٤٧

3.5K 146 38
                                    

الفصل السابع والأربعون
جلس منهارًا يُحيط رأسه بكفيه وكأنه يسندها من السقوط، ثقُلت كثيرًا بالهموم، الأفكار تتشعب ولا يدري أي طريق يسلك..
أينتظر مع والده الذي على حافة الموت أم يغادر بحثًا عنها وعن قلبه الذي غادر خلفها.؟ ... جلست أمامه حفصة تهمس بإشفاق على حاله _رحيم...
رفع رأسه يطالعها بتيه، فقد السيطرة عليه.. أقتربت أكثر منه أنزلت كفيه من على رأسه، أمسكتهما دعمًا له وهي تهمس
_كله هيبقى تمام...
هرب بنظراته منها، لا يجد ردًا مناسباً.. سألته بحذر وهي تراقب ملامح وجهه
_عمي فضل رد عليك..؟
هز رأسه بلا، شحذت ابتسامة واهنة وقالت تطمئنه
_متخفش إن شاء الله هيلاقوها.
تشبث لسانه بصمت خانق ثقيل، أخفض رأسه وغصة فقدها تخنقه، تكتم أنفاسه.. تُرى أين ذهبت..؟ ولماذا غادرت..؟ هل ستعود..؟ الأهم هل ستعود له روحه بعدها..؟
قطع شروده همس حمصة المتردد _رحيم عايزه أطلب منك حاجه... بس اوعدني تنفذها من غير تفكير كتير أو عصبية..
ارتفعت عيناه في ترقب، يحثها بنظراته الإكمال... تابعت بصلابة اخذتها درعًا واقيًا من هجمات القدر العنيفة _طلقني يا رحيم...
الإستنكار هرول مندفعًا من نظراته لتتابع قاطعة عليه كل سبيل _أنا عارفه إنه مش وقته؟ بس نيرمين محتجالك... روح دوّر عليها ورجعها.
زوى ما بين عينيه يقول بدهشة _حفصة إنتِ بتهزري..؟
التقطت نفسًا قويًا قالت بعده بهدوء _لا ده قرار نهائي.... نهضت تقول بثبات احنا مينفعش نبقى مع بعض تاني.
هتف بغضب مكتوم وهو يشيح عنها إعراضًا
_حفصة مش هتناقش دلوقت فكلام فارغ..
هتفت مؤكدة وهي توجّه له نظرات مُتحدية_ده مش كلام فارغ يا رحيم ده هو الي هيحصل...
بأسى أكملت وهي تجاهد حتى لا تسقط دموعها مُعلنة انهيارها _أنا خلاص اكتفيت بيك حلم..
همستها بوجع نبض له قلبه بقوة..أردفت بثباتٍ _مش عايزه الحلم الي حلمته يتشوّه.
نهض يوازيها يقول بينما يسحبها من ذراعيها لتواجهه
_حلم ايه وواقع ايه إنتِ اتجننتي يا حفصة؟!
صرخت قائلة بثورة أخضعها كبريائها الممزق _أنا كنت مجنونة فعلًا لما وافقت اتجوزك وإنت متجوز.. لما وافقت ابقى معاك على حساب إنسانه تانية كل حلمها كان إنت.
وقف مبهوتًا متصلبًا مما تقول يمر بتلكأ مرير على ملامحها الحزينة، هتف أخيرًا بصوت مختنق
_أنا بحبك يا حفصة.
لتواجهه بالحقيقة وجسدها يختض مع كل شهقة بكاء تخرج منها
_إنت كنت فاكر بتحبني... تفرق كتير يا رحيم..بس إنت حبيتها هي.
اشاح يضغط على رأسه بقوة يحاول جاهدًا استعادة وعيه، لكنه تائه ومتخبط، المفاجآت التي يغرق فيها تحرمه التفكير، فقط يظل يجاهد أمواجها بضعف..انهار على الكرسي مُغمضًا عينيه.. لتسارع هي بالجلوس أمامه هامسة بترفق
_رحيم الي بينا مكانش حب...
رفع لها عينيه الابلة يواجههاهامسًا بحاجبين منعقدين في صرامة
_يعني إنت محبتينيش يا حفصة..؟
ابتسمت من بين دموعها هامسة بصدق _أنا محبتش غيرك...قلبي معرفش غيرك... بس.. تابعت وهي تبتلع غصتها المريرة_إنت قلبك اتعلق بيها.. حبيتها الحب الي أنا كنت بتمنى أشوفه فعنيك وإحسه فكلامك... مش تعوّد.
عجزه عن الرد كان يزداد مع كل حقيقة تُفجرها، تابعت مستغلة ذلك _أنا منسحبة بإرادتي قبل ما انسحب غصب عني.... مش عايزه أموت مرتين أرجوك...
قالتها بنبرة متألمة يشوبها التوسل جعلته يدفعها لأحضانه هامسًا بقلب ملتاع مشوّه الأحاسيس_لا يا حفصة بعيد الشر عنك متقوليش كده..
كفيها كانت تقبضان على قميصه بقوة متشبثة به، همست بتوسل غارق بدموعها_سبني بالله عليك أنا بموت كل يوم..
ضمها إليه أكثر وهو يقول _ده مستحيل يا حفصة... طول ما انا عايش... إنتِ حبيبتي وصحبتي مينفعش الغيكي من حياتي أو اتخلى عنك بسهولة... إنتِ عمري كله.
سكن جسدها تأثرًا بكلماته الدافئة الحنونة والتي أرفقها بضمه القوي لها.. كانت كطير ذبيح يرفرف متشبثًا بأمل الحياة ووهم العودة، لكنها النهاية وستخط هي أخر أحرفها دون تراجع
___________________
جلس أمامها يسألها بلهفة أبوية _حمدالله على السلامة يا ست البنات..
ظلت على حالها، تضم ساقيها لصدرها بقوة وذقنها يستريح أعلى ركبتيها بلا مبالاة... همس فضل برفق
_كيفك دلوكيت، إيه خلاكي تمشي بس يا بتي..؟
ظلت على حالها صامتة متباعدة، من يراها يشعر أنها في وادٍ آخر غير زي حياة... عاد يسألها بحنو _حد عملّك حاجه..؟
سؤاله جعل رأسها تدور.. دوامة كبيرة من الذكريات كانت تبتلع كلماتها غير المنطوقة وأفكارها العالقة بذهنها.. ارتعشت كأنها تصارع تلك الدوامة... انتفض فضل قائلًا بقلق _في حاجه يا بتي...
لكنها ظلت كما هي صامتة تتبعثر نظراتها الظمئة في الفراغ، رغبتها في الحديث تتقلص كمعدتها التي زهدت الطعام....
همس فضل لله شاكيًا _لا حول ولا قوة إلا بالله..
قطع همسه دخول رامي وزوجته ليطمئنا على حالها، كان أول من دخل والقى سؤاله يسعى في أفكار الأخرى رامي..
_عاملة إيه انهردا... ؟
هتف فضل بدلًا عنها وهو ينظر لها بشفقة _مبتردش ولا بتتكلم، ساكته...
أما نجوى فكانت تحوم حولها بنظرات سريعة تحاول أن تتذكر إين رأت نيرمين.. ؟ سؤالها ذلك شغل لسانها عن الكلام...
أقترب منها رامي وعيونه تذوب بدفء خاص وحنان لا يعرف سببه، سألها بإبتسامة _طيب مش عايزه تعرفي إنتِ فين ومين احنا.؟
ظلت على عنادها، كأنها لا تسمعهم.. تراهم بطرف عينيها صورًا متحركة بأصوات متداخلة تحتمي منها بالإبتعاد والصمت...
هتف فضل بأسف وهو ينهض من مكانه يائسًا _مفيش فايدة...
تنهيدة متأثرة غادرت فم رامي ليقول بعدها بدعم _ربنا يعينك على الي إنتِ فيه.
كل من يحمل دمائه يرتشف من نفس الكأس ويتجرعه حد الثمالة، يفقد بعدها المنطق والعقل فيصمت،
خرج فضل وتبعته نجوى تاركين رامي وحده معها، هتف رامي وهو يحك رأسه بعد أن اطمئن لخروجهم وكأنه خائف من كشف مشاعره أمامهم_مش عارف أقولك إيه..؟
أردف رامي وهو ينظر لها بحنان _لما عمي فضل جه وقالي إن ليا أخت مكنتش مصدقه ولا عايز أصدقه... بس لما شوفتك الحكاية اختلفت.. حاسس إن بقالي حد وليا أهل وعيلة مش مقطوع زي ما بيقولوا..
رفعت عينيها تنظر إليه بذهول ورغم ذلك لم تتخلى عن صمتها، تلك المفاجآة هزتها بعنف، جعلتها تفيق من شتات أفكارها على فكرة غامضة أخرى، تشعر كأن أحدهم ضربها على رأسها بقوة.
ابتسم قائلًا بتشجيع _أنا اسمي رامي... و حكايتي أطول من حكايتك بس بيربطهم الوجع.... مفيش حاجه تستاهل تعملي فنفسك كده...
أخيرًا نطقت قائلة بوجع _حتى ابني.
تخبط في صدمته لا يدري من كلامها ولا من إقرارها... استجمع شتاته وأقترب منها أكثر ربت على خصلاتها بحنان قائلًا _لله ما أعطى ولله ما أخذ.. أكيد ربنا له حكمة متعرفيهاش.
انهمرت دموعها كالسيل تغرق وجهها كما يغرق قلبها في طوفان المشاعر المظلم، تريد الحديث لكن كبريائها الخافت يمنعها من ذلك، ضاعت أكثر بتلك المفاجآة.. ازداد بكائها حدة كلما شعرت أنها وحيدة في مهب الرياح.. يعاني قلبها كل شىء. صدمة وخذلان.. إلى أين يأخذها القدر..؟
همس رامي وهو يواصل الربت على رأسها _اهدي وفكري كويس العياط مش هيفيد... شوفي إنتِ عايزه إيه وأنا معاكِ.
وصلها دعمه المغموس بحنانه، هدأت قليلًا فأردف رامي
_نامي شوية ولما تصحي هنتكلم.
خرج رامي وتركها تنازع مع أحزانها، قبل أن يغلق الباب القى عليها نظرة مشفقة حزينة.
واصل سيره للأسفل.. ليصله هتاف عمه فضل الغاضب
_كنك صدقت ما خلصت منها..
_لقيتها اكيد مش هسيبها زيك ...
_جهز نفسك إنك تطلجها.. هي هتفضل مع أخوها مش هترجع.. وبلغ أبوك إنهم عايزين حجهم.
صمت فضل مرتبكًا حينما وصلته كلمات الأخر.. أنهى الاتصال وجلس بجانب رامي مُشوشًا
سأله رامي بتهكم مرير _دا أكيد رحيم.
هز فضل رأسه بموافقة صامتة حزينة.. ليسأله رامي وهو يشعل سيجاره _هو قالك إيه بالضبط .. ؟
همس فضل بحزن عميق _عمك في العناية المركزة بيموت.
همس رامي ساخرًا _الف بركة خلينا نخلص..
قطع حديثه صراخ فضل المعترض_بس يا ولدي عيب كده.. دا مهما كان عمك.
وازاه رامي هتافًا _عيب ليه..؟ وهما الي عملوه في الغلبانه الي فوق مش عيب وحرام... وكمان مهانش عليه ييجي ويدور عليها
هتف فضل بضجر من ثورة رامي _ابوه في المستشفى.
هتف رامي ساخرًا _المفروض أصدق.. مش يمكن لعبة
علشان ميدناش حقنا...
بسخط هتف فضل _رحيم مبيكدبش.
هتف رامي مُتحيرًا _مبقتش فاهمك والله...
بقوة هتف فضل وهو يجلس مكانه_إنت الي لازم تفهم ياولدي.
هز رأسه قائلًا بسخرية _افهم إيه..؟
بصلابه هتف فضل _إننا مسبنكش... زي ما مفكر..
مازالت السخرية تتراقص على ملامح رامي لكن فضل قتلها بهمسه _خالك ضحك عليك.
تنبه رامي رغمًا عنه للآتي... بينا أردف فضل بشفقة
_بعد ما مات أبوك إنت خالك جابك؟ ...
جلس رامي يقول بإنتباه _ايوه
تابع فضل _خالك كان عايز ورثك من أبوك... بس عمك رفض وقاله مالنا مبيخرجش لغريب.. وولدنا هناخده نربيه احنا وسطينا.. خالك اتعند وأخدك معاه وعمك رفض يديله حاجه.. خالك رفع قضايا حضانه وورث وغيره حاولنا نرجعك من غير محاكم وقضايا....
كان الضياع واضحًا على ملامح رامي، اما الصدمه فكانت تُلجمه عن الحديث.. أخيرًا انتشل نفسه من ذلك الضياع متسائلًا
_وازاي مورثتش وخدت حقي ونيرمين..
ابتسم فضل قائلًا
_جدك الله يرحمه كتب كل حاجه لعمك بيع وشرا..وابوك مكانش يملك حاجه وكده أنتوا مالكمش ورث وجضايا خالك ملهاش لازمه... أخد حضانتك ومطالش بعدها حاجه. ولما حب يرجع فكلامه فِضِل برضو طمعان طلب مبلغ كبير... واحنا سبناه على أمل تكبر وترجع.. بس إنت مرجعتش وبقا خالك يزرع جواك الكره ويسقيه يوم بعد يوم.
انتفض رامي يقول بغير تصديق _يعني ايه..؟ كل ده كدب ووهم.. ؟
تابع فضل مشفقًا _بعدها إنت اخترت تفضل معاه... وأنا كنت ببعتلك شهرية كبيرة بموافقة عمك
صرخ رامي قانطًا _شهرية ايه..؟ مكنتش بلاقي أكل.
ابتسم فضل ساخرًا _أسأل خالك... ليقول فضل بإقرار
_إنت محدش ظلمك غير غير خالك يا رامي..
ظلت كلمات فضل ترن بأنه كالأجراس... ضغط على رأسه بكلتا يديه، يحاول استيعاب أو حشر كل ما قاله عمه. لكنه يعاني..
أما فضل فأنزوى بعيدًا في ركن داخل الحديقة يفكر فيما يحدث وهو يعلم في قرارة نفسه أن من ظُلم هي نيرمين... وبعدها هو حين أبعدوه عن حبيبته بتجبر وقسوة.. حرموه الحياه.. حتى أقسم حينها أنه لن يتزوج... ظلت الحسرة تظلل عيني والده حتى مات وهو يرى أحد أبنائه يعاقبه ويعتكف في محراب االعذوبية..
أما نيرمين فقصة أخرى من الوجع استقل بها جدها بعيدًا بعد أن هربت بها والدتها خوفًا من أن يزوجوها له، لتموت بعدها ويختفي بها جدها عن الأنظار.. حين وجدها فضل كان قدرها يعلن إسدال الستار وبداية لمعاناة أخرى سيكون الظلم سيدها.
__________________
هتف بدر حين رأها تخرج غير عابئة بوجوده
_على فين يا لطيفة..؟
اجابته ببرود وهي تتقدم منه _رايحه مقابلة شغل.
هتف بغضب مشتعل من برودها _مقابلة شغل..؟ دا امتى وازاي..؟
بنفس البرود أجابت وهي تجلس بهدوء أمامه _كلّمت جهاد تدورلي على شغل وحقيقي هي متأخرتش عني...
بإنزعاج هتف بدر _ازاي جهاد متقوليش .. ولا أنتِ
بسخرية مريرة همست لطيفة وهي تطالعه بترقب_أنا مش عيزاك تشيل همي يا بدر... أنا عشت لوحدي في الغربة وأقدر اعتمد على نفسي كويس...وبالنسبة لجهاد إنت مبتردش عليها علشان تقولك..؟
أخفض بدر نظراته في ألم فتابعت لطيفة قائلة بثبات _بدر كفاية كده.. إحنا مبقيناش صغيرين ولا أنت...
همس بإختناق _عيزاني اسيبكم يا لطيفة واتخلى عن كل مسئولياتي تجاهكم..
أقتربت منه تمسك بكفيه هامسًا بأسف _مش قصدي يا بدر.. أنا قصدي تشوف حياتك يا حبيبي.. اتجوز وخلف.. أحنا كبرنا...
تابعت بحزن عميق _محدش اتظلم غيرك يا بدر.. فكفاية بقا.
همس بدر وقد تهدلا كتفاه في آسى _خايف عليكم ولما ماتت أختك خوفت عليكم أكتر ومبقاش ينفع ابص لنفسي..
بتحدي اختلط بغضبها _لا يا بدر لما تبص لنفسك وحياتك مش معناه إنك خلاص كده سبتنا... تابعت تستعطفه بحنان
_يا حبيبي إنت هتفضل ضهرنا وسندنا، إنت متستهلش تفضل كده يا بدر.
نهضت تقول بتهديد بعدما تلبست روح الصلابه _والله يا بدر لو ما فوقت وبصيت لنفسك.. لا همشي انا وولادي واسيبلك البيت..
بهتت ملامح بدر مع تهديدها، لتردف _جهاد مستنياك وهتفضل... وإنت كفايه مكابره كده يا أخي أنت محتاجها .
القت كلماتها وغادرت لتتركه في شتات أمره.. وحيرته التي تزداد
__________________________
هتف ياسين وهو ينظر لأدهم عبر الزجاج
_حالته إيه..؟
ربت سيف على كتفه قائلًا _عايش...
تسأل ياسين وهو ينظر لسيف بتخبط من خلف كتفه _يعني إيه..؟
اجابه سيف وعيناه لا تتركان أدهم _دي الإجابه الوحيدة والأمل الي لسه متعلق بيه، إنه عايش.
من خلفهم كان بدر يهتف بهدوئه المعهود _ازيك يا ياسين.. ازيك يا سيف..؟
رحّبا به ثم جلسوا على أقرب مقاعد لهم... هتف بدر بإهتمام
_حالته دلوقت إيه..؟
اجابه سيف بتخبط _احنا مبقناش عارفين حاجه..
عاد بدر يسأل بشفقة _ومراته...
هتف تلك المرة ياسين ببؤس وكأنه يقارن ما يحدث داخل عقله _مستحملتش ودخلت فغيبوبة مش عارفين سببها ولا يفوقوها ازاي..
ربت بدر على ساقة قائلًا بدعم _ربنا معاهم..
كان يرى ياسين منضفئًا والوحدة تتراقص خلسة في نظراته... بهوت روحه ينعكس على ملامحه بشده وكأنه ينازع.. ترى هل كان يوم وفاة أخته مثله..؟ يريد أن يرتمي بأحضان أحدهم شاكيًا يريد أن ينهار مُفصحًا عن حزنه لأحدهم بعينه، لجزء آخر من نفسه يخفيه، لجزء منه يُكمله ويدعمه...يومها لم يستطع فعل ذلك مع أخوته كان متماسكًا رغم انهياره يعكس لهم قوة وهمية لأنه ببساطة هو قوتهم ودعمهم، إن انكسر أكثر سينكسروا...
لكن لابد لكل منا شخص آخر منشق من روحه، ننهار أمامه دون قيود.. نبث له ضعفنا دون خوف أو حرص.. شخص نرتمي بين ذراعيه مستسلمين لأمان روحه، يطبب أوجاعنا دون حديث..
لكن أين هو جزئه الأخر.. ؟ هل لديه..؟ نعم لديه.. ومن غيرها
أمسك هاتفه يعبث فيه دقائق مترددًا حتى كتب أخيرًا بحرص شديد
_ازيك يا جهاد..؟
رغم إنطفائها هي الأخرى وحزنها رفعت الهاتف بعدم رغبة فقد كرهت كل شىء في غيابه... لكن سرعان ما اتسعت حدقتيها بذهول حين سارعت نظراتها تلتهم أحرف الرسالة واسم مُرسلها..
ذهولها اختلط بسعادتها فكتبت كلمات.. متقطعة ليست مُعبرة
_بدر.. بجد...
ابتسم وهو ينهض مبتعدًا عن ياسين ليكتب _زياد عندك يا استاذه..؟
على الفور جائه ردها _ايوه..
تنهد طويلًا ثم قال _جاي يا أستاذة.
احتضنت الهاتف من فرط سعادتها ودارت به في الحجرة، اخيرًا تحدث معها وإن كان لا شىء.. أخيرًا ستراه وإن كانت رؤية عابرة... متى يصل..؟
مرّ الوقت وهي تنتظر، زفرت بيأس تخلل روحها ها هو يوم يمر دون أن يأتي... جرس الباب افاقها من شرودها نهضت تفتحه بإرهاق غير عابئة بمن خلفه، زحفت نظراتها للواقف أمامها بفتور لكن ما إن أدركت هويته حتى صرخت بإنفعال
:_بدر...
غمزها بدر قائلًا بشقاوة وهو يتقدم للداخل :_إزيك يا أستاذة...
دارت حول نفسها من شدة سعادتها غير مصدقة تقول بلهفة :_مش مصدقة... ثم وجهتّ نظراتها له هامسة بلوعة :_كنت هيأس خلاص بجد...
هتف بدر وهو يتطلع حوله باحثًا عن زياد :_اهدي بقا... اهدي
هتفت بإندفاع ولهفة نابعة من شوقها له :_عايزه احضنك بس مش عارفه..
ضحك بدر قائلًا وهو يحتكر نظراتها بإبتسامته :_أحسن برضو...
اقترب يهمز بغمزة مشاكسة :_مكنتش أعرف إني غالي قوي كده عندك..
همست بعاطفة لم تستطع كبتها :_أغلى من نفسي يا بدر...
حمم بدر قائلًا وهو يحك رأسه بإرتباك :_لا بقا أصبري بقا...
همست بدموع ندم :_الي فات كتير يا بدر وخايفة الي ييجي ميقضيش حبي ليك
هتف بدر ضاحكًا وهو يضرب كفًا بكف :_إنتِ سكتي سكتي واتكلمتي مرة واحدة.
همست وهي تنظر لعينيه بعمق، تشبع منه :_ياريت يكفيني كلام كل ساعة وكل دقيقة...
صرخ بها وهو يذم شفتيه بغير رضى :_نادي اخوكي كده مش هينفع.. ثم تابع بضحكة رنانة افتقدتها كثيرًا
:_يلا عايز أجيب البوتجاز...
خرج زياد من عزلته مستقبلا بدر بحفاوة شديدة
:_باشا.... نورتنا.
تعلقت نظراتها به في حب شديد ملكها، ليُفيقها زياد قائلًا
:_هتجيبي حاجه نشرب ولا أنزل اجيب المأذون..
تداركت الموقف قائلة بخجل :_اه حاضر...
بعد دقائق دخلت عليهما بالمشروب وبدر يقول بصدق
_تحت أمركم فاي حاجه.. ثم قال ونظراته تتوهج بعشق :_الي تأمر بيه الأستاذة...
بادلته تلك النظرة وهي تهمس بحب :_مش عايزه حاجه يا بدر...
ابتسم قائلًا :_لا أكيد يا أستاذة..
نهض زياد على الفور قائلـا _هسيبكم تتكلموا...
جلست بالقرب منه هامسة _يكفيني إنت يا بدر من كل الدنيا .
بضحكة همس بدر وهو يهز رأسه _أنتِ مبقتش معقولة..؟
بأسف همست وهي تنظر لعينيه الحزينة رغم ابتسامته _عملت إيه بالعقل غير إني ضيعت من حياتي كتير...
همس بخجل وهو يهديها أروع نظراته والتي يخصها بها دومًا _عايزك معايا يا أستاذة... بس مفيش حفلة مفيش فرح ومفيش اي حاجه..
اغمضت عينيها ثم فتحتهما تقول بهمس اذابه وتنهيدة خرجت موشية بما يعتمل صدرها _عيني مليانه بيك يا بدر...ولا فرح ولا شبكة ولا اي حاجه..
خرجت همسته متزنة رغم توتره وتأثره الشديد بمشاعرها الظاهره _دا حقك..
بضحكة همست وروحها تزدهر شيئا فشىء _يا بني إنت حقي.
هز رآسه يقول بحزن رغم التماع عينيه _كنتِ مخبيه ده كله فين يا استاذه..؟
شاكسته قائلة بسعادة وهي تبتعد عنه قليلًا تلتقط نفسًا حارًا _بص كفاية عليك كده انهردا.. انا اتدلقت دلقة سودة...
انطلقت ضحكته تشق السكون من حولهما تفيقهما من هذا الطرب الخاص لروحيهما العالقة بتناغم خاص.... قال بعد أن هدأت ضحكاته.. _إنتِ ادلقتي جدًا صراحة... إنتِ فاجئتيني حقيقي.... تحولت نبرته للجدية وهو يقول _بس فطيمة..
تفهمت قائلة تطمئنه_ياابني أنا قاعدة على قلبكم خلاص.. لا هيهمني فطيمة ولا غيرها..
تابع يقول بحزن _الحمل تقيل شوية يا أستاذة..وأولهم أنا .
بنظرات متألقة يتوجها العشق همست _هنشيله سوا يا بدر... ثم قالت ضاحكة تذيب توتره _طول ما بتقولي يا أستاذه كده مش هنتقدم... بقا انا اقولك يا بدر وإنت تقولي يا استاذه..؟
ابتسم هامسًا بترحاب ورغبة في مبادلتها المشاكسة_إنتِ تقولي الي عيزاه يا أستاذه...
لاحت لعينيه ذكرى جمعتهم سويًا ابتسم لها بسعادة والتفت يقول بضحكة مكتومة _حاضر يا أبو عمو...
بيأس قالت وهي تطلق زفرة يائسة _برضو... إنت مبتنساش..
همس بصوت اجش مملوء بالعاطفة _ولا يمكن انسى...
قطع حديثهم وصول زياد هاتفًا بمشاكسة _ها الشيطان قام بالواجب ولا لسه يا أساتذه
ابتسم له بدر قائلًا _تعالى يا زياد علشان نتفق..
جلس زياد بينهم يقول مخففًا من توترهم الملحوظ _الي فات عدى خلاص أنتوا فدلوقت... ثم نظر لأخته يقول _فوقنا وفهمنا خلاص نعوض الي فات.. مش مشكلة لو هنتجنن شوية... أحنا بنحتاج دايما حبة جنان نخرج بيها من الروتين.
هزت رأسها بموافقة ليلتفت زياد لبدر قائلًا _لا الحزن والبكا هيرجعوا الي راح... كل واحد له وقت وميعاد لما ييجي مفيش لا أخ ولا أب ولا أم ولا حبيب هيمنع ده (لو) حرفين هيسرقوك يا بدر هيغموا عنيك عن حاجات كتير.. فأمسحهم وأرضا بقضاء ربنا، صمت زياد قليلًا ثم تابع بإبتسامة عذبة _متحملش نفسك فوق طاقتها يا بدر..بص دايما للنص المليان علشان ترتاح...
تنقلت نظراته بينهما ليقول بنصف ضحكة بعد أنا قال ما أراده_ربنا يعينكم على بعض...
نهض زياد وتبعه بدر بالنهوض، لتهتف جهاد بغباء _إنت هتمشي يا بدر...
همس بدر لزياد بقلة حيلة ويأس _حتى لما تفهم برضو غبية...
زجرها زياد بنظرة مفتعلة ثم قال وهو يزفر بيأس _يا بنتي اقصد اتجنني فبيتك مش هنا.
كتمت ضحكتها وابتعد تقول _خلاص فهمت..
اتجها للباب وهي خلفهم وقبل أن يخطو بدر أول خطوة للخارج كانت تهمس له بعيون متألقة كألف نجمة في السماء _المره دي أنا الي هستناك...
بادلها الهمس بأخر وضع بها تنهيدة صحبت كل مشاعره _كتير عليا يا أستاذه.... حتى لو مستنتيش هفضل مستنيكي.. زي ما بعمل دايمًا..
هل سقط قلبها للتو من كلماته..؟ هل يسمع صوت دقاته العالي..؟ هل تحلم..؟ لا انها حقيقة وحبيبها الآن أمامها يغرقها في العشق..
همس مودعًا _اعملي حسابك كتب الكتاب بكره...
اتسعت عيناها ذهولًا، كادت أن تعترض لولا همسه المقرون بإبتسامته التي تعشقها _ولا يوم تاني من غيرك يا أستاذه .
سحب الباب خلف فإن لم تفعل لظلًا هكذا طوال اليوم...
صعد سيارته ومن ثم هاتف ياسين ليعرف مكانه، أخبره ياسين أنه بشقته فطلب منه بدر أن ينتظره..
قاد بدر سيارته حتى وصل للمنزل وعند دخوله سأل لطيفة التي كانت تنتظره
_ها جاهزه..؟
اجابته بإبتسامة _ايوه.. ؟
سألها بحذر وهو يتطلع حوله_اديتيها العصير...؟
أجابته بهزة رأس مترددة، فهتف بدر بتحفز _استعنا على الشقى بالله...
بقلق هتفت لطيفة وهي تندفع خلفه _كنت أخدتها فايقه يا بدر...
اجابها بضحكة هازئة _أختك دي متتاخدش غير نايمة... دي ممكن تفضحنا يا حبيبتي...
حملها بدر بين ذراعيه هامسًا لها _معلش يا فطيمة مش هتفهمي غير كده...
هتفت لطيفة وقلقها يتصاعد _ياسين حالته وظروفه تسمح يا بدر..
اجابها بدر بيقين _لا زم تسمح يا لطيفة، هما لازم يقفوا مع بعض
ويسندوا بعض.. المودة والحب مبيقوش رابطهم غير الازمات وإننا نواجهها مع بعض... ونطلع منها وإحنا لسه مع بعض
همست بتشتت رغم اقتناعها _تمام يابدر..
وضعها في سيارته ومعها حقيبة ملابسها وانطلق حيث منزل ياسين...
فتح ياسين الباب ليجده امامه يحمل فطيمة الفاقدة للوعي. هتف ياسين بقلق وهو ينظر لها _في إيه يا بدر.. ؟
هتف بدر بملل_دخلني الأول...
افسح له الطريق فدخل بدر قائلًا
_أوضتك فين..؟
أشار ياسين للجانب وجلس ينتظر خروج بدر.. بهتاف أقرب للأمر هتف بدر _مراتك معاك اهي.. اتكلموا.. اتخانقوا.. اضربوا بعض.. عادي المهم توصلوا لقرار...
حاول ياسين الإعتراض_بس
قطع بدر حديثه بإبتسامة قائلًا _لقيتها بتصرخ، بتعيط برضو سيبها لغاية ما تهدا واتكلموا.. اقفل عليها..
زفر ياسين قائلًا بضيق _إنت شايف إني فحالة تسمحلي بكل الي بتقوله ده..؟
بنصف ابتسامة هتف بدرمشاكسًا وهو يضرب على كتفه _دي لذيذة والله وهتسليك..
بتأكيد همس بدر ويقينه يزداد بصواب ما فعله_صدقني هو ده الحل الوحيد ليكم.
هز ياسين رأسه بعدم إقتناع، لكنه مستسلمًا ربما يجد مرساه التي تاه عنها في لجة أحزانه.
خرج بدر وتركه بعدما ادخل الحقيبة التي تركها الحارس جانبًا قائلًا _اقفل الباب كويس.. ربنا معاك.
ازاح ياسين الحقيبة جانبًا وجلس ينتظر استيقاظها بتوجس
______________________
هتف رحيم وهو يندفع للداخل في غضب وإنفعال
_حفصة فين يا خال...؟
أجاب الرجل دون أن تتغير ملامحه أو يُعلق على دخوله المنزل بتلك الطريقة، فهو يعلم منذ أن آتت حفصة بملابسها أنه سيأتي خلفها
_فغرفتها...
قطع رحيم خطوات الممر الطويل بلهفة وما إن امسك بالمقبض حتى هتفت حفصة _الباب مقفول يا رحيم.
بغضب هتف رحيم _افتحي يا حفصة الباب خلينا نتكلم..
اجابته بنبرة متهدجة من أثر البكاء _مش هفتح ومفيش كلام بينا... أنا مش عيزاك خلاص..
رغم يقينها بصعوبة ما نطقته لكنها صلبة متماسكة توقن أن الشفاء واندمال الجرح يأتي بعد شدة الألم...
حاول جاهدًا فتح الباب ولسانه لا يطلق إلا تهديدًا
_افتحي وإلا هكسره... أنا مش هطلقك ومش هبعد.. إنتِ مراتي وهتفضلي زي ما حلمنا سوا... خفتت نبرته وكأنه يبثها عشقًا خاصًا لكنها أصرت بعناد
_لا.. ولو مطلقتنيش مش هتشوفني... ابعد أرجوك أنا محتاجه أقعد لوحدي...
بعتاب همس وقد ارتخت قبضتيه _من غيري يا حفصة..؟ دا أنتِ عمرك ما عملتيها..
همست بألم وأذناه تلتصق بالباب في مناجآة صامتة _لازم اعملها.. سيبني أعيش الي فاضلي مع ابويا وأمي الي حبوني بجد من غير شروط ولا قيود.. الي مخذلونيش ولا مرة ومهما عملت هما معايا.. ولا حبوا غيري ولا هيحبوا.... محبونيش واجب ووعد لازم يوفوه.
بعتاب همس غير مصدقًا _أنا خذلتك يا حفصة...؟
ابتعدت ممتنعة عن الرد مكتفية بشهقات عنيفة تخبره أنه فعل وخذلها... صمت طويل خانق طال بينهما ليقطعه رحيم هامسًا بندم _أنا عارف إني خذلتك عارف إني مدتكيش حقك... أنا آسف يا حفصة سامحيني..
توسلاته الصادقة اقتحمت حصون قلبها، تدك في طريقها كل عناد وجفاء لكنها كانت تذكر نفسها بذلك الحلم الذي انهار فجأة وكل الأماني التي محاها بما فعل...
لقد تركها وحدها تتجرع مرارة مرضها وصدمتها في حرمانها من الحياة وغادر ليتمم زواجه من نيرمين غير عابىء بما تعانيه أو تحسه.. وهو الذي اقسم يومًا أن يكون كأنفاسها... هل يستحق بعد ذلك أن تفني يومًا واحدًا في كيانه من أيامها المعدودة.؟
بل ليتها تتخلى عن طفلها وتنجو بحياتها لأجل والديها... لكنه عالقة به... هو قطعة من حُلمها يومًا، هو الجنة التي ستنالها بعد عذابها في عشقٍ وشِم باليأس والقهر...
همس ثانيًة يتوسلها _سامحيني أنا غلطت.
همست منهية الجدل والحوار _مسمحاك يا رحيم بس امشي...
سحبه خاله من جلسته أمام الباب قائلًا ووجعه ينبض بين أحرفه _امشي يا ولدي علشان متتعبهاش. بضياع همس رحيم وهو ينظر للباب _اتعبها...؟!
اغمض عينيه ملتقطًا نفسًا مهزوزًا مرتعشًا، لينسحب بعدها بثقل أخطائه وعبء انانيته، يجر خلفه أذيال الهزيمة في وحل ظلماته وآثامه...
وقبل أن يصل للمشفى كان الطبيب يخبره على الهاتف بموت والده
_بشمهندس رحيم
_ايوه في حاجه..؟
_البقاء لله والدك اتوفى..




أنا بألوانك (سلسلة حين يشرق الحب) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن