الثالث والثلاثون

21.5K 374 22
                                    


_صرتَ تجيد الحساب يا شيخ "محمد"!!
هتف بها عبد الله بحنان مشوب بالفخر وهو يرى الصغير يتناول النقود من أحد الزبائن في المحل ليقلبها بين أنامله الصغيرة وكأنه- حقاً -يعدها...
قبل أن يقول بصوت جاد رغم نبرته الطفولية:
_مضبوط!
هنا علا صوت عبد الله بضحكته دون تحفظ وهو ما كان غريباً على طبيعته الجادة...
لتلتفت له أنظار الجميع من عاملين وزبائن بمزيج من حنان وإشفاق...
وقد أدركوا أن الشيخ الذي حُرم من الإنجاب طوال هذه السنوات قد وجد ضالته أخيراً ولو في ولدٍ ليس من صلبه!!
ومن يدري؟!!
ربما منّ عليه القدر بذرية تحمل اسمه من زوجته الجديدة !!!
لكنه كان غافلاً عن نظراتهم بتعلق عينيه بالصغير "المعجزة"!!!
نعم...هكذا كان يراه منذ وقت ليس بالقصير!!
بالتحديد منذ تلك الليلة العصيبة التي علم فيها عن زواج صفا والتي شعر فيها أن هذا الطفل هو هدية القدر له كي يطفئ نيران قلبه ...
وقد كان!!!
فهو و الصغير يرتبطان كل يوم أكثر من سابقه...
ورغم أن علاقته بفتون لازالت متجمدة تحت ثلوج "شعوره بالذنب" ...
لكن علاقته بمحمد تبدو كشمس حب دافئة...
ومن يدري...ربما تذيب هذه الثلوج يوماً!!!
لكن الصغير قطع أفكاره وهو يضع كفيه الصغيرين على وجنتيه مع تساؤله ببراءة:
_متى سيكون لي لحيةٌ مثلك؟!
ابتسم عبد الله وهو يضمه إليه ليقول بحنان:
_عندما تكبر ستكون مثلي في كل شئ...كما تريد!
هنا رفع محمد رأسه إليه ليقول بنفس النبرة البريئة:
_وأتزوج اثنتين مثلك!!
هنا تغيرت ملامح عبد الله للحظات وقد دفعته كلمات الصغير- العفوية- لجحيم ذكرياته من جديد...
لكنه اغتصب ابتسامة باهتة على شفتيه مع قوله باقتضاب:
_إلا هذه!
رمقه الصغير بنظرة متسائلة لكنه عاد يشاغله بمنحه المزيد من النقود لعدّها...
فاستجاب الصغير بسرعة لتعود تعليقاته المرحة تملأ وجه عبد الله بضحكات صافية...
وفي ركن المحل الآخر وقفت -هي- تراقبهما بألم شق قلبها نصفيْن!!!
نظراته الحنون نحو الصغير كانت تخترق صدرها كسهام مشتعلة!!!

تلك النظرات التي تمنت يوماً لو يحملها لطفلٍ منها -هي-!!!
كانت ترتدي عباءة سوداء فضفاضة ...
و قد أسدلت نقاباً على وجهها حمدت له مداراة دموعها التي أحرقت وجنتيها وهي تراقب بعينيها خسارة عمرها!!
عبد الله نسيها!!
نسيها وانغمس في حياته مع امرأة ليست "هي"!!!
وطفلٍ ليس "منها"!!
يضحك الآن ملء شدقيه وهي التي تبيت لياليها غارقةً بدموعها!!!
انسلخ من جلد "عشق" ظنته سيبقى طوال العمر ...
وكم كانت واهمة!!!
فيالعقوقك يا "ابن قلبي"!!!
يالعقوقك!!
_تريدين شيئاً آخر سيدتي؟!
هتاف البائع قطع عليها نحيب أفكارها فهزت رأسها نفياً دون رد وهي تعاود التفاتها نحوه لتعطيه ما بيدها من نقود...
ثم تناولت منه ما -ادّعت- شراءه وقد عجزت عن منع دموعها التي أغرقت نقابها...
لتستدير بجسدها محاولةً اختلاس نظرة أخيرة من -معذبها- لتجده فجأة أمامها!!!
شهقتها العنيفة لفتت انتباهه فالتفت نحوها بدوره ليتعجب من هذه المرأة المنتقبة التي ابتل نقابها بدموعها...
قبل أن يعقد حاجبيه بشدة وهو ينظر لعينيها بشك!!
لكنها اندفعت تغادر المكان بسرعة تكاد تتعثر في خطواتها وتلاحقها نظراته التي غلبت لهفتها تشككها...
ولم تكد تستقل سيارتها حتى أخذت عدة أنفاس عميقة...
ثم ألقت رأسها على المقود تفرغ ما بقي بعينيها من دموع...
وقد فتّت لقاء -عينيهما- الأخير آخر صخور مقاومتها ليتناثر حصاها كالجمر المشتعل بين جنبات روحها...
عندما يمتزج لهب "الاشتياق" ب"ألغام" الانتقام فالانفجار قادمٌ لا محالة..
انفجارٌ س"تكون" هي ضحيته قبله!!!
بل "كانت" ...!!!
كانت وانتهى الأمر!!!!
لقد ظنت أنها ستجلده بسياط "خيانتها" له كما فعل هو...
لكنها اكتشفت أنها كانت تجلد نفسها -هي-
تجلدها بنظرات أنس ولمساته التي تطلبها بنفسها كل مرة...
ثم تنهار بعدها في بكاء صامت!!
تظن نفسها تروي ظمأ أنوثتها المطعونة...
لكن الحقيقة أنها كمن يشرب من ماء البحر فلا يزيده إلا عطشاً!!!
لقد تشوشت الرؤية في عينيها فصارت ترى علاقتها ب"أنس" خيانة...
بينما لا يزال وفاء قلبها ل"ابن قلبها"!!
فيالها من ضالة!!!
وعند خاطرها الأخير أطلقت آهة ألم عالية استودعتها كل مشاعرها المتخبطة...
قبل أن تتمالك نفسها بشق الأنفس لتعاود تشغيل سيارتها للعودة إلى منزلها...
منزل"عبد الله" والذي صار الآن ل"أنس"...
وهي- الحمقاء- لازالت لا تدرك تبعات هذا!!!
وخلف حطام ذكرياتها ما بين "نعيم" عاشته معه كعاشقة...
و"جحيم" هوت في سعيره بعده كعاصية...
تلونت أفكارها بين "حمرة" العشق و"سواد" الانتقام...
حتى فتحت أخيراً باب المنزل لتجده واقفاً أمامها يتفحصها لبضع لحظات بملامح جامدة....
قبل أن يسألها بلهجته التي تزيد عذابها بما تحتويه من ألم وعتاب:
_أين كنتِ يا ابنة عمي بهذا الزي؟!
أغلقت الباب خلفها برفق وهي تنتبه لملاحظته لما ترتديه...
وهو ما زاد ارتباكها و عصبية صياحها الهادر:
_كنت أينما كنت!!!
رمقها بنظرة عاتبة طويلة وقد بدا على وجهه- الشاحب -آثار معاناته بها...ولها...
لكن قلبها -المضطرب- تحسس -بطحة رأسه-بخطيئته العشقية...
فأخطأ تأويل "عتاب" نظراته إلى "شك" لم تكن لتسمح هي به!!!
فصمتت لحظة لتخلع عنها نقابها بحركة عنيفة وقد أخذتها العزة بالإثم لتعاود هتافها المنفعل:
_لماذا تنظر إليّ هكذا؟!!قبل أن تأخذك ظنونك بعيداً تذكر من أنا وما هي أخلاقي...صفا المعموري لن تفكر حتى مجرد تفكير بخيانة !!
كانت أنفاسها قد وصلت حد اللهاث في كلماتها الأخيرة واشية بما يجيش في صدرها من مشاعر صاخبة...
فاقترب منها ببطء لتلتوي شفتاه بابتسامة جانبية مع قوله وهو يشيح بوجهه عنها:
_الخيانة ليست بالجسد فقط يا ابنة عمي!

ماسة وشيطان   حيث تعيش القصص. اكتشف الآن