مشفي الموت

9 5 0
                                    


بحكم نشاطي التطوعي في مجال الرعاية الروحية فاني أحتكّ كثيرا بشريحة خاصة جدا من الناس، لقد عُهد إليّ بزيارة أولائك الذين وقف الطب عاجزا أمام حالتهم وينتظرون فقط الوفاة!

غالبا، الأشخاص المرضى الذين تُحال ملفاتهم إلى مكتبي أجدهم في تلك المرحلة ما قبل الأخيرة من الموت، بحيث أنهم مازالت لديهم بعض القدرة على الكلام والحركة وحتى الابتسامة...

هذه المرحلة تُشبه كثيرا قاعة الانتظار داخل عيادة ، قد نتسلى ونحن ننتظر دورنا بقراءة جريدة أو كتابة رسالة قصيرة على الهاتف الصغير أو ربما نتابع بعينين شاردتين عبر النافذة أُناسا وهم يمشون في الطريق أو فقط نجلس نحملق اتجاه الباب ننتظر متى تطل الممرضة برأسها لتنادي من عليه الدّور!

قطعا هو شعور مملّ وكئيب عندما تجلس لساعة تنتظر الطبيب، تصور معي كيف يكون ذلك الشعور عندما يكون من تنتظره هو ... الموت


زياراتي تُبرمج خارج الأوقات المسموح بها للزيارة حتى يجد المريض الحرية للحديث إليّ ، فعندما نغلق علينا باب الغرفة لا يكون بداخلها إلا أنا وهو!

مهمّتي الأساسية أن أنصت إليه وأن أتفاعل مع حديثه مع الاحتفاظ قدر الامكان بابتسامة لا تفارق شفتيَّ .ربما أقسى تحدٍّ أواجهه في مهمتي ، كيف أرسم ابتسامة في اللحظات الأكثر بؤسا، كيف أبدو متفائلا في عز ساعات اليأس



ذات صباح زرت السيدة جاكلين ومن خلال ملفّها الذي إطّلعت عليه بالأمس عرفت أنها في العقد السابع من عمرها تعاني من الضغط ومن القلب ايضا.

طرقت باب غرفتها بلطف ثم دخلت ، كانت نائمة، فاقتربتُ أكثر من السرير فوجدتني أمام امرأة لم يعد يربطها بالحياة إلا نَفٓساً متقطعا وخشخشة تُسمع من داخل قفص صدرها المهتز، جلست على كرسيّ كان بجانب سريرها وصرت أتأمّلها، كل شيء فيها كان يوحي بالنهاية ارتعاش جسم نحيل ولون متشح بدثار الموت، فقط الروح كانت ماتزال مصرّة أن تسكن هذا الجسد الفاني ،

رأيتُ صورة شاب فوق طاولة صغيرة موضوعة بجانب السرير أخذتُ الصورة وصرت أحاول أن اكتشف أي شبه بين الشاب والمرأة النائمة أمامي ، كانت محاولة بائسة، فهل نَشبِّه الأحياء بالأموات؟

سمعتها فجأة تخاطبني :” انها صورة ابني الوحيد مارتن ” ، فقلت مبتسما وانا أنظر إلى الصورة ” إنّه يشبهك كثيرا السيدة جاكلين ” ، أسعدها تعليقي ( الذي فيه الكثير من المحابات والمجاملة) على الصورة، وبدتْ أكثر حماسة ورغبة في الكلام، فقالت: ” لا أشعر بالوحدة بتاتا داخل هذا المستشفى الكبير، مادام مارتن بجانبي ويزورني كل ليلة ” ، سكتتْ بعض الوقت ثم أخذتْ الصورة بين يديها فصارت تلامس بأنامل مرتعشة تفاصيل ملامح وجهه، الأنف والشفتين والشعر والعينين … قبل أن تتنهد وتقول :” ألم يحن قلبك بعد لوالدتك العجوز ؟ لماذا يا ولدي تأتني فقط في المنام أريدك أن تأتني في اليقضة ايضا! ” سكتت من جديد ووجدتها تنظر إليّ بعينين مكتضتين بالدمع وتقول : ” هل رأيتَ امرأة بهذا الطمع ؟ إني أريده في المنام واليقضة معا!”

جَسدٌ  يُجيدُ  الحِواراتِ  الصَامتَة.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن