الثالث والعشرون والرابع والعشرون

24.1K 441 8
                                    

عادات خادعة
الفصل الثالث والعشرون
..............كان الصمت الثقيل يسود أرجاء (المقعد ) الكبير..إستطاع كل الحضور سماع أنفاس حسن بكل وضوح وكأنه يحترق حياً..يلهث طلباً للتنفس..عيناه تبرق كالجحيم..ملابسه ووجهه مُغبران بتراب الجبل الذي لم يتخلص منه بعد،عيون أبناء عمه المشفقة على حالته والمساندة لمصيبته وكانوا قد رأوا ما عاناه..وقد هبط مباشرة من حضن الجبل إلي مجلسهم الذي لم يُحل منذ الأمس!!
أغمض أيمن جفنيه غير قادر على رؤية الكسر الذي يصارعه حسن مستتراً كي لا يفلت منه أمام باقي أبناء عمومتهم..كسر تسببت فيه معذبة قلبه..التي كتم عشقها لسنوات خوفاً أن يطولها الأذى..وليته لم يفعل !!ليته حارب قبلاً وأعلن عن عشقه وأجبرهم على جعلها تنتمي لعبائته ..وقد طالها الأذى وألقيت بين غيابات العار محترقة..دون حول لها ولا قوة لردعه؟!
كل يبذل جهداً خرافياً..ليبقي متماسك رغم كل ما سمعه..رغم كل ما تفوهت به من اعترافها..جحيم كان يعانيه وينحر رجولته وهو يتخيل أخر قد لوث براءتها ولكم تمنى لحظتها أن يكتم فمها..يأمرها بالصمت ولقد كان ما تقوله يفوق قدرته على التحمل..ولكنه كان يعلم أنه يحتاج لردع حسن وجعله يتعقل..وكانت نجلاء تحتاج لصراخها والثورة بوجعها والذي يعلم جيداً أنه فقط كان البداية..وينتظره الكثير منها والذي قد يحرقهما سوياً....
بصوت رخيم هادئ كان زين العابدين يقطع الصمت الذي ساد عند دخول حسن فتفلت من بين نبراته المسيطرة غضب ورفض لعصبية بعضهم فقال بحسم:
"هل إنتهى كل منكم من محاولة فرض رأيه وإستعراض عصبيته بأمر بقتل نجلاء؟ دعونا نتحدث ببعض العقل"
فثار أحد الشباب مرة أخرى هاتفاً بغضب محتد:"هذا ليس فرض رأي عماه بل ما يجب أن يحدث"
قطع تليد الذي جاور بجلسته عمه كبير عائلتهم المتشدد رغم هدوء نبراته:
"وأنا أوافقك..يجب قتلها والخلاص من عارها"
تعلقت وجوه الجميع بصدمة صاعقة..فتحفز أيمن وهبَ من مكانه ينوي الاعتراض..فرفع زين العابدين يده يأمره بالصمت..فبحنكتهِ كان يفطن إلى ما حاول إبن أخيه أن يصل إليه عبرإعلانه تضامنه مع الجمع الثائر"
فبادرهم تليد بسؤال بصوت قاتم:"ولكن..هل تريدون حرق دجاجة مسكينة ذُبحت مكبلة دون حول لها ولا قوة؟!!"
فإنتفض أحد أعمامه من مكانه مزمجراً بصوت غاضب:"لا تستخدم تلاعبك بالكلام وتحاول عبر تشبيهاتك الغربية جعلنا ننكس رؤوسنا في الطين..ونتقبل العار بصدر رحب"
رفع تليد ذقنه وهو ينظر إلي عمه بقساوة قبل أن يقول:"أنا لا أتلاعب بشيء بل أنتم من إنتزعت الرحمة من قلوبكم..تريدون عقاب الضحية التي أخبرتكم بنفسي أنها مازالت طاهرة بريئة و دافعت عن شرفكم جميعاً وتحملت ما تلقته من الجميع كعقاب..كتمت أنينها مما تعرضت له..فالصغيرة كانت تعلم ان مجرد التحدث بمصيبتها يجلب لكم العار حتى وإن كانت هي الضحية..والأن بدلاً من أن تحموها تجلبوا لها حقها وترفعوا من شأنها تحاولون أن تجعلوها تدفع الثمن وحدها"
صمت لبرهه قبل أن يردف بنفس الصوت مشدد على حروفه:
"أخبرني عماه إن تعرضت إحدى بناتك لما تعرضت له نجلاء..هل كنت ستأمر بذبحها كما تفعل الأن؟!"
توتر عمه وتعرق جبينه قبل أن يقول وهو يشيح بوجهه بعيداً عنهم:
"أنا ربيت بناتي جيداً..كما أنه لو (إنفلت عيارها )كنجلاء سأفعلها بنفسي"
ضاقت عيني تليد قبل أن يفلت غيظه وغضبه قائلاً بصوت جهوري:
"ونجلاء لم تختلف عنهم..تلقت نفس التربية الصارمة إن لم تكن أشد قسوة من بناتك وهي لم يفلت عيارها بل ضحية..ضحية لجهل ،، العادات التي جعلتها تصمت عن مصابها خوفاً من العار..ضحية لأمها..ضحية لأبوها..ضحية لقسوتكم جميعاً"
إنخفض صوته وهو يهب واقفاً يخبط بقسوة على المسند الخشبي لإحدى (الدكك ) مردفاً:
"أنا أعلم منكم جميعاً بما تعانيه وبما تغلقوا أعينكم عن رؤيته..وقد أبصرت بعيني العديد من الضحايا المشابهات لها وبيدي كنت أكبل الكثير منهن لأمنعهن من قتل أنفسهن..صراخهن مازال يملأ أذني وينحر صدري..من أنتم بحق الله لتقرروا موت إحداهن..وتتركون(العاهر ) حر طليق"
نفرت عروقه وهو يطبق شفتيه بتشدد يراقب المجلس الذي لجم وكأنه عجز عن الكلام قبل أن يقول بتصلب:
"أخبروني بماذا يفيد ذبح المنحور..وهو يفرفر بما تبقي له من روحه لعله يدرك النجاة"
ساد الصمت المشحون مرة أخرى وكأن جميعهم..لم يجد ما يجابهه به..
فقطع الصمت زين العابدين..دب بعصاه الارض بقوة مخبرهم بتشدد:
"أريد..أن أسمع قراركم الان قبل أن ألقي قراري يا عمارية..هل مازلتم عند ضلال عقولكم وضميركم لم يستيقظ بعد؟؟"
الصمت هو ما أتاه رغم ذبذات الشحنات السلبية الرافضة التي تأتيه منهم..قطع أحدهم الصمت يخبرهم وكأنه مازال ينساق وراء ضميره الأعمى:
"كل هذا الدفاع متوقع من تليد عمي..بعد أن أنقذها من يد حسن الذي كان يقوم بالشيء الصحيح"
فتدخل أيمن هاتفاً بجنون إنفلت عقاله:"إلى هنا وكفي..كم تحتاجوا من تأكيد وإقناع لترفعوا تلك الغمامة عن أعينكم ولكي يستيقظ ضميركم الذي مات؟!إنها شريفة وطاهرة..لقد تأكدنا بأنفسنا..هل تحاولوا التشكيك في رجولتنا؟؟"
فهتف الأخر بتحدي أعمى:"اذن أثبت ما تدعيه..نسمع بأذننا ونرى بأعيننا"
شحب وجه حسن تماماً وهو يلتفت إليه يسأله بهدر شرس:
"ماذا تعني يا قليل الشرف..هل أصبحت أختي سلعة لأمثالك يطلب كشف سترها؟"
بفحيح كان الأخر يقول:
"نحن نطلب إثبات عزتها..عن أي ستر تتحدث..وقد أصبحت سلعة مكشوفة لإبن خالتك وما خفيّ كان أعظم"
في اللحظة التالية كان كل ما تلقاه إبن عمهم هجموم مجنون وضرب من كل صوب..لحظات أو دقائق كان المجلس يعم بالفوضي وأيمن يُكبل الأخرويتعدى عليه بهياج منفلت ونعت فظ وسُباب جارح..ورغم محاولة الجميع منعه لم يستطع أحد أن يفلت إبن عمهم من قبضته..هدر زين العابدين بإبنه ليوقف هجومه على الأخر كأنه معمي وأصم عن ما يفعله أو ما ينهيه عنه جميع أعمامه..كان حسن يراقب بصمت ما يحدث..لم يحاول منع أيمن وقد سبقه فيما كان ينتويه..راقب عمه زين وهويحاول حث تليد على لجم أيمن فرفع الأخر ذراعيه بلا إهتمام قائلاً:
"آسف عماه ذراعي تؤلمني.."
وبنظرة واحدة علم جيداً أنه مثله تماماً..يستحسن تعدي أيمن عليه..
وكانت لأيمن الكلمة الأخيرة التي جعلتهم يقفون بتصلب..
إعتدل عن إبن عمه ليخبرهم بأنفاس لاهثه فاقدة للسيطرة:
"هل لدى أحدِ منكم كلمة أخرى أوإتهام لها؟! أنا لن أسمح أبداً بهتكها منكم أو التباري بينكم من نخوته أشد"
صمت لبرهة ليلتقط أنفاسه وشمخ بذقنه ينقل نظراته بين والده وحسن وعمه تهامي الذي يجلس شاحب الوجه وكأنه في عالم آخر هزيل..مذلول..وتائه! ولم ينبث بحرف واحد
تصلب فكه وهو يعلن:"أنا أعلنها أمامكم..لقد أرخيت عبائتي لنجلاء وهي قبلتها أمام حسن في أحضان الجبل ومنذ تلك اللحظه لن أسمح لها بالخروج منها أبداً"
وقبل أن ينطق أحداً كان يقف زين العابدين يدب بعصاه مرة أخرى يخبرهم بنبرات مهيمنة سلطانية قاطعة:"وأنا قبلت طلبك يا أيمن..ومنذ هذه اللحظة إنتهى الحوار في طلبكم وقد قرر إبن عمها مصيرها"
رفع تهامي رأسه أخيراً بملامح مسودة مُشيحاً عينيه عنهم ،، زم شفتيه بغضب ثم ما لبث أن قال بصوت متخاذل:
"لقد جاء اليوم الذي أصبح شرفي مادة للتباري بينكم..تقرروا مصير إبنتي كما يحلو لكم حتى زواجها لا أستطيع رفضه أو قبوله"
صمت تهامي مرة أخرى قبل أن يقول بصوت خفيض مثير للشفقه:
"أنا لن أراجعك يا زين العابدين..وقد عاد الزمن لتكسرني مرة أخرى..ربما أنا أستحق ما تفعله ولكن أنا أطلب الكشف على إبنتي وإثبات طهرها..ليلجم كل لسان وترفع هامتي"
توتر الجمع مرة أخرى قبل أن يقول زين العابدين متجنب إتهامه وفتح جروح الماضي التي لم يشارك فيها أبداً بل ذنوب تهامي وتجبُره على أخرى مسكينة..والعقل يتذكر مجلس آخر مشابه..نُحر فيه عرض فتاة أخرى وكُسرت هامة والدها..وكان تهامي يتبجح بأنها عرضت نفسها عليه وصرح بزهو يصف مواطن جمالها..وقد كشف وجهها وغطاء رأسها..ورغم معرفة الجميع بكذبه وقتها لم يملك الرجل إلا الموافقة مجبراً نفسه وإبنته..على الزواج من تهامي لستر عرضها الذي أصبح علكة بفم بعض معدومي الأصل من مُحبي الفضائح كما يحدث مع إبنة تهامي الان..
هز زين العابدين رأسه بتشنج وخاطبه:
"كم الزمن دوار يا إبن أبي..ربك لا يترك حق غافلة أبداً"
يرفع تهامي يده ودمعة انكسار رجولية عظيمة قاتلة قفزت من عينيه قبل ان يقول بتحسر:"ليس وقت لوم يا زين لقد أدركت عظم جُرمي قبلك"
هز زين العابدين رأسه بأسى ورغم كل جرم تهامي إلا أنه عز عليه إنكساره..همس لنفسه:"متأخراً جداً يا تهامي..ولقد طال الأذى أخرى من دمك بغير ذنب الا ذنبك وحدك"
أشاح زين العابدين بوجهه قبل أن يقول بصرامة:
"هدير تكشف عليها وتثبت عفة الفتاة وأيمن سيعقد عليها..وننتهي من تلك القصة لنلتفت لعقاب المجرم الحقيقي"
بتردد قال أحدهم بمنطقية:
"ولكن يا حج زين هدير منا وإبنة عمها..سيقولون أنها تُداري عليها ولن يُصدقنا أحد"
إلتفت له زين العابدين قائلاً بصرامة:
"وماذا نفعل؟!نجعل رجل آخر يكشف ستر إبنتنا من أجل إثبات ما تريدون"
تعرق الرجل الخمسيني قبل أن يقول بهدوء عكس قلقه:
"إسمع يا حاج..أنا لا أريد الأذى للفتاة بعد كل ما سمعته..بالنهاية أنا لدي مثلها بنات عمومتها وما يطولها بالتبعية سيطول بناتي..ولكن هنا أنا أريد تبرأة نجلاء من أجلها قبلاً منا جميعاً.."
صمت لبرهة يلتقط أنفاسه قبل أن يقول بذات المنطق:
"هدير لن تصلح بل قابلة البلدة وبطبيعة الحال هي تتواجد داخل كل بيت وفي مجالس الحريم..وعبر كشفها عليها سنخرس كل لسان تطاول عليها..ونهش في لحمنا غافلين"
أطرق زين العابدين وعلى وجهه علامات التفكير العميق وقد استحسن الفكرة..
أما تليد كان عقله يتعلق بكلمة قابلة..يرددها بهلع داخلي !!قابلة أرسلها خطاب من قبل..لتسيل شرفه بيديها..قابلة ذبحت أثيلة من قبل حتى أن يعرفها..راقبهم وعيناه لم تكن ترى إلا مراهقة جزعة ضاع طهر عالمها تعلقت على حائط شُرفته وقد إختارت موتها قبل أن تُهتك مرة أخرى على يديهم..لم يشعر بنفسه وهو يصرخ بِجَزَع تلبسه:"لا لن يحدث..يكفيها أذى !"
وقبل أن يسترسل في حديثه كان أيمن يصرخ عالياً:
"أخبرتكم أنها تخصني منذ اللحظة..أياً كان ما فيها هو لي وحدي أتحمله بتبعاته..وإلى هنا سينتهي حديثكم"
إلتفت لحسن يخبره بتصلب:
"حسن..أنا أطلب يد نجلاء منك زوجها لي الان ومنذ اللحظة أنا مالك أمرها..شرفها من شرفي وأنا قادرعلى إلجام كل لسان سيخوض في عرض إمرأة تحمل إسمي"
حين نزع أيمن يده من يد حسن أخيراً بعد إنتهاء شيخ القرية منعقد القران وإعلان نجلاء زوجة تنتمي إليه..لم يستطع أن يصف كم المشاعر المتضاربة التي كانت تموج ثائرة في فؤداه وعقله متساوية راحة..شجن..سعادة..عدم تصديق..وحزن عميق..على زيجته التي تمت بتلك الطريقة كان ينظر لحسن بقتامة..وشجن و الذي أجبره زين العابدين على الجلوس وإتمام العقد..كان متخبط يشعر بالعجز..والمرارة لقد رضخ لطلبه مجبراً..يعلم النزاع الذي يعاني منه حسن في تلك اللحظة والجرح العظيم لكرامته وقد زوج أخته بتلك الطريقة لستْرها فقط..وسط مراسم جنائزية ..كأي مخطئه يتم متاوات جرمها..رفع عينيه السوداوين الملتهبتين بملامح لن يتسطيع ألف فنان ومتباري بالكلمات وصفها..نظر لعمه تهامي الذي يجلس متحامل بشحوبه منكساً رأسه دون قدرة على قول كلمة واحدة يتمسك بأطراف مقعده وكأنه يمنع نفسه من السقوط وسط اقدامهم..
أتاه صوت والده الحازم بوقار يخبر الشيخ بالقول:
"شاكرين لتعبك..سيوصلك أحد الغفر إلي منزلك يا شيخ..وسأنتظر العقود لتسلمها لي بنفسك..بعد توثيقها"
رد الشيخ بهدوء يحترم ما يحدث ويعلم جيداً سبب تلك الزيجة التي تمت بهذه الطريقة لم يسأل..ولم يُبدي حتى إعتراض عند إستدعائه على وجه السرعة..بل أتم ما طلبوه بهدوء صامت:"تؤمر يا حج..زيجة العمر إن شاء الله ومبارك لكم ولكني أريد توقيع العروس"
رد زين العابدين قائلاً:"تمم الان باقي الاوراق ولاحقاً سيأتي أيمن ويأخذ الدفاتر بنفسه لتوقعها"
هز رأسه بتفهم وهو يلملم أوراقه وينصرف:
تكلم زين العابدين مرة أخرى..بنبرة آمرة:
"لن أسمح لأحد منكم أن يفتح الأمر الذي أُغلق..والان أريد أن أعلم سر تلك الإشاعة التي كانت تأكل في تعرضنا ونحن غافلين لينال كل واحد عقابه"
تولى أحد الأعمام الحديث فأخبره بهدوء:
"الأمر وصل لي أولاً..يا حاج عبر إحدي العاملات في المنزل..وقد أوكلت زوجتي لتتقصى الأمر وعلمت أنها تلك العجوز الشمطاء التي تسكن في الخرابة على أطراف أرضنا الزراعية..وقد هجرها أولادها وسجن زوجها منذ زمن"
ضيق زين العابدين عيناه وهو يحاول أن يتذكر تلك المرأة قبل أن يضربه التذكر فتتحول عيناه بحمم وتحمل ملامحه التي خطها الزمن الغضب الاسود قائلاً بنبرة مقتضبة:"هل تعني أم تلك الفتاة التي.."
فلجم نفسه متمتم بإستغفار قبل أن يسند رأسه على عصاه..يحاول التفكير بعمق بحل معضلته ثم ما لبث أن قال:
"المشكلة أنها إمرأة والا كنت أنزلت عليها العقاب بنفسي ."
إشتدت نبراته مرة أخرى وهو يقول بغلظة:"أريد إثنتان من النساء الشديدات ليكبولها .ويذهبن بها..لزوجة جلال رحمه الله.."
نظر له حين صمت يحاول تبين ما يريده عمه بفعلته ولما زوجة عمه جلال بالذات من بين جميع نساء العمارية فأتاه الجواب عبر قول عمه المقتضب:
"أم تليد..هي الوحيدة التي أثق في تصرفها بحنكة لتعلم ما سر تبلي المرأة كذباً..ونعرف منها حقيقة ما رأت"
لم يراجعه أحد وقد إرتضوا قراره..تكلم حسن قائلاً بنبرة متوعدة شرسة قاسية:
"والعاهر عماه ما حكمك عليه؟؟ أم ستمنعني من ذبحه تحت أقدامنا"
صمت زين العابدين مرة أخرى وهو ينظر لتليد الذي تولى الاجابة قائلاً:
"أخبرتك يا حسن أنه ثأرنا جميعاً..ومن تعدي على حرائرنا سيتلقى عقابه لتطمئن..فما سيبرد قلبك قادم في الطريق الان"
ظللت ملامح حسن القسوة المتأصلة فيه قبل أن يقول بجمود ممتعض:
"هل تريد القول أنه سيأتي بنفسه..أم تحاول أن تحايلني"
تأفف تليد بضجر قبل أن يقول وهو يرفع هاتفه يطلب رقم ما:
"نحن لن نلعب هنا يا حسن أخبرتك أنه سيأتي ذليل تحت قدميك..ويطلب الرحمة التي لن ينالها أبداً من أحدٍ منا ..عندما فتح الخط الآخر رد تليد بهدوء:
"نعم ناجي..متي ستصل أمانتي؟؟"
فرد الأخر ببساطة:
"آخر إتصال بيني وبين الرجال كان من ساعة وأخبروني أنهم على مشارف المحافظة"
تشنجت يد تليد على الهاتف للحظات وعيناه الغاضبتين تبرق بشعاع قاسي مخيف قبل أن يقول بإقتضاب:"شكراً..لعونك ناجي"
فرد ناجي بهدوء ونبرته الرخيمة:
"لا شكر على واجب..تعلم أني دائماً في ظهرك..ورغم جهلي بسبب طلبك..ولكني أثق أنك لن تتجني على أحد.."
تمتم تليد بشبه إجابه رافضاً شرح الأمر..
بتفهم كان ناجي ينهي الحديث .قبل أن يقول:
"أنصحك في تكميم أنفك..أمانتك أُرسلت بواسطة سيارة لنقل روث البهائم"
زفر تليد بتصلب ثم قال:"أحسنت إختيار ما يليق به تماماً"
**************
كان ينظر لثلاثتهم وهو ملقى بين أقدامهم بذهول يختلط بالجزع..لقد بدوا له في تلك اللحظة كخاطفي الأرواح ولن يرجعهم شيء أبداً عن التلذذ بدمائه ..
أما هم..فكانوا يكتفون بالنظر إليه بصمت كأنهم يستلذون منذ نصف ساعة مضت بصراخه الذاهل المرتعب كجرذ حقير ..وقع في مصيدة لم يحسب لها حساب ..حاول وليد أن يجد شجاعة واهية يتمسك بها أمامهم ..يبحث عن ذلك الكبرياء المزيف الذي كان يستحضره معهم..منذ أن دخل بقدميه محيط عائلتهم فإعتقد بحماقته أنه يماثلهم هيبةً وأَصل عريق ..بنبرة خرجت مرتعبة رغماً عنه:
"ما الذي تريدونه مني؟؟ستدفعون الثمن غالياً سأبلغ عنكم جميعاً وأسجنكم بيدي"
بدون تردد كان حسن يتحرر أخيراً من جموده الذي يماثل جمود أبناء عمه ورفع سلاحه الناري ببطئ ليوجهه نحو رأس وليد مباشرة وأخبره بصوت حاد كالسيف:
"هذا عندما تخرج من هنا يا عديم النخوة والشرف"
بهدوئه الذي أثار جنونه وجنون أيمن أكثر مما آثارهم الاشمئزاز من ذلك الجرذ كان يقترب منه تليد خطوة وشد على ذراعه ليهمس له وكأنه يروض أحد الوحوش المفترسة:"إتفقنا على عدم التسرع والهدوء.."
جز أيمن على أسنانه وهو يرد بالقول:
"أي هدوء تريده منا !!ما الذي يؤخرنا عن هدر دمائه القذرة..وننهي الأمر"
هز تليد كتفيه..يخبرهم ببساطة رغم النيران المستعرة الخطرة في عينيه:
"مثله من الشياطين القذرة لا يستحقون الرحمة التي تريدون منحها إياه"
هدر حسن بقوة
"أي رحمة تتحدث عنها..سأقطعه إلي أشلاء وأشرب من دمائه.."
هز تليد رأسه نافياً دون أن يبعد عيناه عن العينين الحاقدتين ثم قال بخفوت وكأنه يشرح حالة الطقس:"الموت السريع رحمة له..وهذا ما لا أنتوي منحه إياه بأي طريقة..بل العدل أن يذوق ما ذاقته نجلاء ببطئ ويتجرع من كأس مرارتها رشفه رشفه بتمهل وبعدما يذوق الجحيم الذي كان ينوي أن يرميها به..سأكون أول من يستمتع بدمه يسيل على يديكم"
قطع الحوار دخول زين العابدين كالجدار الصلب..يقف وراء ظهورهم..فرأى من خلالهم..ذلك الذليل المقيد ببعض الحبال..من يديه وقدميه كالذبيحة ويملأه بعض روث البهائم فيثير الغثيان..برائحته فيزيد من إشمئزازه المرفق بالنفور..
نظر له وليد بإرتياع ذاهل وأنفاسه توقفت حرفياً
ثم رفع يديه المقيدة يشير بأصبع وهو يقول بصوت بدا منفر مثير للتقزز:"أنا أستشهد بك يا حاج زين العابدين..هل رأيت أبناءك الهمج يخطفوني ويأتون بي مثل البهائم..وأنا منكم.."
نظر وليد بهلع حقيقي وهو يرى حسن الذي تقدم ووجه له عدة ضربات دامية فوق صدره وذراعيه ووجهه ثم ركله بقدميه ضربات حريصة في مناطق منتقاه بعنايه ..كأنه وازن الأمر ألف مرة وإختار أن يعذبه ببطئ كما نطق تليد..حتى لا يسارع بقتله..لم يتقدم أحدهم رغم يد زين العابدين التي تُكبل إبنه بقوة..عيناه شديدة البأس تراقب إبن أخوه برضى فحاول أيمن للتحرر منه قائلا:
"إتركني أبي..لأخذ حقها منه وأشفي غليل صدري"
فقال زين العابدين بهدوء غريب وتجبر:
"لا..إنه حق حسن وحده..دعوه يخلصه أولاً مثلما يريد.."
كان وليد يرفع يديه يحاول المقاومة بعجزه المكبل قبل أن يستجدي زين العابدين وهو يقول ببهوت ومحاولة أخيرة واهية كريهة:"أنا واقع في عرضك يا حاج إمنعهم عني كانت مجرد نزوة..تهور مني وندمت عليه..وها أنا بين أيديكم سأتمم زواجي منها في الحال وأفعل كل ما تريدون ..وهي لن تُمانع أبداً نجلاء تحبني ..وبهذا نكون سترنا الأمر تماماً بستري لها"
كانت ملامح أيمن قاسية كالرخام البارد..إلا أن فكه المتشنج إلتوي رغماً عنه بشبه سخرية..فنزع يد والده منه بهدوء وإقترب بتمهل خطر ينحني على ركبتيه وهو يقول بصوت بدا باتر كمشرط حاد:"هل خيالك القذر خَيل لك أننا أتينا بك إلي هنا لنجعلك تدنسها بعفونتك مرة أخرى؟!ومنذ متي فاقد الشيء يعطيه..أي ستر ستمحنه لها وأنت لا تملك حتى شرف نفسك"
شحب وجه وليد حد الموت وهو يرد عليه بتعثر:
"إذاً ماذا تريدون..ولما أتيتم بي إلي هنا أنا أطلب العدل..وهي مازالت خطيبتي وسترضي بتمام زواجنا إن خيرتموها"
كان الأمر أكبر من تحمله حقاً..وهو يظهر أخيراً عصى من جريد النخل مازالت أشواكها لم تنتزع بعد وبدون تردد كان يهبط بها على ركبتي وليد ..بملامح ثابتة متصلبة وعيناه تنظران إلي عيني وليد دون أن يهتز لحظة واحدة رغم صراخ وليد الذي إنطلق بدون تحفظ يتوسلهم الرحمة...رفع أيمن رأسه أخيراً عنه يلهث من فرط الانفعال قبل أن ينحني يمسك وليد من أطراف ملابسه بتقزز يخبره:
"أذكرها أو يمر بخيالك الوضيع طيفها حتى في ساعاتك المعدودة وسأجعلك تطلب فقط دقيقة من الرحمة ولن تنالها..من هي التي تراهن على حبها لك..إنها لا تراك إلا حثالة..ثلاث أعوام يربطها بك قيد فُرض عليها ..وتحاول هي التملص منه عبر رفضها لك الذي كانت تفضحه عيناها للجميع وتتقزز حتى من ذكر حروف إسمك وتتجنب نطقها .."
رغم الجروح التي تملأ كل جزء منه كان وليد يتحامل على نفسه وهو يقول بنبرة شيطانية قذرة كفحيح أفعى كبرى ملتوية سامة:
"توهم نفسك..وتمنيها بعد عشقها لي بل سمرائك البشعة كانت تذوب متلذذة بكل لمسة أمنحها لجسدها اليافع المتعطش وهو ما لن تطوله أنت أبداً بإلتفافك حولها"
في لحظة كان يعاجله أيمن بلكمه على وجهه بضربات متتالية حتى أدمى فمه الذي فقد إحدي أسنانه..لم يشعر بالألم في قبضته ولم يشعر بيد تليد التي تمتد تمنعه لم يلتفت أبداً لحسن الذي كان يهجم عليه هو الأخر يمزق ملابس وليد وهو يخبره بنبرة منتقمه خطرة:
"والذي خلق الكون لأجعلك تحمل العار الذي كنت تنوي تكبيلي به..سأذلك أمام نفسك..وأجعلك تشعر بالخزي..وأنت تصرخ أمامي كإمرأه عاهرة عفنة نطهرها من الخطيئة"
في اللحظة التالية كان حسن يجرده من ملابسه كاملة ..أزاح أيمن بحدة وفصله عنه ثم بأحد الحِبال القوية المصنوعة من ألياف النخل كان يهبط بها على جسده يجلده بها دون أن يترك جزء واحد منه لم يدميه دون ذرة رحمة ..والأخر يخور بضعف كحيوان مذلول ضعيف ليس له حول ولا قوة ....
.......
كان زين العابدين يراقب المشهد بملامح متجهمة..لقد أتي خصيصاً ليحد من جنون إنتقام ثلاثتهم..ولكن ما نطق به القذر الأرعن جعله يتراجع مرغماً..ويتركهم يفرغون به كل حقدهم وغضبهم..منحهم زين العابدين ظهره وأخبر تليد الواقف ولم يبدو أي ردة فعل بملامحه المغلقة قال بصرامة:
"أنا أثق أنك أعقلهم حالياً تذكر أن العقاب..على قدر الجرم"
رفع تليد وجهه إلي عمه ليقول بعد فترة طويلة:"إن إستخدمت العدل عماه سيكون عقابه إراقه دمه"
بهدوء وصوت خفيض قال زين العابدين:إذاً إستخدم عقلك..ولا ترمي نفسك وأبناء أعمامك في بركة دماء لن تستطيعون الخلاص من جحيمها عمركم كله"
وعقب كلامه إنصرف مغلقاً باب الحظيرة من خلفه..
................
وفي نفس البقعة التي حُفرت لوأد ضحية دون رحمة كان أيمن وحسن يُلقيان جسد وليد المضرج بالدماء..وبنفس الجمود الرتيب كان يهيلان عليه تراب الجبل المخلوط بأحجاره الصغيرة تاركين رأسه فقط ظاهرة من ذلك القبر الذي دُفن به حياً لم تنتهي توسلاته المتحشرجة وقد أمن أخيراً أن هلاكه أتي لا محالة..لم يلتفت له أحدهم كأنهم ألات يحركها أحدٌ ما دون قدرة لهم للسيطرة على أفعالهم..إعتدل حسن سريعاً يتوجه لفأسه الذي لم يتحرك من مكانه منذ الليلة السابقة التي حاول فيها قتل أخته بيديه إرتعشت شفتي حسن ومنظرها المدمي ينحر فؤاده مرغماً..فأغمض عيناه بشدة لعله يصرف تلك الصورة المنتهكة عن عقله..ففشل بجدارة وكل صورها الحية تطارده دون رحمه..فتح جفنيه مرة واحدة وببريقه المخيف إلتفت لوليد مرة أخرى ينوي أن يهوي على رأسه بفأسه..فإرتفعت يد تليد سريعاً يوقف ذراعه التي إرتفعت عالياً فأمره حسن بصوت متشنج ملتوي:
"توقف عن صدي ومنعي إن كانت نجلاء تستحق الفرصة التي مُنحت لها بسببكم فهو لا يستحق أي إنسانية منا"
إلتفت تليد برأسه و عيناه تتسمر على عيني وليد المذهول..قبل أن يلتفت لحسن أخيراً يخبره بقوة:
"لا..لا يستحقها ولكن أنت تستحقها ،وأيمن يستحقها..لن أسمح أبداً لأيديكم أن تُريق الدماء وتتلوث بها..إنسانيتكم أنتم تستحق أن لا تتحمل طوال العمر عاتق حمل دماء كلب لا يسوي شيء"
فتصلب حسن أكثر وهو يهز رأسه بتعنت رافض..فأكمل تليد بذات القوة:
"إن لوثت يدك بقتله ستموت إلي الأبد بذرة حية في ضميرك..أنا أعرفك جيداً يا حسن أنت لا تختلف عنا في شيء ربما أنت النسخة المتشبثة بالعادات أكثر منا..ولكن ضميرك الحي الذي إنصاع إلينا..والذي سيظل يتعذب لأخر يوم في عمرك على ما فعلته بأختك وأنا أُجزم أنك لن ترتاح أبداً بقتله بل ستُلقي نفسك في جحيم لن تخرج منه أبداً،قتل النفس يا إبن عمي عند الله أشد من هدم بيته الحرام ..فأخبرني كيف ستنجو من جحيم دنياك وآخرتك سوياً"
تراخت يد حسن بإهتزاز فرفع تليد يده الأخرى وسحب الفأس منه يخبره بتشدد:
"إعقلها جيداً..بحسبة بسيطة هل يستحق جرذ مثله أن نضيع أنفسنا..لن نكسب شيء من قتله ..نتعذب نحن لما تبقي من عمرنا وهو سيرتاح راحته الأبدية"
بصوت ميت قال حسن:"لقد تعدى على عرضي عديم الشرف لم يتذكر وهو ينتهك حرمتي بين جدران بيتي إنها عرضه..ما الذي تتوقعه مني عبر خطابك تليد"
فتولى أيمن الرد قائلاً بقوة:"الشرف لا يُكتسب بل نسعى للحفاظ عليه ..فماذا تنتظر من معدومه في الاساس !!"
زم حسن شفتيه بتقزز وكأنه لا يجد كلمة أخرى يخبرهم إياها إرتخت ذراعي حسن وبملامح مغلقه لم يستطع أحدهم تفسيرها منحهم ظهره بسكون تارك لعينيه أن تعبر عن معناته الداخلية..وبخطوات جريحة كان يترك لهم البقعة كلها..
نظر أيمن لتليد بصمت وهو يتنفس بسرعة..وكأنه عائد من سباق ليس له أخر يحاول تحجيم نفسه عن ما كان ينتويه حسن فسأله بتشدد من على حافة الخطر:
"إذاً ماذا تقرر..أنا لن أسمح لك بتركه..هكذا ببساطة"
لم يرد عليه تليد وإقترب من جسد وليد المدفون ومال عليه بهيمنة سلطانية جعلت وليد يشعر بحجم ضئالته وحقارة أصله وحده
فسارع وليد بالقول الذليل المنفر لهم:"كنت أعلم أنك أعقلهم..سأفعل أي شيء تأمر به..وأظل طوال عمري خادم تحت قدميك"
إلتوت شفتي تليد بتقزز قائلاً بإحتقار متلذذ:"من أخبرك..أني أحتاج لخدم مثلك فمجرد ذكر إسمك وحده يجعلني أشعر بالاشمئزاز والغثيان ،وجودك وحده في أي أجواء نجتمع فيها يلوثنا"
صمت لبرهة ثم ما لبث أن قال بصوت خفيض خطير كنصل سكين حاد:
"ربما أتناسى محاولتك التعدي على حرمتي عبر إمرأتي وأكتفي بمعاملتها الدونية لك وتعريفك حجمك الحقيقي كشرزم..ولكن..."
توقف للحظات بصمت رهيب وزيتونية عيناه تبرق بشعاع خطير قبل أن يكمل:
"ولكن..تَجبُرك على نجلاء لن أغفره لك أبداً..سأتركك هنا أنت وحظك..إما تستطيع أن تحرر نفسك وترحل..تختفي من أمامنا لأخر يوم في عمرك وإما يكون حظك سيء ومبارك لحمك النتن على وحوش الجبل"
وقف تليد مرة أخرى على ساقيه فجأة غير مكترث بتوسل وليد مرات وسبه إياهم مرات أخرى..دون تردد كان ينصرف ويتبعه أيمن بصمت لم يضيع عذاب عيناه
....................../....
تسمر حسن بمكانه و إتسعت عيناه بنظرة نارية كأنه أدرك الأن فقط أمر زينة الذي تركه معلقاً ..وقفت أمامه في صحن داره مرتعبة وجسدها يختض بعنف وترقب..ذُعرعيناها نفذ إلي عينيه مباشرة ومرغماً هزته نظرة الانكسار المتوسلة في عقيق عيناها ..كان الصمت الحذر هو ما غلف كلاهما ..تجرأت قدميها على الاقتراب منه خطوة واحدة وهي تتأمله بحذر وتستجديه بصمت متوجع *الرحمة وعدم أخذها بذنب ليس لها فيه ناقة ولا جمل* ..ولكن صوته المرعب هدم كل آمالها عندما نطق بدونية وإحتقارموجه إليها:"أنتِ..لماذا بقيتِ هنا حتى الان؟؟"
تحشرج صوت زينة الواهن وأخذت نفس مرتجف وهمست بصوت منكسر تذكره:
"بقيت في منزل..في منزل زوجي الذي وعدني يوماً أني جزء لا ينفصل عنه"
تصلب وجه حسن وتشنج جسده برفض وسرعان ما قال بتأكيد:
"أنتِ لم تعودي زوجة ولا يشرفني أن تحمل إمرأة مثلك إسمي.."
ذرفت دموعها بغزارة وأخبرته متوسلة مدافعة:
"لا تأخذني بذنبه لم أفعل ما يسيء إليك حتى تقول أني لا أشرفك"
ماجت المشاعر الثائرة الرافضة في صدره فعبر عنها إلتواء حلقه وأزاح وجهه عنها وأخبرها بجفاء قاتل:
"أخرجي من هذا البيت بكرامتك قبل أن أهينك بإلقائك خارجه"
صمت تردد قلبه عن نطق ما يحلها منه ولكن سيطرة العقل المظلم هي ما غلبت عليه فنطق بجمود:"انتِ طالق يا زينه طلاق لا رجعة فيه أبداً"
إرتفعت يدها سريعاً تكتم صرخة جزعة مرتعبة تعبر عن تحطم قلبها وحياتها..وحياة طفل علمت بوجوده منذ يومين فقط..وكأن القدر لم يمهلها السعادة التي إعتقدت أنها أرست جذورها أخيراً بحمل جزء منه..فخرج من بين شفتيها أنين بشهقات تقطع قلوب أياً من يسمعها وعيناها لم تحد عنه تُنعيه وتُنعي حظها العسر..إلتفت إليها فصدمته تلك النظرات الجريحة للحظات بخيبة أمل تخصه وحده وتلومه؟!
أزاحت زينه يدها ببطء وكأنها مازالت تستوعب الكلمة ببطء فأخبرته بصوت مختنق كسير جريح عبر دموعها المنسابه:
"ليس لي أحد غيرك..كيف إستطعت أن تخرجني من ذمتك بعد أن أخبرتك بكل ما كان يعتمل بصدري؟بعد أن أيقنت أني ألوذ بك للحماية ولا أريد سواك سترُ لي؟!"
لمحت بعينيها إهتزاز حدقتيه وكأنه يعاني..يلفظ أنفاسه الأخيرة بيديه ولا يجد له هدى لإنقاذ نفسه والتراجع لوقت طويل قاتل ،.أخيراً عادت عيناه لقسوتها وهو يقول بصوت يسري في جسده مثل النار:"لا تتذللي يا إمرأة فلم يعد هناك شيء يربطني بك لتقفي أمامي مهتوكة الحياء..أخرجي من هنا قبل أن انادي الخدم لإلقائك"
نكست زينة رأسها بتخاذل ورغماً عنها إبتسمت إبتسامة جريحة بأسي قبل أن تعدل وشاحها كما أتفق على رأسها وأخبرته بضياع أطل من عيناها:
"يوماً ما ستندم يا حسن..ليس لشيء ولكني أعرفك جيداً ,ستندم لإلقائي على باب بيتك في أنصاف الليالي وأنا لم أقترف بيدي ما يسئ إليك.."
بيأس فتحت بوابة البيت الضخمة وخرجت منها..وقفت في ساحته الكبيرة تتلفت حولها بعجز..أين تذهب ولمن تلجأ؟!أتعود لعائلتها وهي تحمل جزء منه؟؟ ليجبروها على قتله وهو مازال نطفة بين أحشائها إنتقاماً لما فعله بأخيها!! إنزوت تلتصق بجدار البيت الذي يفصلهم عن بيت أحد أعمامه تئن بوجع..وليد وجع أخر تُرى ما الذي فعلوه به؟ رغم عظم جرمه ولكنه يبقي أخيها ..رغم كم المعاناه والأفضلية التي تلقاها عنها طوال عمرها البائس حتى في الحصول على التعليم بقي أخيها..وحتى فرصتها في أن تعيش حياة كريمة مع الرجل الذي أحبت عاد بدنائته وسرقها منها"
دفنت وجهها بين ركبتيها وبكائها الذي يقطع نياط القلب يتعالى والسؤال الحائر العاجز لم تجد له إجابة..أين تذهب بفلذة كبدها حتى لا يطوله أذاهم جميعاً؟!!
.....................
خرجت زينة من الدار بينما بقي حسن مكانه كتفيه إنحنيا فجأة بثقله العظيم ..كان كالمقيد مكانه ينظر للباب الذي أغلقته خلفها بجمود..قبل أن يهز صوت إرتطام قوي حتى خَيل له أنه هز الارض من تحته..رفع وجهه ذاهلاً وهو يراقب وجه والده المنكفئ على الارض وجسده الممدد فإنتفض بهلع ناحيته..سمع صراخ أمه التي كساها السواد المنفر تلطم خديها *غراب شؤم حل عليهم جميعاً * إنحنى حسن بلهفة وعدّل والده فتسمر مكانه برعب..فم والده الذي إلتوى بوضوح ولسانه قد خرج من فمه وملامحه المجعده التي إلتوت كلها ..عيناه فقط التي جحظت أمام عين إبنه وبِذُل كانت هى من أخبرته أنه على قيد الحياة..صراخ عواطف المنفر لأذنه لم يمنحه فرصة للتفكير فعبر عنها بيده التي إمتدت رغماً عنه ليزيحها بقوة جعلتها تتدحرج خطوات حتى وقعت على الارض تمتم بهمس لنفسه وحده:
*حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ..أنتِ الأفعى التي ألقت بسمومها على حياتنا جميعاً..ولكن ماذا أفعل وأنتِ أمي*
بتشدد إعتدل محاولاً أن يرفع جسد والده لأقرب كنبة يمدده عليها بتخبط كان يبحث عن أحد الهواتف وإتصل على أحد لنجدته ..
بينما تهامي الذي علم بعجز عقله يشرد فيمن ظلمهم جميعاً وعلى رأسهم إمرأة جار عليها ولم يكن لها ذنب إلا أنه أحبها بجنون ولم يتقبل رفضها إياه ..إمرأة لم يمنعه حتى تلطيخ سمعتها والانتقاص منها..وهو يبث سمومه بمساعدة أخته سعاد التي كانت تلوكها عبر كل مجلس بواعذ منه عبر إشاعة كان يعلم كذبها ولما لا وهو من أطلقها بنفسه !!فاطمة ..
عيناه شردت في البعيد منذ أكثر من خمسة وعشرون سنه كاملة..عندما رأها وكُبّل بعشقها..إقتحمت حياته ولم يستطع إلا أن يفكر فيها ليل مع نهار حتى عاف عواطف التي كانت على ذمته ونفرتها رجولته ممنياً نفسه بترويض ذلك الفرس الجامح بجمالها المميز الذي يختلف عن جمال جميع نساء قريتهم..تذكر تلصصه على جلستها مع زوجة شقيقه ولم يكن يردعه لا نخوة ولا حتى شرف..وهو يتلذذ بنظرات شيطانية تتفحص كل إنش منها..شعرها المحمر ومحياها شديد البياض وذلك الياقوت الأزرق المطل من عينيها الكحيلة التي أسرته ورمته كعاشق مدله بحبها ..لم يستطع إلا أن يُمني نفسه بإرضاخها وجعلها ملك يمينه حتى وهو يعلم أنها ملك لإبن عمها..ولقد جاءته الفرصة على طبق من ذهب عندما تركها ومات..وأتاها جثة دفنوها بليلة عرسهم ..فإقتنص الحدث لصالحه عندما حملها لقب (عروس الشؤم ) والذي لن يقربها أحد ..فتقدم يطلب ودها ورفض مرة وإثنان وعشره فما كان منه..إلا أن أطلق خسته لتنول شرفها ويتطاول بتبجح يخبرهم..أنها كانت تقابله في بيت أخيه تبثه حزنها..وتطالبه مستتره بالزواج منها..يتبجح أمام والدها وأخيها بوصف محياها ولون شعرها الذي كشفته له بنفسها..تذكر يومها جيداً نظرة الرجل الجريحة..وهو ينطاع مرغماً مكسور الهامة..بقبوله زوج لإبنته..ويموت بعدها ليلة زفافها منه..بعد أن نشر هو بوقاحته أنها غير طاهرة..وسلمت لزوجها السابق نفسها أثناء عقد قرانها ..يذكر عويلها وإنكسار عيناها وهى ملقاه على الفراش مقيدة..وقد هتكت القابلة وبعض من نساء عائلتها وإخوته عذريتها..كانت كالجثة الهامدة وهو يحررها من قيودها (بتعاطف ضعيف وندم أضعف على فعلته بحقها..لم تمنحه هي فرصة حتى لإعتذار وهى تزيد من جنونه وتمحى خاطر الندم..فإعتدلت بكبرياء صدمه بصقت عليه بتقزز تتحداه بجموحها تخبره أنه عديم الشرف ليس برجل ولن يصبح رجل أبداً في عيناها..فما كان منه إلا أن يكبلها مرة أخرى ويعتدى على جسدها المنهك..ويثبت لها رجولته بطرق أكثر فاعلية في عقله ..دمعة وحيدة هبطت على وجهه الذي إلتوى ببشاعة..يهمس بانين داخلي..عامين يا فاطمة أحاول إرضاخك بحبى مرة وذلك مرة فلم يزيدك إلا تمرد ..عامين لم تمنحيني ولو مرة واحدة حقي وأنت ِراضية حتى وأنتِ تحملين طفلتى بأحشائك ..
يطبق جفنيه أخيراً..تذكر آخر ليلة بينهم كانت في شهرها الثامن من الحمل عندما دخل إليها في ليلتهم الفارقة السوداء..كانت تنزوي على السرير..تأن بضعف وشفتيها الحزينتين التي لم تعرف الابتسامة يوم واحد في بيته..تخرج كلمات ناعيه حبيبها وزوجها الأول..تمسد على بطنها المنتفخ الذي يحمل طفلته هو..تخبرها أنها كانت تتمنى أن تكون إبنتها من زوجها الأول..
جن جنونه وهو يتهمها بالعهر والخيانة..فإنتفضت برفض تخبره بقوة وتشدد..أنه هو وحده الدخيل المعتدى على شرف زوجها الراحل..أنها تنتمى لأسعد لا غيره وهو مجرد حشرة وضيعة دنسها بحملها إسمه ..لم يفق لنفسه إلا وجسدها مسجى على الأرض والدماء تخرج من كل جزء منها لم تأخذه بها رحمة..حتى وعيناها أخيراً تمنحه ما تمنى الإنكسارررر؟! تذللت له أن ينقذ طفلتها..يمنعها من فقدها ..توسلته أن طفلتها ليس لها ذنب ليتركها تموت غدراً هكذا..ولصدمته لم يشفي غليله ذلك الوهن والعجز الذي رآه منها فإندفع مغادراً..تركها هي وإبنته لمصيرها ............................
إلتفت أيمن حوله بحرج..عندما أوقفه تليد يخبره:
"إلى أين أيمن..لم أذكر أننا إتفقنا..على دخولك إليها"
أغلق أيمن جفنيه للحظات قبل أن يفتحهما يخبره بقوة:
"أنا ما عدت أحتاج لإتفاق لرؤيتها..لقد تزوجتها أمامكم جميعاً وإنتهى الأمر"
رفع تليد يده..يمسد جرحه الذي بدأ يزول أثر المسكن عنه ويشعر بالألم مجدداً فأخذ نفس طويل قبل أن يقول ببساطة:
"نجلاء في حمايتي أنا بالوقت الحالي وأنا لا أنكر حقك بها..ولكن أردت تذكيرك أنه عقد قران فقط وستظل في بيتى إلى أن نرى خطوتك القادمة"
لحظات إرتجف غضباً مع إشتعال عينيه بوميض مفاجئ لم يصل لتليد حقيقته..قال أيمن بقوة صارمة:"خطوتي القادمة لن تختلف عن الوضع الحالي..أنا لست طفل غبي متهور سعيد بلعبته..أنا فهمتُ محاولة منعك لى من رؤيتها وأيضاً معنى كلامك المتواري تليد"
بهدوء أخبره تليد مباشرة:
"إن حالتها الحالية لن تسمح لك بأي تقارب من أي نوع حتى وإن كان..مجرد صداقة أو شعور أخوى فنجلاء تحتاج لمعاملة خاصة جداً وحذرة ."
هز أيمن رأسه وكأنه رفض ما قاله..تسمرت عيناه على باب الغرفة التي تقبع فيها صغيرته ثم ما لبث أن قال بنبرات أجشة مسيطرة هادئه:
"أنا أعرف كل هذا وإن صبرت قليلاً كنت سأطلب منك رقم صديقتك تلك الاستشارية التي تعمل في الدار..لتمنحني بعض النصائح"
سريعاً أخبره تليد بنبرة رافضة:
"عبير ليست صديقتي وإحذرمن كلامك الذي تضيع فيه رقاب إنها زوجة صديقي فقط..ومسئولة في الدار التي حذرتك أن تأتى على ذكره"
بدت شبه إبتسامة عن شفتي أيمن مرغماً وهو يهز رأسه يائساً قبل أن يقول:
"هل تعتقد أن هذا وقت توضيح..أنا أعلم كل هذا..لقد كان وصف عابر أعتذر عنه"
أجابه تليد ممتعض:
"وصفك العابر إن سمعه ناجى قد يضيع رقبتك..وأنا أحتاج رأسك فوق جسدك بالفترة القادمة.."
تنهد تليد بثقل قبل أن يقول وهو يعتدل بوقفته ينوى الانصراف:"أنا سأخبرها بالأمر وأمنحها هاتفك..في رأيي من الافضل التعامل معك مباشرة"
أوقفه أيمن وهو يقول بخفوت حزين:
"أنا أراهن على تقبلها لي..فأنا أختلف لديها وكنت دائماً جدار أمانها الذي تلجأ إليه..حتى دون أن تعرف..وكما راهنت أنا على كل شيء ثقةً بها..أعتقد أنها ستفعل"
أخبره بهدوء:"ربما أنت محق ولكن إحذر..قد يلتف قيد عشقك حول عنقك ولن تجد يوماً خلاصك..مهما فعل بك غبائها"
عقد أيمن حاجبيه ولم يستصغ نصيحته..إمتدت يده أخيراً وفتح باب الغرفة وإختفى وراء بابها الذي أغلق
........................
لم يعتدل تليد ولم ينظر إليه فعيناه كانت تشتعل بشدة وبالتضامن مع القبضة المزعجة التي عصرت قلبه ..ربما يختلف موقف أيمن عنه ويمنحه الأفضلية..في كل شيء عند نجلاء..إنه يعلم جيداً أن ثقة نجلاء السابقة في أيمن قد تمنحه السلام السريع وتسمح له بالاقتراب منها ومنحها الدعم والهدوء النفسى..عكسه هو تماماً .مع معذبته التي ظلت سنوات رغم إحتمائها بذراعيه تراه وحشاً مرعباً معتدى و لم تسمح لنفسها بالغفران له أبداً..ولتكمل تحطيم قلبه الذي قيد بعشقها..تفرط به بسهولة وتوجهه لإمرأه غيرها..كأنها تخبره:"أنه لا يستحق حتى ،.تمسكها به"
إحمر وجهه غضباً..حتى إشتدت نيران عينيه وهمس بغضب:
"الغبيه..إلى متى سأتحمل جنونك..إلى متى سأمنحك الغفران يليه الغفران"
أسبل جفنيه وأخد نفس ليهدأ و تقوست شفتيه بإزعاج..يعلم جيداً..انها ربما غيرتها القاتلة المتضامنة مع غبائها وطول لسانها ما جعلها تتهور وتنثر في وجهه حماقتها ويذهب لأنثى غيرها..ولكنه لم يعد يحتمل..إن كانت هى تحتاج من يتفهمها..هو لم يطلب أكثر من حقه فيها وأن تتمسك به..وتصون كبريائه وكرامته..وهو ما لم تفعله أبداً..بهدوء كان يتوجه للغرفة التي قضى ليلته بالامس بين ذراعيها..جلس على طرف السرير ودفن وجهه بين راحتيه:"يعلم أنه ربما تسرع في ردها ..ولكن ماذا يفعل وخطاب يستفزه مستتراً ويطالبه بورقة طلاقها..حتى تقضى عدتها لتصبح لأحد أبناء عمومتها..جز على أسنانه بغضب وكفيه تعتصر وجهه غيظاً حتى أصبح وجهه بلون الدم لو لم يكن خطاب من تحدث بتلك الطريقة..لترك جنون غضبه لقتله لأنه تجرأ التفكير حتى في الأمر..ثم يتوجه إليها ويخنقها بيديه..ثم يأخذها بين ذراعيه ويخبرها أنه لم يرد التفريط فيها أبداً..أنها ملكه وإمرأته وحده لآخر يوم في عمرها البائس"
عند هذا الخاطر كان جذعه ينتفض بقوة بصدمة في نفسه ربما؟! كيف تملك ذلك السلطان عليه؟!!كيف لقلبه أن لا يحقد عليها أبداً مهما بالغت في أفعالها الجنونية..إبتلع ريقة الجاف وهو يهز رأسه بقسوة متمتم بحنق أعمى:"لن يفعلها..ليس قبل أن تتذوق ما طلبته وفعلته يديها..وأن تعود لرشدها لقد إكتفي من كل شيء معها..المنح والعطاء والتفهم..والدفع للإمام..الحماية والأمان ولم ينتظر منها مقابل إلا عشق له غير مشروط فقط..لقد اكتفي حتى وهو يدرك جيداً أن فؤاده العاصي لن يستطع أن يكون لإمرأةٍ سواها....
...............\\...........\\......
كان أيمن مازال مسمّرا أمام الباب..كأنه لا يملك الجراءة على التقدم خطوة واحدة..يراقب بعينيه جسدها الممدد على الفراش..تتكئ على جانبها وعيناها مثبتة على نقطة ما في الفراغ..لم تكن تبكى ولا حتى حدقتيها عبرت عن أي إنفعال يشعره أنها إنتبهت لدخوله الغرفة..مر بعينه سامحاً لنفسه أكثر بتأملها..شعرها المشعث بلونه الكستنائى ممتد على الوسادة خلفها ومعقود بضفائر طويلة..وجهها الأسمر الجميل ظهرت عليه أثار الكدمات بهالات زرقاء كادت أن تخفي ملامحها ..أغمض عينيه بقوة..كأنه لم يعد يستطيع رؤية الألم الذي ينبض من كل جزء منها حتى وإن كانت تعبر عنه بالسكون التام؟!........
عادات خادعة الفصل الرابع والعشرون
تحرك أيمن أخيراً يجبر نفسه على التقدم..ليقف أمام وجهها مباشرة يقطع عنها تحديقها من غير هدى أو هدف لم تتحرك من موضعها ولم تهتز حتى..ظلت على سكونها القاتل وكأنها جثة فقدت كل معنى للحياة ..
عيناه مازلت في تأملها الدؤوب لها..وكأنه يعذب نفسه بما يرى..وذكريات ذلك اليومين العصيبين تعصف في عقله دون هوادة..ورغم كل الوجع الذي ينبض في عروقه..مما قيل وسمع كان عقله لا يستطيع إلا أن يرى كم الألم والعذاب الذي نالته وأذنه لا تسمع إلا حديثها المسموم وهى تفضي بوجعها..
دمعة حرة هبطت أخيراً من عينيه..إرتفع وجهها لتنظر إليه تائهة تضامن مع إرتجاف شفتيها فنحرت قلبه تلك النظرة الذليلة المنكسرة في عينيها لن ينسها ما تبقى من حياته..إنها نظرة وجع وأنين وإستجداء عاجز موجه له وحده..
لم يدري بنفسه وإنهار على ركبتيه يبعد عن الفراش مقدار خطوتين وأخبرها بأنفاس متحشرجة:"إمحي ذلك الإنكسار من عيناك يا حرة..لم يأتي اليوم الذي أراكِ فيه منكسرة يا إبنة عمي"
بإستسلام أغلقت جفنيها وتساقطت دموعها بيأس وتعب..كأنها تخبره أن ما يقوله غير مُجدى بالمرة وقد إنكسرت وإنتهى الأمر بالفعل..ساد الصمت المؤلم بينهم مرة أخرى قبل أن يقول أيمن..بخفوت:
"أنا لن أوجه لكِ اللوم يا نجلاء ولا أريد أن أسمع مبررات أيضاً..او حتى أعلم منكِ ما حدث كله"
صمت لبرهة عندما رأى بعينها نظرة التقزز من بين تلك الكدمات التي تملأ وجهها معبرة عن شيء منفر مكروه..ولكن لم يكن أبداً يخصه..فأضاف أيمن بخفوت:
"أنا أثق بك،وأياً ما كان قيل أنا لا أصدق منه كلمة واحدة..بل أصدقك أنتِ..حتى وإن كان ما قولتيه ذبح لكرامة أي رجل..يا كرملة"
إستطاع أخيراً أن يرى إنفعال حقيقي عندما تلاحقت أنفاسها..بشكل جنوني وعيناها تبرق بطيف مخيف تظلله القسوة المرادفة لليأس والانهزام ، شعرت بحلقها الجاف الذي نطق أخيراً بتحشرج:
"ما الذي تريده منى يا أستاذ؟!لم يعد هناك شيء يستحق كل هذا الدعم منك..أتعلم ما أندم حقيقةً عليه الأن ذلك الرعب الذي جعلني أستنجد بهدير..ليتني إستسلمت لحسن كي يكمل ما كان يريده فيذبحنى ويمنحني الخلاص"
هب أيمن سريعاً وتوجه إليها ثم إنحنى وثبت وجهها إليه بيده وأمسك بكفها باليد الأخرى..إرتفعت ذراعها بجزع لتبعده عنها وهمت بالصراخ فلم يمهلها وأخبرها بتعجل:"لن أسمح لكِ بالانهزام..أنا السبب بكل ما أنتِ فيه..لو كنت حاربت العالم من أجلك..لم يكن يصل بكِ الحال إلى هنا..ولكن حان الوقت لتصحيح كل الأخطاء يا نجلاء"
حاولت التملص منه بذعر ..وكم بذلت جهداً إضافياً للثبات وعدم الصراخ الذي يتردد في حلقها..ولكن ما كان يكبلها شيء أكبر من يديه أو تهوره الجنوني الذي لم تراه أبداً فيه من قبل..إنه شيء لم تستطع تفسيره غير بشيء واحد أنها تثق بأيمن أكثر مما تثق بنفسها! كانت تحدق فيه بعجز حقيقي وعيناه العاصفة تشعرها بسطوة لم تكن مخيفه بل شيء آخر عقلها المضطرب لم يستطع تفسيره..قلت مقاومتها تماماً وتوسعت عيناها و فغر فمها بذهول عندما لحقها الأخر بأنفاس عنيفة تخرج ملتهبة حانقة وبنبرة عجزت عن تفسيرها قال:"أنتِ أصبحتِ تخصيني وحدي..لقد وعدتك ووفيت بوعدي..أنتٍ منذ ساعات تحملين إسمي..لقد دخلتي عباءتي أخيراً لن تخرجي منها أبداً"
بصوت خرج ضعيف واهن أخبرته:"ماذا تعني؟!!"
أطرق أيمن برأسه للحظات قبل أن يرفعها ليسألها بقوة:"أنت أصبحت زوجتي..لقدعقد قراننا بمباركة جميع أكابر العائلة"
صُدم حقاً برد فعلها التالي وأجهشت في نحيب عالي مرير رفعت ذراعها الذي وضع بجبيرة لتضربه بها بوهن وتدفعه عنها..وتحاملت على يدها الأخرى لتبتعد إلى آخر الفراش وتنكمش على نفسها وتنخرط في بكاء مرير ..كل جزء في جسدها كان يئن بالألم من نار..تُردد بداخلها برهبة تخالطها الحسرة..
*زوجه له هو من بين الجميع..يملكها بعد أن دُنست ..ألقوها له كسلعة عطبة..بعد أن وجدوا الشهم الذي يخلصهم منها .*
إرتخت ملامح أيمن أخيراً..وعيناه تهدأ وتطل منها نظرة تعاطف وهو يخبرها:
"لا داعى لكل هذا الخوف مني نجلاء..تعلمين جيداً..أنا لن أُقدم على أذيتك أبداً.."
فخرج صوتها ضعيف وهي تسأله بلوم ذاهل:"لما فعلت هذا؟!لما الأن ألم تجد غيري؟! لما تُضحي بإسمك عمرك كله بفضيحة لن ينساها أحد لمئة عام قادمة"
مرغماً كان يلتف حول الفراش سريعاً ورفع إحدى ركبتيه ليستند على الفراش وأبقى الساق الأخرى لتستند على الارض..إرتفعت يديه ليمسك كل ذراعيها..بترفق..وأخبرها بنبرة روضها جيداً لتخرج متأنية رزينة وهادئة:
"كُفي عن تحقير نفسك وأسبابي لحمايتك وحدك..كان يجب أن أجعلك تنتمين لي كاملة حتى لا يتجرأ أحد بالإقتراب منك مرة أخرى..ما حدث لن تواجهينه وحدك أبداً..بل سوياً سنخرج منه وأعدك ان أطهر إسمك وشرفك بنفسي"
توقفت دموعها أخيراً وإنعقد حاجبيها وقلبها كان ينبض بجنون لم تعرف سببه أو ربما حالتها الحالية لم تسمح لها أبداً للتطرق وتفسيره . إرتفعت يدها تمسك بطرف معصم قميصه وأخبرته بنبرة قاسية صدمته للمرة الثانية فيها وكأن ما حدث لطفلته حولها لأخرى شديدة البأس مخيفه..فيما طلبته منه وإن خرج متخبط غير متوازن:"أريد ثأري منه ويراق دمه كما إستباح عرضي ..أريد أن تقطعه الكلاب الضارية وتأكل عظامه..كما نهش لحمى"
لم يدري بيديه التي كانت تضغط على ذراعيها..قبل أن يقول بصوت متأوه معذب:
"لا إياك أن تفقدي براءتك..إياكِ أن تفقدي قلبك النقي ..إتركي الانتقام لأصحابه..لا تُضيعي طُهرك صغيرتي"
تجولت عينيها على ملامحه بغرابة يخالطها الإستنكار قبل أن تسمح لضعفها الحقيقي بالظهور مرة أخرى وهو تخبره بوجوم مرتجف:
"لقد ضاع كل ما تحذرني بعدم فقده يا أيمن على يديه وإنتهى أمري..ولكن أنت من ترفض على ما يبدو أن ترى الأمر بصورته الحقيقية"
ساد بينهم صمت طويل وكل منهما يسمع أنفاس الأخر قبل أن تهمس بإختناق:
"أريد أن أرتاح إن كنت أعز عليك كما تدعي أريد ثأري منه..أريد أن يعترف بجرمه بحقي..انا قاومته يا أيمن..قاومته لوقت طويل جداً..كنت أحاول بكل قوتي ألا أجعله يلوث نقائي..ولكنى لم أست..طع"
خفت صوتها فجأة وعادت لعجزها القاتل ودموعها الحارة نزلت على كدمات وجهها بتدافع..إختض جسدها بعنف وترك لنفسها العنان تعبر عن كل ما يعتمل بصدرها المكلوم المكتوم ولم تستطع الكلمات أن توصفه..زاد إرتجافها بين ذراعيه فإقترب بتردد بطيء وضمها إليه برفق متمهل ولم تمانع أبداً..لم تبدي ردة فعل حقيقية بالرفض..فغمرها أخيراً بين رحابة صدره الواسع للحظات مرت طويلة قاتلة تصلب جسدها بالرفض..قبل أن يطلق تأوه مجنون بقلبه المتوجع بلهفه وأخبرها:
"لم أستطع أن أحضر إلى هنا ومواجهتك دون أخذ ثأرك منه لقد ألقيته هناك بحضن الجبل ليواجه مصيره بعد أن شفيت غليل قلبي وقلبك منه"
أطلقت نجلاء أهات طويلة بألم مبرح قبل أن ترفع ذراعها الحر تتمسك بمقدمة قميصه بتشدد وتنهار آخر دفعاتها تاركة لجسدها الانهيارو تبثه وجعها بين ربوع صدره المرحب!!!
.......\\..................\\..........
"لماذا"
نطقتها أحلام ببأس متشدد رغم الهدوء الظاهر على ملامحها التي خطها الزمن بالحنكة..ولم تتأخر إجابتها التي توقعت عندما نطقت العجوز سعدية والتي تفترش أرض الغرفة الصغيرة وعيونها تبرق بإنتقام متشفي غير نادمة وبكلماتها السامة قالت بفحيح:"على ماذا تسألي؟!أنا لم أخبركم إلا الحقيقة التي رأتها عيناي..إبنتكم كانت تمرح بين أحضان ذلك الغريب بأرضكم ومرغت شرفكم بالطين"
هبت أحلام من جلستها ووقفت بعلو قائلة بتشدد خافت بدا كحد السيف:
"إن لم تعتدلي بكلامك يا إمرأة وتجيبين بأدب على سؤالي..أقسم برب العباد لأجعل نساء المنزل ينسلوا لحمك عن عظامك"
لم ترتجف المرأة ولم تبدي أي خوف وقالت بصوت ساخر بارد:
"هل تظنٍ أنك تخيفيني؟!أعرف ما أنتِ قادرة على فعله..ليس لديّ ما أخسره يا أم الأستاذ..وقد سلبتوني بالفعل كل ما ملكته يوماً"
رفعت أحلام ذقنها وقالت بصوت جهوري صارم:"لم يتعدى أحدُ منا يوماً عليكم بل غباء زوجك وأبنائك هو ما اوصلك لهذا الحال..وقسماً على قسم أطلقته إن لم تخبريني الحقيقة كاملة يا إمرأة لأجعلك تتمنين الموت ولا تدركيه أبداً"
دبت المرأة بيديها على الارض بجنون دون هوادة فطاقة الكره والغضب التي كانت تملأها جعلت قوتها تتضاعف كثور هائج وزاد ملامحها البشعة..بشاعة..
لم تعيرها أحلام أي إهتمام..وهى تشير للنساء التي تقدمن خطوة كما يبدو لتكبيلها إطاعة لها بصمت تراجعن إلى باب الغرفة..
صرخت المرأة بقوة قائلة دون توقف:"فاجرة..فاجرة..مهما حاولتي إرهابي إبنتكم فاجرة ويجب ذبحها على البحر الكبير ووضعها بجوال وإلقائها بين رياحه ليتاوي عارها كما حدث لفلذة كبدي بسببكم"
كانت دموع المرأة تنهمر من عينها الواسعة الحزينة والحاقدة ..
فهتفت أحلام أخيراً بغضب وصرامة مهددة:"إخرسي وضُبي لسانك السام داخل فمك قبل أن أقطعه لك ، لم يمس أحدٌ منا إبنتك بل رعونة زوجك وإبنك الذي لم يطيع أحد ولم ينتظر براءتها وسارع لقتلها..دون ذرة رحمة"
سكن جسد سعدية للحظات وهى تنظر لملامح أحلام الغاضبة ثم ما لبثت أن قالت بمرارة فضحتها حروفها:
"يبدو أنكِ نسيتي يا حجة..أن جميعنا أطعنا رأي العمارية ..وإنتظرنا طبيب الصحة الذي قررتم أن يأتى للكشف على إبنتي أولاً ..ولكن تلك الحقيرة عواطف..لم ترحم عرض إبنتي ولا تواضع حالنا..و نهشت فينا بين المجالس بعدم طُهر إبنتي التي أكدته القابلة..بل القذرة جعلت خدمها يقولون أننا بعنا شرف إبنتنا مقابل المال"
تراجعت أحلام إلى أن جلست أمامها على الارض رغماً عنها تعاطفت مع المرأة وهى تتذكر ذلك اليوم الأسود..الذي زُفت فيها إبنتها لأحد أقارب عواطف متدنى الاصل ليفضح الفتاة ليلتها ..لقد خرج عاري الصدر وسط النساء المنتظرة معلن أمام الجميع أنها لا تملك عفة وفقدت طهاراتها من قبل..وكالنار التي تنطلق في الهشيم ذاع الأمر في البلد..وليكمل الوضيع المصيبة تعدى على الفتاة بالضرب حتى لم يترك فيها جُزء سليم..وألقاها أمام باب بيته لأخويها وأبيها..بعد أن رمى عليها يمين الطلاق ..
أجهشت المرأة بالبكاء وقالت لأحلام بخوار عاجز وكأن ذكرياتها تكبلها كحيوان مقيد:
"هل تذكرين إبنتي قليلة الحيلة يا حجة..كانت صغيرة ومسكينة يزينها أدبها كما بناتكم..لم تفعل ما يشينها..قضيت عمري أقوم بتربيتها هى وإخواتها..كانوا كل مالي ومدخري بالحياة لزمن أتعكز عليهم في ضعفي..وفي لحظة واحدة خسرت كل شيء بسبب شرعواطف وقريبها عديم النخوة"
شهقت المرأة صارخة وقالت بحرقة:"ذبحوها بأيديهم وألقوها هناك بسبب أمر لم يكن لها يد فيه..ما ذنب إبنتى أن جسدها الغض لم يمنح زوجها ما أراده؟!!"
بتلهف محموم كانت تردف بهزيان وهى تلطم خديها:
"لقد قال الحكيم الذي كشف عليها بعد أن وجد جثتها أن إبنتي طاهرة وذلك الوضيع معدوم الرجولة هو من لم يستطع أن يتم الأمر ..في لحظة وبسبب إمرأة حاقدة قذرة و سليطة اللسان أزهقت روح إبنتي بالباطل..ليموت بعدها أبوها قهراً وندماً ويهج ولديّ من البلد خوفاً..ثلاثون عاماً مرت يا أحلام لم أراهم ولم أسمع عنهم خبر..تاركين قلبي المكلوم بحسرته وحدي أجلس بين اربع جدران مهدمة أنتظر من يعطف عليّ بالمال الزهيد أو قطعة من بقايا خرقهم البالية لأستر جسدي..أنتظر بقايا طعامهم لسد رمق جوعي"
أغمضت أحلام عيناها بأسى..لم تجد ما تقوله ولم تستطع منع تعاطفها..تتفهم وجعها بل وتجد نفسها عاجزه تماماً عن إستنكار إنتقام المرأة..ورغم كل تعاطفها لم تستطع إلا أن تقول بهدوء متأني:
"لقد جربتي ظلم حرة يا سعدية وذقتي مرارة التجبر على فتاة مظلومة..كيف إستطعتي أن تَجاري على أخرى تعلمي يقيناً براءتها وقد قلتي بنفسك أنك رأيتِ ما حدث.."
صمتت أحلام لبرهة تمد يدها تربت على كتف المرأة بتعاطف وسألتها بهدوء:
"أنتِ رأيتِ الحقيقة أليس كذلك..نجلاء كانت مقيدة مرغمة وذلك الكلب يريد أن يفعل بها الخطيئة"
إرتجفت شفتي المرأة قهراً قبل أن تقول بإنفلات:
"نعم..نعم رأيت الفتاة كانت تصرخ مستغيثة ولكن الحرة بالحرة والدم بالدم..وإن كانت ضاعت إبنتي هباءاً بسبب عواطف وقريبها فلما لا تضيع إبنتها وبسبب ذلك الغريب قريب عواطف أيضاً!!"
بهدوء وقفت أحلام على قدميها مرة أخرى..وأشارت للنساء بالابتعاد عن الباب ثم فتحته وخرجت..ونظرت لزين العابدين الذي كان يقف متكئ بيديه على الحائط بوجوم..
بصوت مكتوم قالت أحلام:"أعتقد انك سمعت كل ما قيل ولا تحتاج للشرح"
هز زين العابدين رأسه بشبه إجابة موافقة ثم ما لبث أن قال:"إذاً..ماذا ترين كعقاب لها؟؟"
بإستنكار قالت أحلام:"عقاب!!أي عقاب وقد نال المرأة الأذى من قبل يا حاج"
أطرق زين العابدين رأسه مرة أخرى ثم ما لبث أن قال:"جُرمها لا يُغتفر..يا أم تليد..لقد مرغت رأسنا في الوحل من أجل إنتقام من عائلة لا تخصنا في الأساس"
إشتدت ملامح أحلام بغضب مكتوم..قبل أن تقول بحدة:
"مكسورة الناموس عواطف..تخصنا للأسف يا حاج..ولكن أنا أطالب بالعدل..المرأة فيها ما فيها من ذُل ولن تحتمل المزيد في أخر أيام لعمرها"
أطلق زين العابدين زفرة متعبة..ثم قال:"أنا تركت الأمر من البداية..وأثق في حكمك..إفعلي ما ترينه صحيح ولكن عواطف..يكفيها إلى هنا أذى في خلق الله..ويجب أن تنال ما ذاقه الجميع من كأس المرارة"
إشتدت عيناي أحلام ببريق قاسى مخيف لم يراه فيها من قبل ثم قالت بنبرة باترة قاطعة:"عواطف تلجيمها قد حان..ولن يكون إلا على يدى"
..........................
دخلت أحلام مرة أخرى فتراجعت المرأة بخوف و كانت قد هدأت قليلاً من بكائها للتأبين ذلك المغرز الذي وضعت نفسها به..رفعت رأسها لأحلام تسألها بصوت مرتجف:"ماذا ..قررتم أن تفعلو بى"
إنحنت أحلام مرة أخرى لتخبرها بجفاء رغم تعاطفها:"من يدخل بيت جلال العماري لا يُظلم أبداً..ولكن عدلاً أنتِ ستبقين بين جدارن هذا المنزل في غرفة خارجية تأويكِ..لن يقترب منكِ أحد بأذى ولكن أيضاً لن أستطيع إطلاقك مرة أخرى بين دروب البلد"
خفق قلب سعدية وهى تقول مرتعبة:"ستحبسينى!!"
هزت أحلام رأسها بالنفي وهى تقف بشموخ وأخبرتها:
"لا لك الحرية أن تتجولي داخل أسوار المنزل..وإعتبريها فرصة لك لتعيشي حياة كريمة في آخر ايام حياتك ..العدل الذي تطالبين به ستنولينه ولكن برحمة منا عبر إيوائك في بيوت العمارية..أما ما حدث في الماضى لم يكن لنا يد فيه أبداً..لتوجهي إنتقامك لإبنتنا..إستغفرى ربك يا سعدية لخوضك في عرض غافلة دون وجه حق"
.........../....//......
عضت أثيلة على شفتيها وهى تهتف بغضب عبر الهاتف:
"لما تلوميني أنا..أخبرك أنه أرجعني دون علمي ثم ما لبث أن إتصل يُخبرنى بزواجه من تلك..تلك...."
صمتت وهى تتأوه بعذاب حقيقي وأردفت دون تحفظ:
"أااه..نار تحرق صدري يا عبير..تليد يتجبر عليّ بعد كل ما بيننا..بعد أن أخبرته بحبى وسلمت له راضية محترقة على صدره وكما طالبني في السابق"
جزت عبير على أسنانها بغيظ قبل أن تخبرها بنبرة مغتاظة:
"تحترقي يا حمقاء..وتجلسين عندك تبكي كالبلهاء بدلاً أن تواجهينه و تحرقيه بنارك وتُشوهي وجهه المتبجح هو وتلك الشمطاء"
توجست ملامح أثيلة وهى تسألها بخفوت حريص:
"هل تحاولين أن تزيدي حقدي عليه وتدفعيني للذهاب لقتله حقاً؟!"
أجابتها عبير بحنق إمرأة غاضبة غيورة بغير تحفظ:
"نعم..إذا كنت بمكانك سأفعلها دون ذرة تردد..يا غبية من تُحدثك الأن إمرأة مثلك تماماً..لو وضعت في نفس الموقف سأضرب بعرض الحائط كل شيء وأتحول لسفاحة دماء لا تهدف إلا رقبته هو ومن تحاول سرقته منى"
أنفاس كليهما المنفعلة هي المتبادلة بينهماعلى الهاتف..قبل أن تقول أثيلة بيأس خافت:
"لن أستطع فعلها يا عبير..أشعر أن تليد سلبني حقى فيه مرغمة ولم يعد لي حقاً به طاقة لمحاربته"
هدأت أنفاس عبير قليلاً وهى تقول:"ماذا تعنين؟! أنتِ تعلمين جيداً أنه كله حقك ولقد أعلنها لسنوات..حبيبتي رغم جنوني منه..ولكن أنا متأكدة أنه يثير جنونك فقط..فتركك له بعد أن تنازل هو وردك ليس بشيء هين أثيلة"
عم الصمت الهادئ بينهم لفترة طويلة..ثم تكلمت أثيلة أخيراً قائله بهدوء غريب على أذني عبير..لم تستطع إنكار بعض المنطق به عبر كلماتها المتأنية:
"لوقت طويل جداً عشت معه ورغم عدم المنطق في علاقتنا..ولكني كنت أمنحه الثقة يعقبها الاطمئنان إليه..أحتمي به وحده ولفظت عائلتي التي تحاول التودد لى وإصلاح ما إقترفوه في حقي..أمنحه وحده عالمي الصغير..ولا أتجرأ للبعد عن مداره..وأخيراً منحته قلبى دون حذرأو تمهل..أفضى له بكل ما يُخيفني وأكتمه في قلبي..يتبجح أنه يحفظنى كما خطوط يده ثم يأتي عقب أول مشكلة حقيقية تقابلنا..يهينني يا عبير..وهو يعلم جيداً..طبعي الذي لا يغفر لأي أحد الخاطئ في حقي ثم أذهب إليه بنفسي ربما إعتقد الجميع أني ذهبت لإبراء ساحتي أو حتى أرد جميله الذي أغرقني به"
صمتت مرة أخرى تأخذ نفس مرتجف..قبل أن تقول بتحشرج:
"ولكن الحقيقة..أنى ذهبت أطلب صفحة مستترة..أخبره أنه كل عالمي ولا أستطيع البعد عنه..كنت أترجه بصمت أن يرحم ذلك الضعف الذي يدب في فؤادي ثم ما لبث أن يطردني مرة أخرى..ويسمح لدينا بمجاورته ودعمه..وهو يعلم جيداً..ما الذي تريده هي منه ومقدار الألم الذي يسببه لي رؤيتها فقط في محيطه .."
أغمضت أثيلة جفنيها..قبل أن تقول بهدوء تعبر عن منطقها الخاص:
"أنا لا أنكر أني أخطأت في حقه..ولا أنكر ما فعله عبر ثلاث أعوام لي..ولكنه بنفسه إعترف..أنه فعل ما فعل لأنه أحبني أرادني..ويأتي الأن يخبرني بأنه سيتزوج إمرأة أخرى .."
صمتت لبرهة أخرى ثم أردفت وعينيها إشتعلت بفيضان:
"أنا لن أقف أبداً أتبارى لكسبه من إمرأة أخرى وهو يعلم هذا جيداً..إن لم يكن يريدني بالمقدار نفسه..إن لم يراعي قلبي الذي ينزف من تلقاء نفسه..لا يتعشم أبداً أننى سأقف يوماً لأمنعه من الرحيل وزواجه من أخرى"
إنتفضت أثيلة بهلع والهاتف سقط من يدها عندما سمعت صراخ نعمة المزعج..توسعت عيناها بغضب قبل أن تُلقي بنفسها لتبحث عن الهاتف الذي تدحرج تحت السرير..تمتمت بسخط قبل أن تجد ضالتها أخيراً ورفعت الهاتف سريعاً لتخبر عبير بأنفاس منقطعه:"عذراً عبير..سأحدثك مرة أخرى.."
سألتها عبير بهلع حقيقي:"ماذا حدث هل أنتم بخير؟!ما هذا الصراخ؟؟"'
أجابتها أثيلة سريعاً:"أه هذا..لا شيء إنه هجوم مفاجئ من بومة العائلة..توسعت عينى أثيلة بإرتياع وهى ترفع رأسها من تحت السرير فتخبر عبير مصححة:
"يا الهى !!أعنى أمي ولكنها تحب الحديث بالصراخ قليلاً..تستطيعين القول أنها تشحن طاقتها عبر العويل..حتى تكون مستعده دائماً لأي طارئ"
دبت نعمة على صدرها وعيناها تتوسع بخطر حتى خُيل لها أنها على وشك الانقضاض عليها وقتلها..
عادت أثيلة تخبر عبير بإمتقاع:"إن لم تسمعي خبر عني فأخبري تليد أنه لديه حق..بأنه يجب قص لساني لأنني لا أجيد السيطرة عليه تماماً عند الذعر"
إمتعضت عبير وهى تقول بلا اهتمام:"إذهبي أثيلة هداكي الله حبيبتى..وأريد أن أخبرك أنتِ لا تسيطرين على جلاب مصائبك في كل حالاتك"
................
لوقت طويل لم تعد أثيلة تدركه كانت تستمع لصراخ نعمة الذي هز أركان شقة أصيل..راقبت بعينها التي إختفى منها كل بريق محاولة عمتها المتشددة لجعل نعمة تهدأ..ولكن دون جدوى..
حاولت ويعلم الله وحده أن تحافظ على رابط الأمومة المعدم بينهما..تعذرها لثورتها ولكنها لم تستطع عندما قالت أخيراً بنبرة باردة:
"لقد ردني تليد وأبى يعلم بهذا..إذاً أرجوكِ إنسي مخططك بتزويجي من شخص آخر لأني زوجة بالفعل..إلا إن ظهر لديكِ شرعاً ما يسمح لي بجمع زوجين!!"
فغرت فاطمة شفتيها ولم تستطع الرد..عقب ما قالته أثيلة..أما نعمة إزدادت جنون فوق جنونها وهى تقترب من جلستها فوق الفراش تمسك بمرفقيها بعنف تهزها بانفلات وهى تقول:
"ردك يا معدومة الكرامة..ذهبتي إليه بقدميك..وبتي ليلتك في داره بعد أن رماكِ بين أقدامنا كوضيعة لا تحمل أصل"
رفعت أثيلة يديها بهدوء تبعد يد نعمة عنها قبل أن تقول بجفاء:
"لا يخصك اياً مما أفعله أمى..فأبى يعلم أنه ردني منذ وقت طويل..وأنا أخبرك بأنى لا أنوي أن أطالبه بأي إنفصال..سأظل أحمل إسمه إلى آخر يوم بعمري"
بجنون أهوج هتفت نعمة بغضب وهى تدب على الفراش بيديها..ثم قربت وجهها من وجه أثيلة تهدر بعنف:"بل ستتطلقين منه رغم أنفك..يا معدومة التفكير..وستزفين لمن هو أفضل منه..عقب إنتهاء عدتك"
كانت أثيلة تشعر أنها على وشك السقوط من حافة الهاوية..دوار يلف برأسها وإنقباض لا يُطاق أسفل بطنها..فمدت يدها تعصر بطنها بعنف قبل أن تقول بألم من نوع آخر:"أتعلمين أمى..أنا أشفق عليك حقاً..أكثر مما أشفق على حالى..فمازلتي في ضلال عقلك..لم تتبيني بعد ما أعانيه بسببك وحدك"
تراجعت نعمة قليلاً عن غضبها..وهى تنظر لأثيلة بإرتباك..كأنها تدرك حقاً..ما تقصده إبنتها والذي لم يتأخر كثيراً عندما وقفت بتعب من مرقدها تواجه أمها بتصلب..ثم قالت أخيراً:"أنا معدومة التفكير حقاً..هوجاء التصرف..لا أملك الحكمة أو حتى إدارة حياتى..أوقع نفسى في مصيبة تلو الأخرى ولا أدرك أخطارها إلا مؤخراً جداً..وإحذري لماذا؟!"
تغضنت ملامحها بالالم وهى تكمل حديثها الهادئ..رغم جلد من أمامها مستترة:
"بسببك أنتِ أمى..عشت عمري كله جاهلة..ألقيتني لعمتي التي كانت غارقة في أحزانها الخاصة ورغماً عنها حاوطتنى لتداريني عن العالم..خوفاً من مصير أسود تعرضت له هى"
توترت نعمة..وهى تقول بصوت متراجع:
"كنت أخاف عليكِ وعمتك ..بدت وقتها أفضل من يراعيك.."
هتفت أثيلة تقاطعها بغضب صارخ:
"لم تخافي علىّ أبداً..بل أنتِ المُذنبة أمامى بجهلي وقلة عقلي ..حتى ليلة زفافي البائس..أذكر إرتباكك وترددك قبل أن تُتحفينى بالقول..إفعلي ما يطلبه منك وأنا حتى أجهل طبيعة مطلبه..لما تركتينى جاهلة..ما الذي كان ينقص أمومتك لتحتضني صغيرة تعلميها الصح من الخطأ؟لما جُرتي علىّ وهتكتي سِترى وذبحتي أنوثتي أمى؟عبر ما إدعيتي أنه طهارة لي؟بسببك وحدك أنا أعانى..أتخبط..أنتظر منه وحده المعلومة تلو المعلومة..ليجعلنى إمرأة..لقد ضننتي علىّ بأقل حقوقي..ما الذي كان سيحدث إن علمتيني تلك الحكمة التي تتحدثين عنها؟ما المصيبة التي كانت ستقع على عاتقك إن تحدثتى معى كإبنه حقيقية لكِ يا أمى؟ بدلا من بلوغي العشرون من عمرى وأفعالي لا تتجاوز عمر طفلة صغيرة حمقاء"
إمتقع وجهه نعمة بشدة ولم تجد ما تقوله..خفت صوت أثيلة المنفعل لتنظر إليهم بعيون ترقرقت فيها دموع أصبحت لا تفارقها..لتقول بنبرات متحشرجة مستسلمة:
"لا تحاسبوني على أخطائكم ، من فيكم أرشدني للصح وحِدت عنه؟!"
صمتت لبرهة لتبتلع المرارة في حلقها لترفع كتفيها تهزهم بإستسلام وهى تردف:
"حتى إن فعلها هو ،، أنا لن أستطيع أن أكون لغيره يوماً ،، ما بيني وبينه لن يمحيه الزمن أو الوقت ولا حتى قلب نحره بيديه ،،أنا ملكه هو وهو فقط جزء مني حتى وإن نفاني ..."
رفعت أثيلة يدها تضعها على جبهتها وجسدها كله يترنح وكأنها فقدت سيطرته عليه..بنبرة مستنجده خرجت ضعيفه واهنه قالت:
"عمة..أنا..
لم تكمل جملتها وجسدها كله ينهار مرة واحدة قبل أن تهرع إليها فاطمة بفزع وتتلقفها بين ذراعيها صارخة بإسمها ...
......................
بعد وقت طويل
فتحت أثيلة جفنيها ببطئ..تحاول أن تستكشف ما حولها ..فصدمتها للحظه تلك الوجوه المطلة عليها بترقب..تعقد حاجبيها بغرابة للحظات قبل أن تقول بصوت هامس خافت متعب:"ما الذي حدث؟ولما تنظرون لي هكذا؟؟"
لم يرد عليها أحد..شعرت فقط بيد فاطمة التي تجلس بجانبها تربت عليها بحنان مهدئ..قبل أن يقول أصيل متنازل أخيراً..بنبرة غامضة بها بعض الحدة حمقاء:"لقد قلتِ أنك لثلاث سنوات يراعيك كأب وأخ"
توسعت عيني هدير بدهشة قبل أن تضغط على يد أثيلة تخبره بهمس:
"ما الذي حدث لك؟!هل جننت؟!إنه زوجها..هل تتدخل فيما لا يعنيك؟!!"
غيرة حمقاء ليس لها معنى كانت تطل من عيني أصيل..قبل أن يزمجر بعنف..ويترك الغرفة مغادراً"
أغمضت أثيلة عيناها مرة أخرى تهمس بصوت ضعيف:
"ما به أصيل هل جن؟!عديم الحياء ما الذي يهدف إليه من سؤاله؟!"
تقدمت هدير منها تميل عليها بأناقة هادئه قبل أن تخبرها ببطئ شامت..لم تستطع أن تحجب بين طياته البهجة الحقيقية:"أنت تحملين عماري صغير يا متخلفة..بلغتى شهرك الثاني ولم تعلمي بوجوده بعد"
فتحت أثيلة عيناها بتوسع حتى كادت أن تخرج من محجريها..بتعبير أبله لم تستطع هدير منع ضحكة خافتة خرجت من شفتيها..
إندفعت أثيلة قافزة فجأة من مكانها..فكبلتها يد فاطمة الحازمة سريعاً وهى تخبرها:""تمهلى في تحركاتك وتهورك.."
تراجعت أثيلة مطيعة لعمتها بنفس التعبير الأبله..قبل أن تقول بحيرة غبية كأنها لم تستطع أن تستوعب معادلة كيميائية صعبه نطقت بها هدير:"هل سمعتي ما قالته تلك الحمقاء..لقد جنت تماماً..أنا كنت أحمل نعمة ذنبى كعادتى معكم..وبعدها لم أشعر بما حدث"
عقدت أثيلة حاجبيها بتعبير مضحك..قبل أن تقول بنبرة متهربة بدت فيها طفولية:
"بالمناسبة أين نعمة..وما الذي أتى بهدير وزوجها..ما الذي حدث عمتي؟!"
إبتسمت فاطمة برضى غامض قبل أن تقول بسخريتها المعتادة:
"لا تقلقي على البومة..إنها لم تغضب حتى ولكنها إنزوت في مكانها الأثير..تُمارس طقوسها تعبر عن سعادتها بحملك عبر نعيك ببعض التعديد الحزين"
ضحكت هدير هذه المرة بقوة..قبل أن تراقب دمعة تهبط من عيني أثيلة قبل أن تسألها بلهفه:"هل تقولين الصدق؟!!أنا أحمل طفلة في أحشائى..هل أخيراً سأحصل على بعض من أحلامى دون خيبة أمل..أو فشل"
تحركت هدير تجلس بجانبها وهى تمرر يدها على بطن أثيلة المسطح تخبرها بصوت أجش:"ولم قد أكذب عليك حبيبتى..لقد لاحظت عليكِ علامات الحمل منذ فترة..ولكن لم أستطع التأكد بالأمر إلا اليوم"
إبتسمت أثيلة من بين دموعها وهى تضع يدها على يد هدير تخبرها بصوت مبحوح:"أنا حامل..حلمى أخيراً بين أحشائى هدير لا أحد يعلم..كم تمنيت طفلة منه أضمها بين ذراعى..أمنحها كل ما إفتقدته أنا يوماً..كانت حلمي الخاص منذ أن بدأ عقلي ينضج أخيراً ويستوعب ما حوله..كانت الأمنية الوحيدة التي تشعرني أني أنثى ومن حقها أن تتخيل وتتمنى..أمنيه طبيعية لكل إمرأة"'
لم تستطع فاطمة السيطرة على دموعها الذي غلبت دموع هدير مرغمين..فقالت هدير باختناق متفهم:
"مبارك حبيبتى..وكم أتمنى أن تكون طفلة حقاً..حافظي عليها جيداً..ولا تهتمي لأي شيء آخر إلا صحّتك..وإبنتك"
هزت أثيلة رأسها سريعاً توافقها..بإبستامة لذيذة مهادنة ذكرتها..بأول مرة رأتها مراهقه تتخفى بين جدران مدرستها الثانوية بحذر..ثم منحتها نفس الابتسامة..عندما طلبت هى صداقتها ووافقت أخيراً..عندما أخبرها أصيل أن تطمئن إليها..
.............
كانت أثيلة قد خلدت للنوم مرة أخرى..بعد أن منحتها هدير حقنة مثبتة وبعض المقويات..وتركتهم مغادرة..
ضمتها فاطمة بين ذراعيها بشدة..ويدها تخونها لتمررها فوق بطن أثيلة دون إرادة منها..
مغمضة العينين بشدة لم تستطع أن تنكر ذلك الخاطر المبهج المنتصر..إنتصار لا تعلم سببه..بالعدل ربما إن إستطاعت وصف ما تشعر به..تلك الروح الذي تحملها إبنة أخوها بالذات..تشعرها أنها روح إبنتها التي فقدت..تعويضاً لها هى فبعد عمر من الظلم والحرمان..من صلب العمارية تحتوي أحشاء شبيهتها في الشكل ولكن أبداً لن تسمح لها أن تشبهها في كسرها أو حظها السيء..
مرغمة كان عقلها يعود رغم رفضها للأمر..فشعرت بالألم المبرح يأن له كل عظمة صغيرة من جسدها وكأنها تعاني من الأمر الان..
إنها ممددة وغارقة في دمائها تحمل طفلتها..بين ذراعيها..طفلتها فتحت فيها عينيها زرقاوين..ثم أغلقتهم فجأة..الاحداث تتسارع والجسد الهزيل يغرق في دوامة..تتبين من خلالها تهامي الذي دخل الغرفة أخيراً طرد عواطف خارجها .وحاول الاقتراب منها ليخبرها بندمه وعشقه المسموم..فمنعه صوت أحلام الصارخ فيه بجبروت قوي تسبه دون تحفظ..وظهر إبنها من خلفها ينظر لجسدها المسجى العاجز برعب ثم تقدم برجولته الفتية وأزاح تهامي من طريق أمه..وسحب مفرش السرير سريعاً وسترها به قبل أن يدخل جلال الغرفة مكتسحها..إستطاعت أن تتبين من بين دوامتها زئيرجلال المجنون وهو يضرب تهامي بعصاه على يديه وقدمة مباشرة..
وآخر ما إستطاعت سماعه نشيج أحلام العالي..تعلن عن موت طفلتها وتصرخ في جلال أن يُنقذ حياة فاطمة قبل كل شيء ...
....
كان ما مرت به عذاب مضاعف فعبرت عنه بضم إبنة أخوها..تقبل رأسها وجبهتها..بتلهف تخبرها:
"سامحينى حبيبتى خفت عليك أثيلة..كل أفعالي كانت خوف..ثم تركت لإنتقامي الأعمى أن يجور عليك..ونسيت أني أظلم قطعة منى..لن أتركك أبداً حبيبتي..أنا بجانبك"
فتحت أثيلة عيناها الناعسة..قبل أن ترتعش شفتيها وهمست بصوت بدا كالبكاء المختنق:
"سامحتك عمتى ومنذ زمن طويل..إن قسوت عليكِ أنا لن يستطع قلبي أن يُجافيك"
عادت أثيلة تدفن رأسها بقوة بين أحضان فاطمة قبل أن تخبرها بنعاس:
"ذكريني فقط..ألا أسامح..ثوري الغاضب..كنت أحتاج ذراعيه هو من بين الجميع..في تلك اللحظة"
ضحكت فاطمة من بين دموعها وهى تقول ممتعضة:
"تحشمى..يا عديمة الحياء..تعلني أنكِ تريدين أحضان رجل هكذا ببساطة"
همهمت أثيلة بانفلات مماثل:
"عديمة الحياء هي من سألتني..عن أخر مرة كنت مع زوجي فيها يا فاطمة"
ثم أغمضت عيناها أخيراً..ذاهبة في نوم عميق ...
................
كان خطاب يجلس على إحدى النخلات المقطوعة وسط أرضه الزراعية ..يسند ذقنه على يديه الاثنان المرتكزه على عصاه ..
لم يكلف نفسه أن يعتدل من جلسته وهو يراقب الظل الضخم الذي أتى بهدوء وجلس بجانبه مباشرة..دقائق مرت طويلة قبل أن يقول خطاب بوقار:
"تلبية طلبي وقدومك جعلني أعرف أنك مازلت تحافظ على ذلك الود بيننا"
بنفس الهدوء كان رد تليد:
"مقامك يظل محفوظ..يا عم خطاب..رغم كل ما حدث..ويحدث"
عم الصمت المهيب مرة أخرى..يتخلله صوت صفير الرياح بينهم . شردت عيني خطاب في البعيد كأنه مازال يحل معادلة صعبة..ثم نطق أخيراً قائلاً:"مازلت عند نظرتى فيك وعشمي أيضاً وأعلم أخطاء إبنتي جيداً..والتي كان أخرها تركتك في مُصابك..وعادت إليّ دون إذن منك"
قال تليد بهدوء رغم الألم المضني في قلبه:
"أنت لا تحتاج الاعتذار عنها..وهى لاتدرك حتى معنى ما فعلته..لم تراعي الأصول والعادات ..ولكني أعرفها جيدا فهي لم تفكر في الأمر هكذا..بل ربما كانت غارقه في ثورتها المعتادة..وإنتقامها الاحمق الذي لا يتوقف"
عقد خطاب حاجبيه ورفع رأسه أخيراً ونظر لتليد بتأمل غامض قبل أن يقول:
"إذاً أنت تفهمها جيداً ومازلت تمنحها الاعذار !!لمَ إذاً تعاندها وتفعل كل ما يثير حمقاتها؟!"
إشتعلت عيني تليد بنوع من القسوة قبل أن يقول بحدة:"فهمي لها لا يمنحها الحق عماه أن تستمر في رعونة تصرفاتها ،،وأخبرها لك صريحة أنا ما عدت أحتمل..إبنتك لم تعد المراهقة الجاهلة التي أخذتها منك..بل إمرأة تعي كل ما يدور حولها..تعرف جيداً كل خطوة تطئها قدميها..حتى وإن كانت مدركة أنها تحطم كل شيء بيننا"
اخذ خطاب نفس عميق قبل أن يقول بنوع من الرزانة:
"أنا منحتك الفرصة تليد ولم أعترض..على ردك لها بتلك الطريقة..ولكن أعتذر منك..لن أستطع أبداً أن أفرض عليها شيء مرة أخرى"
إلتوت شفتي تليد في إبتسامة ساخرة قصيرة قبل أن يقول بخفوت:"وأنا لن أقبل..أن تُجر إليّ مجبرة مرة أخرى..بل يجب أن تختار رجوعها بكامل إرادتها..بل وتسعى لبناء ما هدمته بنفسها"
إلتقت عيني خطاب المحنكة بغموضه المعتاد بعينى تليد المشتعلتين بنيران حمراء غاضبة..رغم الجرح الذي نبض بينهم مرغماً..
لم يغضب خطاب بل أصر على حديث هادئ متعقل بينهم..ثم ما لبث أن قال:
"أنت تعلم جيداً أنها لن..تقدم على فعل كهذا..كما أنا أعرفها جيداً..ورغم تفهمي لغضبك ومطلبك..ولكنى لن أجعلها تهين نفسها أبداً"
أزاح تليد رأسه وعيناه تبرق بغضب..يتأمل الاراضي المترامية أطرافها ولا تنتهى إلا بحضن الجبل المهيب الشامخ..فرد بصوت مكتوم قاتم:"إن لم تختار وتعود لقيدها بنفسها..فأنا أيضاً.."
قطع جملته وهو يزدرد ريقه بصعوبة..كأنه لم يستطع بعد نطق أنه لا يريدها.و يحررها منه و يتخلى عنها بتلك البساطة..
إهتزت حدقتي تليد وهو يطرق بوجهه ونظر لما بين قدميه..كأنه لم يعد به قدرة على التصريح بالمزيد من ما يؤرق قلبه وعقله مجتمعاً؟!
تنحنح خطاب بهدوء..وهو يلتقط..صراع زوج إبنته..فآثر هو الأخر الصمت المتفهم..رافض أن يتدخل معه في حديث حاد قد يوصلهم لطريق مسدود مازال خطاب لا يريده ..
فاكتفي بما وصل إليه ووافق رغبته..في طريق أثيلة الجديد..
وكأنهما إتفقا إتفاق ضمني غير معلن عن منحها كل الاختيارات..لتحدد بنفسها..أي عباءة ستلجأ إليها..دون أن يشعرها أحد هذه المرة أنها مجبرة..أو يفرض عليها القيود..
قطع الصمت أخيراً تليد مرة أخرى وهو يقول بهمس..مغيراً دفة الحوار:"لقد إنقطعت عن جامعتها ما يقرب الشهرين..وهذا سيؤثر بالسلب على معدل درجاتها..التي حافظنا عليه مرتفع لسنوات..كل ما أريده لفت إنتباهك إليه..أن تخبرها..أن تضع كل شيء جانباً..وتلتفت لهدفها الحقيقي"
إرتفع حاجبي خطاب..بنوع من البهوت قبل أن يسيطر على إنفعالاته جيداً وهو يقول:"وسط كل هذا..تفكر في دراستها"
أخذ تليد نفس عميق قبل أن يقف من جلسته يعدل عباءته على كتفيه..وهو يقول ببساطة:"هذا مبدأ عم خطاب..لا دخل بمشاعرى به..إن كنت أحافظ على حق جميع من في رعايتى بإكمال تعليمهن للنهاية..مؤكداً لن أغفل عن حق إمرأة كانت بين عبائتى لسنوات..حتى وإن كان ما يربطنا مستقبل مجهول الملامح"
تنحنح خطاب بنوع من الخشونة وهو يقف يواجهه وأخبره:"أنا كنت أفكر في الأمر على كل حال..وربما سأصاحبها بنفسي إلى العاصمة..لتنهيها عامة..وبعدها نرى ما ستجرى إليه الأمور.."
ضاقت عينى تليد بإدراك قبل أن يقول بغيظ مكتوم:"هل طلبتني..لتخبرني أنك..ستأخذها لهناك بنفسك..أم تعلن أنك ترفض رجوعها لعصمتي!!"
دب خطاب عصاه على الارض برتابة لدقائق قبل أن يقول بنفس النبرة الغامضة:
"أعتقد أننا تحدثنا مسبقاً في أمر رجوعها من عدمه..وأنت ألقيت أيضاً مطلبك وتصورك حول علاقتكم..:
صمت لبرهه قبل أن يرفع رأسه بشموخ ليخبره بنبرة سلطوية:
"لقد أردت مقابلتك لأخبرك..أنى صحيح أتفهم غضبك..ورفضك أفعالها..ربما أتفق معك في بعض من مطالبك..ولكن أفعالك تجاه إبنتي لها حدود وإن إستمريت في ضلالك وتماديت في أفعالك التي هددتها بها..سيكون لى رد فعل قاسي لن يعجبك أبداً...."
إشتعلت عينا الأخر بنار خضراء غاضبة..لم ينطق وهو يحاول السيطرة على ذلك الغضب الاسود وقد فهم جيداً ما يلمح له خطاب وما يقصد الغبية أخبرته !!هل أخبرته !!أنه ينوى زواجه من أخرى؟!
نطق أخيراً خطاب متنازل بنفس النبرة الغامضة:"تذكر أنك الأكبر عقلاً..وسنناً منها..وإستخدم حكمتك بدل ذلك الغضب الأرعن..والعناد يا تليد ..فكل ما سوف يحدث من دمار..لم يعد أنت وهى فقط..من ستحملاً تبعاته..بل ربما يطول روح أخرى صغيره ليس لها ذنب إلا إنتمائها إليكم"
..............\\...................
شعرت أثيلة بذلك السلام النفسي منذ وقت بعيد..منذ أن سلمت له ولمشاعرها راضية أخيراً..لتكتشف وقتها أن كل مخاوفها منه لسنوات كانت سراب..قوقعة حمت نفسها فيها بإصرار خشية وخوف من ذلك المجهول البعيد..معترفه ولم تنكر أنها أحبته منذ وقت طويل..ولسخرية القدر لا تعرف متى بدأ يتملكها بإردتها الكاملة !!رغم رعبها الكامن منه وتعنت عقلها الرافض..لسنوات ضاعت من كليهما..أنه رغم كل حنانه مازال فى نقطة ما في عقلها..الوحش المرعب الذي عرفها على جانب من الحياة لطالما أرعبوها منه..تنهدت بتعب تحاول أن تنفض أفكارها بعيداً..فتمتد يدها تمسد على بطنها..فتتسلل لشفتيها إبتسامة راضية..بكنزها الثمين..نطفة منه بين أحشائها..طفلة تمنتها قبل حتى أن تسمح لعقلها بمساحة حرية من التطرق لكيفية الحصول عليها..ضحكت بسخرية حقيقية من نفسها..تتذكر حديثه عن غبائها ..فتغلق جفنيها بتعب هامسة لنفسها بقوة:"لم أكن غبية قط..بل هو الغبى الذي أصر علي معالجتى..ونسى تهذيب وتحجيم غضبه"
أخرجت نفس آخر بضيق متمتم بصلف:"تباً..حتى ذلك السلام النفسى يقتحمه رغماً عني..لمَ كل شيء يدور حوله وحده حتى فرحتى بإبنتى؟!وذلك الرضى هو المسؤل عنه"
قاطعتها هدير وهى تقتحم جلستها قائله بتعب:"كفى عن الحديث مع نفسك..ستجنى قريباً"
مطت أثيلة شفتيها بامتعاض وهى تقول:"لا أعرف هل تملكين أنتِ وأخوكِ مشكلة معي..هو ينادينى بالغبية..وأنتِ تتمنين لى الجنون"
رمت هدير جسدها المنهك علي الأريكة بجانب أثيلة وهو تقول:
"أنا ليس بى طاقة لمجادلتك..يكفينى الضغط الذي أتعرض له فى بيت عائلتى..وعيادتى"
لفت إنتباه أثيلة هذه المرة وهى تعتدل تسألها بإهتمام:"صحيح..وسط مشاكلي الخاصة نسيت أن أسألك..كيف حال نجلاء..هل هى أفضل؟؟"
رفعت هدير يدها تضغط ما بين عينيها وهى تقول بخفوت:"ظاهرياً نعم أفضل..ولكن بالتأكيد نفسياً هى ليست جيدة علي الإطلاق"
أخذت أثيلة نفس عميق قبل أن تقول بأسى حزين:
"تقصدين محطمة تماماً..أشعر بما تشعر به يا هدير ولكن أتعشم أن تجد قوتها الداخلية وتناضل لتحصل على السكينة سريعاً..ولا تغرق فى نعيها لنفسها لسنوات"
إسترعت إنتباه هدير كله وهى تنظر لها بنوع من التعاطف كأنها تدرك مقصد أثيلة وعقد مقارنة بين تجربتها التي مرت بها..ربتت علي يدها بهدوء وهى تخبرها:
"لا يهم الوقت أثيلة..بقدر أن تحصل على نتيجة مرضية لداخلها..أن تتوقف عن حروبها وتستمع لصوت العقل حبيبتي..وتمنح نفسها الفرصة لترى الصورة بكل الأبعاد المحيطة"
تهربت أثيلة وهى تشيح بعينيها بعيداً..ثم ما لبث أن قالت بصوت خافت على إستحياء:
"وهو كيف حال جرحه..أصيل قال ان الجرح سطحي وسيشفى سريعاً"
تنهدت هدير بنفس يائس قبل أن تقول ببساطة:"هو بخير..حتى رفض أن يسمح لى بتغيير جرحه..وإهتم به بنفسه..أعتقد ان الامر لم يؤثر به كثيراً"
صمتت هدير لبرهه..ثم ما لبث أن قالت بنبرة بها نوع من اللوم:
"ولكن ما يؤثر به أمر آخر..يتمحور حول إمرأة عنيدة..ترهق تفكيره وقلبه..حتى وإن لم يتحدث"
نظرت لها أثيلة بامتعاض قبل أن تقول ساخرة:"مسكين..حاله ربما يعانى من بعده عن عروسه الجديدة"
كزت هدير على أسنانها بغيظ قبل أن تقول بحنق:"أنتِ مستفزة..تتعمدين اللف حول الأمر من أبعد الطرق..لتبقي الصورة كما يصورها عقلك الغبي"
مدت أثيلة فمها بتعبير مضحك مغيض وهى تقول بلا إهتمام:
"أنا لن أرد عليك..لأنى فتاة مهذبة تراعي الأصول..وفرق العمر بيننا"
توسعت عيني هدير بذهول..قبل أن تفغر فاهها قليلاً وهى تقول:
"صبرنى يارب على بلوتي فيك..أتعلمين لولا إبن أخى لكنت هجمت عليك الان أمزقك بيدى وأريح أخى منك"
هزت أثيلة كتفيها بلا معنى..ولم ترد كأنها تتعمد إغاظتها بالصمت وعدم مجابهتها ...عم الصمت لدقائق..قبل أن تتنازل أثيلة أخيراً تسألها بهدوء:
"هل أخبرتيه عن حملي؟؟"
عبثت هدير لدقائق..ثم قالت بنوع من الحيرة:
"لا..لم أقابله اليوم..مررت سريعاً لأهتم بنجلاء..و كان خارج المنزل حتى أني نسيت أن أخبر أمى فالوضع هناك مازال مضطرب نوعاً ما"
بذات الهدوء أخبرتها أثيلة:
"خيراً فعلتِ لأني كنت أريد أن أطلب منك عدم إخباره بالأمر..مطلقاً"
قالت هدير بقلق:
"ما الذي يعنيه مطلبك..هل تنوين أن تداري عنه أمر كهذا؟!إنه حقه الطبيعي أثيلة أن يعلم..بقدوم طفله"
أرجعت أثيلة رأسها إلى ظهر الأريكة..وأغمضت عيناها بإرهاق كأنه لم يعد فيها نفس آخر للمجادلة..فأخبرتها موضحة نفسها بذات الهدوء:"بالتأكيد..يا هدير سيأتي يوم ويعلم..ولكنى أفضل أن يكون عبري أنا"
تراجعت هدير عن قلقها أخيراً قبل أن تقول:
"ولكن ربما إن علم الان..قد يتراجع عن حماقته..ويأتى بنفسه يعتذر منك ويراضيكِ"
إعتدلت أثيلة بنوع من الحدة وهى تقول بغضب مكتوم:"حقاً..يال سعادتى سأرقص طرباً..إن فعل هذا"
بحزم كانت تقول هديربتشدد:"توقفي عن سخريتك..وتحدثى بأدب مُتعقل كما أحدثك"
راقبت بعيناها والآخرى تهمس ببعض الكلمات غير المفهومة..
قبل أن تتنازل أخيراً قائلة ببساطة:"الامر..بينى وبينه ليس بهذه البساطة هدير..لا أحد منكم يدرك هذا..هو أعادنى بالفعل وإن كنت أريد منه مراضاه فقط..كنت تشبثت بتلك الفرصة..ولم أعد إلى هنا"
عبست هدير مجدداً..قبل أن تسألها يائسه.."اذاً..ما الذي تريديه أثيلة..ومالذي يريده هو منك؟لأنى حقاً تعبت بينكم"
ظلت أثيلة تنظر إليها طويلاً وإبتسامة هادئه ترسم على شفتيها .لم تستطع هدير فهم سببها ..ثم قالت أخيراً بخفوت صادق صريح:
"أريد أن أعود أن أطمئن له هدير أثق به ثقتي العمياء التي لم أمنحها لسواه..تليد يجب أن يحجم غضبه نحوي..لن أستطيع أن أعود إليه وأجازف بقلبي وإبنتي ..ربما عبر نوبة غضب من نوباته..ينولني الأذى أنا وطفلي"
همت هدير أن تقاطعها ..فأردفت أثيلة سريعاً تخبرها:
"أنا أدرك أخطائى جيداً..وأحاول أن أعالج نفسى بنفسى..وتليد يجب أن يفعل المثل..يا هدير..لأستطيع أن أسلمه حياتى وإبنتى مرة أخرى"
بهتت ملامح أثيلة فجأه وألم متعاقب يظهر على صفحة بشرتها البيضاء بوضوح..نار الغيرة تنهش فيها دون رحمة..فأردفت بنوع من الحرقه:
"كما أنه..الان يقدم على زواجه من أخرى..وأنا لا أريد أن أستخدم حملي كنوع من الضغط عليه ليتراجع..بل يجب أن يعود لي أنا يختارني وحدي دون أى أسباب أخرى..أعتقد هذا أبسط حقوقي عليه"
كانت هدير مازالت تتأملها بنوع من الضيق والتعب..الارهاق من كل شيء والضغوط التي أصبحت تأتيها من كل جانب..ربما تتفهم أثيلة جيداً..ومقتنعة تماماً بما تقوله ولكنها من ناحيه أخرى لن تستطيع أن تغش اخوها مرة أخرى..وقد فعلتها من قبل وكادت ان تدمر حياته وحياة من أمامها..
عادت هدير تريح رأسها على ظهر الأريكة بتعب واضح..تتمتم باستغفار متحيرة..ماذا تفعل..ومن تساند..تدحرجت حدقتيها تنظر لأثيلة بهم..تهمس لداخلها:"أعرف جنونك جيداً أثيلة..وأفعالك المتهورة الغير محسوبة..ربما إن ضغطت عليك وأخبرته تأذى طفل أخى بفعلة حمقاء من نوبات تمردكِ..والتى لا تدركين خطورتها من الاساس"
نطقت هدير أخيراً..لزوجة أخيها المنتظرة تخبرها بجفاء:
"أعدك لن أخبره..وأعرض نفسى لغضبه مرة أخرى إن عرف ولكن بشرط..إن لم تنفذيه إعتبري إتفاقنا لاغي ولن أدعمك أبداً مرة أخرى"
إعتدلت أثيلة تسألها بلهفه:"هذا إبتزاز..ولكن لا مشكلة ما هو شرطك؟"
ضحكت هدير بيأس وهى تقول:"أن تهتمي بطفل أخي جيداً وتحرصي عليه بحياتك..وتنفذى نصائحي دون جدال..وبالطبع تتناولين أدويتك بانتظام"
إبتسمت عينى أثيلة بنوع من الشقاوة وهى تقول ببهجه:"شرط غبي منك..أنا سأحافظ على إبنتى..لانها ببساطة إبنتى أنا وحلمي الذي أصبح حقيقة..أما إبن أخوك هذا لا يهمني"
هبت هدير من مجلسها تتمتم بغيظ:"لا تتهوري..لا تتهوري..تذكري إبن أخوكي..وحاولى أن تتناسى أنه متواجد من الاساس..هى مجرد هواء لا شيء كائن هلامى ..لا تدعيها تخرجك عن وقارك"
قبل أن تتحفها أثيلة برد آخر تراجعت كلتاهما..وهن ينظرن لدخول خطاب الهادئ..
وهو يقول بإبتسامة حانية:"كيف حالك الان يا قرة عين أبيك..هل تشعرين بتحسن؟؟"
عضت أثيلة على طرف شفتيها ووجها كله يتلون بالخجل قبل أن تهمس بخفوت:
"بخير أبى..لا تقلق ."
نظرت لها هدير بعينين متوسعتين قبل أن تهز رأسها بدهشة تهمس بصوت خافت:"سبحان من وضع كل هذه الشخصيات فيك الفتاة تعانى من إنفصام ما ..أعانك الله يا أخى على بلوتك فيها"
وضعت فاطمة يدها على كتف هدير فجأة تخبرها بإتهام مزيف:
"سمعتك..تتهمين إبنة أخى زينة الصبايا الرزينة العاقلة..بأنها بلوة!!"
إمتعضت هدير وهى تقول:"هل أنتِ مقتنعة حقاً بما تقولين؟!من تلك العاقلة؟"
هزت فاطمة رأسها وهى تقول بأسى مزيف مضحك:"إنها طفلتي..ورغم معرفتي جيداً أنها بلوة تمشى على قدمين..لا أملك إلا تحسين صورتها"
إبتسمت هدير بهدوء وهى تومىء بنوع من الموافقة..قبل أن تسأل فاطمة فجأه:"أين وتين..لم أراها منذ أن دخلت البيت"
رفعت فاطمة حاجبها وهى تقول بتعبير مغلق لم يوضح معانيه لهدير:"أخيراً يا هدير..لقد تأخر السؤال عنها كثيراً"
عقدت هدير حاجبيها وهو تقول بنبرة متحيرة:"أي تأخير عمتى..لقد أتيت من نصف ساعة فقط وعندما مررت على عمي أولاً ولم أجدها معه..إعتقدت أنها معك"
لم تتنازل فاطمة عن غموضها وهى تقول:"لسنوات تكتفين أن تعودي الى المنزل..وتنتظري أحد منا يأتى إليكِ بها..دون أن تسألى عن سر إختفائها لساعات"
تنحنحت هدير بنوع من الحرج وهى تقول:"أنا لم أقصر أبداً..مع إبنتى يا (عمه ) وعدم سؤالى لإني أعرف جيداً حب الجميع لوتين..وأنها بالتأكيد..مع أحد منكم يراعيها في غيابى"
برقت عينى فاطمة بنوع من اللوم الشامت وكأنها تعاقبها على شيء مبهم قبل أن تقول:"لم يكن المهم يوماً..لديك من هو الذي يراعيها..ويهتم بها أثناء إختفائها ..ولذا تستحقين ما نولتيه..أنتِ لا تختلفين عن أثيلة كثيراً في البصيرة العمياء"
أطلقت هدير زفرة متعبة وهى تقول بخفوت:"أنا مرهقة حقاً..وأعانى من أيام صعبة للغاية ..فهل تكرمتى وأخبرتينى أين هى؟؟لأذهب إليها"
تنهدت فاطمة ببطئ وهى تقول ببساطة:"إذهبي إلى الغرفة المتواجدة فى الحديقة الخلفية للمنزل..وتين هناك"
توسعت حدقتي هدير بنوع من الذعر وهى تنصرف سريعاً قائلة:
"يا الهى..هل تركتيها فى غرفة الماكينة الزراعية عمتى ..ستؤذى نفسها"
ضحكت فاطمة بنوع من التشفي الغريب وهى تقول بنبرة ساخرة:"هذا ما تظنيه أنتِ يا ست البنات..أنصحك أن تترفقى بنفسك قليلاً عندما تصدمى بما سوف تجديه"
......................
كان خطاب مازال ينظر لحرج إبنته البالغ منتهاه بنوع من الدفء..فتجنب أن يسألها عن أمر طفلها أكثر حتى لايزيد خجلها منه ...
فدخل في صلب الموضوع مباشرة وهى يخبرها:
"أتيت لأسألك..حبيبتى للذهاب لجامعتك..لقد إنقطعتى لفترة ليست بقليلة..ويجب أن تعودى لتلحقى بما فاتك ."
إتسعت إبتسامة أثيلة وهى تشرد بعيناها بعيداً عنه تخبره بلطف:"لقد كنت أريد أن أتحدث مع أصيل في الامر...ولكن الاحداث المتعاقبة لم تمهلنى الفرصة"
إرتبكت ملامحها وهى تفرك كفيها بنوع من التعصب وهى تقول بخفوت:"كما أنى لا أعرف..كيف أستطيع الانتظام دون وجود..سكن آمن ومستقر"
كان خطاب مازال فى هدوئه الوقور عندما قال ببساطة:
"إن كنتى مستعدة..أنا بنفسى سأصطحبك وأجلس معك إلى أن تنتهى من إختباراتك..أصيل لديه شقة فى وسط المدينة..من أيام دراسته..ستفى بالغرض مؤقتاً"
أومأت أثيلة بنوع من الموافقة..رغم لمحة حزن عميقة وحسرة مرت فى عينيها..عندما أتت إلى هنا .معه لم تعتقد أبداً انها ستعود من دونه..مطرودة من عباءته..وخارج رعايته وحضنه الذي آواها لأعوام"
تدخلت فاطمة التي تراقبهم من الباب قائله بنوع من القلق:"ولكن ربما السفر والتنقل بين الجامعة والمنزل هناك وإرهاق الدراسة..لن يناسب حالتها الصحية يا خطاب"
إلتفت لها خطاب قائلاً بحرص متفهم:"لا تخشى عليها ..أثيلة تعلم جيداً ما تريده..وستحافظ على الأمانه التى تحملها جيداً..كما أني لن أتركها وهدير ستتابع معى حالتها خطوة خطوة"
نقلت فاطمة نظرها بينهم بنوع من الضيق غير مقتنعة..بالامر ولكنها لم تملك حق الاعتراض..وقد حسمت أثيلة موقفها أخيراً عندما قالت:
"مستقبلى..أيضاً مهم عمتى..لى ولإبنتى..على حد سواء فلا تقلقي أعدك أن أحافظ على الاثنان معاً"
....................
كانت هدير تلتهم الأرض بتسرع وهى متوجهة لتلك الغرفة..عندما إصطدمت بنعمة التي إرتبكت ملامحها وهى توقفها قائلة:
"ما بكِ..ولماذا تجرين هكذا كأن أحد يطاردك"
بتعحل كانت تقول هدير:
"عمتى فاطمة تركت وتين في غرفة الماكينة وحدها.."
أوقفتها نعمة مرة أخرى وهى تقول مرتبكة:
"إنتظرى هنا أنا سأتي بها .لا تذهبي إلى هناك الغرفة حالها سيء..وو رائحتها كريهة..ضاقت حدقتي هدير بشدة وهى تقول بتوجس كأنها تدرك أخيراً أن هناك خطب ما..تداريه نعمة بإصرار حول تلك الغرفة التي لم تخطوها قدم هدير كل تلك الأعوام..بنوع من الهدوء الجاف أزاحت هدير يدها وهى تقول بقوة:
"سأذهب بنفسى لا تتعبين نفسك..ولا تخشي على من روائح كتر خيرك عمتى"
لوت نعمة فمها يمين ويسار فى حركة مولولة دون صوت..تهمس كمن يتوقع كارثة:
"تلقى وعدك يا أصيل..ستقلب عود القصب الباردة الطاولة فوق رأسك"
عند هذا الخاطر إبتسمت بشماتة وهى تقول:"تستحق..ما ستفعله بك حتى تفضلها علىّ مرة أخرى"
.......
وقفت هدير أمام الباب الخشبي الموصود..ترددت للحظات وقلبها يدق بعنف ..تحركت أخيراً تفتحه ببطئ رتيب
قبل أن تتوسع عيناها..وهى تخطف نظرة سريعه للغرفة التى لم تكن أبداً خرابه كما كانوا يخبروها بل غرفة منمقة واسعة مقسومة لنصفين..بحائط قصير من البلوك الابيض..جزء تستريح به مكينة زراعية ضخمه..والجزء الواسع منها..يفترش بسجادة كبيرة خضراء اللون ومثبتة فى الأرض تحتوى كل أركان الغرفة ..تتناثر عليها ألعاب متعددة الأشكال..لكل المراحل العمرية..
وهناك..وفى ركن منها..يفترش أصيل الأرض يرفع وتين لأعلى بقدميه يلاعبها..وتنطلق ضحكات ابنتها (بدلال ) قبل أن ترفع رأسها..تنظر إليها مباشرة فتهللت بيديها بطفولية قائله:"هدير إكتشفت سرنا بابا وستفسد اللعبة؟!"
إلتفت أصيل سريعاً ينظر لوقفتها المتجمدة..قبل أن تبهت إبتسامته..عندما رأى نظرة اللوم فى عينيها التى برقت بدمعة جارحة..أنزل وتين ببطئ وهو يعتدل يضمها إلى صدره..قبل أن يضم فكه بغضب متمتم ساب نفسه:
"تباً..لم أريدك أن تعلمين بتلك الطريقة"
تحشرجت أنفاس هدير وهى تسأله بتعثر موجع:"لما..تفعل هذا؟!لم تصر أن تُبعدنى عنك وتجرحنى بأفعالك؟بعد كل الوعود التي أطلقتها أصيل"

عادات خادعةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن