الفصل السابع عشر

17.2K 409 23
                                    

_لماذا لا ترد على اتصالاتي؟!
همست بها صفا وهي تجلس جواره في المحل بعد أيام من شجارهما الأخير غاب هو فيهما عن المنزل دون أن يكلمها...
فاضطرت أن تجئ إليه هنا رغم علمها أنه سيكره هذا...لكنها لم تستطع الصبر أكثر....
نعم...أتت كي تسترضيه ولو أنها تشعر أن هذا لن يكون سهلاً هذه المرة!!!
وقد صدق حدسها كما يبدو فهو حتى لم يرفع عينيه إلىها وهو يغمغم بفتور:
_هل تحتاجين شيئاً؟!
تلفتت حولها في ارتباك لتعاود همسها الراجي:
_لن نستطيع الكلام هنا ...هل يمكن أن تعود معي إلى البيت الآن؟!
حافظت ملامحه على جمودها وهو يرد دون أن ينظر إلىها:
_مشغول!
دمعت عيناها بعجز وهي تقترب بكرسيها منه أكثر لتهمس بعتاب:
_أنت تتعمد إذلالي يا عبد الله؟!هل هذه قيمتي عندك؟!
التفت نحوها بحدة عندما قالتها لترتعش شفتاه بغضب وعيناه تفضحان عاطفته نحوها رغم قسوة عبارته:
_العفو يا سيدتي...من ذا الذي هو قادرٌ على إذلال صفا المعموري بجلالة قدرها؟!!
أطرقت برأسها تمسح دمعتها الفارّة على وجنتها وهي تشعر أنها خالية اليدين معه حقاً هذه المرة...
لقد تمادت -دون قصد-في الضغط على جرحه القديم والآن لا تدري كيف السبيل لمداواته!!
بينما أشاح هو بوجهه وكل خلايا جسده تشتعل غضباً...
منذ تلك الليلة التي قذفته فيها بكلماتها الجارحة وهو يكاد يجنّ...
لا يصدق أن "صفا روحه" التي طالما احتوته بحنانها ودفئها وتفانيها ذبحته هكذا بسكين بارد!!!
لتخرج مارده القديم من مصباحه الذي -بالكاد-أغلقه عليه...
وتعيده للدوران في تلك المتاهة المتشابكة من مشاعره المتناقضة نحوها...
بين امتنانه...وشعوره بالنقص...!!
بين احتياجه إليها ك"امرأة"...ونفوره منها "كرجل"...!!
بين "سكن " جوارحه إلىها...و"وحشة" كبريائه في حضرتها...!!
لكن ومع كل هذا...
تبقى دموع "صفا المعموري" غاليةً مثلها!!
لهذا عاود النظر إلىها وقد رقت ملامحه -نوعاً- ليغمغم بجفاف يخفي حقيقة شعوره:
_لا تبكي يا صفا...هذا ليس مكاناً مناسباً للحديث..أمري لله..سأعود للمنزل الليلة لنتفاهم.
مدت أناملها خُفيةً تحت مكتبه لتحتضن كفه بقوة هامسة بعاطفتها الكاسحة:
_سامحني يا عبد الله...أقسم لك أنني لم أكن في وعيي وقتها.
كز على أسنانه وهو يرمقها بنظراته التي عاد إليها اشتعالها ليهمس بحدة :
_هذه الأشياء التي نقولها خارج حدود وعينا دوماً هي الأصدق...هذا ما يستقر برأسك لكنكِ تخفينه خلف أسوار ادعائك.
هزت رأسها نفياً وهي تقول بانفعال:
_صدقني هذا ليس...
_عفواً يا شيخ عبد الله...هل تسمح لي بدقيقتين من وقتك؟!
قطعت هذه العبارة جملتها فالتفتت بحدة نحو صاحبتها وهي تترك كفه ببطء متفحصةً هذه المرأة أمامها...
بينما التفت عبد الله نحو المرأة بغضب ليجدها تلك "الفاتنة" التي مرت عليه هنا قريباً تبحث عن عمل...
ومعها صغيرها كالمرة السابقة...
فزفر رغماً عنه ثم استغفر الله بصوت مسموع ليقول ببعض الرفق:
_تفضلي.
ثم اتجه ببصره للصغير الوسيم الذي ورث ملامح والدته على ما يبدو ...
فلانت نظراته تماماً وهو يمد يده مصافحاً له بحنان قبل أن يقول بودّ:
_أهلاً يا محمد...كيف حالك؟!
ابتسم الصغير ببراءة وهو يصافحه بخجل ...
ورغم أن وجود فتون بجمالها المبهر كان سيزعج أي امرأة مكان صفا ...
لكنها ابتسمت وكأنما أنساها وجود "الصغير" أي شئٍ آخر...!!!
نعم...غلبتها مشاعر أمومتها كالعادة فقامت من مكانها لتتناوله من أمه فحملته بين ذراعيها مقبلةً جبينه قبل أن تعاود الجلوس وهو على ساقيها لتقول له بحنانها الطاغي:
_كم عمرك يا محمد؟!
عدّ الصغير على أصابعه ببراءة قبل أن يقول بفخر طفولي:
_أربعة فقط...لكنني رجل!!
ضحكت صفا بانطلاق وقد أعجبها رده فضمته إلى صدرها أكثر قبل أن تهتف :
_بالطبع...وأفضل رجلٍ أيضاً!!!
فابتسمت "الفاتنة" بشحوب وهي تغمغم بحرج:
_أكرمكِ الله يا سيدتي.
رمقتها صفا بنظرات متسائلة عن سبب تواجدها هنا الآن...
لكن "الفاتنة" لم تنتبه لهذا وهي تطرق برأسها قائلةً بخجل:
_أنا أعتذر لو كنتُ ألح عليك في السؤال يا شيخ...لكن..هل وجدتَ لي عملاً؟!
غض عبد الله بصره عنها وهو يتشاغل ببعض الأوراق على مكتبه قبل أن يقول بما يشبه الاعتذار:
_لقد انشغلت كثيراً في الأيام السابقة ولم أتمكن من تدبر الأمر للأسف...لكن...
قاطعت صفا عبارته وهي تنظر ل"الفاتنة" قائلة باهتمام:
_أنا زوجة الشيخ عبد الله...أيّ عملٍ تبحثين عنه بالضبط؟!
التمعت عينا "الفاتنة" بلهفة "الحاجة" لكنها حافظت على "عزة" كلماتها وهي تقول :
_أي عمل يا سيدتي...طالما كان شريفاً فلا أمانع.
تنحنح عبد الله ببعض الحرج وهو يقول لصفا:
_لقد كان زوجها يعمل هنا لكنه تُوفي منذ فترة قريبة...وهي تبحث عن عمل.
تأملتها صفا ببصرها بنظرات متفحصة وهي تشعر نحوها بالارتياح...
فهي على الرغم من بساطة مظهرها الذي فضح فقرها لكنه يبدو نظيفاً مهندماً...
كما أن نظراتها التي حملت أطناناً من الحزن والانكسار لم تكن خالية من عزة نفس لم تفوتها عيناها الخبيرتان...
ومع نظرة أخري منها نحو الصغير المستكين ببراءة على ساقيها كانت قد حسمت أمرها تماماً!!!
فسألتها بحنان مشوب بشفقتها:
_هل لديكِ مكانٌ تقيمين فيه؟!
أطرقت "الفاتنة" برأسها للحظة لكن الصغير هتف بحزن طفولي:
_سيطردوننا من بيتنا لأننا تأخرنا في دفع الإيجار.
رفعت إليه أمه عينيها بنظرة زاجرة فانكمش الصغير أكثر في حضن صفا التي قالت لعبد الله بنبرة استئذان:
_أنا أحتاج لمن تساعدني في شئون المنزل...ما رأيك لو تعمل لدينا وتقيم في غرفة السطح التي كانت للبواب القديم؟!
انعقد حاجبا عبد الله وهو يشعر بعدم ارتياح لا يدري سببه...
أو ربما هو يعرف ويكابر...!!!
هو لا ينكر تأثير هذه "الفاتنة" عليه منذ رآها أول مرة...
فإذا كان مجرد وجودها قربه يربكه هكذا فكيف سيسمح لها أن تدخل بيته بصورة دائمة؟!!
ورغم أنه في عمله طوال النهار ولا يعود إلا بعد صلاة العشاء لكن هناك نسبة مجازفة لا بأس بها في احتكاك هو أغنى ما يكون عنه...
لهذا أشاح بوجهه وهو يقول باعتراض:

ماسة وشيطان   حيث تعيش القصص. اكتشف الآن