السابع والعشرون

18.8K 372 23
                                    


_ماسة!
هتف بها فهد بفرحة غامرة وهو يفتح باب شقته في منزل حسام ليجدها أمامه...
تفحص ملامحها بلهفة وهو يتقدم نحوها باندفاع وقد همّ باحتضانها ...
لكنه تذكر تحفظها الشديد في لقائها السابق معه فتوقف مكانه للحظات بارتباك منتظراً ردة فعلها !!
وأمامه لم تكن هي أقل ارتباكاً...
وجهها كان شديد الاحمرار كعادتها عندما تنفعل...
عيناها الفضيتان كانتا تدوران على ملامحه بمزيج من ترقب واستغراب لرجل يفترض أن يكون أقرب أهل الأرض إليها ومع هذا لم تعرفه إلا منذ أيام!
لكن قلبها كان يشعر نحوه بكثير ارتياحٍ وهي التي تعلمت منذ زمن أن تثق بحكم قلبها فيما يراه...
ومع هذا كانت غرابة الموقف تملؤها رهبة لم تستشعرها من قبل حتى في لقائها مع جاسم الصاوي...
ربما لأن عاصي وقتها ساندها...
وربما لأن -نفورها- من والدها غلب -عاطفتها - نحوه...
وربما لأنها الآن تشعر بحاجة حقيقية لفهد...وتخشى أن يخذلها كما الجميع!!!
ويبدو أنه شعر بكل هذا فقد حاول تخفيف الأمر عليها عندما مد يده ببطء كي يصافحها مع ابتسامته التي اتسعت تدريجياً حتى تحولت إلى ضحكة قصيرة مشعة بعاطفته...
بينما تألقت عيناه ببريق فرح حقيقي لمس قلبها بصدقه ...
لكنها وقفت جامدة تراقب كفه الممدود نحوها للحظات بتردد...
قبل أن تفاجأ هي -نفسها- قبله بأن ألقت رأسها على صدره وسط سيل دموعها المنهمر!!!
دمعت عيناه بتأثر وهو يضمها إليه بكل قوته مقبلاً رأسها بحنان وقد فقد كلماته فجأة أمام هذا الشعور الذي اكتسحه الآن باقتدار...
فهو لم يكن يراها الآن مجرد "أخت" اكتشفها مصادفة بعد كل هذه الأعوام...
بل كانت بعينيه "هدية القدر" لقلب كاد يموت ذبيحاً بحسرته على "حب" رحل...
فعوضه عنه ب"حب" من نوع آخر يحتاجه الآن بشدة!!!
وهو تعلم احترام "هدايا القدر" منذ زمن!!
بينما كانت هي ترتجف بشدة بين ذراعيه مع بكائها المنفعل فربت على رأسها برفق هامساً بحنان :
_لا بأس يا حبيبتي...اهدئي!
ثم أبعدها برفق لينظر لعينيها مردفاً ببعض المرح رغم اختناق صوته بتأثره:
_هل يعني هذا العناق أنك صدقتِ الحقيقة؟!
مسحت دموعها بأناملها وهي تومئ برأسها لتهمس بصوت متقطع:
_جاسم الصاوي أتاني هنا بنفسه...ربما لا تعلم أنت عن هذا فأنا أعرف عن توتر علاقتكما.

انعقد حاجباه بدهشة للحظات ثم جذبها برفق ليدلف معها إلى داخل الشقة مغلقاً الباب خلفهما..
قبل أن يجلس جوارها ليهتف بتوتر:
_ماذا فعل أبي هنا بالضبط؟!
شبكت أناملها في حجرها وقد عاد إليها انتظام أنفاسها تدريجياً ثم همست بمرارة ساخرة:
_جاء يحمل صورة أمي ليتأكد بنفسه من الحقيقة ثم تركني خلفه من جديد منتظراً نتيجة "الانتخابات"!!
زفر فهد زفرة مشتعلة ثم ضمها إليه بذراعه قائلاً بغضب:
_سيعترف بكِ أمام الجميع ...لو كانت ذريعته هي الانتخابات...فالنتيجة ستظهر في خلال بضعة أيام...وبعدها لو لم يفعلها طواعية فسنجبره عليها قهراً.
ورغم أن كلماته منحتها الأمان الذي كانت تنشده لكن بعض الخوف كسا نظراتها وهي تهز رأسها هامسة:
_لا أريد منه أي شئ سوى اسمي الحقيقي...وبعدها سأخرج من حياته للأبد لو شاء...فقط أريد هوية صحيحة أواجه بها قدري الجديد...لقد تشبعت من إهانات الناس للقيطة عديمة النسب...لا...
انقطعت عبارتها بدموعها التي غلبتها الآن...
فعاد يضمها إليه بقوة للحظات..
قبل أن يربت على رأسها هامساً بتأثر:
_كفى يا ماسة...كفى!!
ثم رفع ذقنها إليه مردفاً بحزم حنون :
_من اليوم لن تبكي أبداً...أنتِ ماسة جاسم الصاوي ...سأصرخ بها معكِ في وجه الجميع حتى نستعيد حقك.
منحته ابتسامة ودود وهي تشعر بصدق رغبته في مساعدتها...لكن هاجساً ما جعلها تسأله بتردد:
_لقد علمت أنك قررت الابتعاد تماماً عن طريق جاسم الصاوي فكيف ستكمل حياتك؟!
تنهد بحرارة ثم صمت بشرود قصير قبل أن يقول بضيق:
_كل الأبواب في هذا البلد ستبقى مسدودة في وجهي...هو لن يسمح لي بالخروج عن دائرة سيطرته...لقد فكرت جدياً في البدء بعمل جديد بمساعدة حسام...لكنني أفهم أبي جيداً...سيحطم جناحيّ قبل أن أحاول التحليق خارج سرب طموحه.
انعقد حاجباها بقلق وهي ترمقه بنظرة تعاطف مع همسها :
_والحل؟!
_السفر!
قالها بحسم واثق ثم استطرد وقد عاد لشروده:
_يجب أن أخرج بعيداً عن خيوط شبكته العنكبوتية هنا...يجب أن أبدأ في مكان جديد لا يعرفني فيه أحد وليس لسلطان جاسم الصاوي مكانٌ فيه!
هزت رأسها تفكر في ما يقول وقد بدا الجزع على ملامحها...
عندما التفت نحوها ليردف بابتسامة شاحبة:
_لا تخافي...لن أسافر قبل أن أعيد إليك حقك...كما أن يسرا بحاجتي لبعض الوقت.
ازداد انعقاد حاجبيها وهي تغمغم بحيرة:
_يسرا؟!!ما أعرفه أنك لم تكن تريد هذه الزيجة من البداية.
ظهر التردد على ملامحه للحظات ثم حسم أمره ليقول لها بحزم لم يغادره حنانه:
_ما سأخبركِ به سيبقى سراً بيننا...أنا أعرف أنه يمكنني الوثوق بكِ.
اتسعت عيناها بترقب وهو يحكي لها ما استجد بشأن يسرا وحاجتها للعلاج دون علم أبيها...
ورغبته الصادقة في منحها هذا الدعم الذي تحتاجه ...
ليستطرد بعدها باهتمام:
_سأغادر معها إلى العاصمة في أقرب وقت حتى نبدأ في العلاج....لقد تواصلت مع الكثير من المتخصصين وعلمت أنه بإمكاننا التداوي في المنزل تحت رعاية خاصة وهو ما سأحرص عليه بمنتهى الكتمان حتى لا يعرف والدها عن الأمر شيئاً...
ثم أنهى حديثه بقوله المقتضب:
_هو حقٌ عليّ سأؤديه لعله يمنحني الغفران على طول سنوات من الخطايا.
فابتسمت ماسة بإعجاب وهي تتأمل ملامحه باشتياق..
اشتياق؟!!!
نعم...اشتياق!!!
اشتياق لذاك الأخ الذي حلمت به طوال عمرها والآن تجده حقيقةً أمامها...
بحنانه وتفهمه ودعمه...
وقبلها...بمثالية خلقه البعيد تماماً عن واقع أبيه!!!
لهذا ربتت على كتفه باعتزاز ثم احتضنت كفه لتقول بفرحة صادقة:
_على قدر خيبتي في أبيك يوم لقيته...على قدر فخري بك يا "أخي".
ابتسم بدوره وهو يحتضن ملامحها بحنان قبل أن يعاود تقبيل رأسها هاتفاً بعاطفة حقيقية:
_الفخر لي أنا يا ماسةً تستحق اسمها.
اتسعت ابتسامتها -الآمنة-بعد طول خوف... وهي تشد بأناملها على كفه أكثر....
لكنه عاد يرمقها بنظرة قلقة مع قوله :
_زوجك يعلم عن مجيئكِ إلى هنا؟!!
وكأنما سحبتها عبارته من سماء سعادتها إلى أرض خذلانها...
لتتبدل ملامحها بلحظة فقدت فيها تألق نظراتها...
قبل أن تغتصب ابتسامة باردة لتجيبه باقتضاب:
_دعك منه الآن...أنا سأبقى معك هنا حتى نرحل سوياً إلى العاصمة..
ثم شردت ببصرها لتردف:
_ربما يوماً ما...أخبرك عن تفاصيل قصتي معه ...
تفحصها ببصره باهتمام وقد أنبأه قلبه أن أخته تخفي الكثير حول هذا الرجل...
خاصةً عندما أنهت عبارتها بصوت متهدج:
_قصتنا التي انتهت!

ماسة وشيطان   حيث تعيش القصص. اكتشف الآن