اللطيم

7 1 0
                                    


لا أعتقد مطلقا أن مشكلتي أو بالأحرى مصيبتي لها حل أو يمكن بسهولة التخلص منها؛ لأنها مع الأسف عالقة بي، فمنذ يوم ولادتي وأنا أحملها معي أينما حللت وارتحلت. أشعر بأنني حينما أمشي فهي تمشي معي وحين أجلس تجلس أيضا معي، حتى عندما أنام أشعر بثقل بدنها ينهك بدني، أشعر وكأن كل هذا العمر الذي عشته لم تمنحني هذه المصيبة ثانية من الزمن لكي أسترد القليل من عافيتي، هل تتخيلون حجم الورطة عندما تكون المصيبة التي تعاني منها تلبسك من أعلى رأسك إلى أخمص قدميك؟

مصيبتي هي اسمي، أنه يلبسني كما يلبس الجلد الجسد فهل سمعتم قط أن جسدا استطاع التخلي عن جلده؟ لا أدري من سماني “اللطيم”؟، اللطيم في اللغة هو الصبي الذي فقد والديه معا، فكنت كلما ناداني أحد باسمي إلا وأتذكر مصيبة مولدي، هل قلت “أتذكر”؟ يا للسخرية أكيد لم أكن دقيقا بالمرة في اختيار هذه الكلمة، فهل أنا أصلا أنسى حتى أتذكر؟ مات والدي وأنا في أحشاء والدتي التي ماتت أيضا لحظة مولدي، يقال إن امرأة كانت تحملني ساعة الجنازة فسمع من كان حولها تبكي وتقول بحزن شديد: “ما أشقى مولدك أيها اللطيم”.. وبعد مرور يوم، صرت معروفا بين أهالي القرية باسم “اللطيم”. لم يُحتفل بتسميتي في اليوم السابع، كما جرت العادة؛ فالحياة حينما تأتي على أنقاض حياة أخرى تكون غير جديرة بالاحتفاء.

ولأني لا أملك أسرة أو بيتا يأويني فلقد تربيت وترعرعت وسط أكثر من أسرة وبيت.. ساقني القدر أول مرة إلى بيت إمام المسجد الكبير؛ لكني، طوال السنوات السبع التي قضيتها مع الإمام، لم يعلمني طريقة الوضوء والصلاة أو الصيام.. كان مهتما أكثر بأن أتعلم علوم الحياة، قال لي مرة: “العلم هو الطريق إلى الله وعندما تعرف الله حقا سوف تحسن عبادته، بئس من عرف العبادة ولم يعرف الله”، بعد صلاة العشاء وقبل أن أنام قلت له: “إني أحبك أيها الإمام”، ابتسم في وجهي وقال: “يقول الشيخ الأكبر ابن العربي: الحب موت صغير”.

لم أدر ما علاقة الحب بالموت؟ بت تلك الليلة أفكر في كلام ابن العربي ونمت نوما مضطربا ومتقطعا أنتظر بشغف كبير أولى بوادر الصباح لكي أستفسر الإمام، لكنني حين بحثت عن الإمام ساعة الفجر لم أجده في خلوته، كان قد ركب دابته وسافر إلى بلاد الله البعيدة مقتفيا طريقا يوصله الى الله كحال جل المتصوفة والأخيار.

ساقني قدري من جديد إلى بيت فلاح في القرية.. غمرني الرجل وامرأته العاقر بكثير من الحب والحنان، أحببت فلاحة الأرض كما أحببت الأسرة والبيت الذي آواني وبت أعتبرهما أسرتي وبيتي… يا لسخرية القدر حين اكتشفت حجم الوهم الذي عشته لسنوات، يوم رُزقت زوجة الفلاح بطفل شعرت أني كنت طوال هذه السنين مجرد ممثل لعب دور الكومبارس، وأن مهمتي التي أتيت من أجلها قد انتهت بقدوم البطل الحقيقي، كنت فتيل شمعة أضاء على استحياء ليل هذا البيت، ترى من سيغريه ضوء شمعة حين تتربع الشمس كبد السماء؟

جَسدٌ  يُجيدُ  الحِواراتِ  الصَامتَة.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن