وكبرياء عكس صوته الذي أتي خشن رغم إستجدائه بها لتنقذه من ظلمات روحه أجفلها عندما قال مباشرة:
"أحتاج الشعور بك بين ذراعي..أريد الشعور بإمرأتي تداوي جروحي الغائرة..أن أضعف فيكِ دون حذر وألقي همومي عليك..ولكن رجولتي التي دهستيها يا هدير تأبي أن أطلب منك أو أستجدي عاطفتك"
اقتربت هدير وسقطت على ركبتيها بين ساقيه وأمسكت بمعصميه بين يديها المرتعشة لتخبره ببحه غريبة حنونه كأم تحتوي طفلها العاق:
"أصيل يا إلهي..أنت لا تحتاج لطلب يا سيد الرجال بل أنا من تعشقك و تحتاج أن تضمها تحت سقف حمايتك انت هنا لك دائماً وأبداً.."
نظر اليها بعينين غامضتين عاصفتين مهيبتين بتلك الدمعة العالقة في حدقتيه فخفق قلبها تأثراً وهي تشعر به تضخم بين اضلعها يدوي بجنون يطالبها بإحتوائه رغم عنه..
إستطالت تستند على ركبتيها وضمت رأسه التي مالت على صدره بغير وعي منه وأخبرته بتأوه عاشقة دون تحفظ:
"ضمني أصيل..وإلجأ الى يا كل روحي وخذ ما تريده دون إستئذان مني..أشعر بقلبي حبيبي الذي يناديك الرحمة في حبه.."
طوق خَصرها بذراعيه ورفعها عن الأرض..زرع رأسه بين شقي صدرها المرحب بأوجاعه..
همست بضياع تحاول ان تتلمس طريقها نحوه بحذر حتى لا يهرب منها او يفيق حتى من طلب احتياجه:
"انا هنا دائماً طوع يديك ولك وحدك..لم أدهسك أبداً متعمدة ولم أجافيك قاصده..ولكني كنت اتعذب من بعادك يا أصيل"عادت تتأوه من تشبثه القاتل بها وقالت مرددة طلبها:
"ضمني حبيبي أعدني الى وطني فيك..وعد لتزرع جذورك بي دون خوف او قلق أنا سترك وملجأك الدائم كما انت حمايتي وعزتي وقوتي التي أستمدها منك"
من وسط ظلماته كان يتسلل الى روحه صوتها المترجي الصادق بعينين مغمضتين..وصدر متسارع الأنفاس..عندما طال صمته حاولت تحريك رأسه ولم تنوي الانفصال عنه..ولكنه كان الأسرع في تشبثه بها..وجذبها الى صدره بقوة كادت ان تحطم أضلعها..ذهلت للحظات معدوده وهي تري تلك القوة الهائلة المتحفزة التي تخرج من كل جزء في جسده..تراجع بها بقوة الى الفراش ألقاها وهو يعلوها ويحشرها بجسده..
اتسعت عيناها وهي تشعر بجنونه العنيف المنفلت لم يكن يتمهل في إمتلاكها ولم يحاول حتى ان يجعلها تستجيب له ويصهرها معه..بل كان يخرج أهات غريبة تأتي من عمق سواد روحه القاتله..جسده القوي كان يرتجف فوقها ذبذباته تنتقل منه اليها فتزيد من إرتجافها عيناه كانت تستنجد بها بتخبط ان تفهمه دون حديث ان لا تخافه ان استسلمت..يستجديها الرحمه ان لا تصده ببرودها القاتل..لفت يديها تطوق عنقه بقوة تتشبث به همست بإسمه مشجعه بعيون مبتسمة مشتعلة أخبرته هامسه:
"انا ملكك وحدك..أحبك أصيل كنت ومازلت وسأظل الى أخر يوم بعمري أحبك وأنصهر لك وحدك وبين عاطفتك"
كان يزيد من ضمها اليه بإنفلات حتى لم يعد هناك مجال للمزيد بينما..شفتاه تهمس بتوجع مرير بأسمها..
إرتجاف شفتيها ودموعها تنزل تغرق وجهها وهو يخبرها بأهات قاتله صارخا بوجعه بيأس دون قدره على التوقف:
"أنتِ إمرأتي أنا..ملكي وحدي..ست البنات وسيدة قلب"
كانت تدور وتدور داخل دوامة جروحه المظلمه تشاركة الألم بالألم والوجع بوجع تمنحنه دون قدره على التوقف وترفض حتى ان تطالبه بالأخذ لم يكن لقاء زوجي او مجرد علاقه عابره بل
كان أشبه بلقاء حاجة متبادلة..هدنة إحتاجها كلاهما من صراعهم الطويل..بلسم منه و اليه لتشفي به روحه..عقار تسكن به ألمه وتبدأ مع أول رحلة في علاجه الطويل..
بعد وقت انفصل عنها ونظر لها من علو بعينين محمرتين ملتهبتين..فغر فاهه بلهاث ونظر الى كدمات جسدها المتفرقة..بذهول انتفض عنها مبتعدا وتخلل بأصابعه شعره بعنف..همس بصوت متحشرج مندهش:
"يا ألهي..أذيتك..أنا يجب ألا اقترب منك أبداً..يبدو اني لن أستطيع التوقف عن نشر الضرر لمن حولي"
كانت الأقوي والأسرع وهي تقفز من إستلقائها تتشبث بكتفيه..أخبرته بشراسه:
"إياك ان تبتعد وتتركني يا قاسي القلب..لم تؤذيني أبداً..ولم يطلب أحد رأيك فيما مر بي الأن..منحتك حقك راضيه ولم تجبرني على شيء يا أصيل"
إلتفت ينظر اليها بحيره عاجزه لم يستطع حتى ان يتصدي لها كالماضي او يتعمد جرحها لتبتعد عن طريقة..
عندما شعرت بضعفه مالت بجبهتها ووضعتها على كتفه..وأخبرته بنعومه ودلال مفاجئ:
"هل تضمني أنت هذه المره ،.أحتاجك وبشدة يا حبيبي"
لم يبدي أي رد فعل للرفض بل ضمها بقوة وتنفس أنفاسها بعمق وأخذها بين ذراعيه وتراجع بها الى الوسائد ملس على شعرها برتابة..أغمض عيناه وخمدت روحه المشتعلة فقط إستسلم الى إحتياجه اليها...
....................
ليلاً
سارعت أثيلة تقفز من مقعدها تبتسم ابتسامه بهيه جميله وهي تمسك بين يديها إحدي الصواني الخاصة بصنع الحلوي عندما رأت..وجه تليد المطل عليها من باب المطبخ يرفع حاجبيه ويبتسم بمودة عندما سمع هدرها تخبره:
"لقد نجحت أخيراً في صنع مخبوز ( الماوي) تذوقه.."
ضحك بخفه وهو يفتح فمه يتناول منها القطعة دون تردد سعيد بفرحتها..وقلق بما هو مقدم عليه من الضغط عليها:
همس برقه تذيبها:
"سلمت يداك يا بهية..لذيذه كصاحبتها.."
ضحكت بجذل وهو تقول بمشاغبة تلتفت لوجه أمه المرحب والمشجع لها:
"لا تصدق الخاله أحلام ان قالت انها من صنعتها..فأنا من وضعتها بنفسي في فرن الطعام وأخرجتها ايضاً:
ضحك بقوة مشارك أمه ضحكتها وهو يخبرها بسخرية لذيذه:
"كم تعبتي حبيبتي يجب أن أحرص على تحذير أمي الرفق بكِ"
غضنت انفها بعبث مازح وهي تقول:
"نعم يجدر بك ذلك وربما تِعنفها فهي حماه صعبة للغايه ربما تشبه (ماري منيب)"
ابتسمت أحلام وهي تقول بتعاطف:
"اعانك الله بني على عقلها..كنت اغضب منك عندما تدعوها بطويلة اللسان ولكن الأن..أؤيدك انها تملك فدان منه..يلقي بكلمات غريبه وعجيبه بغير تحفظ"
قاطع إسترسالهم نحنحة رجولية خشنه تأتي من الفسحة الواسعه داخل الدوار..أفسح تليد مجال الرؤيا لها بتمهل وهو يراقب وجهها بتسلط وتأهب لجنونها الرافض..
عندما رأت من يقف خلفه على بعد خطوات منه يقف بكامل هيبته يناظرها بهيمنته المرافق دائماً اليه ولكن تلك العينان الحنونتين التي كانت تستجديها الرفق بشوقه كانت تخصها وحدها دائماً وأبداً..انمحت ابتسامتها ببطئ وصنية الطعام تسقط من بين يديها..تدوي بصوت رنان بين قدميها وقطع الطعام تتناثر حول قدميها تثير الفوضي التي شابهت الثورة التي نشبت داخله..وجها اخذ يتعاقب عليه عدة مشاعر متفاوتة ومتطرفة بوجع تذكر وألم خيبة وحنين وشوق واحتياج ليعود يحمر بغضب عارم غير متحفظ هزت رأسها بالرفض القاتل صرخت بأنين:
"لن أسامحك يا تليد..أبداً أخبرتك أني سأغفر للجميع..ولكن من ذبحني لا..من كان سبب وجعي وفقداني الثقة وقتلي لا.."
التفت وشعرها المحمر يهيج حولها بثورة متطرفة مثلها فأصبحت كتلة من الجحيم وهي تقول بشرر عنيف:
"ما الذي تريده مني خطاب؟..لقد كسرتني في الماضي وأنا ألجأ اليك..أخبرتك أني لا أريد رؤيتك ولن أسامحك انت وفاطمة ابداً ما حييت لغدركم بي"
انتهى
أنت تقرأ
عادات خادعة
Romanceعادات خادعة ..حكايات وحيوات من قلب البيئة العربية عامة وروح الصعيد خاصة ..تتنازع العادات التى تنمو وتكبر غارزه جزورها عميقه بداخلنا وبين المنادئه بالحرية والعدل وقتل تلك العادات التى تنتهك المرأة .. الحكاية الأولى الصحفي المشهور بمنقذ الصغيرات المنا...