الثلاثون

17.4K 359 11
                                    


_كيف حال عمي جاسم الآن؟!
هتفت بها يسرا وهي تندفع نحو فهد وماسة فور عودتهما للمنزل...
فاكتفى فهد بإيماءة مقتضبة فيما قالت ماسة بهدوء مصطنع:
_سيسافر لإعادة الفحوصات بلندن...لعله مجرد تشخيص خاطئ!!
غمغمت يسرا بكلمات مطمئنة تقليدية...
بينما تركهما فهد بخطوات متثاقلة ليقول بنبرة منهكة:
_سأصعد لأستريح.
رمقته ماسة بنظرة مشفقة طويلة...فيما لحقت به يسرا بسرعة لتسير جواره مع همسها بقلق:
_فهد...ابقَ معي قليلاً...أريد أن أطمئن عليك.
تنهد فهد بتعب واضح دون رد مكتفياً بسيره الصامت جوارها...
حتى وصل لغرفته التي دخلها وهي خلفه تهتف بتوتر:
_ماذا فعل والدك مع ماسة؟!هل سيعلن نسبها الحقيقي؟!
فالتفت نحوها فهد بنظرة ساخرة حملت مرارته مع كلماته:
_ما رأيك أنت؟!هل تظنين جاسم الصاوي يفعلها؟!
تفحصته بعينين زائغتين للحظات قبل أن تغمغم بشرود:
_لا...لن يفعل!
أومأ برأسه موافقاً وهو يتحرك بضع خطوات نحو النافذة ...
ليقول أخيراً بحسم:
_لن أجعلها تحتاج إليه ولا لأي أحد...كنت أرى أن أعلن أنا الأمر ولنعلنها حرباً عليه...لكن للأسف هي رفضت...الآن هي لا تريد منه سوى اسمها الحقيقي ولو سراً وبعدها ستسافر بعيداً عن هنا.
_تسافر؟!
غمغمت بها في استغراب فعاد يلتفت نحوها ليقول مؤكداً:
_نعم...ستذهب إلى أبو ظبي .
ازدردت ريقها الجاف بتوتر وهي تقترب منه أكثر مع سؤالها:
_وأنت ستسافر معها؟!
رمقها بنظرة متفحصة طويلة ثم حسم أمره ليقول بنبرة محايدة:
_سأقوم بتوصيلها حتى أطمئن عليها هناك...وبعدها سأعود .
شحب وجهها فجأة مع تلاحق أنفاسها السريع وقد تجمدت مكانها للحظات...
قبل أن تنهار أخيراً في بكاء هستيري صاحب هتافها:
_لا...لن تعود...أنت مللت مني...تريد أن تتركني !!!
انتهت كلماتها بصرخات متتابعة قصيرة وهي تنهار بركبتيها على الأرض ...
فانحنى ليرفعها من كتفيها إليه هاتفاً بأقصى ما امتلكه من مراعاة لحالتها:

_لا يا يسرا...أقسم لكِ أنني سأعود...أنا وعدتك...اهدئي فقط.
هزت رأسها في عدم تصديق مع انهمار دموعها أكثر...
وجسدها يتشنج بقوة انفعالها بين ذراعيه...فعاد يقول مهدئاً:
_يومان فقط...صدقيني.
أخفت وجهها بين راحتيها في نحيب صامت للحظات فزفر بضيق وهو لا يدري ماذا يفعل...
قبل أن يفاجأ بها أخيراً تلقي برأسها على صدره لتضمه بذراعيها بقوة!!
وكأنما لدغته أفعى!!!
فلم يشعر بنفسه وهو يدفعها بقوة بعيداً عنه...قبل أن يتحرك مبتعداً عنها هو الآخر بحركة عنيفة!!!
كانت نظراته مشتعلة بغضب حارق جعلها تشعر بالخوف ...
قبل أن ينكسر هذا الغضب تدريجياً مع تثاقل أنفاسه...
ليحل محله ألم هائل أغلق عليه جفنيه وهو يعطيها ظهره أخيراً ...
فعادت تقترب منه لتهمس بين دموعها:
_إلى هذه الدرجة لا تطيق أن تلمسني؟!
لكنه بدا وكأنه لا يسمعها...
كفه كان مبسوطاً على صدره في موضع القلب تماماً مع ذكرى أخرى له مع -جنته- وهو يضمها إليه مع همسه:
_اخلعي حذاءكِ.
_نعم..يا جنتي...هكذا يكون دوماً مكانكِ على صدري...عيناكِ الحبيبتان أقرب ما تكونان لقلبي...رموشهما تكاد تعانق دقاته.
فدمعت عيناه المغمضتان باشتياق فاق ألمه...
آه يا جنتي وجحيمي!!
إنه مكانكِ أنتِ على صدري...فكيف أسمح لسواكِ أن تشغله ولو شفقةً أو مواساة!!!
هو لكِ وسيبقى لكِ...
كما كان ولا يزال كل ما فيّ لكِ!!!
وعند الباب المفتوح وقفت ماسة تراقب الموقف بقلب كسير...
لا تدري على أيهما تشفق أكثر!!!
على أخيها الذي لازال أسير عشق رحل...؟!!!
أم على زوجته التي تحتاجه حقاً في هذا الوقت وليس لها سواه!!!
فتنهدت بعمق شعورها ثم تقدمت منهما لتتنحنح مع قولها مخاطبة يسرا:
_فهد متعَبٌ للغاية يا يسرا...دعينا نتركه الآن فأنا أريدك في حديث هام!
كان قولها مقروناً بتربيتة هادئة على كتف يسرا ...
لكن الأخيرة انتفضت مكانها لتزيح عنها كفها مع هتافها الثائر:
_فهد متعَب؟!!وأنا...لست مُتعَبة؟!!
ضم فهد قبضته بانفعال محافظاً على ثباته بأعجوبة...
فيما استطردت يسرا بهياج طبيعي في حالتها:
_لم أعد أريد العلاج...أعيدوني لأقراصي...إنها تجعلني أنسى...وأنا أريد أن أنسى...أريد الأقراص حالاً!!!
انتهت كلماتها بعودة أخرى لبكاء حاد...
فاحتضنتها ماسة بقوة وهي تتبادل مع فهد نظرات مفعمة بمشاعر يفهمها كلاهما ...
قبل أن تجذبها معها قائلة بحنان لا يخلو من حزم:
_تعاليْ معي فقط...سنتحدث قليلاً.
قالتها وهي تسحبها معها خارج الغرفة لتغلق بابها خلفها برفق بعدما رمقت فهد بنظرة مؤازرة أخيرة ...
وقد أخبرها حدسها أنه هو الآخر على وشك الانهيار مع كل هذه الضغوط التي يواجهها وحده!
وما كادت تغلق بابها خلفها حتى سمح هو لآهة عميقة أن تغادر صدره...
وكم ود لو تحمل معها كل ما يحشو قلبه من ألم!!!
ليتوجه بعدها إلى فراشه الذي استلقى عليه بكامل ملابسه قبل أن تحين منه التفاتة نحو هاتفه...
ابتسم بسخرية مريرة وهو يتذكر كيف كان يتعجب من جنة عندما كانت تهاتف حَسَن -بخيالها- بعد موته!!!
والآن فقط عندما صار مكانها يود لو يفعل المثل!!!
مجرد تفكيره فيها يمنحه راحةً خاصة...
جنة...هي حقاً جنة...
امرأةٌ ذِكْرُها سكينة...وذكراها سلوى...وتذكُّرُها داءٌ مزمنٌ و شفاء...
فماذا تكون إلا ...جنة؟!!!
تناول هاتفه بأنامل مرتجفة وهو يقلب في صوره ليستعيد ذكرياته العامرة معها...
لتتوقف عيناه أخيراً على آخر صورة كانت لهما في وضع "السيلفي" الشهير وهي نائمة على صدره وابتسامتها تنافس ابتسامته في سعادة من القلب!!!
ليلة من الليالي التي حلما فيها معاً ب"ملك" الصغيرة عاشقة الأزرق كأمها!!!
ليته استطاع تخزين كل لحظة جمعتهما سوياً...
ليته اختزن حنانها...عذوبتها...شقاوتها...
وهج البندق في عينيها...بريق النور على شفتيها...
سحرها "الأزرق" الذي لن تنافسها فيه امرأة سواها!!!
ليهمس أخيراً :
_افتقدتك يا جنة...افتقدتك جداً.
قالها ثم استسلم أخيراً لنوم عميق...
فلم يشعر بباب غرفته الذي فتح بعدها بوقت طويل....
لتطل هي منه برأسها للحظات تتيقن من نومه قبل أن تتقدم منه ببطء...
رغم حديث ماسة المتعقل معها لكنه لم يستطع إخماد تلك النيران المشتعلة بصدرها...
ساعات وهي تحاول النوم دون جدوى ولولا بقية من إرادة بداخلها لخرجت تبحث عن "أقراص دوائها السحرية" بنفسها...

ماسة وشيطان   حيث تعيش القصص. اكتشف الآن