_جنة!!
اندفعت نحوها رؤى وهي تناديها بلهفة لترتمي في حضنها هاتفة وسط دموعها:
_أنا آسفة يا جنة ...أنا السبب...سامحيني!!
ضمتها جنة بقوة وهي لا تصدق أنها هنا معها....
لتهتف بعدها بسخط:
_كيف جئتِ هنا؟! ولماذا؟!!! أنتِ مجنونة؟!!!!!
مسحت رؤى دموعها وهي تهمس بحزن:
_لقد كنت أهاتفكِ لأخبركِ بمصيبتي الجديدة...لأجد فهد هو الذي يرد عليّ ليخبرني أنه يحتجزكِ هنا...ويطلب مني الحضور...لم أستطع الصبر وجئت كما طلب.
ضغطت جنة شفتيها بتوتر وهي تسألها:
_وما هي مصيبتك الجديدة هذه؟!!!
قصت عليها رؤى باقتضاب حكاية الخاطب الجديد...
والتي تأجلت بسبب طلاق صفا وعبد الله...
ولو أنها تثق أن قصة طلاقهما هذه لن تستمر...
عبد الله لن يستطيع الاستغناء عنها...
سيردها لعصمته كما فعل من قبل....
وحينها سيعيد التفرغ لأمرها مع ذاك الخاطب الذي لا تعرف حتى اسمه!
تنهدت جنة في حرارة وهي تضع كفها على رأسها لتهمس بألم:
_ماذا فعلتِ بنفسكِ يا فتاة؟!!!!
عادت رؤى تبكي وهي تشعر بالخزي...
هي لم تورط نفسها فحسب...
لكن ها هي جنة تدفع معها ثمن فعلتها الشائنة...
ومن يدري...ما الذي ينتوي فهد الصاوي فعله بها عقاباً على فعلتها؟!!!!
لكن جنة ضمتها بقوة لتخفيها بين ذراعيها هامسة بحنان رغم ما يملؤها من حزن:
_لا تبكي يا حبيبتي....فرجٌ قريب إن شاء الله!!
بينما كان هو واقفاً يراقبهما من بعيد...
كانوا جميعاً في انتظار المأذون وشاهديه ليتم اتفاقه معها والذي وافقت عليه مكرهة.
كان يشعر الآن بشعور غريب وهو يراها تحتضن رؤى بهذا الحنان الجارف...
وهذا الاحتواء الذي لم يرَه من قبل...
ملامح وجهها التي طالما رأى فيها القسوة والسخرية والبرود تحولت تماماً لملامح تنبض بالحنان والحب...
ورغماً عنه تعلقت عيناه بذراعيها اللذين يضمان رؤى وهو يتخيل نفسه مكانها!!!
لا...
ليس الأمر مجرد رغبة رجل بامرأة...
لكنها رغبته في حضنها هي بالذات!!!
يريد أن يتذوق حنان هذه المرأة الغريبة التي سحرته قوتها...
وأسره ضعفها...
ويكاد يذوب تلهفاً ليعرف كيف سيكون عطاؤها لمن تحب!!!!
ثم طال تأمله الصامت لهما وهو يفكر...
لماذا تساعد صديقتها بهذا التفاني والإخلاص؟!
هذه المرأة إما أن تكون أكثر أهل الأرض حماقة...
أو أكثرهم طيبة!!!
وفي الحالتين هي وقعت في قبضته...
ولن يتركها حتى يفك ألغازها كاملة!!!
ربما هو لا يزال لا يعرف ماذا يريد منها بالضبط...
لكن ...أمامه الوقت كله ليعرف...
بعدما يتملكها كما اعتاد في كل شئ يعجبه!!!
قطعت أفكاره عندما وصل المأذون و شاهداه...
فاقترب من جنة ورؤى ببطء ليقول ببرود:
_لقد أحضرت لكِ صديقتك لتتمّا الأمر معاً كما بدأتماه معاً!!!
قالها وهو حقاً لا يعنيها...
هو أحضر رؤى لكي يضمن تأثيرها علي جنة!!
فهو برغم كل شئ كان يخشى من رفضها...
لكنه أدرك بحدسه أن وجود رؤى بنفسها هنا سيدفع جنة للموافقة دون مماطلة...
وقد صدق حدسه!!
تجاهلت جنة عبارته وهي تشيح بوجهها....
بينما رمقته رؤى بنظرة عميقة....حملت كل عتبها وخيبتها وانكسارها....
هي لا تزال غارقة في صدمتها به...
لا تصدق كل ما حدث في هذه الأيام القليلة....
لا تصدق أنها سمحت لوغد كهذا بالدخول لحياتها فيسممها كلها بسواد خطيئتهما المشتركة...
وليتها كانت حياتها هي فقط...
لكن جنة أيضاً تشاركها عقابها دون جريرة ودون ذنب!!!
لكن فهد تجاهلها تماماً وهو يرمق جنة بنظرة متحدية ليقول ببرود:
_هيا يا عروسي!!
شهقت رؤي بعنف وهي تضع كفها علي شفتيها...
لا...لم تكن غيرة!!
فلم يكن الموقف يسمح بترف هذا الشعور الآن...
خاصة وهي تعلم علم اليقين أن فهد لن يتزوجها إلا ليكسر أنفها فحسب...
جنة القوية العنيدة التي وقفت في وجهه ويريد إذلالها....
لكن شهقتها المشفقة كانت لأنها تعلم وقع هذه الجملة بالذات-علي جنة الآن!!!
جنة التي أغمضت عينيها بقوة ...
لتترنح قليلاً في مكانها بحركة خفيفة لكنها لم تخفَ عليه...
لتسندها رؤي هامسة في أذنها بإشفاق يمتزج بالحزن:
_كوني قوية يا جنة!!
لكن جنة لم تسمعها...
عبارته الباردة أيقظت ذكراها الخالدة...
والتي تعتبرها ملكة ذكرياتها بلا منازع...
_هيا يا عروسي.
بصوت حسن هذه المرة ....
وهو يتأبط ذراعها ليهمس في أذنها ليلة عقد قرانهما بصوته العذب:
_أخيراً...لن يفرقنا شئ!!!!
فتريح رأسها على كتفه وكأنها لا ترى سواه لتهمس بهيام:
_لا شئ أبداً يا حسن!!!
دمعت عيناها وهي تعود لواقعها البائس...
لتصرخ أعماقها دون صوت....
لم أكن أعلم وقتها أن الموت سيفعل يا حبيبي!!
لكنني على عهدنا...
جنتك التي كانت وستكون لك...
لم يطأها قبلك أحد...
ولن يدخلها بعدك أحد...
جنتك التي جفت أشجارها بعدك...
وهجرتها طيور العشق بلا رجعة...
تنتظرك لتزهر معك من جديد...
ربما ليس في هذا العالم...
لكنها ستبقى جنتك وحدك حتي تلقاك!!!!
أخذت نفساً عميقاً تمالكت به دموعها التي لم تفوتها عيناه المتربصتان بها...
ثم ربتت علي كف رؤى لتهمس بثبات:
_هيا بنا!
قالتها وهي تندفع للخارج متجاهلة إياه بشموخ...
وكأنها لا تهتم...
لتتبعها رؤى مطأطأة الرأس وهي تشعر بالخزي والانكسار....
جلست قبالته على الكرسي ...
وأمامهما كان الرجل يتم إجراءاته بطريقة عملية...
لكنها كانت غافلة عن الجميع ...
غارقة بشرودها...
ليلاحظ هو تلاعبها -العصبيّ-بدبلتها الذهبية في إصبعها !!!
اتسعت عيناه بارتياع وبصره يتجمد عليها بشعور خانق...
كيف لم ينتبه أنها لازالت ترتدي تلك الدبلة في يدها؟!!
عقد حاجبيه بغضب وهو يراها تتلمسها بكل هذا الحنان...
ليراها بعين خياله وكأنها تتلمس ذاك الراحل ...
نعم...حسن...
هاجسه الذي يؤرقه منذ سمعها تتحدث عنه بالأمس!!!
ما الذي كان عليه هذا الرجل حتى تحبه امرأة كهذه كل هذا الحب؟!!!
بل وتخلص له حتى بعد سنوات من وفاته...
ما الذي كان يجمع بينهما أكثر مما يجمع أي امرأة برجل؟!!!!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يلمح الدموع المتحجرة في عينيها الشاردتين....
وارتجافة أناملها المتشبثة بدبلتها الذهبية وكأن روحها فيها....
ليقبض كفه بقوة هو الآخر وهو يضغط على أسنانه بقوة مقسماً لنفسه أن ينزع حسن هذا من قلبها بأي طريقة...
لن يكون فهد الصاوي لو لم يتملكها كاملة...
كاملة....
كاملة!!!!
==========
طرقت ماسة باب غرفة السيدة حورية برفق في يوم عملها الثاني هنا...
هي لم تغادر غرفتها منذ البارحة كما أمرها السيد عاصي....
واكتفت بالراحة من عناء السفر الطويل....
سمعت صوت حورية تدعوها للدخول...
فتنحنحت بارتباك وهي تدلف إلى الداخل لتهمس برقتها الفطرية:
_صباح الخير يا سيدتي.
ابتسمت حورية في حنان وهي تقول بطيبة واضحة:
_صباح الخير يا ماسة....ما شاء الله....أنتِ جميلة حقاً كما تقول الخادمات هنا...منذ جئتِ بالأمس ولا حديث لهن سوى عن ماسة بعينيها الفضيتين.
ابتسمت ماسة بخجل وهي تهمس بارتباك:
_شكراً يا سيدتي.
تأملتها حورية بتفحص لتقول لها بعد لحظات:
_قولي حورية فقط يا ماسة....الفارق في السن بيننا ليس كبيراً إلي هذا الحد ...
أومأت ماسة برأسها إيجاباً وهي تتفحص ملامحها بارتياح...
السيدة حورية امرأة فاتنة...
جمالها جذاب آسر ...
ومريح...
على عكس زوجها تماماً!!!
ثم تقدمت نحوها لتتناول ذراعها وتقيس لها "الضغط"...
ثم طلبت منها كل الوصفات"الروشتات" الطبية التي وصفت لها...
لتتأكد من توافر الأدوية كلها هنا...
ثم أومأت برأسها في رضا وهي تهمس بخفوت:
_الوضع مستقر...لكن يبدو أن الحمل يحتاج لتثبيت ...هذه الحقن كافية...لكن يجب أن تستريحي تماماً ولا تتحركي.
تنهدت حورية بحرارة وهي تسند رأسها علي ظهر سريرها لتهمس بشرود:
_أما عن عدم الحركة فالسيد عاصي لن يدعني أغادر هذا الفراش....لكن ماذا عن الراحة يا ماسة؟!!! من أين يأتون بها؟!!!
تأملتها ماسة بإشفاق وهي تشعر بحزنها المستقر بعينيها...
ثم أطرقت برأسها وهي تسألها بخجل:
_هل تريدين شيئاً آخر ؟! ميعاد حقنتك بعد ساعة.
ابتسمت حورية وهي تقول بحنان:
_ابقي معي قليلاً...دعينا نتحدث في أي شئ...لقد استراح قلبي لكِ كثيراً.
أومأت ماسة برأسها وهي تهمس بامتنان:
_وأنا أيضاً!!
قالتها ثم لاحظت تصلب نظرات حورية على شئ ما خلف ظهرها بخوف واضح....
فالتفتت خلفها بحركة تلقائية...
لتنتفض بدورها من مكانها وهي تعدل حجابها على رأسها كما أمرها هامسة بخفوت:
_مرحباً سيد عاصي.
تجاهلها عاصي تماماً وهو يتوجه نحو حورية بخطوات بطيئة واثقة...
ثم قال لها بصوته القاسي:
_لا تقصير في الدواء...لا نهوض من الفراش...لا طعام إلا في حدود المسموح.
إلى هنا كانت ماسة واقفة مكانها مطرقة برأسها تشعر بأن أوامره -رغم صرامتها- منطقية....
لكنها عادت تلتفت نحوه بحدة عندما سمعته يردف بنفس النبرة القاسية:
_وأي زيارات لكِ غير مسموح بها!!
عقدت ماسة حاجبيها وهي تشعر بالغرابة....
لا زيارات؟!!!
لماذا؟!!!
ربما يخشى عليها من العدوى مثلاً....
أو ربما من الحسد!!!
لكن ماذا عن والديها...
أوامره الصارمة تشمل الجميع....
لماذا؟!!!
ورغماً عنها راودتها ذكريى مشابهة لعزيز...
فابتسمت في حنين دافق وهي تتذكر...
_ألف سلامة يا ماسة!!! ليتني أنا مكانك!!
همس بها عزيز بحنانه المميز وهو يناولها كوب الليمون الذي أعدته رحمة...
مستغلاً انشغال الأخيرة في المطبخ ...
فانتفضت ماسة مكانها لتقوم من فراشها جالسة وهي تهمس بإعياء:
_اخرج يا عزيز...لا يصح أن تدخل غرفتي هكذا.
جلس جوارها على طرف الفراش وهو يهمس بقلق:
_أنتِ لن تتمكني من مغادرة الفراش....وأنا لم أحتمل ألا أطمئن عليكِ...لا تقلقي...أمي مشغولة في المطبخ.
وضعت كفها علي رأسها الذي كان يؤلمها بحق لتهمس بضعف:
_متعَبةٌ كثيراً .
ثم التفتت إليه لتهمس بحب:
_لكنني افتقدتك أكثر...اخرج الآن وسألحق بك.
هز رأسه نفياً وهو يتأملها بقلق صادق ليهمس بلهجة آمرة:
_لن تغادري فراشك...فقط اشربي الليمون وسأغادر بعدها.
تناولت منه الكوب وهي تبتسم هامسة بامتنان:
_شكراً يا عزيز!!
تنهد في قلق وهو يراقب ملامحها الشاحبة...
حتى انتهت من كوبها فتناوله منها ليضعه جانباً...
ثم تناول غطاءها برفق ليضعه عليها هامساً بحزم حنون:
_عودي لنومك ولا تخرجي من الفراش حتى تستردي عافيتك.
عادت تتمدد علي الفراش وهي تشد غطاءها عليها....
وعيناها متعلقتان به في عاطفة صادقة....
ليقترب بوجهه منها هامساً بصدق:
_لم أتمنِ يوماً أن تكوني زوجتي كما الآن...كم أريد أن أضمك لصدري في هذه اللحظة فأمتص كل ألمكِ وتعبكِ.
اتسعت عيناها للحظة شعرت بعدها أن وجنتيها على وشك الاحتراق خجلاً...
لترفع الغطاء حتى غطت به رأسها كاملاً ليصله همسها الخجول من تحته:
_عيب يا عزيز...اخرج الآن...حالاً!!!
ابتسم وقتها بحنان يمتزج بقلقه عليها...
لكنه همس مشاكساً:
_قولي...اخرج يا حبيبي...وسأخرج بعدها فوراً!!!
همست بها بخجل من تحت الغطاء...
فاتسعت ابتسامته ثم همس بهيام:
_اعتني بنفسكِ لأجلي.
_هل أنتِ دوماً شاردة هكذا؟!
شهقت رغماً عنها وصوته القاسي يقطع عليها ذكراها الرقيقة...
فتحسست سلسلتها بحركتها التلقائية لتهمس باضطراب:
_عذراً سيد عاصي!!هل تريد شيئاً؟!!!
ضاقت عيناه بتركيز وهو يقرأ الاسم المنقوش على دلاية سلسلتها ....
فابتسم ابتسامة جانبية ساخرة....اختفت بسرعة كما ظهرت...
ليقول بعدها بصرامة:
_تعاليْ معي!!
=============
جلست رحمة على سرير ماسة تحتضن وسادتها بحنان وهي عاجزة عن التحكم في دموعها...
لا تدري كيف تمكنت ماسة من الاختفاء هكذا...؟!!!
وكيف سيكون حالها وهي تواجه الحياة وحدها....؟!!!
قطعة من قلبها أخذتها ماسة معها وهي راحلة....
بل لا تبالغ لو قالت....قلبها كله...!!!!!
فتحت أناملها المنقبضة علي رسالة ماسة التي تركتها لها قبل رحيلها لتستيقظ فتجدها جوارها علي الوسادة...
أمي الحبيبة...
عذراً لو كنتُ قد خيبتُ أملكِ فيّ دون قصد...
لكنني أبداً لن أفعلها عامدة...
أنتِ منحتِني حياتي السابقة يوم قررتِ أن تكوني لي أماً...
وأنا سأمنحك حياتي القادمة عندما أبتعد عن عزيز...
نعم عزيز كان حياتي القادمة...لكنني سأتركه فقط لأجلكِ عساكِ لا تندمين علي معروفٍ صنعتِه بطفلة يتيمة فكبرت لتخطف فرحة قلبك بابنك....
لا تقلقي على ماستك...فهي صلبة رغم الخدوش...
أحبكِ أمي...وستبقين دوماً بعينيّ كل الرحمة!!
سالت دموع رحمة غزيرة وهي تقبض كفها من جديد على رسالتها بعد أن قبلتها لتهمس وسط دموعها بحرقة:
_لأجلكِ يا ابنتي قبل أن يكون لأجله....عزيز لم يكن ليداوي جرحكِ أبداً...بل كان سيزيده!!
ثم رفعت رأسها للسماء لتدعو بتضرع:
_احفظها يارب أينما كانت...وردها لي...
ثم تهدج صوتها وهي تردف :
_لأمها!!
======
جلست قبالته على مكتبه الضخم بغرفته الكبيرة...
والتي تشبه الغرف العظيمة لل"بكوات" في مصر القديمة كما كانت تراها علي التلفاز...
هذا القصر قديم الطراز لكنه فخم حقاً...
كل قطعة فيه تحفة أثرية...
لم تكن تصدق يوماً أن ترى شيئاً كهذا في الواقع بعدما قضت عمرها السابق كله في حارة رحمة الفقيرة شديدة التواضع.
أطرقت برأسها تنتظر منه أن يبدأ الحديث...
لكنه ظل يتأملها متفحصاً للحظات....
ثم قال لها بنبرته القاسية :
_الطفل الذي تنتظره السيدة هو أهم شئ في حياتي الآن....هل تدركين معنى هذا؟!!!
أومأت برأسها إيجاباً وهي تتحاشى النظر إليه...
ثم همست بخفوت:
_بارك الله لكما...سأبذل قصاري جهدي للعناية بالسيدة.
خبط بقبضته علي المكتب ليهتف بصرامة:
_قلت لكِ الطفل...وليس السيدة...هل تفهمين؟!
خفق قلبها بعنف وهي تشعر بالنفور من قسوة هذا الرجل...
حتى لو كان هذا ما يملأ صدره حقاً...
فلا يليق أن يصرح به هكذا....وبصوته الجهوري هذا...
ألا يخشى أن يسمعه أحد الخدم فيبلغ السيدة حورية...؟!!!
لكن...من ذا يجرؤ هنا على فعلة كهذه....؟!!!!
بل من يملك محاسبة "الشيطان" كما يلقبونه على ما يقول....؟!!!
هو هنا السيد المطاع بلا جدال...
فرغم أنها لم تقضِ هنا سوى يوم واحد...
لكنها سمعت من أحاديث الخدم الكثير عن قسوته وجبروته...
قطعت أفكارها عندما عاد يهتف بصوته الخشن:
_لماذا لا تردين ؟!
التفتت إليه لتختلس نظرة لعينيه القاسيتين قائلة ما أملاه عليها ضميرها بثبات:
_سيد عاصي...اسمح لي...صحة السيدة مرتبطة بصحة الطفل...لو أردت الخير لطفلك فيجب أن توفر لزوجتك ....
قاطعها هاتفاً بصرامة:
_لا تقولي زوجتي...هي السيدة حورية ...
مطت شفتيها في استياء وهي تكاد تقسم أنها لم تقابل في حياتها من هو أشد غلظة من هذا الرجل...
من أين يأتي بكل هذه القسوة التي تغلف نظراته قبل كلماته....؟!!!
إنه حقاً مخيف ك...شيطان!!!
ازدردت ريقها ببطء لتعاود كلامها بصبر:
_حسناً...صحة الطفل مرتبطة بصحة السيدة ...وأنا لاحظت أن حالتها النفسية ليست جيدة...
عقد حاجبيه وهو يسألها ببطء:
_هل اشتكتِ إليكِ بهذه السرعة؟!!!
هزت رأسها نفياً لتهتف بسرعة وقد شعرت بالخوف من أن يؤذي زوجته :
_لا لا ....إطلاقاً...إنه مجرد إحساس.!
نظر إليها طويلاً ليأسرها بقوة عينيه الزيتونيتين فلم تستطع الفكاك من سيطرتهما رغم الخوف الذي كانت تشعر به....
ليعود بعدها بظهره إلي الخلف دون أن يرفع عينيه من عليها قائلاً بنبرته القاسية:
_تتدخلين فيما لا يعنيكِ!!
أخيراً امتلكت الشجاعة لتفك عينيها من أسر عينيه فأطرقت برأسها قائلة:
_لا...أنا أتحدث في صميم عملي....صحة السيدة مسئوليتي...وحالتها النفسية ستؤثر على هذا...لهذا تكلمت بصراحة.
ظل ينظر إليها طويلاً في ثبات...
ثم قال ببرود:
_عودي لغرفتك.
تنفست الصعداء أخيراً وهي تقوم بسرعة لتندفع نحو الباب وهي تشعر بالارتياح لخلاصها من رفقته البغيضة....
لكنها توقفت مكانها عندما سمعت هتافه خلفها:
_هل تحلمين بكوابيس في العادة؟!!!
عقدت حاجبيها بشدة وهي تضع كفها على صدرها...
كيف عرف؟!!!
إنها اعتادت كوابيسها منذ فترة ....
بالتحديد منذ ذلك الحادث الذي تعرضت له....
رحمة العزيزة كانت تنام جوارها دوماً لهذا السبب...
لكن ليلة أمس كانت أول ليلة تقضيها مع كوا بيسها دون حضن رحمة....
لهذا كانت أصعب ليلة مرت عليها منذ وقت طويل....
لكن...كيف عرف هو عن هذا؟!!!
غرفتها تقع في آخر الرواق الذي تقع فيه غرفته....
تراه سمع صرخاتها مثلاً؟!!!!
انقبض قلبها وهي تشعر بالقلق...
هل سيؤثر اكتشافه هذا على عملها هنا؟!!!
ربما ظنها مجنونة أو ما شابه!!!
التفتت نحوه أخيراً ببطء لترمقه بنظرات متسائلة...
لكنه شبك كفيه أمام وجهه دون أن يرفع عينيه من عليها قائلاً ببرود:
_لا شئ هنا يخفى عني.
عقدت حاجبيها بتوتر وهي تنتظر منه المزيد من التوضيح أو الشرح...
لكنه أردف بصرامة:
_عودي لغرفتك!
=========
_لا يا جميلتي...سأكون عندكِ في موعدي بالضبط.
قالها معتصم بصوته الرخيم لمحدثته على الهاتف...
وهو يرمق دعاء بنظراته المتفحصة....
لكنها تجاهلته تماماً وهي تتظاهر بالانشغال في عملها....
كم تود الآن في هذه اللحظة لو تقذفه بأي شئ في رأسه...
لتشوه وسامة وجهه هذه التي تغريه بالعبث مع الفتيات...
حمقاء هي ...
بل قلبها هو الأحمق...
عندما تعلق برجل كهذا...!!!!
قطعت أفكارها عندما شعرت به يقترب من مكتبها ....
ليقول بتحفظ وبلهجة مختلفة تماماً عن لهجته التي كان يتحدث بها مع صديقته:
_كيف حالك يا دعاء؟!!! كيف كانت رحلتك؟! كلنا افتقدناكِ.
_وأنا افتقدتك أكثر أيها الأحمق المغرور.
كادت تلقي بها في وجهه....
لكنها تمالكت نفسها لتقول باقتضاب دون أن تنظر إليه:
_شكراً.
مط شفتيه في استياء لردها البارد ....
ثم جلس قبالتها على المكتب ليسألها باهتمام:
_أنا ألاحظ أنكِ تتباسطين مع الجميع إلا معي أنا....لماذا تعاملينني دوماً بهذا الجفاف؟!!!
رفعت عينيها إليه وهي تشعر بالارتباك...
ماذا عساها تقول له...؟!!!
هو محق في زعمه...
فهي برغم طبيعتها المرحة المتحررة مع الجميع...
تجد نفسها تعامله بحذر شديد...
وكأنها تنظر إليه من خلف قضبان عالية...
قضبان صنعتها حواجز كثيرة تراها هي بينهما...
أعظمها في نظرها هو مرضها الذي تراه مخزياً...
وليست هي فحسب من تراه كذلك...
بل كل من يعرف بحقيقتها...
وأولهم والداها!!!!
والداها اللذان يحاولان قدر استطاعتهما إخفاء حقيقة مرضها عن الجميع...
وتشعر بخوفهما الظاهر كلما تقدم أحد لخطبتها خجلاً من أن يبوحا له بحقيقة العروس "المعيبة" كما يرونها!!!
نعم...هي لم تزد في نظر نفسها ولا في نظر والديها عن كونها مجرد دمية معيبة ...
دمية معيبة لن تعجب الشاري لتبقى طيلة عمرها مركونة على رف الرواكد!!!
فمنذ صغرها وهي تعاني من نوبات سقوطها "الصرعية" المتكررة...
وقد كان هذا يشعرها بالخجل أمام رفيقاتها...
لكن الخجل تطور لخوف عندما سمعت والدتها تتحدث يوماً عن علاقة هذا بمسّ شيطاني أصابها...
لن تنسى أبداً تلك الليلة التي قضتها طفلةً غارقة في دموعها وخوفها من مجهول لا تعرف عنه شيئاً!!!
لكن الله كان رحيماً بها...
عندما ذهبت بها والدتها أخيراً لأحد الأطباء فشخص حالتها بدقة ليعطيها الدواء المناسب...
فتقلصت حدة أعراضها كثيراً حتى أنه لم يعد ينتبه لمرضها أحد...
خاصة وهي تتعمد المرح والمزاح أمام الجميع...
لكنها -هي -كانت تشعر بأنها امرأة ناقصة...
وبأنها لن تجد من يقبل بها على حالها هذا....
وربما كان هذا سبب شخصيتها المزدوجة!!!
فهي علي الرغم مما تبديه من مرح وانطلاق مع الجميع ...
تشعر بداخلها أن روحها مكسورة...
مهزومة في معركة لم تخترها...
لكنها مجبورة على المضيّ فيها وتحمّل عواقبها للنهاية!
لقد كانت قد وطّنت نفسها على وحدتها وتقبلت مصيرها برضا...
لكن حبها لهذا الرجل أمامها والذي تملك قلبها رغماً عنها...
هو ما عاد يملؤها بالخوف لتدق أجراس الحذر بداخلها من جديد!!
لا تدري لماذا هو بالذات من جذبها إليه...
لا...ليس الأمر لوسامته وخفة ظله...
فلم تكن أبداً ممن ينجذبن لهذه الشكليات...
لكنه شئ خاص بنظرة في عينيه لم يخطئها قلبها...
نظرة ميزتها هي بإحساسها قبل عينيها...
نظرة منحتها وعداً بالأمان لم تدرِ مصدره...
لكنه كان يهدهد خوفها برفق خبير...
ليفتح الباب من جديد لأحلامها الوردية التي طالما دفنتها تحت رماد المرض والعجز والخزي....
ومع هذا هي لا تزال حائرة معه....
نظراته تحكي لها الكثير عن مشاعر صادقة لن يغفل عنها قلبها...
لكن أفعاله تناقضها بغرابة....
فهو لا يكف عن مواعدة الفتيات والمزاح معهن بجرأة تصل لحد الوقاحة أحياناً...
رغم أنها شبه واثقة من أنه لا يتمادي معهنّ لحد علاقة جسدية....
لكن مجرد أحاديثه ومكالماته الهاتفية الحارة تثير جنونها ....
خاصة وهي تشعر أنه يتعمد كتمان مشاعره عنها غافلاً عن عينيه اللتين تفضحانها بقوة!!!!
وأمامها كان هو غارقاً في عينيها الواسعتين...
يكاد يقسم أنه لم يرَ في حياته عينين أوسع منهما...
كأنهما بحر عريض ....
أو صحراء شاسعة....
يعدو بها جواد قلبه حراً منطلقاً بلا قيود...
لكنه لا يزال غير قادر على البوح بمشاعره نحوها....
ربما لأنه غير واثق منها...
وربما لأنه يعرف أن دعاء ليست كباقي الفتيات اللاتي يعبث معهن....
واعترافه بمشاعره معها يعني خطوة جادة ....
هو ليس مستعداً لها بعد!!!!
طال اللقاء كثيراً بين عينيهما ....
ليمتد بينهما جسر طويل من مشاعر مرتبكة حائرة...
لازالت تتعثر في خطواتها نحو بر الأمان...
لتكون هي أول من يقطع لقاء عينيهما هذا عندما أشاحت بوجهها ...
لتتناول ملفاً من على مكتبها...
ثم قامت من مكانها لتقول له بحزم واثق:
_لا صحة لما تقوله يا معتصم...أنا أعاملك كبقية الزملاء...كلكم إخوتي.
قالتها وهي تغادر المكتب بخطوات واثقة...
بعيدة تماماً عن قلبها الذي كان يخفق الآن بجنون...
مردداً بين ضلوعها بحسرة...
كاذبة...
كاذبة..!!!!
========
أنت تقرأ
ماسة وشيطان
ChickLitأنا ماسة! لا أدري في الواقع من اختار لي هذا الاسم... من الطبيعي أن يسمي الابن والداه... لكن اللقيط من يسميه؟!!!! قصة منقولة للجميلة الكاتبة ❤نرمين نحمدالله❤