الفصل الثاني عشر
•نظرات العتاب واللوم لم تختفي للحظة من عيناها وهي تتطلع إليه وهو يحمل الصغيرة ويقف بجانب الفتاة التي أبعدتها عنه لعام كامل فظنت أنها بذلك أخرجتها من أسوار قلبه للأبد ولكن يا حسرتها الآن علي تمسكه الشديد بها فهو رغم رؤيته لها لم تهتز عضلة واحدة في وجهه تعبر عن توتره لرؤيتها أو قلقه من حدوث شئ سئ بل بالعكس هو يقف أمامها شامخاً رافعاً رأسه ويوجه لها نظرات التحدي بينما خالته تنظر لزوجته بسخط وازدراء تقليلاً من شأنها ويجول في عقلها جملة واحدة (ما الشئ المميز في هذه الفتاة التي فضّلها علي جميع بنات حواء ؟) في حين "صفاء" تقف وعلي وجهها بلاهة بالغة فهي لا تفهم ما سر هذا الصمت المريب بينهم ولكنها لم تقدر علي الصمود أكثر فقالت بابتسامة مترددة وهي تشير لهما بالجلوس فهما ضيفتاها الآن:
- اتفضلوا يا جماعة اقعدوا واقفين ليه !!
لم يسمع لها أياً منهما فمازالت هي تقف وتنظر ناحيته ولكنها قالت بثبات وهي تتطلع إليه بعيون متقدة:
- أنا مش جاية أقعد ،، أنا جاية أخد ابني وامشي
عَلَي وجه "رحيق" ووالدتها استعجاب مفضوح من جملتها الغريبة التي قالتها للتو فقالت "صفاء" ببلاهة حائرة فهي مازالت لا تفهم:
- لمؤاخذة يا مدام "دليلة" ممكن تفهمينا أكتر
انتشر صوت "سميحة" المرتفع في المكان:
- من غير ما تفهموا أختي هترجع ابنها لحضنها تاني بعد ما نفذتوا ألاعيبكوا عشان تاخدوه منها .. ثم استطردت تقول وهي تنظر لشقيقتها وتحثها علي الإقدام:
- يلا يا "دليلة" مستنية ايه ،، هاتي ابنك ويلا نروّح ،، ابنك مكانه مش هنا
هذه الجملة بالتحديد جعلت الشياطين تتراقص أمام أعين "رحيق" فرمقته بنظرة حادة وكأنها تعاتبه علي سكوته واستسلامه للأمر الذي لا تفهمه بعد فقالت بحدة وهي تنظر اتجاه والدته:
- ممكن أفهم دلوقتي في ايه ،، يعني ايه مكانه مش هنا !!
دة بيت مراته لو مكانه مش هنا هيكون فين يعني ؟؟
ابتسمت "دليلة" ابتسامة ساخرة ثم اقتربت بخطوات بطيئة منهما مصدرة صوت مزعج بكعبها العالي ثم قالت بتشفي وهي تنظر لـ "رحيق":
- تحب تفهمها أنت يا "سليم" ولا أفهمها أنا !!
ابتلع ريقه بصعوبة وهو ينظر لوالدته بحدة وضيق فأضافت بابتسامة مستفزة وهي مازالت تنظر لزوجة ابنها:
- خلاص هفهمها أنا شكلك مكسوف ،، بصي يا حلوة ،، أنتِ مراته أه علي سنة الله ورسوله بس للأسف هو عمل الخطوة دي في السر يعني احنا مكناش نعرف ،، عارفة ليه عشان مكسوف منننا إنه بص لواحدة زيك بمشاكلها وقرفها دة كله وهو لسة شاب زي الورد ألف بنت تتمناه فللأسف هو معندوش استعداد يواجه المجتمع بيكِ ،، مجتمعنا ،، المجتمع المخملي اللي عمرك ما تحلمي هو شكله عامل ازاي
- ماماااااا
هدر "سليم" بغضب أمام وجه والدته فانتفض جسد الصغيرة في أحضانه من شدة نبرته وعلوها وكذلك ارتعدت "صفاء" مما سمعت وازدادت دهشة من كلام والدته فابنتها للمرة الثانية علي التوالي تتعرض للإهانة من قبل عائلة زوجها ففرت دمعة هاربة من عيناها قهراً عليها في حين نظرت له والدته بتهكم بينما احتجزت "رحيق" دموعها في مقلتيها بحرفية بالغة وقالت بصمود وثقة أمام أعين والدته:
- أنا عمري ما حسيت بالإهانة لمجرد إني مطلقة ،، أه حسيت بالإحباط لأن للأسف مجتمعنا العقيم بينبذنا كمطلقات وكأننا خلاص في عداد الموتى ولازم نرضي بالوحش وإلا هنبقي لبانة لكل حد يقابلنا ،، النبي اتجوز المطلقة وبنت البنوت واللي كانت مخطوبة قبل كدة واللي اصغر منه واللي كانت مسيحية واتجوز اللي اهلها يهود واتجوز الأرملة وكأنه بيبعت رسالة لكل راجل وبيقول ( أنا محمد خير خلق الله اتجوزت الست في جميع حالاتها وبقولكم إن مفيش ست يعيبها حاجة سواء سن أو أهل أو شكل وإلخ ) ،، مين أنتوا بقي عشان تبيعوا وتشتروا فيها زي ما تكون سلعة بتستهلكوها !!!!!
عجزت "دليلة" عن الرد عليها ،، لا تنكر أنها لامت نفسها ولو قليلاً علي كلامها اللاذع الذي يجرح أي أمرأة مثلها ويصيبها بالجزَع ولكن جملة "سميحة" أعادتها لحالتها السابقة:
- أنتِ فاكرة إنك بالكلمتين دول هتستعطفينا وتكسبي ودنا ،، تبقي هبلة وغبية
التوي ثغر "رحيق" بسخرية ثم قالت بكل تلقائية:
- انا أكبر بكتير اوي من إني استعطف ناس زيكوا بيبصوا علي المظاهر الكدابة ومؤمنين بالمجتمع المخملي وعاداته العقيمة الغير رحيمة بينا
- يلا يا "سليم" من غير كتر كلام ،، نزل البنت وامشي معايا بهدوء من غير مشاكل
قالتها "دليلة" بصرامة وهي تنظر لولدها بحسم وكأنها تحادث طفل صغير لم يتجاوز العشر سنوات فالتفتت بظهرها تنوي الرحيل معتقدة بأنه سيتبعها دون أعتراض ولكنه قال بكل هدوء وهو يتخلل أصابع "رحيق" بيده العريضة:
- أنا مش هتحرك من هنا من غير مراتي وابني و "جانسو" ،، لو بيتك يا "دليلة" هانم هيستقبل مراتي وعيلتها الصغيرة باحترام هاجي معاكِ غير كدة انا مش هسيب مراتي وابني لوحدهم
نظرت له "رحيق" نظرة عتاب ولكن يتخللها بعض الحب فبادلها بنظرة أسف وكأنه يعتذر لها عن كل ما أصابها بسببه الآن من إهانات سخيفة بينما والدته أصابتها نازلة وكادت الأرض أن تميد بها عندما سمعت كلمة ( ابني ) منه ،، فتمنت من ربها أن يكون اعتقادها خاطئ فقالت بصدمة وهي تلتفت له ببطئ:
- أنت قولت ابني ولا انا متهيئلي !!
ردّ عليها بسرعة البرق وهو واثقاً:
- لا مش متهيئلك ،، "رحيق" حامل في ابني
شهقت "سميحة" ووضعت يدها علي فمها من شدة الصدمة فهي كانت تعتقد أنه يتسلي بتلك الفتاة قليلاً وسيتركها ويتزوج واحدة من علية القوم ولكن الظروف عاندتها فضغطت علي أسنانها لتقول بخفوت يشبه فحيح الأفعي:
- "رحيق" دي طلعت شاطرة أوي ،، كسبتني مرتين بس التالتة تابتة وأوعدك الدمار المرة دي هيكون شامل ،، أنتِ وابنك
فكرت "دليلة" لوهلة أنها لو رفضت أن يأتي بها سيعاند ولدها أكثر ويبتعد عنها أياما أخري فأبعدت أفكارها الحمقاء عن رأسها لتقول باستسلام:
- ماشي يا "سليم" ،، بيت "الخالِد" هيرحب بابنه وحفيده
ابتسم بنصر فهو حقق مبتغاه فنظر لـ "رحيق" فلمح طيف الدموع في عيناها فضغط علي يدها بنعومة لتنظر له نظرة أفحمته وجعلته يزداد إيلاماً لنفسه بينما كانت "صفاء" واقفة مذهولة مما حدث للتو وكأنه فيلم عربي قديم يفسر حياة المجتمع المخملي التي ظنت أنها قد دفنت منذ زمن ......
أنت تقرأ
للحكايــة قُيــود
Roman d'amourالمقدمة: -صابرة .. عنيدة .. جامحة أنتِ يا أمُ ماء الحياة ،تتلاطم الرياح بکِ فتصمدين أكثر وأكثر ،عانيتِ الفقد مراراً وتكراراً ومازلتِ ذات روح مغوارة تأبي الخنوع أمام كاشحيکِ .. ولكن ماذا عن قلبك يا صاحبة العيون الفيروزية ؟! أسيقدر علي فک قيوده أم سين...