الفصل الثامن عشر

17.7K 424 19
                                    



.
تمدد جاسم الصاوي على فراشه متدثراً بغطائه وهو يسند رأسه إلى ظهر الفراش الوثير...
لقد كان الموت الليلة منه قاب قوسين أو أدنى!!!
ولولا معجزةٌ قدرية لكانت تلك الرصاصات قد عرفت طريقها إليه وإلى ابنه الوحيد!!
"الوحيد"؟؟؟؟!!!
ظلت هذه الكلمة تتردد في عقله بوميض خاص متقطع متزامنٍ مع تلك الذكرى البعيدة...
والتي حاول طمسها في غياهب ذاكرته لسنوات طويلة تتجاوز العشرين عاماً...
حتى ظن أنه نجح!!!
لكن حادث الليلة جعلها تطفو على سطح أفكاره لتحتلها كلها...
فبرغم كل ذنوبه- التي يعلم وحده مدى ثقلها على كاهله- يبقى هذا الأمر -بعينيه-أعظم خطاياه!!!
طرقاتٌ خافتة على باب غرفته قاطعت أفكاره تبعها دخول فهد بخطوات مترددة كعهده كلما دخل إلى هذه الغرفة التي شهدت جريمته منذ سنوات...
لهذا لم يكن يدخلها إلا مضطراً كهذه الليلة ...
ويبدو أن أباه قد قرأ أفكاره فقد تفرس ملامحه ببطء ثم قال بلهجة رفيقة غريبة عن قسوته المعتادة معه:
_تعال يا فهد...وأغلق الباب خلفك.
أطاعه فهد باستسلام ثم عاد ليجلس جواره على طرف الفراش مطرقاً برأسه يحاول البحث عن كلمات مناسبة في هذا الموقف ...
لقد تعطلت علاقته العاطفية بوالده منذ الحادث وكل يومٍ كان يزيد من حجم هذا "العطل"!!!
والآن لا يدري كيف يعبر له عن شعوره الحقيقي كابنٍ وأبيه في هذه الظروف!!
هو يعلم أن جاسم الصاوي يحتاجه الآن بالذات...
يحتاج فهد...ابنه الوحيد...وليس رجل الأعمال الذي يعده ليكون خليفته على سلطانه !!!
وفهد أيضاً كان يحتاج هذا مثله...
لكنه لم يكن يجد مدخلاً مناسباً...
خاصةً وهذه الغرفة بالذات تهيج الجرح القديم لكليهما فتجعل الأمر أكثر صعوبة!!!
لهذا ساد صمتٌ ثقيلٌ بينهما وكلاهما عالقٌ في شباك أفكاره ...
حتى قطع الصمت جاسم وهو يقول بشرودٍ :
_ما حدث الليلة جعلني أعيد تقييم بعض الأمور!
رفع فهد عينيه إليه بترقب وهو يشعر من تعابير وجه والده التي يحفظها أنه سيسمع أمراً جللاً...
عندما عاد جاسم الصاوي لصمته الشارد قليلاً قبل أن يقول بنبرة غريبة:
_هل تدرك كم كنتُ أحب والدتك رحمها الله؟!وماذا كانت مكانتها عندي؟!

أغمض فهد عينيه بألم وهو يشعر ببركان هائج في صدره من مشاعر متباينة...
فتنهد جاسم الصاوي ليردف بنفس النبرة :
_أنا لا أقول هذا لتقريعك على ذنبك القديم...أنا فقط أريدك أن تتفهم ما سأعترف لك به الآن.
ازدرد فهد ريقه بتوتر وهو يعاود النظر إليه بتوجس ...
ليكمل جاسم حديثه الذي بدا على قدر كبير من الخطورة:
_لقد تأخرت والدتك في الحمل بعد زواجنا...وساءت نفسيتها كثيراً لهذا الأمر...حتى أنها احتاجت لعلاج نفسي من الاكتئاب لفترة طويلة...وأنا كنت وقتها شاباً في مقتبل عمري ...ضعفت أمام رغباتي وتزوجت سكرتيرتي سراً لبضعة أشهر...ولما أفقتُ لنفسي وخشيت أن يتسرب الأمر لوالدتك طلقتها ...خاصةً أن والدتك فاجأتني وقتها بنبأ حملها الذي أصلح الأمور بيننا كثيراً وعادت حياتنا بعدها لطبيعتها ...
عقد فهد حاجبيه وهو يقول بتوجس وقد أدرك بذكائه أن الأمر يحوي ما هو أعظم من هذا:
_لكن أمر سكرتيرتك هذه لم يقف عند هذا الحد!!
أومأ جاسم برأسه ثم بدا عليه التردد قليلاً قبل أن يحسم أمره قائلاً:
_أنت لست ابني الوحيد...ولست الأكبر كذلك!
اتسعت عينا فهد بصدمة وهو يتراجع برأسه مشدوهاً:
_ماذا؟!
أطرق جاسم برأسه للحظات...ثم قال بأسف:
_لقد اتصلت بي تلك المرأة بعد طلاقنا ببضعة أشهر وهي بين الحياة والموت تخبرني أنها وضعت طفلتنا وأنها لا تريد شيئاً سوى أن أمنحها اسمي..... كانت والدتك لاتزال في شهور حملها الأولى بك...فلم أستطع وقتها صدمتها بأمرٍ كهذا...كما أني خشيت من الفضيحة...لهذا....
انعقد حاجبا فهد بغضب وهو يهز رأسه هاتفاً بحدة:
_لا تقل أن المرأة ماتت وأنت رميت الطفلة لأهل والدتها!!!
تنهد جاسم بحرارة وهو يشيح بوجهه قائلاً:
_للأسف تلك المرأة كانت وحيدة تماماً بلا أهل ولا سند وهذا ما سهّل أمر زواجنا السريّ من البداية.....المرأة ماتت حقاً لكنني لم أعرف شيئاً عن الطفلة...لقد تسلمتها بعد وفاة والدتها ثم أمرت أحد رجالي بأن يتخلص منها فوضعها أمام أحد المساجد في منطقة شعبية...وظل يترقب الأخبار بعدها حتى أخبرني أن امرأة طيبة التقطتها لتربيها وقد منحها أحد رجال الحي اسمه قانوناً فقط !!
تألقت عينا فهد وهو يهتف بلهفة:
_وما هو هذا الاسم؟!
هز جاسم رأسه وهو يهمس بخفوت:
_لا أدري...أنا لم أهتم وقتها بمعرفة التفاصيل..كنت فقط أريد التخلص من هذه الفضيحة بأي طريقة....كل ما أذكره عن الطفلة أنها كانت تشبه والدتها تماماً بعينين رماديتين.
هب فهد واقفاً وهو يلوح بذراعيه هاتفاً بانفعال:
_ولماذا تهتم؟!!! مجرد خطإٍ تجاوزته وانتهى الأمر!!! لتعود لحياتك الطبيعية وتفرح بزوجتك سليلة الحسب والنسب التي ترضي واجهتك الاجتماعية وابنها الذي تفتخر به...صحيح؟!!
انعقد حاجبا جاسم بغضب وكلمات فهد توخز ضميره أكثر ليجد نفسه يهتف بحدة:
_احترم نفسك يا ولد !!
اشتعل غضب فهد أكثر وهو مستمرٌ في ثورته:
_وأنت لماذا لم تحترم آدميتك؟!!كيف استطعت النوم طوال تلك الليالي وأنت تعرف أن لك ابنة لا تعرف عنها شيئاً؟!!كيف ارتضى ضميرك أن تربيني أنا في كل هذه الرفاهية والدلال بينما تتجرع هي كأس الفقر والذل والمعايرة بين الناس بنسبها المجهول الذي لا ذنب لها فيه؟!!
أغمض جاسم عينيه بألم وهو يطرق برأسه من جديد...
فصمت فهد لدقائق يتمالك انفعاله بصعوبة وهو لا يكاد يصدق...
جاسم الصاوي ضحى بابنته لأجل حبه لزوجته؟!!
رمى طفلته التي هي قطعةٌ منه لأجل امرأة؟!!!
ترى ماذا سيكون رد فعله لو علم أنه فعل كل هذا لأجل امرأة خائنة؟!!!
امرأة كانت تستبيح عرضه ...وعلى فراشه!!!!!!!
نعم...هذا الفراش الذي يرقد هو عليه الآن ...بل كل ليلة...
يتذكرها متحسراً ويلومه هو لأنه شابٌ عابثٌ أضاع حياة والدته بفساده!!!!!
لكن الواقع أنه لم يفعل هذا لأجل حبه لتلك المرأة الراحلة فحسب...
بل لأجل واجهته الاجتماعية أيضاً...!!!
جاسم الصاوي استنكف أن تكون له ابنة من امرأة لا تنتمي لمجتمعه المخملي...
واستكبر أن يتحدث الناس عن زواج ثانٍ له من امرأة لا تليق...
فرد له القدر الضربة مرتين!!!
مرة في زوجته التي يعلم فهد وحده الآن أنها لم تكن تستحق هذه التضحية...
ومرة في ابنه...!!
نعم...جاسم الصاوي ضحى-طوعاً- بزوجة وابنة.... فخسر-قسراً- زوجةً أخرى وابناً آخر!!!
حقاً...ما أعدل السماء!!!
وعند هذه الفكرة الأخيرة تنهد فهد بحرارة ململماً أذيال ذكرياته المشبعة بحسرته...
ليعاود الجلوس جوار أبيه هامساً بلهجة أكثر هدوءاً:
_أبي...أنت تعترف الآن لي بهذا الأمر لأنك تنتوي تصحيحه !
كانت عبارته للجواب أقرب منها للسؤال...
ففتح جاسم عينيه ليتمتم بعجز:
_للأسف...لا أستطيع.
انعقد حاجبا فهد في تساؤل فأردف جاسم بضيق:
_رجلي الذي كان يعرف عن تفاصيل الأمر ترك العمل معي بعدها واختفى...وأنا تناسيت الأمر بدوري...لم أذكره إلا الليلة ...لقد صارحتك به فقط حتى أوصيك عليها لو ظهرت يوماً ما تطالب بحقها ولم أكن أنا وقتها على قيد الحياة.
هز فهد رأسه وهو يهتف بقنوط:
_هذا يعني أنك لا تعرف أي شئٍ عنها ولا حتى اسمها أو مكان إقامتها؟!!

ماسة وشيطان   حيث تعيش القصص. اكتشف الآن