الفصل الحادي عشر

18.7K 447 13
                                    

نحوه وهي تمشي بعرج ملحوظ...

فحافة الحذاء كانت تضغط على ظاهر قدمها المحترق...
تأمل عرجها بغيظ وهو يكاد يغلي...
لقد احتملت ألمها هذا فقط لتأتي حسن في موعدهما كما زعمت...
حسن الذي لم تنسه ومن الواضح أنها لن تفعل بسهولة...
لكنه لن يستسلم...!!!
سيخرجها من وهمها هذا مهما كان الثمن!!!
وصلت إليه وقلبها ينتفض خوفاً من رد فعله مع هذا الغضب البادي على وجهه...
لكنها تصنعت البرود وهي تسأله بتماسك:
_لماذا جئتَ إلى هنا؟!!
كز على أسنانه وهو يمسك مرفقيها بعنف هاتفاً:
_أنا جئتُ هنا لزوجتي...السؤال هو لماذا جئتِ أنتِ إلى هنا؟!!!
ارتجفت بين ذراعيه رغماً عنها وهي تحاول التظاهر بالقوة:
_أنا أرسلتُ لك رسالة وأخبرتك...
_اخرسي!
قاطع عبارتها بكلمته وهو يدفعها نحو سيارته بعيداً عن سيارتها ....
حتى ركبت جواره ليقود السيارة بعدها بسرعة جنونية كعادته عندما يغضب...
تشبثت بمقعدها في خوف وهي تختلس نظرات وجلة نحو جانب وجهه...
حتى توقف بالسيارة أمام المنزل...
وبمجرد أن اغلق الباب خلفه اندفع نحوها ليمسك كتفيها هاتفاً بغضب هادر:
_ماذا تسمين فعلتك اليوم؟!!! كيف تذهبين إلى هناك ؟!!!
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تقول بقوة مصطنعة:
_وماذا في هذا؟!! هذا موعد لم أخلفه منذ سنوات؟!!
هز كتفيها بقوة أكبر وهو يعاود هتافه الغاضب:
_لا تستفزيني...إياكِ أن تكرريها مرة أخرى.
نفضت ذراعيه من على كتفيها وهي تهتف بحدة وقد فقدت أعصابها:
_بل سأفعل...أنت تزوجتني وأنت تعلم أنني لازلت أحبه ومخلصة له...أنت أجبرتني على هذه الحياة التي لا أريدها....بأي حق تتبجح هكذا؟!!! هل تظنني زوجتكِ حقاً؟!!!
اشتعلت عيناه بالغضب للحظات ثم كسا البرود وجهه فجأة...
فأيقنت أنه مقبلٌ على مصيبة...
وصدق حدسها عندما قال أخيراً ببرود تدرك جيداً أنه مصطنع:
_معكِ حق...أنتِ لستِ زوجتي بعد...وبما أنكِ استطعتِ المشي على قدمك...فهذا يعني أنه يمكننا السفر.
هتفت بدهشة تمتزج بغضبها:
_أي سفر؟!!
اقترب منها حتى لاصقها وهو يقول بنفس البرود المشتعل:
_"شهر عسل" يا عروسي!!!!
ابتعدت عنه وهي تمشي بظهرها تهتف بجنون لم تعد تستطيع السيطرة عليه بعد انفعال الأيام الماضية:
_أخيراً عجزت عن تحقيق رهانك الرخيص على قلبي...وعدتَ لأسلوبك الأصلي في السرقة والغصب...ما عدتَ قادراً على إتمام تمثيليتك السخيفة التي ظننتَ نفسك أجدتَها طيلة الأيام السابقة....لكنني لم أصدقها ولو للحظة ...ابن الصاوي فشل في تمثيله كما سيفشل في كل شئ في حياته.

كان يقترب منها ببطء ونظراته تتحول من غضب إلى جرح شديد في عينيه...
لم يكترث بإهانتها بقدر ما آلمه أنها لا تصدق إحساسه الحقيقي بها بعد كل هذا...
لم يكن يعلم أنه سيشعر بهذا الألم عندما تُكذّب مشاعره نحوها...
هي لا تثق به ة.
ويحق لها أن تفعل...
هو بنظرها مجرد وغد يريد تحقيق انتقامه بكسرها...
تظن نفسها لديه مجرد رهان رخيص...
والواقع أنها لو رأت ما في قلبه الآن لعلمت أنها صارت أغلى ما في حياته!!!!
بينما كانت هي تعود بظهرها للخلف هرباً منه...
ومن روحها قبله...!!!!
روحها التي بدأت تتعلق به في غفلةٍ منها لتنازع عقلها على ما يحاول إقناعها به...
حتى التصقت هي بالحائط خلفها لتجد نفسها فجأة محاصرة بجسده...
كان صدرها يعلو ويهبط بجنون ونظراتها تفضح خوفاً وغضباً...
وأمامها كان هو ينظر إليها بعمق وكأنه يقاوم انفعالاً قوياً بداخله...
نظراته كانت تحمل نوعاً من الألم الذي لم تفهمه هي...
لكنه وصل قلبها صادقاً دون تزييف...
خاصة عندما أمسك كفها ليبسطه على صدره هامساً بنبرة غريبة:
_دقات قلبي...تمثيل؟!!
ارتجف جسدها كله وكفها يستشعر نبضاته الهادرة تحته...
تكاد تصرخ تحت أناملها بدويّ هائل!!!
فرفعت عينيها إليه بخشية ليلتقط هو وهج البندق الذي طالما أثار جنونه مردفاً بنفس النبرة:
_نظراتي هذه...تمثيل؟!
غاصت عيناها لأول مرة بهذا العمق في سواد عينيه....
لتلمح عاطفة لا تقبل الجدل...
مشاعر صافية لا يمكن الطعن في كذبها...
بحر هائج من أحاسيس امتزج فيها الحب بالألم والرجاء...!!
لكنه اقترب بوجهه أكثر ليمس وجهها كله بشفتيه مساً بطيئاً هامساً بين كل قبلة وأخرى:
_إحساسي...تمثيل؟!!
أحست بنفسها تكاد تتهاوى بين ذراعيه وقد عجزت عن فعل أي شئ...
عندما أحاط وجهها بكفيه وهو ينظر لعينيها هامساً بصوت متهدج:
_آآه...لو تعلمين...كم تمنيتُ تقبيل عينيكِ ؟!!!
أغمضت عينيها بقوة لتنساب شفتاه أخيراً كما تمنى وهو يقبلهما بعمق...
ثم تلمّس جفنيها المطبقين بأنامله بهيام هامساً بحرارة:
_آه من وهج البندق الذي يلمع فيهما...ويثير جنوني كلما نظرتُ إليهما!!!
تشبثت بآخر خيوط مقاومتها وهي تشعر أنها ما عادت قادرة على الثبات أكثر...
ففتحت عينيها لتهمس بصوت مرتعش:
_فهد...اتركني ....أرجوك.
ابتسم وهو يسمعها تناديه باسمه لأول مرة....
فانحدرت أنامله إلى شفتيها تتلمسها بنفس الطريقة الهائمة- وكأنه يعزف عليها- هامساً بدفء:
_فهد؟!!!! وليس ابن الصاوي!!!!!
اتسعت عيناها بصدمة وهي تنتبه لما يقول....
لكنها عادت تغمضهما بقوة عندما شعرت به يقترب من شفتيها هامساً بعاطفة مشتعلة:
_أريد أن أتذوق اسمي على شفتيكِ.
تشبثت بكفيها في الجدار خلفها وهي تشعر بنفسها في حلم عجيب...
لو كان كل هذا تمثيلاً فكيف إذن تكون حرارة الحب في قلوب العاشقين...؟؟؟!!!!
وكيف يكون الإحساس في أرواح الهائمين؟!!!
إنها تصدقه...
بقلبها تصدقه...
بروحها تصدقه...
حتى ولو لم يؤيدها عقلها الذي تراجع كثيراً مفسحاً المجال لشعورها الجديد....
لتجد نفسها تستجيب للمساته وقبلاته التي كانت تدغدغ أنوثتها برفق مسيطر....
قبل أن يتراخى كفاها تدريجياً على الجدار خلفها وهي تستسلم أخيراً دون قيود...
وآخر سؤال دار في عقلها قبل أن يستتر خلف حُجُب عاطفته....
هل كسب ابن الصاوي رهانه على قلبها أخيراً؟!!
=========
استيقظ من نومه ليفتح عينيه ثم ابتسم تلقائياً وهو يتذكر أحداث الليلة الماضية...
تلفت جواره لكنه لم يجدها على الفراش كما كانت...
اتسعت ابتسامته وهو يسترجع استسلامها -اللذيذ - له...
لم يتصورها ستكون بين ذراعيه بهذا المزيج المدهش من الاشتعال والذوبان...!!!!
ومع كل النساء اللائي صادفهنّ في دربه...
لم تترك إحداهنّ أي أثر على قلبه...
لكن هذه بالذات امرأة بنكهة خاصة...
دافئة كشمس الشروق...
حارقة كشمس الظهيرة...
ساحرة كشمس الغروب...
لكنها في جميع أحوالها شمس ساطعة بالعاطفة والعطاء....!!!!
جنة الرشيدي التي شعر بالأمس فقط أنه قد بدأ يحمل مكاناً في قلبها...
ربما هو لازال في بداية الطريق...
لكنه سيكمله...
سيكمله معها وبها ...ولها...لها فقط!!!
نفض الغطاء وهو يقوم ليذهب إليها...
لكنه لم يجدها..
بحث عنها في الشقة كلها لكن لم يكن لها أثر!!!
اتصل على هاتفها فوجده مغلقاً...
عقد حاجبيه بضيق وهاجسٌ مزعج يملأ رأسه جعله يتوجه لخزانة ملابسها ليجدها فارغة!!!
كز على أسنانه بغضب ثم بدل ملابسه بسرعة ليخرج بحثاً عنها...
لكنه اصطدم برسالتها ملتصقة على باب الشقة من الداخل :
_عساك تكون كسبت رهانك واسترحت...أشهد أنني خسرت أمامك...وها قد حصلتَ أنت على ما أردت....فلنُنْهِ إذن أمر زواجنا بسرية كما بدأناه...عد لحياتك ...ودعني لحياتي.
التقط الرسالة يقرأها عشرات المرات ثم طواها في قبضته ليلقيها بعيداً...
زفر بقوة وهو يضع كفه على صدره يحاول تهدئة خفقاته...
جنة لا تزال تظنه يتسلي بها...!
تظن أن ما حدث بينهما لم يكن سوى إثبات لانتصاره علىها...
لكن ...لماذا يلومها؟!!!
وهو الذي زرع في عقلها هذه الفكرة من البداية...
لكن الأمر الآن مختلف...
لقد أحبها حقاً...
أحبها كما لم يفعل طوال عمره...
وحدها جنة الرشيدي استطاعت نزع قلبه من ذنبه القديم ...
لتغير له كل قناعاته...
وتثبت له أنها امرأة استثنائية...
وكأنها خُلِقت ليعشقها...
وأبداً لن يضيعها أبداً...!!!!
===============
عاد إلى شقته ليلقي مفاتيحه بغضب على المائدة وهو يزفر بضيق...
ثم قادته خطواته إلى غرفتها -الخالية-ليجلس على طرف الفراش وهو يجول ببصره في المكان باشتياق غزا روحه باكتساح...
عاد بظهره إلى الوراء ليتمدد مكانه وهو يحتضن وسادتها التي علق بها عطرها وقلبه يخفق بجنون...
ستة أيام مرت على اختفائها -الفجائي-من حياته ولم يعثر لها على أثر...
شقتها مغلقة...
وكذا مكتبها مغلق...
ولا أحد يعلم عنها شيئاً!!!!
لقد بحث عنها في كل الأماكن التي اعتادت أن ترتادها دون جدوي...
الأستاذة أجادت -الاختفاء-كما أجادت السيطرة على قلبه الذي يكاد يذوب شوقاً وقلقاً عليها!!!!
حانت منه التفاتة للكومود جواره ليجد علبة دوائها التي نسيتها عليه...
تناولها بأنامل مرتعشة يتلمسها بوجد ...
ثم دمعت عيناه وكيانه كله يرتجّ تأثراً...
وهو يتذكر ضمّة شفتيها على أنامله كل صباح وهو يناولها القرص بنفسه...
ازدرد ريقه ببطء وهاجسٌ مزعجٌ يجتاحه بقسوة...
تراها بخير؟!!!
أم أنها قد آذت نفسها -ندماً-بعدما حدث بينهما؟!!!
قبض أنامله بقوة وهو يفكر...
ليته ما تسرّع معها هكذا...
ليته صبر أكثر...!!!
هو كان راضياً بوجودها هكذا في حياته ...
أمام عينيه حتى ولو لم يمسها....!!!!
لكنه لم يستطع تمالك نفسه ليلتها...
فقد السيطرة على شعوره -الجارف-بها وهي بين ذراعيه...
ورغم هذا كان من الممكن أن يتوقف لو شعر - ولو للحظة- أنها كارهة...
لكن استسلامها قد غرّه بالمزيد...
بل إنه يكاد يقسم أنه أحس وقتها أنها -حقاً-تشعر نحوه بعاطفة ما...!!!
ربما شعورها ليس عميقاً كشعوره...
لكنه كان مستعداً -ولايزال-لأن يصبر حتى يصل لقلبها كاملاً...!
قطع رنين الهاتف أفكاره فتناوله ببطء متثاقل لكنه فتح الاتصال عندما تعرف على هوية المتصل...
ليهتف بانفعال:
_هل وصلت لشئٍ يا حسام؟!!!
حسام القاضي !!
ضابط في المباحث العامة تعرف عليه في إحدى الحفلات التي يقيمها والده ...
ثم التقاه بعدها مصادفةً في رحلة مع أصدقائه إلى إحدى مدن الساحل...
وتوطدت علاقته به بعدها حتى صار من أقرب أصدقائه...
ورغم عودة حسام بعدها إلى مسقط رأسه في مدينته بالجنوب...
لكن علاقتهما بقيت قوية على عهدها...
خاصة مع تعاطفه الشديد مع حسام بعد قصته التي يعرف تفاصيلها الكاملة...
والتي أثرت -سلباً - على شخصيته كثيراً لكنه يعذره!!!
وبالذات بعدما جرب شعوره مع جنة...
والذي يدرك الآن أنه حب حقيقي!!!!
قاطع حسام أفكاره وهو يقول بنبرته العملية:
_السيارة التي أعطيتني أرقامها موجودة في مدينة (......) وقد كلمت أحد زملائي هناك وجمعت لك كل التفاصيل.
برقت عينا فهد وهو يسأله بلهفة:
_صاحبة السيارة بخير؟!!!
وصلته ضحكة حسام الساخرة عبر الهاتف وهو يقول بتهكم:
_اطمئن يا صديقي...صاحبتها بخير تستأجر شقة هناك منذ بضعة أيام وتقيم فيها وحدها.
ثم أردف بلهجة ماكرة:
_لكن يبدو أنها لن تبقى وحدها طويلاً...بلهفتك هذه لا أستبعد أن تكون عندها صباحاً.
عقد فهد حاجبيه بضيق وهو يهتف بحدة:
_اسكت يا حسام...هي ليست كما تظن.
صمت حسام للحظات وهو يستشعر أن غضبة صديقه تخفي شيئاً جديداً هذه المرة....
لكنه فغر فاه مذهولاً عندما أردف فهد بحسم:
_إنها ...زوجتي!!
============
دخلت دعاء إلى مكتبها لتجده واقفاً مع إحدى زميلاتها يضاحكها بمرح...
فتجاوزتهما بعدم اكتراث ظاهر يخفي مشاعرها الكسيرة...
ثم جلست على مكتبها تمارس عملها لعلها تتناسى التفكير في همومها...
لكن شرودها غلبها وذكرى قاسية من طفولتها تهاجم رأسها الآن بضراوة...
كانت طفلة مجتهدة في دراستها بشهادة جميع معلماتها...
ولهذا كانت رفيقاتها يحسدنها...
وذات يوم طلبت منها المعلمة أن تكتب كلمة ما على "سبورة" الفصل...
هاجمتها إحدى نوبات شرودها -المرضيّة-ولم تنتبه إلا بعد عدة ثوانٍ على ضحكات رفيقاتها العالية...
والمعلمة تصيح فيها بغضب:
_هل تستهزئين بي؟!!!
تلفتت حولها بدهشة لتجد نفسها قد اتجهت -لا شعورياً-نحو باب الفصل بدلاً من أن تتجه نحو السبورة!!!
يومها أحست بالانكسار وقد امتلأت عيناها بدموع القهر ...
والفتيات يسخرن منها مع تقريع معلمتها الشديد ...
لكن المعلمة تفهمت ظروف مرضها عندما أخبرتها بها -سرّاً-فيما بعد...
وقد كانت هذه إحدى المرات التي اصطدمت فيها بتبِعات مرضها -المخزي- والتي تركت ندبتها على روحها الجريحة....
تلاعبت أناملها بقلمها في شرود...
وذكرياتها تحملها لمحطة أخرى عندما كانت في المرحلة الثانوية...
تفتحت براعم أنوثتها...
ليشهد الجميع بأنها فتاة مميزة منطلقة مرحة فاتنة...
وذات يوم وهي جالسة في غرفتها سمعت إحدى جاراتهنّ تتحدث إلى والدتها تطلب منها خطبتها لابنها...
ليلتها دق قلبها بعنف وهي تري نفسها بعين خيالها الوردية لأول مرة عروساً بثوبها الأبيض...
تتأبط ذراع فارسها وتسير معه برأس مرفوعة...
لكن صورة خيالها الوردية تلطخت بالسواد...
ووالدتها تصارح الجارة بمرضها على استحياء وتطلب منها بمنتهي الخزي ألا تخبر أحداً عن هذا...
وبالطبع خرجت الجارة من ليلتها ساحبةً عرضها -السخيّ-ولم تعد...!!!!
وكذلك حلمها الورديّ لم يعد!!!
ظل حبيس صدرها لسنواتٍ بعدها أيقنت فيها من كونها مجرد دمية "معيبة" ليس لها الحق حتى في الحلم!!!!
إلى أن خانها قلبها في غفلةٍ منها ليتعلق بمعتصم!!!
اختلست نظرة خاطفة إليه وهو لايزال يضاحك رفيقته بمرح مبالغ فيه...
فابتسمت بمرارة...
وهي تعود لفيض ذكرياتها -المؤلم- لتختتمه بمشاهد حياتها القصيرة مع حسام...
سيادة الرائد الذي لا تعرف حتى الآن لماذا وافق على خطبتها هي بالذات...
رغم عيبها الذي يعرفه...
والذي يتناقض مع اهتمامه الشديد بالمظاهر الاجتماعية...
فردت أناملها أمام عينيها ببطء تتأمل إصبعها الذي عاد خالياً من الخواتم بعدما ألقت له دبلته بالأمس...
ويبدو أنه سيبقى كذلك!!!!
عضت على شفتيها تكتم دموعها ...
عندما قفزت ماسة إلى ذهنها...
كم تشعر بالشفقة نحو هذه المسكينة...
لقد حاولت مساعدتها في الهرب من عاصي الرفاعي لكنها كانت تعلم -مسبقاً-أنها لن تنجح...
ما تعرفه عن عاصي الرفاعي أنه لن يسمح لها بالفكاك من أسره طالما أرادها...
وقد صدق حدسها...
فالمدينة كلها تتحدث عن زواجه -الغريب -بها ....
وقد حاولت الاتصال بها مراراً لتطمئن علىها....
لكن هاتفها دوماً مغلق...
يبدو أن "الشيطان" يريد أن يغلق أمامها كل سبل الخلاص!!!
أحاطت وجهها بكفيها وهي تشعر بالاختناق...
ما أشبهها بماسة!!!
كلتاهما فتاة بسيطة لم تكن تطمع من الحياة في الكثير...
لكن ضعفهما جعل مجرد الحلم جريمة...
في عالمٍ لم يعد يعترف سوى بالقوة!!!
وهي لن تقع في هذا الخطأ من جديد...
لقد جعلتها تجربتها الأخيرة مع سيادة الرائد تدرك قيمتها -الزهيدة-أكثر...
ليزداد يقينها أنها ستبقى وحيدة في مشوار حياتها الصعب...
أفاقت من أفكارها على صوته أمامها وهو يسألها باهتمام:
_ماذا بكِ يا دعاء؟!!! أنتِ بخير؟!!!
ظلت على حالها للحظات...
ثم أزاحت كفيها من على وجهها ببطء لتقول دون أن تنظر إلىه:
_نعم...بخير...لا تهتم!!
قالتها وهي تعاود النظر لأوراقها تحاول استعادة تركيزها ...
عندما أمسك كفها فجأة يعتصره بكفه وهو يهتف بانفعال:
_أين دبلتك؟!!
شهقت بعنف للمفاجأة...
ثم سحبت كفها من كفه بعنف وهي تهب واقفة هاتفة بغضب هادر:
_هل جُننت؟!!!كيف تتجرأ على أن تمسك يدي؟!!!
تأملها مبهوتاً للحظة وهو يشعر بالصدمة...
لقد كان يتعمد المزاح مع زميلته هذه كي يداري شعوره الخانق بالخسارة كلما رأى دبلتها في إصبعها....
كان يحاول إقناع قلبه بأنها مجرد امرأة كسائر النساء وليس بها ما يميزها...
لكنّ شعوره الآن ياللهفة والأمل وكأنه وجد كنزه المفقود لمجرد أنها عادت حرة ليس له سوى معنيً واحد...
أنها أبداً ليست كغيرها...
وأن خسارتها لن تُعوض كما كان يظن!!!!!
وقف بدوره وهو يهز رأسه هاتفاً بغضب هو الآخر:
_دعكِ من هذا الهراء وأخبريني ....هل فسختِ خطبتك؟!!!
اشتعلت ملامحها بكل ما يملأ روحها المنكسرة من ألم وهي تصرخ بوجهه:
_وما شأنك أنت؟!!!!هل تظنني مثل بقية رفيقاتك ؟!!!
ارتدّ خطوة للخلف مصعوقاً من فورة غضبها الممزوج بألمها الذائب في عينيها....
وهو يشعر بالعجز...
يود الآن لو يصارحها بمشاعره نحوها...
لكن لسانه يعانده...
وبرغم ما يشعر به الآن من سعادة لأنها صارت حرة أخيراً...
لكن هذا الألم المستكين الآن بعينيها يخبره أن شيئاً ما بداخلها قد كُسِر...
وأنها لن تعود كما كانت...!
أما هي فقد تناولت حقيبتها بعنف وهي تتجاوزه بخطواتٍ سريعة لتغادر...
لكنه اعترض طريقها مغمغماً برجاء ممزوج بالأسف:
_لا تغضبي ...أنا آسف.
أشاحت بوجهها عنه تكتم دموعها التي تخاف أن تخونها الآن في أي لحظة...
عندما أردف هو بصوت مختنق بعاطفته :
_صدقيني أنتِ لستِ كالأخرىات...أنا...
التفتت إليه بحدة تقاطع عبارته هاتفة بانفعالٍ فقدت سيطرتها عليه:
_أنتَ ماذا....تحبني؟!!!
اتسعت عيناه بصدمة بالغة ثم عقد حاجبيه بغضب شديد وهي تردف بنفس الحدة:
_ابحث لنفسك عن تسلية أخرى.
اقترب منها خطوة وهو يكز على أسنانه هاتفاً بسخط:
_لماذا تتحدثين معي بهذه الطريقة؟!!!
تشبثت أناملها بحقيبتها وهي تطرق برأسها للحظات....
قبل أن تواجهه بقوة عينيها المناقضة لدموعها التي سالت على وجنتيها الآن وهي تهمس بصوت ذبيح:
_دعني لشأني يا معتصم...لو كنتُ أعزُّ عليك فلا تحمّلني ما لا أطيق.
دق قلبه بجنون وهو يتمنى الآن لو يطوقها بين ذراعيه ...
ويخفي رأسها في صدره...
لعلّه يمحو عن عينيها كل هذا الألم الذي يفيض منهما كشلال هادر...
لم يتمنّ يوماً أن يصارحها بمشاعره كما هو الآن...
لكنه يشعر أن حاجزاً خفيّاً يقف بينهما...!!!!
كلمةٌ واحدة ينبض بها قلبه...
ويستحلفه أن يعترف لها الآن بها...
كلمةٌ واحدة...
تختصر كل شعوره بها طوال الأيام السابقة...
كلمةٌ واحدة...
تستحقها هي ولم يشعر بها لسواها...
كلمةٌ واحدة...
لكنها تقف كغصّة في حلقه لا يقوى على النطق بها...!!!!
أما هي فقد كانت غافلةً عن كل هذا...
تجاوزته بخطواتٍ متثاقلة وهي تشعر بروحها تنزف ألماً...
وهي لا تعرف لها ذنباً في كل هذا...
لقد خذلها اختيار القلب...
وعندما استمعت لصوت العقل...خذلها اختياره أكثر...!!!
ومن أشقى من امرئٍ خانه عقله وقلبه معاً؟!!!
ظلت على شرودها الذبيح طيلة طريق عودتها للمنزل...
حتى توقفت أمام الباب لحظات...
لتأخذ نفساً عميقاً تحاول استعادة قناع مرحها -الواقي-كعادتها...
فوالداها في غاية الحزن منذ الأمس بعدما علما عمّا حدث بينها وبين حسام...
وقد بدت لهما مجنونةً حقاً لترفض زيجةً -ثمينة- كهذه دون سببٍ قويّ!!!!
وكأنّ احترامها لنفسها ورفضها لأسلوبه المتعجرف مجرد رفاهية في حق من هي مثلها!!!
فتحت الباب برفق لتتلقاها والدتها بين ذراعيها ...
فضحكت ضحكة مصطنعة وهي تهتف بمرحها المعهود:
_ماذا أعددتِ لنا على الغداء ؟!! أنا أكاد أموت جوعاً.
أشارت لها والدتها بسبابتها على فمها كي تصمت...
فهزت رأسها بتساؤل...
عندما سمعت صوت والدها يناديها من غرفة "الصالون"...
التفتت نحو الغرفة بتلقائية...
لتشهق بعدها بعنف وهي تجد حسام جالساً جوار أبيها يرمقها بنظراته الغريبة...
تجمدت مكانها للحظات...
ثم سمعت والدها يناديها من جديد.....
فتقدمت نحوهما بخطواتٍ بطيئة مختنقة كروحها الآن...
وبرغم احترامها الشديد لوالدها دوماً...
لم تنتبه لأمره لها بالجلوس...
وهي تتقدم نحو حسام الذي وقف عندما دخلت...لتقول له بلهجة قوية :
_لماذا جئت؟!!!
نهرها والدها بعنف واحتدّ عليها بحديثه...
لكنها لم تكن تسمعه...
عيناها كانتا تضخّان فيض غضبها العاصف أمام هذا الرجل الذي فجّر براكين جروحها الخامدة كلها...
لتندلع حممها فتصهر كل ما تحاول التظاهر به من صلابة...
أما هو فقد تلقى رصاص نظراتها بصبر...
وابتسامة شاحبة تشق طريقها لشفتيه وهو ينظر إليها للحظات...
قبل أن يلتفت نحو والدها قائلاً بتهذيب واضح:
_أستأذنك أن تتركني مع دعاء وحدنا يا عمي...
ثم عاد يقتنص نظراتها بمهارة وهو يردف بثقة :
_سأعرف كيف أصالحها...فلا يليق أن تبقي غاضبة ونحن سنعقد قراننا غداً!!!!
==========
جلست ميادة تنتظره في النادي كما طلب منها على الهاتف منذ قليل...
ارتسمت على شفتيها ابتسامة انتصار قوية وهي تسترجع أحداث أيامها الماضية معه...
عزيز شاكر ...
صيدها الثمين أوشك على الوقوع في حبائلها...
لقد استطاعت كسب صداقته مع شعورها أنه معجبٌ بتفكيرها كثيراً...
صحيحٌ أنها تعلم يقيناً أن قلبه لازال بعيداً كالسماء...
لكن مالها هي وقلبه؟!!!
فليمنح الشاعر قلبه لماسته المفقودة...
ولتمتلك هي كل ما تبقى منه!!!!
صفقة رابحة!!!
رابحة حقاً يا ميادة!!!
هكذا كانت تحدث نفسها بثقة ممتزجة بالظفر عندما حانت منها التفاتة نحو طفلةٍ كانت تبكي وحدها وهي تجلس على الحشائش الخضراء هناك...
اختفت ابتسامتها القاسية للحظة...
وهي تري الطفلة أشبه ما تكون بها عندما كانت في سنها...
نفس الشعر المشعث الأسود متوسط الطول...
والجسد النحيل ذي الكدمات نتيجة سقوطها المتكرر على الدرج في منزل جدتها القديم لأنها كانت تلعب عليه وحدها...
والثوب الذي اتسخ ببقع الطعام -رغم فخامته-!!
والأهم...تلك النظرة الكسيرة في عينٍ تتنازعها البراءة والألم....
لم تشعر بنفسها وهي تقوم من مكانها لتتقدم نحوها بخطواتٍ بطيئة كالمسحورة...
حتى جلست على ركبتيها أمامها غير آبهةٍ باتساخ ملابسها الأنيقة....
ربتت على كتف الصغيرة برفق وهي تسألها بحنانٍ قلّما يتسرب لكلماتها:
_لماذا تبكين يا "سُكّر"؟!!!!
كانت هذه هي لفظة تدليلها للصغار عموماً...
طالما كان الأطفال نقطة ضعفها الكبري...
كانت تراهم قطعاً من السكاكر تحلو بهم الحياة...
لكن براءتهم تذوب -كما السكر-في ماء الحياة المالح عندما يكبرون ...
فلا تعود هناك حلاوة...
ولا يعود هناك "سكّر"!!!!
التفتت الصغيرة نحوها بنفس النظرة المهلكة وهي تهتف بغضب طفوليّ:
_أمي مشغولةٌ بهاتفها ولا تريد أن تصنع لي جديلة!!
ابتسمت بمرارة وهي تسترجع ذكرياتها رغماً عنها...
لتسأل الصغيرة بشرود:
_هل تنامين في حضنها كل يوم؟!!
هزت الصغيرة رأسها نفياً وهي تهتف بين دموعها:
_هي تنام أمام التلفاز في غرفتها وتتركني مع ألعابي في غرفتي.
اتسعت ابتسامتها المريرة وهي تعاود سؤالها :
_هل تذاكر معك دروسك؟!!
مسحت الصغيرة دموعها بكفيها الصغيرين وهي تقول ببراءة:
_المعلمة تأتيني في المنزل كي تذاكر معي.
ربتت على رأسها وهي تقول بعطف:
_هل تشارككِ طعامكِ وألعابكِ؟!!!
هزت الصغيرة رأسها نفياً وهمسها البرئ يصل أذنيها كسيراً:
_الخادمة تفعل!!
ضمتها ميادة لصدرها بقوة للحظات....
ثم أبعدتها قليلاً لتمشط لها شعرها بأناملها قدر ما استطاعت...
ثم جدلته لها بشكل عشوائي لكن الصغيرة فرحت بهذا كثيراً...
وقبّلتها على وجنتها بقوة...
فأحاطت ميادة وجهها بكفيها وهي تنظر لعيني الصغيرة بقوة هامسة بثقة:
_يوماً ما يا صغيرتي تكبرين...فلا تحتاجين لمن يجدل لك ضفائرك...ولا لمن يشاركك طعامك وحياتك...يوماً ما تعتادين أن تخوضي الحياة بقوة وحدك...فتتعلمين أن وحدتكِ هي سرّ قوتك.
نظرت إليها الصغيرة بعدم فهم ...
فابتسمت لها وهي تحرر وجهها من بين أناملها...
لتقوم الصغيرة وتعدو نحو رفيقاتها من الأطفال سعيدة ضاحكة....
ظلت تراقب الصغيرة للحظات وهي جالسة مكانها...
لتخونها دمعة يتيمة سقطت على وجنتها فمسحتها بسرعة...
عندما شعرت بكفه الممدود جوار رأسها...
رفعت عينيها إليه بدهشة لتلتقط ابتسامته الحنون على شفتيه...
وتلك النظرة الغريبة الذائبة في بحر الزمرد تأسرها للحظة...
قبل أن تستعيد نفسها لتتشبث بكفه وهي تقوم من مكانها ...
نفضت ثيابها بسرعة وهي تقول ببساطة مفسرة موقفها:
_طفلة صغيرة كانت...
قاطع عبارتها وهو ينظر إلىها نفس النظرة الغريبة على عينيها قائلاً بتفهم:
_لقد سمعتكما.!!
عقدت حاجبيها بضيق للحظة وهي تشيح بوجهها عنه...
خطأ يا ميادة ...
خطأ!!!
عندما يرى أحدهم لحظة ضعفك فإن هذا يمنحه نقطة قوة...
فلا تسمحي بهذا!!!!
لهذا قلبت الأدوار بذكاء وهي تبادره بالسؤال:
_لقد قلتَ أنك تحتاج للتحدث معي...دعنا نجلس لنري مشكلتك.
نظر إليها للحظات وهو يشعر أنه حقاً أمام لغزٍ كبير...
هو يعرف الكثير عن ظروف نشأتها بطبيعة الحال...
في بداية الأمر كان ينظر إليها على أنها فتاة مدللة افتقدت تربية والديها فنشأت منفلتة بلا قيود...
وساعدتها دراستها في "الولايات المتحدة" على أن تكون أكثر تحرراً وانفلاتاً...
لكنه يتأكد كل يوم من خطأ هذه الفكرة...
ميادة ليست منفلتة ...
ربما تكون متحررةً بعض الشئ لكنها ليست فاسدة الأخلاق...
أفكارها غريبة شديدة العمليّة وكأنها لا تقيم للمشاعر وزناً...
بل إنها حقاً كذلك!!!
لكن موقفها الآن مع هذه الصغيرة جعله يفهمها

ماسة وشيطان   حيث تعيش القصص. اكتشف الآن