التاسع والعشرون

15.6K 352 15
                                    


عاد إليها بعد قليل ليجدها جالسةً مكانها على الأريكة ...
وحالها يغني عن أي سؤال!!!
لكنها ما إن رأته حتى مسحت دموعها بسرعة لتقول بابتسامة مرتجفة:
_اتفقنا على ساعة يا نصاب...لم يمضِ أكثر من نصفها!!!
ومع إدراكه لمرحها المصطنع عقد حاجبيه بضيق وهو يقترب منها قائلاً:
_لم أحتمل ترككِ أكثر.
وهنا انتبه للهاتف المكسور تحت قدميها فجلس جوارها ليضمها إليه بقوة هامساً بحزم:
_ماذا حدث؟!هل هاتفتِ ذاك الرجل؟!
وضعت أناملها على شفتيها تكتم بكاءها للحظات قبل أن تهمس بصوت متحشرج:
_هو من فعل!
ربت على رأسها برفق ثم رفع ذقنها إليه ليقول بنبرة قوية:
_ماذا كان يريد؟!
لم تستطع منع دموعها أكثر مع قوة إحساسها بحنانه وتفهمه...
فأجهشت بالبكاء وهي تدفن وجهها في كتفه ...
ليزفر هو بقوة قبل أن يهتف بحدة:
_قولي لي ماذا فعل وأنا سأعرف كيف أرد لك حقك لكن لا تبكي هكذا.
ظلت على بكائها لدقائق وكأنها لم تسمعه ...
فلانت ملامحه رويداً رويداً حتى قبّل رأسها أخيراً مع همسه الحاني:
_إحكي لي يا ماسة...أنتِ وعدتِني أن تحكي لي كل شئ.
تأوهت بخفوت وهي تهز رأسها قبل أن ترفع وجهها إليه أخيراً لتهمس بابتسامة مريرة:
_عمّن تريدني أن أحكي؟!!عن عاصي الذي أعرفه أم عاصي الذي تعرفونه أنتم؟!
عقد حاجبيه وهو يتفحص ملامحها باهتمام عندما شردت ببصرها لتردف بحسرة:
_عن رجلٍ ردّ إليّ كرامتي بل ردّ إليّ نفسي؟!!أم عن رجلٍ طعنني بخنجر غدر في قلبي؟!!
ثم عادت ببصرها إليه لتهمس بألم:
_وليته هانئٌ بخيانته!!!!أنا موقنةٌ أنه يتعذب مثلي وأكثر...ظلم نفسه قبل أن يظلمني.
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يسألها بحيرة:
_ولماذا إذن فعلها؟!
أخذت عدة أنفاس متتابعة وكأنها تمنح نفسها فقط بعض القوة ...
قبل أن تزفر زفرة واحدة قوية سبقت قولها باقتضاب :
_ببساطة...لأنه "عاصي"!
هز رأسه بقوة وهو يهتف بعناد:
_أريد أن أعرف كيف بدأ أمركِ مع هذا الرجل...الآن!
ترددت للحظات ثم غامت نظراتها بسحب اشتياق طوقتها رغم أنين روحها...
ثم مضت تروي له كل حكايتها معه بتفاصيلها من البداية...
حتى انتهت بقولها الغارق في حسرته:
_وددتُ لو يكون مثلك...لو يهزم عشقه شيطانَه!!!
صمت فهد للحظات يفكر في حديثها وهو عاجز عن الرد...
عاصي الرفاعي ليس وغداً كما كان يظن...
على الأقل مع أخته!!
على العكس ...لقد ساندها في أشد أوقات حياتها صعوبة حتى عادت تقف على قدميها من جديد...
وهو ما عجز عن فعله أقرب أهل الأرض إليها!
قد يقدّر رغبته في الحصول على طفل خاصة في ظل التهديدات التي يتعرض لها الآن...
لكن ...ألم يكن من الأولى به -طالما يحب ماسة هكذا- أن يهرب بها -ومعها- من هذا الجحيم كما طلبت منه يوماً؟!!

لهذا تنهد بحرارة ثم ربت على وجنتها ليقول أخيراً بحزم :
_تريدين رأيي؟!كلاكما لم يعشق صاحبه كما ينبغي.
زأرت أمواج فضتها باعتراض فضحته عيناها بينما استطرد هو بأسف:
_هو جعل أولويته لنفسه كما فعلتِ أنتِ...هو فضّل الوريث عليكِ وأنتِ فضّلتِ كبرياءكِ عليه...
ثم شرد ببصره هامساً بمزيج من حنين ولوعة:
_الحب الذي أعرفه هو الذي يمزج الأرواح فلا يصير هناك "أنا" و"هي" بل...هي أنا وأنا هي!
ابتلع غصته الخانقة عند همسته الأخيرة ليستعيد صوته بعض حزمه وهو يواجهها بقوله:
_حبكما ناقصٌ يسير على قدم واحدة...وحبٌ كهذا لن يصل يوماً لمنتهاه.
هزت رأسها وهي تبتعد عنه لتهتف باستنكار:
_أنت تلومني يا فهد؟!تراني قد قصرت في حقه؟!
ابتسم بحنان وهو يطوق ملامحها بعطفه قبل أن يقول أخيراً:
_لا يا "حبيبة أخيكِ"...ما أريد قوله أن كليكما اختار...ولم يبقَ له سوى حصاد نتيجة هذا الاختيار.
ثم اكتسب صوته بعض الجدية وهو يقول بحزم:
_وما دام الأمر كذلك...فالبتر هنا أفضل من علاج غير نافع!
لمعت عيناها بنظرة متسائلة فلوح بسبابته في وجهها مردفاً بنفس الحزم:
_لن أسمح له أن يؤذيكِ أكثر...ستنالين حريتكِ رغماً عن أنفه.
_لا!
هتفت بها بنبرة أكثر حزماً ثم استطردت بقوة:
_حريتي سأنالها بطريقتي...لا أريد أن يتدخل أحد بيني وبينه...كما بدأت حكايتنا بنا وحدنا فستنتهي كذلك.
انعقد حاجباه بضيق للحظات ثم زفر زفرة قصيرة سبقت قوله:
_حسناً...دعينا نؤجل الحديث عن هذا الأمر الآن حتى تهدئي قليلاً.
أطرقت برأسها للحظات ثم وقفت مكانها لتبتعد عنه بضع خطوات مع قولها بحسم:
_أنا سأسافر.
صدمه قولها لبرهة قبل أن يقف بدوره ليتوجه نحوها قائلاً بدهشة:
_رحلة استجمام مثلاً؟!
لكنها أدارت وجهها نحوه لتبتسم بشحوب مع قولها:
_رحلة علاج...وعمل!
ظهر التساؤل في عينيه جلياً فاستطردت بتماسك مصطنع:
_أحد أصدقاء عزيز يعمل كطبيب في "أبو ظبي"...سيساعدني في العلاج والعمل معه كممرضة.
_ممرضة؟!
هتف بها باستنكار وهو يمسك ساعدها بقوة ليردف:
_ابنة جاسم الصاوي تسافر لتعمل ممرضة؟!
اتسعت ابتسامتها الشاحبة مع قولها الشارد:
_لهذا السبب بالذات أريد السفر...أنا لا أحتاج مالاً ...فعاصي أنشأ لي حساباً بنكياً بمبلغ يكفل لي العيش كملكة هنا...لكنني لا أريد العيش بمال جاسم الصاوي ولا عاصي الرفاعي.
تنهد بحرارة وهو يدرك سر تصرفها ليقول بعد تفكير:
_حسناً...اصبري فقط لبعض الوقت وسنسافر معاً.
لكنها هزت رأسها لتقول باعتراض:
_يسرا تحتاجك هنا...لن تستطيع السفر أنت قبل شهرين على الأقل...وأنا أريد السفر اليوم قبل غد.
_وأنا لن أتركك تسافرين وحدك.
هتف بها باعتراض أقوى فتجمعت الدموع بعينيها من جديد....
ثم رفعت رأسها لأعلى لتصرخ بانهيار هزم كل حصون تماسكها:
_أرجوك يا فهد افهمني...أنا أريد أن أبتعد عن هنا...أعلم أنك تحتاجني...ورحمة كذلك...لكنني سأختنق حقاً لو بقيت هنا أكثر..
ربت على ظهرها بإشفاق وقد غلب خوفه عليها أي شعور آخر خاصةً مع انهيارها هذا....
فتحسست رقبتها بأناملها لتردف بصوت مبحوح:
_أريد أن أستعيد نفسي ...لو بقيت هنا فلن أرى سوى حطام ماسة تهشمت بمطارق طغيانهم..
ثم التفتت نحوه لتقول في محاولة أخيرة لإقناعه:
_وأظنها ستكون فرصةً مناسبة لإقناع جاسم الصاوي بالاعتراف بي دون قلق.
هز رأسه في عدم اقتناع لكنها استدارت بجسدها نحوه لتحيط كتفيه بكفيها هامسة برجاء:
_لأجل خاطري يا فهد...دعني وما أريد...سأسافر أنا الآن والحق بي أنت فيما بعد عندما تستعيد يسرا كامل عافيتها.
زفر زفرة قصيرة ثم ضم رأسها لصدره لبضع لحظات...

ماسة وشيطان   حيث تعيش القصص. اكتشف الآن