الثاني والعشرون

17K 387 17
                                    

_كيف تترك عروسك في هذه الظروف يا حسام؟!!

هتفت بها والدته باستنكار عقب عودته أخيراً إلى البيت بعد غياب استغرق اليوم كله...
منذ استيقظ صباحاً على خبر هجوم بعض اللصوص على منزل والدي دعاء منتهزين انشغالهم بالعرس لكنهم لم يحسبوا حساب عودتهما المبكرة عن الموعد المتوقع...
والنتيجة كانت جريمة قتل بغرض السرقة!!!
دعاء المسكينة فقدت والديها في "ليلة العمر" كما يقولون...
ضربة قاصمة لم يكن يتخيلها أحد!!!
وما كاد حسام يسمع عن الأمر حتى غادر المنزل مسرعاً إلى عمله دون حتى أن يسمعها مجرد كلمة عزاء...
طبيعته العملية جعلته ينظر للأمر وكأنه إهانة شخصية له و"لوظيفته" ول"واجهته الاجتماعية"أمام الناس!!!
هؤلاء المجرمون سيدفعون ثمن جريمتهم مرتين...
مرة لأنهم فعلوها...ومرة لأنهم تجرأوا على اختراق خصوصية "سيادة الرائد" وإيذاء أهله!!!
لهذا هتف بصرامة أمام والدته العاتبة:
_كان لابد أن ألقي القبض عليهم بسرعة...لم أكن لأترك الناس يتغامزون أن المجرمين فعلوها بنسبائي وأفلتوا دون عقاب؟!!
هزت والدته رأسها وهي تهتف باعتراض:
_كرامتك أهم من زوجتك حتى تحرمها وجودك جوارها؟!!
زفر بقوة وهو يشيح بوجهه قبل أن يهتف مدافعاً:
_أنا نجحت في إلقاء القبض عليهم جميعاً في وقت قياسي...سيعاقبون على فعلتهم بالقانون...أليس هذا أفضل لها من جلوسي جوارها كالنساء تاركاً إياهم يفلتون بجريمتهم؟!!
أطرقت والدته برأسها في يأس من مجادلته....
للأسف هذه هي طبيعة ابنها التي فقدت الأمل في تغييرها...
صورته أمام الناس تأتي في المقام الأول وبعدها أي شئ آخر...
هوسه المبالغ فيه بالمظاهر يزداد يوماً بعد يوم...خاصةً مع ماضيه المطعون بمرارته بين "طيف" و "يسرا"!!!
لكن ما ذنبها تلك "المسكينة" التي فقدت والديها -لتوها- وبالتأكيد تحتاج دعمه؟!!!
لهذا اكتفت بصمتها المشبع بعتابها ...بينما أردف هو ببعض التردد:
_أنا واثقٌ أنكِ اعتنيتِ بها كما يجب...كيف هي الآن ؟!!
نظرت والدته نحو باب غرفتها البعيدة لتغمغم بقلق:
_لم تنم إلا تحت تأثير الأقراص المهدئة...حالها غريب يا ابني!!!
ورغم أن عبارتها وخزت قلبه ببعض الإشفاق لكنه وأد هذا الشعور ليغمغم بفتور:
_الأمر صعب لكنها ستنسى...ستبكي ليومين ثم يمر الأمر كغيره!!!
لكن والدته اقتربت منه لتقول بدهشة ممتزجة بقلقها:
_الغريب أنها لا تبكي...تتقبل العزاء من الجميع بوجه بارد دون انفعالات...عيناها شاخصتان في الفراغ وكأنها لا ترى ولا تسمع!!!
عاد يزفر من جديد مشيحاً بوجهه فغمغمت المرأة برجاء:
_اعتني بها يا حسام...هي الآن لم يعد لها سواك!
انعقد حاجباه بضيق وهو يغادر والدته دون رد نحو غرفة دعاء ...
أغلق الباب خلفه ليتوجه نحو جسدها الساكن بخطوات متثاقلة ...
ثم جلس على طرف الفراش جوارها يتأمل ملامحها النائمة ببعض الدهشة...!!!
من هذه؟!!
إنه يشعر الآن وكأنه لا يعرفها....وكأنها امرأة غريبةٌ نائمة في فراشه...!!!
بعيدة عن صورته التي يراها على وجهها أحياناً بطمعها وأنانيتها...
وبعيدة عن صورة طيف التي يراها أحياناً أخرى على نفس الوجه بقوتها وتمردها...
إنه الآن يشعر وكأنها أول مرة يراها -هي-فيها وليس مجرد انعكاس لصور ماضيه!!!
وأمامه كانت هي غارقة في أحلام متشابكة كدوائر متداخلة...
تارةً ترى نفسها ملكة بثوب زفافها الأسطوري وتارة ترى نفسها عارية بثياب ممزقة لا تكاد تسترها...
تارةً هي تدخل من بوابة سحرية نحو عالم مبهر بأضواء ساطعة لتصعد درجاً مفترشاً بالحرير حتى تعتلي قمته...
وتارةً هي تقف مذعورةً على حافة هاوية تنتظر أن يدفعها - أحدهم- للسقوط...!!!
تارة عزيزة كنجمة السماء...وتارة زهيدة كحصاةٍ على الأرض!!!
حتى اتحدت دوائر الحلم أخيراً لتتركز في مشهد أخير...
كانت ترى نفسها بثوب العرس والجميع ينظرون إليها نظرات تقدير لا تخلو من حسد...
ووالداها واقفان هناك يرمقانها بفرحة غامرة...
ثم فوجئت بقطرات الدم التي لوثت ثوبها فجأة فصرخت مستنجدة بأبويها لكنهما أعطياها ظهرهما لينصرفا بصمت...تلفتت حولها بخوف تبحث عمن تستعين به...
لكن الجميع اختفوا فجأة...
المكان صار خالياً إلا منها...
ووسط كل هذا الرعب الذي غزا روحها وجدته- هو- يتقدم نحوها ببدلة العرس التي تعرفها...
خطواته متثاقلة بطيئة لكنها كانت تغرس الخوف بقلبها أكثر...
كل خطوة منه نحوها كان مردودها خطوة خلفية منها...
ومع هذا وجدته فجأة أمامها فشهقت بعنف عندما امتدت أنامله تعتصر رقبتها بقوة...
لتختنق أنفاسها رويداً رويداً وهي تتمتم بين دموعها:
_خاسرة...خاسرة!!!
وأمامها أفاق هو من شروده المتفحص فيها عندما رأي دموعها التي بدأت تسيل من عينيها النائمتين مع همهماتها التي لم يفهمها ...
امتدت أنامله دون وعي لتمسح دموعها النائمة لكنه توقف في آخر لحظة قبل أن يلامس بشرتها...!!!
ثم انعقد حاجباه بضيق وهو يشعر بالعجز...
خطأ...خطأ...!!!
هو لا يريد أن يشعر بالشفقة نحوها...
لا يريد أن يرى فيها سوى صورة انتقامه من ذاته...
هو يريد أن يكسرها...أن يعاقبها العقاب الذي لم يعاقبه لنفسه...
ولا يريد أن يثنيه عن عزمه هذا شئ حتى ولو وقعت في مصيبة كمصيبتها الآن!!!
قسوة؟!!
نعم...ربما...هو لم يعد يكترث بهذه المشاعر...!
هو رجلٌ يعيش ليحترق بالندم على ماضيه وقد نضبت خزائن روحه من أي أحاسيس دونه!!!
وبهذا الإدراك الأخير انتزع نفسه انتزاعاً من جوارها ليقوم بجمود ويغادر الغرفة نحو والدته التي ابتدرته بالسؤال عنها...
فغمغم بضيق لا يدعيه :
_نامي أنتِ جوارها الليلة يا أمي واعتني بها....أنا لا أصلح لهذا "الدّور"!!
============
وقفت في شرفة بيت رحمة تتطلع للشارع البسيط الذي تجمع فيه بعض الأطفال يلعبون بالكرة...
واختلطت أصوات المارة والباعة الجائلين ببضاعتهم...
فاستندت بمرفقيها على سور الشرفة وهي تراقب وجوه الرجال الجالسين على مقهى قريب يلعبون "الطاولة" وتتعالى ضحكاتهم بتلقائية افتقدها عالمها الأنيق شديد الإحكام والانضباط حتى في ضحكاته!!!
ثم انجذبت عيناها لشابة بسيطة في مثل عمرها تحمل صغيرها الذي لم يتجاوز عامه الأول بعد وتسير به جوار زوجها وعلامات السعادة محفورةٌ على وجهيهما...

ماسة وشيطان   حيث تعيش القصص. اكتشف الآن