أكثر ما يدهشني في المجتمع الانجليزي هو ولعه بالقراءة ، فحينما دخلت أول مرة منزل زميلتي في العمل بيانكا فوجئت أنها وضعت المكتبة داخل المطبخ ، كان منظر الكتب وهي بجانب الصحون وكؤوس الشاي والقهوة وشطائر الخبز وحبات الطماطم والبصل غريبا فسألتها بكثير من الدهشة عن سر تواجد المكتبة داخل المطبخ !فقالت بيانكا مبتسمة : وهل من الضروري أن يكون للمكتبة حيّز محدد في البيت ؟
وعندما غادرنا المطبخ إلى الصالون كان المكان أيضا مكتظا بالكتب ، اكتشفت في الأخير أمرا رائعا : البيت كله مكتبة.
زيارتي لبيت بيانكا كانت خلال سنتي الأولى في هولندا بعد ذلك صار الأمر عاديا أن أشاهد الكتب في كل أرجاء بيوت الكثير من أصدقائي الهولنديين.
مع المدة إكتشفت أمرا آخر أكثر غرابة، فبعض البيوت اختارت أن تُخرج المكتبة إلى عتبة الدار بجوار الرصيف ليتسنى للجيران وللمارين من الناس أن يقتسموا مع أهل الدار متعة القراءة ، كان الأمر مدهشا حين رأيتُ بيانكا تتوقف بجوار أحد المنازل وتختار كتابا من داخل مكتبة على الرصيف ، رأيتها تتصفحه بعض الوقت ثم مالبثت أن وضعته داخل حقيبتها ومضينا ، ربما شعرتْ صاحبتي بدهشتي واستغرابي فسألتني : ” ألا تعتقد صديقي محمد أن الكتاب مثل الشمس ملكية مشتركة بين كل البشر ؟”
فشعرتُ أن بيانكا ومن فرط ذكائها قد منحتني جوابا متنكرا في هيئة سؤال .
آخر لقاء لي مع بيانكا كان قبل أكثر من عقد من الزمن حينما ذهبت لحفل عيد ميلادها أحمل في يدي كتابا لعبد المجيد بن جلون ” في الطفولة ” هديتي لها، لن أنس أبدا فرحة بيانكا بالكتاب ، اعتقدتُ وأنا أنظر إلى بسمتها أنها صارت أشبه بطفلة صغيرة حين تتلقى بشغف هديتها المفضلة ، حاولتْ بيانكا أن تتكلم بالعربي فقالت بلغة مفككة ومتكسرة لكنها لذيذة جدا ” لعلك يا صديقي تستفزني لتعلم العربية أكثر حتى أقرأ هديتك الجميلة ”
غادرتْ بيانكا نحو أقصى شمال هولندا وانقطعت عني أخبارها.
ها أنا وبعد أن قضيت أكثر من عشرين سنة في الغربة أكتشف أمرا جديدا ابتكره مؤخرا هذا المجتمع الراقي، ففي كل المحطات الكبرى للقطار بهولندا تم انشاء مكتبات مفتوحة طول أيام الأسبوع ، وتكَلّفَ المجتمع المدني بجلب الكتب للمكتبة، أليست فكرة رائعة، وأنت مثلا مسافر إلى مدينة أخرى أن تمر سريعا إلى المكتبة داخل المحطة، تأخذ كتابا لتقرأه طيلة مدة سفرك ، وعندما تصل إلى محطتك النهائية ستجد هناك مكتبة أخرى فتضع الكتاب وتمضي لحال سبيلك ليواصل الكتاب سفره اللامنتهي؟ وطبعا ممكن أن تأخذ الكتاب معك إلى المنزل لو أنك لم تنته منه بعد …
تصوروا معي حركيّة الكُتب المسافرة باستمرار وهي تنتقل من محطة إلى أخرى، من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب بل وقد تركب الطائرة إلى دول بعيدة جدا مادام القطار يصل إلى غاية مطار امستردام للطيران…
بقدر السعادة التي غمرتني وأنا داخل مكتبة محطة أتريخت للقطار أتفرج على الكتب باحثا عن كتاب مناسب ليصاحبني إلى مدينة اندهوڤن بالجنوب بقدر الاحباط الشديد الذي وجدته فجأة يسكنني !
كانت المكتبة ممتلئة بالكتب وبكل اللغات ، الهولندية والفرنسية والإنجليزية وحتى الصينية والتركية ، إلا الكتب بالعربية لم يكن لها أي أثر !
الجالية العربية هنا تعتبر ربما من أكبر الجاليات ، فهل تراها جالية لا تقرأ؟ العربية هذه اللغة الرائعة والجميلة، لغة بتاريخها الحافل وبضوابطها النحوية الدقيقة كيف صارت تتوارى أمام لغات أخرى أقل منها ؟ أكيد العيب ليس في اللغة لكن العيب فينا نحن …
عوض أن أخرج من المكتبة وأنا أحمل كتابا، حملتُ معي إلى القطار فكرة رهيبة جدا.
عزمت أن أعوض هذا الغياب المهول للكتاب العربي من مكتبتي الخاصة، أليس الكتاب ملكية مشتركة بين كل البشر كالشمس كما قالت بيانكا يوما ؟ سأجعل إذن شمس العرب تسطع في الغرب .
ملأتُ كيسا كبيرا من كتب مكتبتي واتجهت إلى مكتبة المحطة، صففت الكتب في أحد أدراج المكتبة، ترددت بعض الوقت وأنا ألقي آخر نظرة على كتبي التي أتهيأ للتخلي عنها ، ربما هو نفس الإحساس الذي شعرتْ به إليزابيت بطلة الفيلم الألماني ” اليتيم ” حينما كانت تضع رضيعها ذات ليلة ممطرة من سنة 1890 على عتبة كنيسة ، خشيتُ أن أتراجع عن فكرتي فهرولت خارج المكتبة تاركا كتبي لقدرها.
مر أكثر من أسبوع فعدت من جديد ذات صباح إلى مكتبة محطة القطار ، كان شعورا غريبا ومتناقضا يصاحبني طوال الطريق، كنت متلهفا لمعانقة كتبي من جديد لكني كنت أتمنى أكثر أن لا أجدها … ككل أب يعشق حد الهوس بناته ومع ذلك يريد لهن حياة أخرى بعيدة عنه .
لم أعثر على كتبي وهذا شيء رائع ، لكني وجدت كتابا بالعربية وحيدا فوق الرف الأعلى، لم أكن أنا من وضعه في مكتبة المحطة، ربما أتى من محطة أخرى حمله أحد المسافرين ؟ أخذت الكتاب في يدي وأنا أقرأ بدهشة العنوان “في الطفولة ” لعبد المجيد بن جلون، نط سؤال كبير أمام عينيّ الجاحضتين ” هل مرت بيانكا من هنا ؟ ”
أنت تقرأ
جَسدٌ يُجيدُ الحِواراتِ الصَامتَة.
Short Story#القصه-القصيره #واقع مبنيه علي احداث واقعيه ------*-----------*----------*---------*-------*aya يحكى بأنّ فتاة شعرت بالغضب لعدم تحقق ما تتمنى وفي يوم ميلادها في تمام الساعة الحادية عشر وإحدى عشر دقيقة تمنت الموت وماتت! في الحقيقة أنا أيضاً تمنيت أ...