(١٢)

1.2K 64 17
                                    

توقف مراد بعد دقائق أمام فيلا عمه محمد دون أن يتفوه بحرف، استدارت جمانة ناحيته وتطلعت بتعابير وجهه المتجهم قائلة بمرح مفتعل: شكرا على التوصيلة "

نطقتها جمانة ليهز مراد رأسه وهو يتجاهلها مرغما، يتجاهل عينيها، بحة صوتها، روحها التي ماعاد يسمح لنفسه بأن يلفظ أنه يعشقها حتى اللحظة
فتحت باب السيارة وترجلت منها وكادت أن تفتح باب الجهة الخلفية لتحمل صغيرها فعالجها بقوله: -لا تنسي وشاحك"
استدارت ناحية يده الممدودة بعدما ترجل كذلك لكنها هزت رأسها نافية باستغراب: ليس لي"
ضيق ما بين حاجبيه ليغمغم معتذراً: إذن هو لدلال، أعيديه إليها عندما تزورينهم"
انفرج حاجباها دهشةً كونه يعرف دلال بل وتستقل السيارة برفقته!، شردت قليلاً قبل أن تمد يدها وتتناولته من بين يديه : حسناً سأفعل"
فتح باب السيارة وتوجه ناحية جواد وحمله بين ذراعيه وابتسم ودمع حوشي ترقرق في مقلتيه وهي يتأمل الصغير الغافي بين يديه، قبله مغمضا عينيه وكأنه يقبل قطعة من روحه...وكأنه يقبل بعمق روح من تنتظر أن تحمل صغيرها الراقد بين ذراعيه.
-هاته.
غمغمت بصوت خفيض  لتحمل صغيرها فرفع مراد نظراته بنصف ابتسامة حملت الكثير والكثير وقال وكأنه لا يملك الإرادة لتركه:- لن تحرماني منه أليس كذلك، هذا الصغير قطعة من روحي جمانة.
شعرت برجفة وقشعريرة تجتاح جسدها من طريقة نطقه لتلك الكلمات وهو غارق بعينيها..فابتسمت مطمئنة..
- لن يمنعك أحد عنه ألست عمه.
ثم حملت الصغير لتغادر وسط نظراته التي جاهد لانتزاعها عنها"واستقل سيارته من جديد مستكملاً الطريق إلى منزله.

*******

أطل صباح اليوم التالي تجهزت ورفعت شعرها المائل إلى الحمرة، وتطلعت بنفسها في المرأة باللباس الأسود الذي ترتديه، ابتداءً من البنطال حتى القميص والجاكيت، أحكمت لف وشاحها الصوفي الأزرق حول رقبتها وخرجت لتلحق بدلال قبل مغادرتها..
وصلتا بعد مضي نصف ساعة، لتتلقى التعازي من الجميع أما هشام فلأول مرةٍ يكون قد تأخر في الذهاب، لقد طال سهاده الليلة الماضية بعد الذي جرى بمنزل اليسا حيث أنه طرق مرتين متتاليتين على باب غرفتها لكنها لم تجبه فارتد عن الباب بضع خطوات وجلس أعلى الدرجات بدون حولٍ ولا قوة، يريد مواساتها، طمأنتها أنه هنا بجانبها، معها، اتكأ على الحائط بوجوم وعقله يؤلف احتمالات عن ماهية الحديث الذي تكلمه زوجها السابق حتى انهارت بهذا الشكل، سمع صرير باب غرفتها وصوت خطواتها البطيئة قبل أن تجلس بجانبه على السلم لدقائق وكأنه رغم صمته شعرت بأن روحه تناديها أن تقترب بعدما أضحت وحيدة الروح بشكل مريع، اتكأت برأسها على كتفه بروح تصرخ لتحمل عنها عبئ الوحدة والوحشة، تريد إعادة إحساس الأمان الذي انتابها لقربه حين تلقت نبأ وفاة والديها في المستشفى، مد ذراعه واحتواها بلا كلمات..بلا صوت، فتوسدت صدره هذه المرة وظلا صامتين طويلاً جداً، تستمع لضربات قلبه العبثية ويستنشق رائحة شعرها الأحمر  وهو يحملق بباب الفيلا المنفرج على مصراعيه وبالخادمة التي تروح وتجيء وهي تنظف ...حتى هي أضحت تعمل بلا صوت..
بعد دقائق ظنها كافية لتفرغ شحنه الاختناق الذي داهمها قال بجدية : تجاوزيه..
وكان رجاء أكثر منها نصيحة، رجاء لأنه لن يتحمل أن تعود إليسا لزوجها السابق فتقطع بذلك انفاسه عن الحياة بعد أن توسدت الحياة ببهجتها صدره!، رفعت نظراتها لتقابلها عيناه العميقتان الغارقتان فيها وبحب عشعش بكل ذرة بكيانه، أجابت بصدق: تجاوزته ككل ما يؤلمني..ولم أعد كما كنت، منذ تلك الليلة التي هجرتي فيها الهجر الأخير ..منذ أن أجهضت طفلي، وخسرت حياتي، لم أعد أنا.
استدار بجسده كاملاً حيث صار ظهره مستنداً  على الحائط محدثاً إياها بعتاب:
- لم هذا الضعف إذا كلما تقابلتما، وما الذي كان يريده اليوم؟
أطرقت بوجهها الشاحب عنه أرضا :
- طلب مني مسامحته...والغفران صعب.
رفع بأنامله ذقنها لتواجهه وتاه بقربها المهلك فقلص المسافة بينهما : فلتغفري إذا وليذهب كل منكما في طريقه.
- خائفة.
- منه؟
- من عدم قدرتي على الغفران .
تاه بارتباك عينيها، بارتعاش شفاهها وهي تتذكر الألم الذي نهش روحها لسنوات بسبب مراد. انحنى وقبل جبينها بضعف وهو يغمض عينيه فشعرت بالسكينة تغزو روحها، بإحساس لم تقدر على وصفه ولم تستطع تخطيه حين هدأت روحها بين يديه وكأنه جرعة مخدر انتشلتها من أرض ماضيها، رفعت يديها ولامست صدره المضطرب الذي شعرت بطرقاته العبثية تحت راحتي كفيها وانسابت دموعها بصمت وهمهمت بصوت مرتجف: وجودك يشعرني بالأمان.
ابتسم ابتسامة متشنجة والتهم عينيها بمقلتيه الخانعتين وغرق فيهما وبعبق عطر شعرها الناري الذي تشابك بذقنه الخشنة وهمس وكأنه يتنفس الحياة غير مصدق أنه يحتويها بين ذراعيه :
-ووجودك يشعرني بالحياة.
  قبل دموعها المنسابة قبلتين طويلتين وقبل أن يعلن استسلامه لإغواء شيطانه وهو مدرك أنها الآن بأضعف حالاتها، أبعدها عنه هامسا باضطراب: -أحببتك ولن أعصي الله بك، كوني بخير لأجلي وغداً أريد أن أراك على رأس عملك.
ثم نهض هارباً منها ومن نفسه، هرول درجات السلم دون أن ينظر خلفه فابتسمت نصف ابتسامة وهي تقبض على فستانها بكفيها المرتجفتين وتمتمت بصوت لم يصل لأذنيها: شكراً لكل شيء

لحن الحب ((جنوني بعينيك انتحار 2 ))حيث تعيش القصص. اكتشف الآن