٥٣

4.1K 151 44
                                    

الثالث والخمسون
تسمرت نيرمين مكانها بدهشة من تلك الزيارة الغريبة ،قطعت حفصة الصمت المتواصل بينهما _ازيك يا نيرمين..
ردت الأخرى بملامح جامدة _ازيك يا حفصة..
ابتلعت حفصة ريقها بتوتر من وجودها على الباب وصمت نيرمين لتقول بإرتباك _ممكن ادخل..؟
اعتذرت نيرمين بشدة عن تركها لها على الباب كل تلك المدة _أنا آسفة اتفضلي..
افسحت لها المجال لتدخل، سارت معها حتى أجلستها قائلة
_اتفضلي..
تنقلت النظرات المستفهمة بين نيرمين وونجوى، لتهتف نيرمين ببرود ظاهري _حفصة مرات رحيم وبنت خاله..
انكمشت نجوى مصدومة، لتتابع نيرمين بلامبالاة - +_نجوى مرات اخويا..
حيّتها حفصة بهزة رأس، و عيناها تتابع نيرمين بإهتمام... ما إن استأذنت نجوى المغادرة تاركة لهم الخصوصية..
هتفت حفصة بتردد _عارفه إنك متضايقة من وجودي.
بإبتسامة باهتة همست نيرمين مُتخذة البرود درعًا _لا خالص تنورينا يا حفصة..
شعرت حفصة بالخجل الشديد والضيق من معاملة نيرمين ونظراتها العدائية التي تُخبأها خلف ابتسامة مهزوزة... وبرود مصطنع لكنها لن تتراجع عما جاءت من أجله،
التقطت نفسًا عميق وأقتربت تقول _أنا لازم أجي... كان لازم نتكلم يا نيرمين..
عقدت نيرمين ساعديها أمام صدرها تهمس بجفاء _خير؟ نتكلم فأيه. ؟
بزفرة مُلبدة بالألم تخللها اسمه كان جواب حفصه
_رحيم
قطبت نيرمين ساخرة _ماله ده كمان.؟
استشعرت حفصة ثِقل المهمة خاصة مع برود نيرمين لكنها تابعت بصبر تُحسد عليه _قبل كل حاجه أنا بعتذر لك عن أي حاجه صدرت مني...
لانت ملامح نيرمين الجامدة قليلًا وهي تتابع كلام حفصة بترقب، استغتله حفصة وأكملت
_أنا عارفه إني غلطت فحقك بالله عليكي سامحيني..
رمشت نيرمين تستوعب ما يحدث، بينما حفصة أكملت
_إنتِ متعرفيش يعني إيه واحدة تكبر على حلم وفجأة يتاخد منها..
عادت نيرمين لبروها هازئة _حلمك مين خده منك بقا...
بسرعة أجابت حفصة دون تفكير _إنتِ
أستنكرت نيرمين بضيق _أنا.. ؟
هزت حفصة رأسها قائلة بعذاب _رحيم كان اخويا وصاحبي وحبيبي، معرفتش فالدنيا غيره... عشت طول عمري مستنياه...
بإنفعال وثورة هتفت نيرمين _حبيبك عندك يا حفصة محدش خده منك،
همست حفصة متأوهة بعذاب _حبيبي ده أنا مش حبيبته..
رغم ارتباكها وفضولها الشديد لتكملة حفصة إلا إنها اغلقت الباب على نفسها وحفصة قائلة _حفصة أنا مش فاهمة إنتِ جايه ليه..؟ ولا عايزه مني إيه..؟
بحدة وغيظ من تهكُم نيرمين هتفت حفصة _جاية اقولك ارجعي لرحيم..
انطلقت من حنجرة نيرمين ضحكة عابثة اوقفتها حفصة بغضب _أنا بتكلم بجد..
بسخرية هتفت نيرمين _يا شيخة..!
بخفوت أقرّت حفصة وهي تنتظر رد فعل نيرمين على كلماتها _أنا ورحيم سبنا بعض من زمان يا نيرمين من يوم ما أنتِ مشيتي...
ابتلعت نيرمين ريقها بتوتر، بينما تابعت حفصة بخيبة  _رحيم محبش غيرك،
انتفضت قائلة بثورة _رحيم محبنيش ومفرقتش معاه..
وقفت حفصة تقول بسخرية _رحيم مفرقش معاه غيرك.
صاحت بهجوم وهي تدور في الشقة بإنفعال _خاف يقولك إنه اتجوزني إني حامل منه..
ضمت حفصة شفتيها بتأثر، لتتابع نيرمين بحرقة قلب
_خدعني علشان يخلف... ولما حملّتي إنتِ رماني..
همست حفصة ودموعها تنساب _رحيم خاف يقولي علشان خاف عليــ.
قاطعها نيرمين بحدة _خاف علي مشاعرك ومش مهم أنا..
بغضب مكتوم وقفت حفصة قبالها تهتف _رحيم خاف عليا من الموت...
تسمرت نيرمين مكانها متفاجئة، ثبتتها حفصة بذراعيها قائلة رغم ضيقها من الإفصاح بالإمر
_أنا عندي مشكلة صحية كبيرة تمنعني اخلف، رحيم هو خاف يقولي علشان متعبش ومصممش اخلف...
بتهكم هتفت نيرمين _فقال التانية تخلف...
هتفت حفصة صارخة من عناد الأخرى _افهمي هو معملش كده إلا علشان بيحبك،...
تملصت نيرمين منها وابتعدت تقول بقسوة _وإنتِ اهو حملّتي وهتخلفي فخلاص..
ليأتيها الرد حاسمًا _بس مش هعيش...
ارتجف قلب نيرمين من كلمات حفصة، فأقتربت تسألها بحذر _تقصدي إيه..؟
اخذت حفصة نفسًا مؤلمًا قبل أن تقول بحسرة _الحَمل خطر عليا ونسبة نجاتي ضعيفة..
شعرت حفصة فجأة بتعب شديد فسارعت قائلة لإنهاء الأمر _رحيم محتاجلك متسيبهوش، هو بيحبك ومحبش غيرك صدقيني أنا.... ولو عليا أنا فمتقلقيش أنا بعدت من زمان وقريب هختفي من حياتكم خالص... حتى ابني مش هخليه عائق بينكم... هيفضل مع أمي..
همست نيرمين بإرتجاف _حفصة بتقولي إيه..؟
ضغطت حفصة شفتية بقوة تبتلع آهاتها قبل أن تقول
_والله رحيم ما خدعك، حتى يوم ما طلقك كان خايف عليكي..
آهة قوية خرجت من فمها رغمًا عنها _آه
انتفضت نيرمين زعرًا وأقتربت تسألها بخوف _في إيه..؟
أجابت حفصة بصوت واهن _الظاهر بولد... كلمي رحيم بسرعة...
أجلستها نيرمين قائلة بجزع وهي تراقب شحوب وجه حفصة _حاضر..حاضر
أمسكت نيرمين الهاتف تفعل ما طلبته حفصة وما إن جائها صوته حتى هتفت بصوت مختنق _حفصة بتولد...
_هي فين..؟
_عندي في البيت...
رغم دهشته بتواجد حفصة عندها إلا أنه ابتلع كلماته وأغلق الهاتف بسرعة..
دقائق كان أمامهم يحمل حفصة بين ذراعيه، ينزل بها درجات السلّم ليستقل سيارته... وضعها بالمقعد الخلفي، بجانبها جلست نيرمين قلقة.... أمسكت حفصة كف نيرمين تطلب وعدًا بهمس _أوعديني متسيبهوش... أوعديني تقفي جنبه.
ترددت كثيرًا في إطلاق ذلك الوعد، لكنها بالنهاية استسلمت لإلحاح حفصة واكتفت بهزة رأس موافقة جعلت حفصة تطمئن
________________
نهضت من مكانها المقابل لمكانه، لتجلس بجانبه تهمس بكلمات مواسية _متقلقش ربنا يقومهالك بالسلامة.
انحنى رحيم يدفن وجهه بين كفيه مُرددًا _يارب..
ليرتفع وجهه بملامح لا تُفسر _كانت عندك ليه...؟
نظرة طويلة اهدتها له هامسة بإرتباك _كانت... كانت...
بلا مبالاة همس _قالتلك إيه..؟
_قالت الي إنت مقولتهوش..
هتفتها صريحة حاسمة، التوى فمه بإبتسامة باردة كحديثه
_فرق معاكي الي قالته..؟
_لا
همستها صريحة لا مبالية رغم ألمها، ليعود بنظراته هامسًا بفظاظة
_خلاص يبقى حتى لو كنت قولتله مكانش هيفرق.
أجابت مؤكدة _فعلا معدش يفرق شىء والي انتهى مش هيبدأ تاني
كاذبة تعلم أن كلام حفصة وجد صدى داخلها، أراحها ولو قليلًا، كشف لها حقيقة مشاعره التي تنكرها... لكنها لن تجاذف مُجددًا، لن تخطو نحو علاقة منتهية.... يكفيها ما عانته من توابع لتلك العلاقة حتى وإن كانت تعشقة ولا حياة لها بدونه .. ستصنع لنفسها حياة أخرى تقف فيها منتصرة لا مهزومة.
وقف مبتعدًا عنها يضع ذراعيه على الحائط مُستندًا ينازع وحوشه مخاوفه، بينما الخيبة كانت الأقوى سلاحًا... تنهد بقلة حيلة ونظراته الهزوزة تتجه ناحية الحجرة متضرعة مبتهلة أن تخرج حفصة بسلام، أثقل صدرها المنهك بالهموم والغيرة... دمرها ومدمر حُلمًا جمعهما يومًا، كيف له أن يكون بتلك الأنانية...؟
لكن ما حيلتنا بقلوبنا، وأروحنا..؟
ضرب كفه بالحائط مُتضرعًا بصوت مسموع(يارب) وكل العذاب يتجسد  حوله كنيران تلتهمه بضراوة.
ظلت تتابعه بألم يصرخ مهرولًا إليه من نظراتها، حاولت تجاهله لكن قلبها يعذبها وعيونها تتعلق به معاندة لعقلها.. حتى ربتة خافتة على كتفة حُرمت منها، يالله.... تتعذب برؤيته مهزوًما مكسورًا روحه تفارق جسده الخائف مع كل دقيقة تمر.... ٥
جلس أخيرًا مُتعبًا كف تقبض على حافة الكرسي المجاور وأخرى تحاوط رأسه بإنهاك...
انتفض بغتتة من دفء غمر كفه، رفع رأسه ليجد كفها الصغيرة تحتضن كفه في مؤازرة رقيقة منها، نظراته الذابلة  هرولت لأمان عينيها، ابتسمت وهي تهمس داعمة _متخفش بإذن الله تقوم بالسلامة..
برحابة ضم كفها في إحتياج شديد، مُتقبلًا ذلك الدعم بلهفة..
خرج الطبيب فاندفع ناحيته تاركًا كفها يسأله
_خير يا دكتور...
هتف الطبيب بتنهيدة مُتعبة _الحمدلله كله بخير.
تهلل وجهه، اندفع ناحية الحجرة التي يجلس فيها خاله وزوجته يبشرهما...، خرجا خلفه متلهفين لرؤيتها بين ظلت نيرمين منزوية بعيدًا تتابع بصمت فرحتهم، داعية الله أن يتم نعمته عليهم...ويمر كل شىء بخير.
انسحبت من جمعهم، حتى لا تكون غصة مؤلمة في قلب أحد،
ابتعدت خارج إطار تلك الصورة تمسح دموعها الفرحة بكفها..
انتزع الخوف قلبها مع رؤية الطبيب، تمنت أن يمنح القدر الجميع فرصة أخرى بعيدًا عن أوجاعهم.
________________________
انكمشت مكانها، تفكر فيما حدث، كلام حفصة ووعدها لها كل شىء، صدقها المصبوغ بحزنها حينما أخبرته بحب رحيم لها، وتفضيلها عليها حتى مع مرضها، لقد فهمت ووعت كل ما قيل، لكنها اختارت التجاهل والغباء طريقًا تسلكه،...
اختلطت أفكارها بصوت طفولي صارخ (رامي).
انتفضت واقفة من مكانها تتردد (رامي).. لكن صرخات ندى الطفولية أكدت الخبر (رامي رجع)...
ركضت نيرمين للخارج بلهفة تتحقق مما وصلها، حتى اصطدمت به واقفًا أمامها مُبتسمًا رغم الحزن اللامع بمقلتيه، ثابتًا رغم اهتزاز الضغف بجسده... ابتلعت شهقتها المتفاجئة واندفعت لأحضانة، تلقفها رامي بين ذراعيه مُرحبًا...
ابتعدت تهمس بسعادة وعيناها الجميلة تتفحصة بدقة
_حمدالله على السلامة يا حبيبي..
قُبلة مشتاقة طبعها على مقدمة رأسها حفها بكلمات واهنة مصبوغة بالشوق_الله يسلمك وحشتوني أوي..
ضمت كفيه بكفيها هامسة بدموع الفرح _وإنت كمان...
انشغلت عيناه بأخرى منزوية تطلق نظراتها تجاهه بجوع، تتلكأ نظراتها على ملامحه بنهم شديد،و دموع خائنة رافقها همس غير مصدق بإسمه _رامي...
خطوة تقدمتها تجاهه، تراجعتها الفًا ولهيب كلماته يعاود ليلفح جسدها.. مع كل تراجع لها كان يرسل اعتذارًا صامت قرأته جيدًا لكنها رفضته، دخلت الحجرة واغلقت خلفها كما أغلقت أبواب اعتذاراته.
بينهما كانت نيرمين واقفة تبكي بصمت، ولا تدري اتبكي حالها أم حالهما،... مسحت دموعها قائلة _تعالى اقعد واحكيلي حصل ايه وطلعت ازاي..؟
جلس متعبًا على الكرسي يرمق باب الحجرة المغلق بيأس، يغيب فيما خلفه بتوسلٍ... أخرجته نيرمين من دوامته هامسة _سيبها دلوقت يا رامي، كل شىء هيتصلح.
التقت عيناهما في نظرة موجعة لتلتقطها نيرمين هامسة _هقوم احضرلك أكل...
أجابها رامي بإنهاك حقيقي _محتاج أنام...
نهضت من جانبه تاركة له الآريكة الطويلة ليتمدد عليها، بالفعل أرخى جسده مُستسلمًا لذلك التعب الذي ينهش جسده،
سارعت بإحضار غطاء تحت نظرات نجوى الصارخة بفضول، دثرته جيدًا وعادت حيث نجوى..
هتفت نيرمين وهي تأخذ مكانها في الفِراش بجانب نجوى _نام... شكله تعبان جدًا... مرضيش ياكل أو يتكلم..
ختمت نيرمين كلماتها بأخرى حزينة _مسكين رامي   
تمددت نجوى على فِراشها باكية، قلبها يكاد يتمزق حنينًا لرؤيته وضمه، تلك النظرات المسروقة لم تُشبع جوعها له، لم تُهدىء عاصفة الشوق التي أجتاحت جسدها حين رأته بتلك الهيئة الرثة... كيف انقلب حاله فجأة..؟ وماذا حدث له..؟
ذلك الوجع المنبثق من نظراته والإنكسار يقتلها بحق...
نهضت جالسة تختلس النظر لنيرمين التي ادعت النوم، تاركة لنجوى مساحتها الخاصة في مقابلة زوجها... أطمأنت نجوى لنوم الأخرى فاندفعت للخارج واضعة كفها على بطنها حتى لا تنسى... مرت أمامه يدثر شوقها الظلام حتى وصلت للمطبخ، ارتشفت كوبًا من الماء وعادت، وأمامه توقفت.. تنظر إليه بحزن.. وثب قلبها مُطالبًا بالإقتراب وهي امتثلت، أقتربت منه بحذر، أراحت كفها المرتعشة على خصلاته، وببطء مررتها بحنان، ودعم محسوس.
انحدرت كفها لوجهه، تلمسته بحنين جارف... مررت اناملها المهتزة على كل إنش به..مع كل لمسة لجُرحٍ في وجهه كانت تبكي
سحبت كفها تحاول الإبتعاد، لكن كفه المنتظر بشغف كان يتمسك بكفها يمنعها، ويُقيدها.. ارتجف جسدها متفاجىء  من استيقاظه، بكت حرقة من اندفعها.. سحبها قليلًا ناحيته يهمس بصدق _أنا آسف...
حمدت الله أن الظلام دثرهما، ستر ضعفها وانهيارها،
اختض جسدها بشدة من قوة الشهقات المندفعة منها،.. فأغدق عليها آسفة _أنا آسف سامحيني..
تنهيدة مُلبدة بسعال خفيف رافق كلماته _ربنا خدلك حقك مني..
انتفضت بقوة رافضة، سحبت كفها وغادرت صافقة خلفها الباب بألم... هبط جسدها الواهن على طول الباب حتى استراح أرضًا.. تعالى صوت بكائها الحزين، لتنهض نيرمين من مكانها وتقترب منها داعمة، ضمتها إليها دون حديث... شاركتها البكاء حتى هدأت نجوى وهمست بوجع
_بيقولي ربنا خدلك حقك مني.. ميعرفش إني مُت ألف مره لما شوفته كده.
التف الحزن كحلقة بينهم، لكن داخل تلك الحلقة اجتمع آخرين يشاركونهم حزنًا من نوعٍ خاص.
حباتٍ من العرق ندى بها جبينها ليسارع رحيم بمسحهم هامسًا _حفصة إنتِ كويسة.
هزت رأسها بوهن، ليقول بقلق _اجبلك الدكتور..
اجابته بصوت مُختنق بالألم _لا صحي ماما وبابا...
استدار يُلبي طلبها لكنها تشبثت بكفه، استدار  مُقتربًا يسألها بفزع _إيه يا حبيبتي..؟
ابتسمت برضا من كلماته، لتهمس بوهن بدأ يلتهم صوتها _لما بتقولها لي بحس قلبي بيرفرف..
ارتفعت كفه الأخرى تربت برفق على مقدمة رأسها، جلس على ركبتيه أمامها يهمس بإسف _أنا آسف يا حفصة، زعلتك كتير.
هزت رأسها رافضة، وكفها تشدد من احتضان كفه.. همست بصوت مرتعش _أنا بحبك.. وعمري ما زعلت منك..
طبع قُبلة دافئة على مقدمة رأسها وهو يهمس بندم _سامحيني.. بإذن الله تقومي بالسلامة واعوضك عن كل حاجه.
دمعت عيناها وهي تهمس بتوصية_خلي بالك من ابني يارحيم.. بالله عليك ما تزعله... خليه مع ابويا وأمي
برفض همس ويداه تمسح وجهها المتعرق_متقوليش كده كله هيعدي وتقومي..
بإبتسامة واهنة همست _رجّع نيرمين،... خليها تسامحني يمكن ربنا يسامحني.. أنا غلطت فحقها..
قبل أن تختنق أكثر همست _متنسانيش يا رحيم.. كل ما تفتكرني زورني. هحب إني أشوفك.
أراح رأسه عند تجويف عنقها يبكي كالصغار، يتوسلها بخفوت _متقوليش كده، متعذبنيش...
همست وشفتاها الجافة المرتعشة تسرق قبلة أخيرة من جبينه _أنا راضية ومسمحاك...
اختنقت اكثر وبدأ جسدها في الإرتعاش طلبت والدتها والدها.. نهض فزعًا يطلب طبيبًا ويوقظ والديها من غفوتهم.. التي أجبرهم عليها بعد يوم طويل مكلل بالتعب..
أحاطاها والديها فزعين، تسألها أمها وهي تزرع راسها بأحضانها_فيكي إيه يا حفصة..
بضع آيات تمتمها والدها وهو يراها تنازع مالا يحسوه، وضع رحيم ابنها أمامها، تخطف منه نظرة أخيرة،.. اهدتهم ابتسامة باهتة واغلقت عيناها مستسلمة، بكا والدها وقد أدرك ما لم تدركه امها وظلت تصرخ مستغيثة _حفصة.. حفصة..
رفع رحيم صغيره الذي احس بفراق والدته فانطلق يصرخ دون وعي.. ضمه إليه يبلل وجهه البرىء بدموع الفقد والندم،...
جاء الطبيب ليفحصها.. أخذوها لحجرة العناية.. يحاولون...
ليخرج أخيرًا هامسا بما يعرفوه _البقاءلله..
______________________
تعالى رنين الهاتف فاندفعت تقول بسعادة _تلاقيه عمي فضل..
وقف رامي بجانبها قائلًا بحنق _إنتِ لحقتي تقوليله..
هزت رأسها مبتسمة ثم عاودت الحديث لعمها _ازيك يافضل وحشتني...
جائها صوته كسيرًا مُتحشرجًا بغصة بكاء
_ايوة يا بتي...
سألته بحذر وقلبها ينتفض بين جنباتها فزعًا _مالك يا عمي...
همس من بين غصات بكائه _حفصه يا بتي..
رددت بصدمة وجسدها قد بدأ بالإرتجاف _مالها حفصة..؟
همس رامي بقلق وهو يرى تبدل حالها للنقيض _في إيه؟ مين حفصة.؟
نزل عليها الخبر كالصاعقة (حفصة تعيشي إنتِ _ربنا استرد أمانته) تركت الهاتف يسقط من بين اناملها بينما شفتاها تلفظان اسم حفصة بذهول
_حفصة ماتت..
أخذ رامي الهاتف من عمه الذي سارع بالقول_لازم تيجوا يا نيرمين ..
أغلق فضل الاتصال، لينظر رامي لنيرمين الي غامت نظراتها بالدموع.. أمسكها رامي قائلًا بإشفاق _إن لله وإن إليه راجعون..
انهار جسد نيرمين أرضًا ومازال الذهول يغشى ملامحها، جلس رامي بجانبها يهمس_وحدي الله ده نصيبها..
وضعت نيرمين وجهها بين كفيها وانخرطت في بكاء قاسي مرير،..
وفي الناحية الأخرى كان الآخر مُنهارًا بحق ينزوي بعيدًا تاركًا العزاء.. يتطلع حوله غير مصدق أنها صدقت وعدها ورحلت، وأنه لن يراها مجددًا..
ظل ينظر حوله مبهوتًا، تارة يراها صغيرة بين الجموع تلوّح له بقطعة حلوى... وتارة يراها تحتضن كتبها مبتسمه تلوّح له من بعيد، وتارة يراها عروس فرِحة تتأبط ذراعه بفخر.. وتارة يراها حزينة باكية ترسل له اللوم والعتاب..
ضغط على رأسه بقوة، يريد تحطيمها علّ الأمر ينتهي، لكن مع كل نظرة يرميها حوله كانت تنبثق هي من أفكارة بكل مراحل حياتها التي عاشها معها... طفلة فمراهقة فعروس..
سحبه عمه من ذراعه ليحمل النعش، وكأن لجسده قوة ستتحمل،... اختل توازنه مره فسارع فضل بإيقافه ودعمه، يوم وفاة والده لم يكن هكذا ضعيفًا مهزوزًا بل كان صامدًا كجبل، لكن الأمر مختلف فيداه الآن مُلطختان بدمائها، قلبه الذي ينبض الآن بين اضلعه خنق يومًا حُلمها بدقة عاشقة لأخرى...
مغروس هو في وحل الآثم، شارك بدم بارد في موتها، وقف مُتفرجًا عليها ينعي حب أخرى لم يشفع له حبه عندها.
أراح جسدها في بطن الأرض، وأرأها مع آخر ضحكة لها، أخفاها مُرغمًا كما أخفاها هو يومًا بإرادته... همس خافت بإسمه وصله فرفع رأسه المغبر بالتراب يتبين الهمس، فرأها تركض أمامه تلّوح له بوداع..
كيف أنهى كل شىء ببساطة لا يعرف،كابوس لكن تلك المرة ليس بنائم بل مستيقظًا يعي كل شىء، كيف وصل الآن لحجرتها  يحضن صغيره رافضًا إخراجه لأحد حقًا لا يتذكر، تزداد الطرقات المتوسلة على بابه فيزداد تشبثه بالرضيع
_رحيم افتح يا ولدي مينفعش كده...
ومع أول قدمٍ تضعها بالبيت، صفعها صوت عمها المتوسل لرحيم، انتفض قلبها بقوة، تركت الحقيبة وركضت للأعلى... وقفت أمام عمها تسأل بفزع _عمي في إيه. ؟
أجابها فضل بتأثر شديد ومازالت يداها تطرقان الباب بقوة _رحيم قافل على نفسه من مدة والواد لازم يرضع...
ساعدت عمها في الطرق قائلة بتوسل خافت
_افتح يا رحيم لازم يرضع مينفعش يفضل كده ممكن يموت..
على ذكر سيرة الموت، نظر رحيم للصغير نظرة طويلة مُشفقة.. وبعدها نهض به متجهًا للباب، فتحه وأطلّ منه حاملًا الصغير..
جرت عيناها الباكية على ملامحه بلهفة،.. تقدمت تريد حمل الصغير عنه، لكنه رفض بقسوة.
_لا إنتِ لا.... كفاية أمه..ناوله لعمه فضل.. مطمئنًا
بينما تراجعت هي مبهوتة، تحملق فيه بذهول شديد،... رماها بنظرة حزينة وأغلق الباب مرة أخرى غير مبالي أو مهتم بما نطق ، ضم فضل الصغير هامسًا بمواساة لنيرمين الباكية _متزعليش يا بتي... اعذريه..
هزت رأسها واندفعت للأسفل تؤدي واجب العزاء...

أنا بألوانك (سلسلة حين يشرق الحب) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن