الفصل الثامن عشر

5.4K 148 2
                                    

واقفة تنظر بتوتر إلي رواد المعرض، تشعر بتوتر كبير يسيطر عليها، فاليوم يعتبر أول يوم لانطلاقها في حياتها العملية وردود أفعال النقاد ستبني عليها حياتها القادمة
تتلفت وتنظر حولها لتتوقف فجأة وتنظر بتركيز إلي القادم نحوها يبتسم باتساع
جزت على أسنانها وهي تنظر إلي الفتاه الرقيقة المتأبطة ذراعه
فكرت وهي تراها " من هذه الفتاه؟ لا تشبه فتياتك وليد "
انتبهت من أفكارها على صوته وهو يقول بابتسامته الماكرة: كيف حالك يا صديقتي العزيزة؟
نظرت له وشرارات الغضب تنطلق من عينيها ولكنها قالت بصوت هادئ: مرحبًا وليد، كيف حالك؟
ابتسم بسعادة: بخير الحمد لله.
نقلت نظرها إلي الفتاة الواقفة بجانبه فقال بابتسامة متلاعبة: الآنسة إيمان، أصرت أن تحضر معرضك فأتيت بها معي.
التفت إلي ياسمين وقال بهدوء: جاسي صديقة مقربة لي كما أخبرتك من قبل.
ابتسمت الفتاة بتهذيب وقالت وهي تصافح ياسمين بحفاوة: تشرفت بمعرفتك.
جزت ياسمين على أسنانها وقالت برسمية: أنا الأخرى سعيدة بتشريفك لمعرضي.
قالت إيمان بهدوء: حسنًا وليد سأذهب وانظر إلي اللوحات، فأنا مشتاقة لرؤيتها جميعا.
قال بتلقائية: اختاري ما يعجبك لتضعيه في غرفتك كما أخبرتني، ولا تهتمي حبيبتي كل ما تريدينه سأجلبه لك.
اتسعت عيناها وهي تسمعه يتفوه بتلك الكلمات وشعرت أنها تريد تحطيم رأسه جزت على أسنانها قويًا لدرجة أن صداعًا لحظيًا أصابها من جراء فعلتها، التفت إليها وابتسامته الماكرة متعلقة بشفتيه، لتنظر إليه هي بغضب وتتمنى أن تمحو تلك الابتسامة بأن تلكمه لكمة قوية تذهب بأسنانه البيضاء المنمقة.
قال بهدوء مستفز: أين هشام بك؟
رفعت حاجبها بتعجب واستنتجت أنه لم يعلم بفسخها لخطبتها من هشام تراقصت عيناها بمرح وهي تفكر في أنه أتى برفيقة له كي يثير غيرتها، كما يغار هو من هشام فقالت بهيام: سيأتي بعد قليل، هاتفني منذ قليل وأخبرني بسعادته لانطلاق أول معارضي.
نظر لها من بين رموشه وقال ببرود: كنت أتمنى أن أبارك له أيضًا.
ثم اقترب منها وقال: وكنت أتمنى أن أبارك لك بطريقة مختلفة ياسمين، ولكنك تضعين بيننا حواجز كثيرة لا أستطيع المرور منها.
نظرت له بطرف عينها وقالت بهدوء: أنت من بدأت ببنائها وليد.
همس بصوت عذب: أستطيع هدمها لو تريدين ذلك.
رفعت رأسها في كبرياء وقالت: لأول مرة تتعرف على فتاه ملتزمة، أم أن الحجاب نوع من أنواع النيو لوك
زفر بضيق وقال بحنق: لأنها ليست كباقي فتياتي.
ضيقت عيناها وهي تقول: ما مدى اختلافها؟
ابتسم باتساع: مختلفة كثيرًا، ثم زم شفتيه بجاذبيه: ما رأيك بها؟
قالت بابتسامة مرحة على الرغم من غضب عينيها: إنها رائعة.
نظر إلى إحدى اللوحات باهتمام و اقترب منها وقال بلا مبالاة: أفكر في الاستقرار.
رددت بدهشة: الاستقرار؟
هز رأسه بالإيجاب: آه، نعم لقد قاربت على الخامسة والثلاثين وأريد أن أتزوج وأنجب العديد من الأطفال الرائعين.
اتسعت عيناها بقوة ورددت: الأطفال الرائعين.
أدار لها ظهره ونظر إلي اللوحة وهو يكتم ضحكته: آه نعم لذلك أسألك عن رأيك بها.
شعرت بالغضب يتفجر بداخلها وقالت بحنق: لماذا أتيت اليوم وليد؟
نظر لها وقال بتلقائية مفتعلة: لأبارك لك طبعًا، أتتخيلين في يوم من الأيام أن أفوت إحدى مناسباتك ولا أحضرها؟ ستبقين صديقتي العزيزة ياسمين مهما حدث.
قالت بحنق وهي تقبض كفيها بقوة: وأنا قطعت صداقتي بك.
ابتسم باستفزاز: ولكني لم أفعل.
احمر وجهها بقوة ونظرت له بغضب فاقترب منها وهمس: وأريد أن أصبح اقرب منك لنفسك ولكنك تدفعينني بعيدًا.
رفعت رأسها بكبرياء: تأخرت كثيًرا وليد.
نظر إلي عينيها البنية ولمع الحب بعينيه: أعتذر عن التأخير حبيبتي، وأتمنى أن تغفري لي تأخري.
انتفض قلبها بقوة وهي ترى لمعة الحب بعينيه ولم تستطع النطق، فقدت الكلمات لديها معانيها والحروف فقدت أبجديتها، بل تبقت لديها معاني كلماته هو المنبعثة من عينيه وأبجديته هو التي بثها برقة وهدوء من عينيه وهو يصف اشتياقه لها الأيام الماضية، نفضت رأسها بقوة وهي تلوم نفسها على انجذابها له بتلك الطريقة ، ابتعدت عنه وهي تشعر بالخوف من انجرافها له وذكرت نفسها بالمليون مرة التي كانت أمامه وذهب إلي أخرى غيرها
انتبهت من أفكارها إلي صوت الآنسة إيمان تقول بهدوء: وليد أريد أن أعرف رأيك بلوحة ما هناك.
ابتسمت بسخرية وهي تلتفت لتراه ينظر لها بلوم ثم يلتفت إلي الأخرى مبتسما: حاضر حبيبتي.
اقترب منها وقال هامسا: للحديث بقية ياسمين.
قالت ببرود: اذهب إلي أم أطفالك الرائعين وليد، حتى لا تغضب منك وترفض عرضك الرائع بالاستقرار.
ابتسم بألم: إلي الآن تتخلين عني ياسمين.
قالت بتحدي: كما فعلت أنت من قبل.
هم بالرد لتقاطعه: اذهب وليد، اذهب
***
ينظر إليها بطرف عينه وهي تتأفف للمرة المليون، ابتسم وهو يرى وجهها الذي يسطع بتكشيره طفولية تجعله يفكر في أن ينهال عليه مقبلاً كل انش منه  التفت إلى كريم واخذ يلاعبه ويناجيه بهدوء، لتتأفف هذه المرة بصوت أعلى
قال بهدوء: نودا، أتسمحين وتتكرمين وتعدي لي كوبًا من القهوة الفرنسية اللذيذة
التفتت له في حدة وهي تضيق عيناها بغضب فأتبع متسائلا: هل أنت غاضبة مني؟
زمت شفتيها بحنق فقال: لماذا حبيبتي؟ ماذا فعلت لك لتغضبي؟
انتفضت واقفة وهي تصيح: ألا تعلم حقا هشام؟
نظر لها ونقل نظره لكريم ثم نادى المربية وطلب منها بلطف أن تصحب كريم معها
ليقول بهدوء بعد انصرافها: انتبهي هنادي ولا تصيحي بي مرة أخرى هكذا أمامه.
عقدت ساعديها أمام صدرها وزمت شفتيها بحنق لتغادر سريًعا من أمامه.
تنهد بقوة وهو يراقب انصرافها لينهض ويذهب خلفها، فتح باب الغرفة ووقف ينظر إليها وهي تتحرك بعصبية شديدة، لوى شفتيه واقترب منها بهدوء:
ألن تخبريني  سبب غضبك هنادي؟
نظرت له وقالت بغضب: لا أفهم كيف لا تعرف إلي الآن ما سبب غضبي منك؟
ابتسم بهدوء: أخبريني حبيبتي، ما سبب غضبك؟
جزت على أسنانها وقالت بنبره غاضبة: أنت لم تستأذنني هشام في الإتيان بتلك المربية.
نظر لها مليًا ووضع سبابته خلف أذنه وقال بقوة: ماذا قلتي، لم أفعل ماذا؟ 
ازدردت لعابها وهي تكمل: أنا والدة كريم إذا تناسيت ذلك.
قاطعها بنبرة قوية: وأنا والده وأنا من يقرر ما الذي سيحدث له الأيام القادمة.
اتسعت عيناها وقالت بحنق: ألا يحق لي أن أشاركك القرار؟
أشار لها بيده: أسمعت؟ تشاركينني وليس أن استأذن سيادتك، وأنا من له القرار النهائي في كل الأمور هنادي.
واتبع: ثم أن الطبيب أبلغني أنه أخبرك بموضوع المربية من قبل، ولكن لم تكن لديك قدرة مالية عليه. أنا لدي القدرة أن أُحضر له مربية تعتني به وتعجل من شفاؤه. ثم إني فكرت في أن أريحك قليلاً، وتنتبهي لعملك بطريقة أفضل.
ثم نظر لها بهدوء وأكمل بمكر: وتتفرغي لي قليلاً، لأن كريم يأخذ كل وقتك تقريبًا.
أشاحت بعينيها بعيدًا عنه: من فضلك لا تفعل شيئاً آخر دون أن تخبرني.
جز على أسنانه غضبا وقال بقوة: لست طفلاً صغيرًا لتتعاملي معي بتلك الطريقة هنادي أم لم تلاحظي أني كبرت وأصبحت رجلاً كبيرًا أستطيع أن أحدد ما في صالح ولدي؟
زفرت بضيق: لم أقصد ذلك، كل ما أريده أن تشركني معك هشام وهذا من حقي.
ابتسم بلطف وهو ينحي مشاعره السلبية اتجاهها و هجوم عقله عليها جانبًا: من عيوني.
اقترب منها بهدوء: ما رأيك أن نخرج لتناول العشاء؟
ابتسمت: سأعد كريم حالًا.
مسكها من يدها: لا اتركي كريم حتى لا يتأخر عن موعد نومه، سنخرج بمفردنا.
اعترضت: ولكن كريم
لامس وجنتاها بسبابته: لا تقلقي، المربية ستبقي معه إلي أن نأتي.
هزت رأسها باستسلام: حسنًا سأرتدي ملابسي حالاً.
وضع رأسه برأسها وقبل طرف أنفها برقه: على راحتك حبيبتي.
***
أسندت رأسها إلي حافة الفراش بإرهاق. إلي الآن تشعر بالدوار من الرحلة، كم شعرت بالخوف والطائرة تقلع عن الأرض، وكم تشبثت به وكم هدأها بمرحة وخفة ظله وأنساها الخوف، دمعت عيناها وهي تتذكر رقته معها، كم هو رقيق وحنون أخيها الحبيب، تنهدت بقوة وهي تستمتع بحلاوة اللفظ، وجمال الكلمة، أخيرًا أصبح لها أخ وسند يعتني بها ويأتي بحقها ويقف بجانبها ويدرأ عنها الظلم، ظلم الأيام والسنين التي عاشتها وحيدة، ظلم وأنانية عمها و والدتها. أغمضت عيناها وهي تتذكر عندما كان يأتي دائمًا ليلاً يطمئن عليها وكأنها طفلته وليست أخته الكبرى كم سألها عن سبب دموعها التي لا تجف ويسأل بمرح من أغضبها وهو لن يجعله ينام ليله هانئًا. ابتسمت باستنكار ومن كان سبب دموعها هو السبب بضحكاتها الفترة الماضية، سبب إقبالها على الحياة بل هو السبب الرئيسي في قدومها لهم، وقربها منه، انتبهت من أفكارها على صوت هاتفها يرن، ابتسمت وهي ترى اسم ياسمين يلمع
ردت بهدوء: كيف حالك؟ أخبريني ما أخبار المعرض؟ وكيف كانت ردود الأفعال؟
قالت ياسمين بعصبية: المعرض بخير وردود الأفعال جيدة.
عقدت ليلى حاجبيها: لم العصبية إذًا ؟
قالت بانفعال غاضب: لقد أتى.
فكرت ليلى قليلا لتقول: من؟ وليد؟
ردت بحنق: نعم
ضحكت ليلى وقالت: ولماذا أنت غاضبة إذًا؟
قالت ياسمين بعصبية: أتى ليقهرني ليلى، أتى ومعه فتاه ويقول أنه يريد الاستقرار ومن وقاحته يسألني عن رأيي بها.
ضحكت ليلى بقوة وقالت: أيتها الغبية ألا تعلمين أنه يريد إثارة غضبك وغيرتك؟
زفرت ياسمين بقوة: أعلم ليلى ولكن هذا لا يمنع من أنه أتى ليقهرني.
سألت ليلى بهدوء: هل أخبرته بفسخ خطبتك من هشام؟
كحت الأخرى وقال بتوتر: لا، بل عندما سأل عنه أخبرته أنه سيأتي قريبًا.
صاحت ليلى: لماذا؟
قالت ياسمين بضيق: كان سيعلم ليلى أني فسخت خطبتي من أجله.
تنهدت ليلى: لقد حذرتك ياسمين ألا تدفعيه بعيدًا.
قالت الأخرى بألم: ولن أستطيع أن أجذبه نحوي ليلى. لابد أن يأتي بمفرده وهو مقتنع بذلك.
ابتسمت وهي ترى بلال يستأذن في الدخول وقالت لها بهدوء: نعم معك حق.
ضحكت وهي ترى بلال يقول بصوت عال: ألن نتخلص من إزعاجك ياسمين؟
سحب الهاتف من يد ليلى: سافرنا إلي لندن وأنت كما أنت تثرثرين على الهاتف وتزعجين ليلتي الغالية.
قالت ياسمين بتأفف: وأنت لم تغيرك لندن ما زلت مزعجًا وتتدخل بأحاديثنا.
ضحك بقوة: أخبريني ما أخبار معرضك وكم لوحة تبقت؟
ابتسمت وقالت مغايظة: كلها باقية.
قال بصدمة: كلها، طبعًا لا تتذكرين وعدي الأحمق لك.
ضحكت بخفة: لا بالطبع أذكره وسأطالبك به عندما تعود.
قال برجاء: ياسمين يا عزيزتي، أنا مثل أخيك الصغير لا يرضيك أن أفلس بسبب لوحاتك.
ضحكت بقوة ولكنها صمتت وهي ترى ذلك الشاب الواقف أمامها، وينظر إليها بنظرة تقييمية، فقالت بهدوء: بلال سأذهب الآن، أحد رواد المعرض أتى متأخرًا عن موعد إغلاق المعرض
قال بلال بمرح: حسنًا اذهبي وأنا سأدعو الله أن يبتاع إحدى اللوحات حتى يخفف عني قليلاً
ابتسمت وقالت: سلام.
أغلقت الهاتف وتقدمت منه وهي تبتسم: هل أستطيع خدمتك؟
ابتسم وهو يدير عيناه عليها وقال: بالطبع تستطيعين.
***
دق الباب بدقة منتظمة، فقال بهدوء: ادخل.
ابتسم باتساع وهو يراه يدلف بخفة كعادته ويبتسم: كيف حالك الآن؟
وضع الكتاب الذي كان يقرأ به وقال بترحيب: تفضل، أنا بخير والحمد لله.
ابتسم خالد: الحمد لله، أتيت اطمئن عليك.
ابتسم أمير بامتنان: أشكرك يا صديقي.
تنهد خالد: لا داعي للشكر أمير، أخبرني عن نتيجة الأشعة.
هز رأسه وقال بجدية: جيدة، كما توقع وجيه سأحتاج إلي بعض العلاج الطبيعي ولكن ليس كثيرًا.
ابتسم خالد بفرح: حسنًا أخبار جيدة.
نظر له بتفحص وقال بجدية: ماذا بك؟
نظر له خالد باندهاش وقال: لا شيء.
ضحك أمير: لا يا بك، أشعر أنك حزين، هل حدث شيء لبيت سيادة السفير؟
هز خالد رأسه نافيا وقال بهدوء: لا جميعهم بخير.
نظر له أمير مليًا فقال خالد بحنق: عبد الرحمن.
ضحك أمير وتأوه تعبًا فابتسم خالد: اعتدت عليه.
تنحنح أمير: أخبرني ما بك؟
قال بألم: أريد أن أعلم من قتل أخي، ولا تخبرني أنه لا فائدة من ذلك وأن باسم كان يستحق، فأنا أعلم ذلك ولكني أريد أن أعلم أيضًا من الذي قتله؟
قال أمير بجدية: لن أخبرك بذلك رغم أنه صحيح ولكني سأخبرك أنه طريق محفوف بالمخاطر، وعليك أن تتذكر الطفلين والسيدة منال، ستخاطر بنفسك وتتركهم لمن؟
قال بجدية: أنا سأفعل ذلك حتى لا يسألني أحمد عندما يكبر عن أبيه الذي لم اثأر له.
__أنت جاد إذًا ؟هز رأسه بالإيجاب فقال أمير: احذر خالد، لن يكون الأمر سهلاً.
ابتسم خالد: لا تقلق، اهتم بنفسك فقط.
تنهد بقوة: إن شاء الله
قال بخالد وهو يبتسم بخبث: لم تسألني عن ليلى؟
ابتسم الآخر ببرود: لأني أعلم أخبارها.
رفع حاجبيه بدهشة: حقا؟ من أين علمت؟
قال أمير بابتسامة: عصفورة حسناء أتت وأخبرتني.
ابتسم خالد بمكر، وقال بلامبالاة: إذًا أنت تعلم أنها سافرت اليوم.
التفت له في حده: سافرت، إلي أين؟
نظر له خالد بتعجب: ألم تقل أنك تعلم أخبارها؟
قال أمير: نعم فاطمة أخبرتني أنها تركت العمل ولكنها لم تخبرني بأنها سافرت.
عقد خالد حاجبيه وقال بتعجب: فاطمة !!
قال أمير بهدوء: نعم أتت لزيارتي اليوم.
هز خالد رأسه: من المؤكد أنها لا تعلم، فليلى أخبرت منال منذ فترة أنها ستسافر مع والدتها إلي لندن.
قال الآخر بجمود: إذًا قررت أن تجري العملية وتتبرع لوالدتها.
عقد خالد حاجبيه وقال: أية عملية؟
نظر له أمير وقال بجمود: لا شيء.
تنهد خالد وقال: حسنا، سأنصرف أنا، فطائرتي تقلع فجرًا.
ابتسم أمير: تعود سالمًا، إن شاء الله.
ابتسم خالد: أراك على خير، سلام.
تنهد بقوة بعد انصراف خالد وهو يفكر بها، ما الأمر الذي دفعها للموافقة على إجراء العملية، والأهم هل سامحت والدتها ولذلك عادت إليها، هل ستستمتع إلي أنا الآخر وتسامحني على ما فعلته معها؟ هل ستتفهم ظروفي؟
تنهد مرة أخرى ونظر إلى الكتاب الذي كان يقرأ به فشعر بعدم الرغبة في إكماله زفر بضيق ورأسه تمتلئ بالأفكار والمخاوف من موقفها الذي ستتخذه منه فكر بهدوء: إنها تحبك أمير،
ابتسم بسخرية: بل تحب عبد الرحمن، السائق عبد الرحمن
تنهد بقوة: ماذا ستفعلين ليلى عندما تكتشفي من أنا، ماذا ستفعلين؟
***  
نظرت له بغرابة فسأل بهدوء وهو يبتسم: أريد أن اسأل عن تلك اللوحة.
تأملته مليا فقال بضحكة جانبية: هل أشبه أحدًا تعرفينه؟
هزت رأسها وهي تقول: نعم أشعر أني رأيتك من قبل.
لمعت عيناه ببسمة وقال: حقًا؟ لم أقابلك من قبل وإلا لكنت تذكرتك. من ينسى هذا الوجه الجميل؟
قالت بمهنية: أشكرك.
تكلمت معه عن اللوحة وهو ينظر إليها متأملاً، ويفكر كيف تركها أخيه الغبي تذهب من بين يديه. انتبه من أفكاره على صوتها: هل تريد أن تعرف شيئاً آخر عن اللوحة؟
هز رأسه نافيًا: لا شكرًا.
نظر لها طويلاً فتنحنحت بهدوء وقالت بجدية طغت في عينيها: شيء آخر؟
ابتسم: بالطبع، هلا صحبتني في جولة للمعرض بعد إذنك
ابتسمت بهدوء: للأسف لقد أتيت متأخرًا عن موعد المعرض. من الممكن أن تأتي غدًا، فالمعرض مستمر للغد.
نظر لها من بين رموشه: من أجلك آتي غدًا مرة أخرى.
نظرت له بتعجب: ماذا تريد أيها السيد؟
قال ببرود: اسمي وائل.
لا يهم، أريد أن أعرف ماذا تريد الآن؟
ابتسم: لا شيء، أراك غدًا.
رفعت حاجبيها بدهشة وهي ترقب انصرافه من أمامها وهي تفكر " لماذا أشعر أني اعرفه؟ "
***
نظر إلى أخته التي تثرثر بمرح وهو يشعر بسعادتها انتقلت إليه، استمع إليها بإنصات وهي تمدح ياسمين وتمدح اللوحات قالت بمرح: متى ستذهب لتخطبها؟
ابتسم بهدوء: قريبًا إن شاء الله، أرى أنك متحمسة لها.
هزت رأسها وعيناها ترقصان بمرح: بالطبع، إنها جميلة ومرحة، وأنا متأكدة أنها تحبك.
رفع حاجبيه بدهشة وقال: يا سلام من أين أتيت بذلك التأكيد؟
ابتسمت إيمان بمرح: من عينيها أخي، ثم أنها غيورة جدًا، فعندما رأتني كانت تريد أن تحطم المعرض على رأسي ورأسك، ألم تخبرها عن هويتي؟
ابتسم بمكر وقال مغايراً للحديث: أين تريدين الذهاب غدًا ؟
قالت بتوتر: غدًا ؟ لا أريد أن أذهب معك إلى أي مكان، فأنا مرتبطة بموعد مع صديق لي.
عقد حاجبيه وردد مؤكدًا: صديق لك، أم صديقة؟
ابتسمت: بل صديق لي من الجامعة.
أوقف السيارة والتفت لها بهدوء: ما مدى علاقتك به إيمان؟
تلعثمت واحمرت وجنتاها فقالت بهدوء: إنه زميل لي، كان زميلاً لي ثم تخرج السنة الماضية من عائلة محترمة وحيد أبويه ملتزم وهو من شجعني على الالتزام. أمي تعرفه جيدًا وتعرف والدته وهو صديق لأحمد. أنه يريد أن يتقدم لي ولكني أريد أن أتقرب من شخصيته، وأمي تعلم عن موعدنا غدًا.
ينظر لها مندهشًا، لا يستطيع التصديق بأن أخته الصغيرة كبرت إلي هذا الحد، وستصبح عروسًا قريبًا. ابتسم وقال بلطف: لماذا تخبريني إذًا؟ من الواضح أن أمي على دراية به وبعائلته وتشجع تلك الزيجة.
احمرت وجنتاها بقوة وقالت بتلعثم: أريدك أن تأتي غدًا وتتعرف عليه.
اتسعت ابتسامته وهو ينظر إليها بتقدير: حسنًا سآتي لأعود بك إلى المنزل وأتعرف عليه.
ابتسمت بخجل: شكرًا على تفهمك أخي.
ربت على خدها بحنان: أنا أثق بك إيمي، ما رأيك أن أصحبك إلي العشاء في أفخر المطاعم.
صفقت بيديها مرحبة: طبعًا موافقة.
انطلق بسيارته مرة أخرى لتعود هي ثانية إلى الثرثرة عن ياسمين وتسأله عن أشياء عديدة خاصة بها. ابتسم على مرحها الدائم وأجاب عن معظم أسئلتها وهو يفكر بتلك العنيدة التي لازالت تصر على البعد عنه.
***
جلس بجوارها: ألا زلت تعانين من الدوار والصداع؟
ابتسمت: أنا بخير بلال، لا تقلق.
__حسنًا، انهضي سنذهب في نزهة جميعًا. فإيني صدعتني من كثرة ثرثرتها على الخروج الليلة.
__اذهب معها.
هز رأسه نافيًا: دونك لا يمكن، هيا انهضي وارتدي ملابسك لنتنزه جميعنا.
هزت رأسها موافقة لتنهض ببطء وتبدأ بترتيب ملابسها.
أنعشت نفسها بحمام دافئ وخرجت لترتدي ملابسها، وعندما انتهت من ارتدائها أمسكت حجابها لتلفه حول رأسها بإحكام كما اعتادت، لترتجف يديها بقوة وهي تشم رائحته قريبة من أنفها التفتت تبحث عنه بحدة، وهي تسأل نفسها من أين أتت رائحته بتلك الطريقة القريبة نظرت إلي نفسها في المرآة واشتمت رائحة حجابها لتنفضه من بين يديها بقوة بعد أن تأكدت أنه مصدر الرائحة. فهذا هو نفس الحجاب الذي سقط عن رأسها وهو يعترف لها بحبه، لابد أنه التقط رائحته بسبب قربه الشديد منها، وهو أيضًا الحجاب الذي أخفته من أمام عيناها حتى لا يذكرها بذلك اليوم، ما الذي أتى به إلي هنا؟ قبضت كفيها ووقفت تنظر إلي حجابها الجاثم على الأرض لا تعلم لم رأته كأنه كفن يحيط بقلبها. جلست بوهن على ركبتيها وهي تتوسل لعينيها آن تذرف الدموع ليس من أجله هو بل من أجل أن ترتاح ولو قليلاً، تأملت حجابها وهرعت إليه وهي تشعر بأنه الذكرى الوحيدة المتبقية منه، إنه شاهد الأمل الذي يخبرها بأنه كان موجودًا، أن اعترافه كان حقيقيًا، أنها لم تتوهم وجوده، أنها لم تحبه بمفردها بل كان يحبها هو الآخر. أمسكت قماش حجابها بحنان وهي تتمتم بخفوت: أين أنت عبد الرحمن؟ كم احتاجك بقربي الآن؟ وكم أكره بعدك عني بتلك الطريقة؟ وكم أريد أن ارتمي بذراعيك لأشعر بالأمان الذي لم أجده ألا بجوارك؟
انتبهت على صوت طرقات بلال على الباب لتقول بصوت مخنوق: سآتي حالاً.
دست الحجاب بحقيبتها وأخرجت واحدًا آخر لترتديه بدلاً عن هذا، فهي لن ترتديه أبدًا بعد ذلك. ستخبئه كما خبأته من قبل حتى لا يذكرها به وليظل موجودًا كدليل على تواجده فيما مضى من حياتها.
***
منذ الصباح وهي تجلس بوسط الفراش وتحدق بالفراغ. لم تخرج من غرفتها قط، لم تطمئن على الطفلين اليوم، ولم تفعل أي شيء. فقط تحدق في الفراغ وتحاول استيعاب أن خالد تركها وذهب، وكلمة واحدة تتردد بأذنيها " لن يعود " انسابت دموعها وهي تفكر " كيف؟ بل سيعود إنه يحبني، خالد لا يستطيع العيش بدوني، من المؤكد أنه سيعود " صاح عقلها بقوة " أيتها الغبية طردته من حياتك وأسمعته ما لم يتحمله بشر، كيف تريدينه أن يعود إليك "
غامت عيناها بغضب " خدعني، لم يخبرني عن حقيقة أخيه قط، كان يعلم أني أحبه ولم يحاول أن يخرجني من دوامة أفكاري أبدًا "
ترددت آخر جملة في أذنيها وكأنها تعطي الإشارة لعقلها "كان يعلم بأني أحبه " ترددت كلماته في عقلها وهو يخبرها بحبها له وبأنها تعاقبه على تركه لها لباسم وهو يخبرها بأنها تحبه منذ أمد بعيد، كان يعلم بأنها تحبه حتى من قبل أن تعترف لنفسها بحبها له.
جزت على أسنانها وتألق الغضب بعينيها وهي تشعر بأنه خدعها ولم يحاول ولو لمرة واحدة أن يتمسك بحبها الذي يشعر به ويحارب طيف أخيه الذي ظل حائلاً بينهما لوقت طويل. انتفضت واقفة من فراشها ومسحت دموعها بقوة وهي تمسك هاتفها وتفكر: لابد أن تتخلص من طيف باسم إلي الأبد. لابد أن تفهم ما كان يحدث من ورائها وكانت غافلة عنه.
***
يجلس وهو يثرثر معه وهما يرتبان لسفره غداً ليرن هاتفه، نظر إلي الرقم ببرود وقال: بعد إذنك.
ثم رد بهدوء: مرحبًا.
__مرحباً جاك، كيف حالك؟
أتاه صوتها مما جعله يتوتر لينظر إلي رفيقه بطرف عينه ويقول برسمية: أنا بخير كيف حالك؟
قالت سريعًا: اسمع جاك، هل خالد معك؟
زم شفتيه وهو يشعر بغرابة الحديث فقال برسمية: نعم.
__لا تخبره عن هويتي، أريد أن أقابلك غدًا في منزل والدي، الساعة الخامسة عصرًا.
رفع حاجبيه بدهشة وقال سريعًا: حسنًا، لا بأس، ألقاك غدًا، إلي اللقاء.
أغلق الهاتف لينظر إلى صديقه المهتم بالأوراق التي أمامه، فتنحنح وجلس إلى جواره مرة أخرى وقال: خالد هل أنت متأكد من رغبتك في السفر غدًا؟
رفع نظره إليه بغرابة: نعم، لماذا تسأل الآن؟
هز رأسه نافيًا وقال: لا شيء، ولكني أرى أن تمكث بجانب الطفلين ومنال أفضل.
ابتسم خالد بسخرية وهو يفكر في منال التي طردته من حياتها بدون سبب، بل اخترعت سبب لتتخلص منه زفر بقوة وقال بإصرار: سأسافر جاك، سأسافر.
***
أغلقت سماعة الهاتف بقوة وهي تغلي غضبًا. لا تعلم ماذا تفعل معها، أصبحت أقوى وتزداد قوتها بوجود ذلك الطفل، تحركت بخطوات بطيئة لتذهب وتجلس بجوار عمها كما كانت.
نظر لها وسأل: ما بك بنيتي؟
رفعت عيناها له والغضب يملأها: لا أريدها هناك عمي ولا أعرف كيف أتصرف.
تنهد العجوز بقوة: اسمعي فوزية، لن نستطيع إبعادها الآن، فإذا ذهبت سيذهب الطفل معها وهذا أمر غير مقبول، أولادنا لابد أن ينشئوا في كنفنا.
جزت على أسنانها بقوة: أعلم عمي، أعلم وهذا ما يثير غضبي أكثر وأكثر، فهي الآن ملكت هشام بهذا الطفل مدى الحياة، وأنا لا أستطيع تقبل هذا.
__أخبريني بم أخبرتك به الخادمة.
قالت من بين أسنانها: أخبرتني أنهما خرجا للعشاء.
أكملت بغيظ: وتركا الولد مع المربية التي أتى بها هشام بك اليوم.
ابتسم الجد بمرح: وما الذي يضايقك أكثر، أنه أخذها للعشاء أم أنهما تركا الولد؟
نظرت له بعتب وقالت: أنا اشعر بالضيق لأنها تحكم قبضتها عليه عمي.
أطرق رأسه قليلا ليقول لها: أتعلمي فوزية لماذا لم أرحب بزواجك من محمد؟
نظرت له بتعجب وتغير لون وجهها وقالت بضيق حاولت كتمه: لا عمي.
ابتسم العجوز بهدوء وتنهد: كنت أعلم أن ولدي متيم بك وأنه لن يرفض لك شيئاً، وكنت أعلم أنك متملكة. فأنت اقرب أبناء إخوتي لي. علمت حين أخبرني محمد برغبته في الزواج منك أنه سيعيش ليرضيك فقط، علمت حينها أني سأفقد سيطرتي على أقرب أبنائي، ولذلك أظهرت له عدم رغبتي وحدث ما توقعته تمامًا. ثار ولدي الهادئ المطيع وأخبرني في وجهي أنه سيتزوجك سواء شئت أم أبيت.
ثم ابتسم بسخرية مردفًا: ووافقت رغمًا عني، وأتى بعد ذلك ليخبرني أنه سينتقل إلي القاهرة. لم يستشيرني بل أخبرني للعلم فقط كما قال، وعلمت حينها أنها فكرتك، التزمت الصمت ولم أستطع أن أثور أو أجبره أو اهدده حتى برضاي.
نظر لها وسألها بهدوء: أتعلمين لماذا صمتت فوزية؟
نظرت له بصدمة وهزت رأسها نافية فاتبع: لأني رأيت ولهه بك وعلمت حينها أنه سيتركني لأجلك. سيتمسك بك، فرضيت وأبقيت على ما بقى لي منه.
اصفر وجهها بشده وهو يكمل: ارضي فوزية بما تبقى لك من هشام حتى لا يتركك ويذهب، ارضي بها بنيتي واقبليها. والأهم من هذا وذاك أن تري وتتفهمي عشق ولدك لها.
نهض واقفًا ليتركها تفكر فيما قاله، تابعته بعينيها وهو يتحرك بهدوء وصوت عكازه يدق الأرض بقوة، وهي تفكر.. تترك هشام، وحيدها لتلك الفتاه التي لم تستطع تقبلها، قفز لعقلها سؤال بعثر هدوئها " هل سيتركها هشام من أجل تلك؟ "
هشام فرحة عمرها وأملها الوحيد، من تعبت لتربيه وتكبره ليكون سندًا لها، من حلمت برؤيته رجلاً كبيرًا ذو شأن مرتفع يتركها من أجل تلك الفتاه؟ ماذا فعلت له تلك ليترك أمه لأجلها؟
هزت رأسها بقوة وهي تنكر وتستنكر تلك الفكرة وردد عقلها " لن يتركني أبدًا، أبدًا".
***
يجلس أمامها وهو يسمعها تقص باستحياء عن ذلك الفتى بعدما سألها عنه ابتسم وهو يراقب احمرار وجهها وفركها ليديها بتوتر وتلعثمها، ربت على يديها بهدوء وقال بحنان: اهدئي إيمي، فأنا لا أحقق معك، أنا أريد أن اطمئن فقط.
ابتسمت وهزت رأسها ليمتقع وجهها وهاتفها يرن بنغمة مميزة، ابتسم وتنحنح وقال بهدوء: ردي على هاتفك حينما اذهب أنا لدورة المياه.
احمر وجهها بقوة وخفضت رأسها بخجل، تحرك بهدوء وهو يستعيد صورتها بمخيلته، كم كانت رائعة بفستانها الأسود الرقيق، ينسدل على جسدها ليزيدها رقة وجاذبية، ابتسم وهو يتذكر نظرتها النارية التي رمته بها وكم كانت غيورة، اتسعت ابتسامته وهو يؤكد لنفسه أنها تحبه وأنه سيفوز بها، جمد وجهه فجأة وهو يرى الشخص الواقف أمامه.
تقدم الآخر بابتسامة عريضة: كيف حالك وليد؟
مد يده ليصافحه وهو يحاول أن يبتسم ولكن كل ما ارتسم على وجهه تشنج خفيف
رد برسمية: بخير الحمد لله، كيف حالك أنت؟
أدار عيناه وهو يبحث عنها وكل أفكاره تذهب إلى أنها هنا بالتأكيد موجودة وتحتفل مع هذا بنجاح معرضها، ابتسم هشام وهو يراقب وليد ليقول بهدوء: أنا بخير والحمد لله.
نظر له وليد وقال بصوت مخنوق: كيف حال ياسمين؟
رفع هشام حاجبيه وردد: ياسمين.
قال سريعًا: نعم أليست معك؟
ابتسم هشام باتساع وقال: لا طبعًا، أنا هنا برفقة زوجتي.
نظر له وليد بغباء وقال: نعم، زوجتك.
جز على أسنانه واحمرت أذناه بقوة وهو يقول بصوت متحشرج: هل عقدتما القران؟
عقد هشام حاجبيه: ألم تسمعني؟ لم يعد يربطني بياسمين شيئًا، وأنا هنا برفقة زوجتي وهي ليست ياسمين قطعًا.
رمش وليد بعينيه: انتظر لاستوعب ما تقول.
اتسعت عيناه وهتف: فسخت خطبتك أنت وياسمين وتزوجت من أخرى.
هز هشام رأسه بالإيجاب، فزفر وليد بقوة وهو يتنفس بسعادة: كيف حدث هذا في تلك المدة القصيرة؟
ابتسم هشام: لا أنها قصة طويلة، سأقصها لك فيما بعد حتى لا أترك زوجتي بمفردها أو تستطيع سؤال ياسمين عنها.
قال وليد: نعم سأسال ياسمين عنها، سعيد بمقابلتك اليوم هشام.
ضحك هشام: نعم أعلم ذلك. إنها المرة الوحيدة التي تسعدك مقابلتي، بعد إذنك أراك على خير.
ابتسم وليد بسعادة حقيقية وشعر بأنه يريد الصراخ والقفز كالأطفال، ليعقد حاجبيه بغضب منها، لمَاذا لم تخبره، بل أكدت وجود هشام إلى الآن بحياتها، لمعت عيناها بغضب وجز على أسنانه وهتف عقله " تبًا لك ياسمين. أتريدين الانتقام مني؟ "
ليبتسم بمكر وتلمع عيناه بشقاوة " حسنًا حبيبتي، سنرى. "
***
تستلقي على فراشها وهي تبكي في صمت، لا تستطيع التخلص من آثار ذلك اليوم المشئوم، فكلما أغمضت عيناها تتذكره كأنها تشاهد فيلم سينمائي يعرض أمامها تستطيع إلي الآن أن تشعر بأنفاسه القذرة تلفح وجهها وتستمع إلي همساته القذرة باسمها وأكثر ما يرعبها أنها تشعر به إلي الآن حولها، لا تعلم ماذا تفعل، تريد التخلص منه ومن ذكراه ولا تعلم السبيل إلى ذلك نهضت لتجلس على فراشها وتضم ركبتيها إلي صدرها وتهتز بقوة، تريد أن تُهدئ نفسها، تذكرت قديمًا عندما كانت تشعر بالخوف كانت تصلي وتقرأ بعضًا من الآيات القرآنية لتنزل السكينة عليها اعتادت أن تفعل ذلك دائمًا في صغرها وخاصة أول أيام التحاقها بتلك المدرسة اللعينة. ولكن بمرور الوقت قسا قلبها واحتلت اللامبالاة روحها فتركت كل شيء اعتادت أن تفعله لتصبح مع مرور الوقت كما هي الآن. رفعت رأسها والتصميم يلمع على وجهها ستعود كما كانت، فتلك النسخة الجديدة لم تجلب لها إلا المصائب.
***

دق الباب برفق ودخل بخطوات هادئة حتى لا يوقظه إذا كان نائم؟، ليفاجئ به مستيقظًا ويبتسم بهدوء كعادته
اتسعت ابتسامته وقال: كنت انتظرك.
ابتسم وليد بسعادة: وأنا لم أستطع ألا آتي
أخبرني كيف حالك وماذا فعلت؟
لمعت عيناه ببريق خاطف وقال بهدوء: لقد فكت خطبتها.
اتسعت عينا أمير وهو يهتف بتساؤل: حقًا؟ !
هز رأسه بحبور وسعادة سطعت من عينيه ليتبع أمير: والآن ماذا ستفعل؟
صمت قليلا ليقول: لن أذهب إليها إلا عندما اُظهر لها أني تغيرت بالفعل وسأستمع إلي نصيحة أبي وأفعل ما يريد، سأجد عملاً آخر غير الإذاعة ولكن بعد إذاعة حلقة البرنامج الجديد الذي اتفقت عليه.
هز أمير رأسه: مبارك عليك وليد. ولكن بم نصحك معالي الوزير؟
ابتسم وليد بسخرية: يريدني أن أحصل على دورات وأعمل بالديكور ويقول إني أمتلك الموهبة.
__نعم هو محق. أنت من أعددت ديكورات بيتي الجديد وكانت مذهلة. استمع إليه لن تخسر شيئاً.
هز رأسه موافقًا واقترب منه بهدوء وعيناه تلمع بخبث: ألن تخبرني عنها؟
نظر له ببرود وقال: من هي؟
ابتسم وليد وغمز بعينه بشقاوة: الحسناء التي قبلتك اليوم صباحًا.
نظر له بلا مبالاة: إنها صديقة لي وبمرتبة أختي الصغيرة.
رفع وليد حاجبيه بعدم تصديق: آها وهذا على أساس أني لم أر نظرات الهيام التي تنظر لك بها.
نظر له من بين رموشه وصمت ليبتسم وليد ويقول: سأعرف عاجلاً أو آجلاً يا روميو. أين ستذهب مني؟
ابتسم أمير بسخرية وقال: أنت قدري للأسف.
ثم تابع يسأله: متى موعد برنامجك؟
__نهاية الأسبوع القادم إن شاء الله.
ابتسم مشجعًا: موفق بإذن الله يا صديقي. 
رتب وليد على كتفه بهدوء: إن شاء الله، سآتي لك بمذياع صغير لتستمع إلي ولا ترفض من فضلك. آزرني قليلاً.
هز أمير رأسه موافقا: حسنًا سأستمع إليه.
***
لا تعرف كم مر عليها من الوقت. فمنذ أن عادا من الخارج وهي مستلقية بين ذراعيه يتحدثان بكل شيء، تشعر أنها كانت عطشى ولازالت ترتوي منه كادت أن تصاب بجفاف بُعده عنها تلك السنوات الماضية، يقشعر بدنها وهي تستمع إلي نبرته الهادئة وهو يقص لها أهم ما حدث له في تلك السنوات، يقص لها بنبرته المميزة التي يميزها قلبها قبل أذنيها تنظر له وتروي ظمأ عينيها من ملامحه وتعابير وجهه، ابتسامته الشقية ولمعة عينيه ونظرة الحب الدافئة التي يرمقها بها شوقه الذي عبر عنه بنظرات صريحة استقبلتها هي بحب كبير، انتبهت من تفكيرها على شفتيه ترفرف على عنقها بوله وهو يهمس بحبها التفتت إليه وهي تبتسم ليمرر ظهر يده على وجهها ويتلاعب بخصلات شعرها الشقراء ويلتهم ملامحها بعشق وجنون طوقت عنقه بذراعيها ليطبع قبلات سريعة عليهما ويمسك كفها ويطبع قبله عميقة بمنتصف راحتها، شدها إلي حضنه أكثر وهمس بهدوء: اشتقت إليك نودا.
ابتسمت بحب: وأنا أيضًا اشتقت إليك.
__ ما رأيك في أن نقيم حفل زفاف؟
رفعت حاجبيها بدهشة وهزت رأسها نافية: لا طبعًا، فات أوان ذلك.
قبل يدها مرة أخرى: حسنا سنسافر في شهر العسل الذي لم نحظ به من قبل.
ابتسمت ليتبع وعيناه تلمع: نعم سنسافر غدًا.
اصفر وجهها بقوة وقالت بارتباك: هشام لا تتسرع بتلك الطريقة في تقرير ما سنفعله.
نظر لها بدهشة: ألا تريدين السفر؟
قالت باستدراك: لا بالطبع، ولكنه ليس أمرًا سهلاً لنقرره في ثواني.
ابتسم بتعجب: ما مدى صعوبته؟ أنت في إجازة من عملك وأنا الآخر والسيارة موجودة وأنا امتلك شاليه في شاطئ خاص نستطيع الذهاب إليه في أي وقت.
قالت باعتراض: ولكن كريم !
نظر لها بطرف عينه: ما به كريم؟
قالت بارتباك: لم أذهب به إلى الشاطئ من قبل.
قال بهدوء وهو لا يفهم سبب رفضها الواضح من عينيها: سنأخذ الخادمة والمربية معنا لا تقلقي عليه.
أبعدت عيناها عنه وهي تتنفس بقوة، لا تعلم سر ضيقها من قراراته التي يفاجئها بها ويصر عليها. انتبهت على اقترابه منها وهو يهمس بخبث شق سمعها: لأول مرة أراكِ هكذا.
احمر وجهها بقوة ونظرت له باستفهام فقال بابتسامة متلاعبة: تبدين مغرية كقطعة الحلوى في ذلك القميص.
خفضت بصرها لتنظر إلي قميصها السماوي اللون، وتنظر إليه بابتسامة: أعجبك؟
اقترب منها بهدوء وأراح يديه على خصرها ليقربها منه بقوة: بالطبع، أنت تعجبينني في كل الأوقات.
ابتسمت بخجل وخفضت بصرها بعيدًا عنه ليهمس وهو يقبل أذنها بحب: اشتقت إليك نودا، اشتقت إليك.
***
ينظر من نافذة الطائرة التي تقلع عن وطنه الأم، وهو يشعر بضيق وغضب يسيطر عليه. أغمض عينيه وهو يضم قبضتيه بقوة، يحاول أن يُهدئ من مشاعره وغضبه منها. تنهد تنهيده قوية لم تصل إلي شفتيه، بل خرجت من قلبه وهو يشعر بأنه يريد أن يذهب إليها ويدق عظامها بقوة بسبب تخليها عنه، كان يتوقع أن تتصل به وتخبره بأن يعود وأنها كانت مخطئة، أخطأت في حقه في غمرة انفعالها واكتشافها لحقيقة أخيه. ولكنها فعلت كما تفعل دائمًا، تخلت عنه وتركته بل طلبت منه المغادرة وعدم العودة. ماذا تريد أكثر من اعترافه لها بأنه يحبها بل يعشقها، جز على أسنانه بغضب وعقله يردد " غبية، دائما غبية، تحاسبني على عدم اخبارها بحقيقة باسم، وهي لم تكن تستمع لي في الأساس، ولم تكن لتصدق "
زفر بقوة واسند رأسه على زجاج النافذة البارد وهو يفكر في أخيه، أخيه الذي أجاد لعب دوره. أوهمها بأنه يحبها واستغل رقتها التي تسطع من عينيها وجذبها نحوه بسذاجة كما تجذب النار فراشه جميلة لترقص حولها وتحترق على اثر لهيبها. استغل طيبتها وحبها له حتى لم تستطع أن تكتشف أنه كان يصادق فتيات أخريات وهي معه،
تمتم بقهر: غبية
ابتسم رغمًا عنه وهو يتذكر تلك الغبية التي سكنت قلبه، بل أشرقت عيناه بلمعة رائعة وهو يتذكرها بفستانها الحريري وابتسامتها الجذابة، ليكشر بقوة وهو يستعيد جملتها الأخيرة " أريدك أن تغادر خالد "
كاد يضرب رأسه بزجاج النافذة وهو يشعر بصوتها يخترق أذنيه، ليجز على أسنانه بقوة اكبر وهو يتمم بغضب بارد: حسنًا منال لك ما تريدين.
***
تجلس على إحدى مقاعد الانتظار في مشفى وليتغتون المشهور بوحدة زراعة الكبد المتخصصة، تنتظر وهي تفرك كفيها ببعضهما بتوتر لإجراء بعض التحاليل كما أوصى الطبيب، شعرت بيده الدافئة تشد على يديها بحنان وهو يهمس: لا تقلقي ليلى، أنا هنا بجانبك.
ابتسمت بتوتر ليردف بابتسامة صافية: أنها بعض التحاليل ليس إلا، لا تحتاج كمية القلق التي تشعرين بها.
رسمت شبه ابتسامة على شفتيها ليبتسم لها مطمئناً ويردف: سننصرف بعدها، لا تقلقي.
هزت رأسها بتفهم، فنظر إلي الأمام وقال بهدوء: أمي ستبقى.
نظرت له باستفهام فأردف: ستبقى من اليوم إلي يوم إجراء العملية. يريدون الاطمئنان عليها وتحضيرها للعملية.
هزت رأسها بتشنج ظهر واضحًا على وجهها فأردف بهمس: اغفري لها ليلى.
تجمدت وشعرت ببرودة تجتاح عمودها الفقري لتسمعه يردف بحنان سطع في صوته: أعلم جيًدا أن ما فعلته بك لا يُغتفر. ليس هي فقط وأبي أيضًا، ولكن كل ما أتمناه أن تسامحيها وتغفري لها، من أجلي ليلى.
قال كلمته الأخيرة بغصة انتُقلت إليها، بل وسيطرت عليها. تريد البكاء ولكنها لا تستطيع. تريد الكلام والرد والبوح بما يعتمل داخل صدرها من ألّم، ألّم تلك الليالي التي قضتها تطلب من ربها أن تعود إليها والدتها، ألّم تلك الأيام التي شعرت فيها أنها وحيدة ومنبوذة عن ذلك البيت، ألّم اكتشافها أخيرًا أنها كانت لعبة أراد كل من عمها ووالدتها أن يحطم الآخر بها، فتحطمت هي.
شعرت بدمعة وحيدة متعلقة برموشها، لا تستطيع أن تنساب على وجنتها وتريحها من آلامها ولا تستطيع الرجوع إلي مآقيها وتظهر قوتها، مثلها تمامًا. لا تستطيع أن تسامح ولا تستطيع أن تتعايش مع آلامها انتبهت عليه يشد على يدها ويهمس: الممرضة تشير إلينا.
نظرت إليه بشرود فابتسم بألم ومد سبابته ومسح تلك الدمعة الحزينة المتعلقة برموشها وهو يهمس بحنان فائق تغلل في روحها: لا تبكي ليلى، أنا هنا بجانبك ولن يجرؤ أحد على أن يُبكيك طالما أنا حي أُرزق.
ابتسمت بحب لهذا الأخ الرائع وهي تشعر بالاختناق يلفها وهي تتذكر شخصًا آخر طلب منها عدم البكاء من قبل، شخص يداهم ذكرياتها دائمًا، شخص أشعرها في الفترة الماضية بأنه يحميها حتى من نفسها، بث لها أمانًا لم تعهده قبل دخوله إلي حياتها، وشعورًا لطيفًا طرد شعور الوحدة الذي كانت تشعر به.ابتلعت اختناقها بصعوبة وهي ترفع رأسها بقوة لم تشعر بها من قبل " تركك ليلى وأنت لا تحتاجين إليه، لست وحيدة الآن. عدتِ إلي والدتك التي تتمنى رضاك وأخت شقية محبة، نعم هي متقلبة المزاج، ولكنها طيبة ورقيقة. ولديك أخ لا مثيل له. انسيه ليلى، انسيه. تخطي تلك الفترة من حياتك وانسيه.
تأبطت ذراع أخيها ليبتسم لها ويقول: لا تخافي.
ابتسمت ابتسامة عريضة: وأنت معي لن أخاف أبدًا.
***
تقف تنظر من نافذة الدور السفلي إلي البوابة الخارجية وهي تنتظر وصول جاك تحتسي كوبًا من القهوة وتشعر بغضب عارم يزداد بداخلها فالبارحة قرأت الأوراق جيدًا وبتمعن وفوجئت بكم هائل من معلومات شعرت معها بمدى غبائها وسذاجتها التي استغلها باسم بمهارة وكم شعرت بالغضب من زوجها العزيز لتكتمه على أمر أخيه، وعدم تنبيهه لها ولا مرة إلي أي كائن كانت متزوجة منه تكلمت في الصباح مع والدها كثيرًا، وما زاد من غضبها معرفة أبيها بالأمر كله قبل زواجها من خالد واتفاقه معه على زواجها منه تشعر بانكسار كبير في روحها وألم شديد يمزقها، تشعر بالإهانة تعصر قلبها وخاصة أنها منه هو.
وعلى الرغم من كل ذلك، فشوقها إليه يمزقها، وصوت عقلها الذي يردد أنه لن يعود يدمي قلبها، انسلت دمعة من بين جفونها لتمسحها بكبرياء شديد وتهز رأسها بقوة وتردد أنها لن تبكي، تريد أن تفهم ما لم تفهمه من جاك وحينها تقرر ما ستفعله مع خالد بك.
زفرت بقوة وهي ترى جاك يدلف من بوابة الفيلا لتبتسم برسمية وهي تتجه لاستقباله
***
ابتسم لها باتساع: ألا زلت متوترة؟
ابتسمت وهي تهز رأسها نافية: لا أنا بخير الآن والحمد لله.
امسك بيدها وسار بجانبها: حسنًا تعالي لنذهب ونطمئن على أمي قبل أن نغادر.
هزت رأسها موافقة وهي تتجه معه إلي الطابق الذي تقع به غرفة والدتها لتجد إيناس معها تتكلم بالهاتف. ابتسمت لها بهدوء ليقترب هو من والدته ويقبل جبينها ويسألها عن أحوالها، انتبهت على صوت والدتها تسألها عن حالها اقتربت بهدوء من الفراش وأجابتها باقتضاب: بخير الحمد لله.
هتفت إيناس بمرح: انتظري سيكلمك.
مدت الهاتف أمام وجه بلال، الذي عقد حاجبيه استفسارًا عن هوية المتصل
ابتسمت بسعادة: إنها سوزان تريد الاطمئنان عليك.
جز على أسنانه بقوة وهو ينظر إلي شقيقته في غضب، نقل نظره إلي الهاتف
وأخذه منها ورد بغضب لم يستطع إخفاؤه: نعم.
أتاه صوتها الهادئ تقول بتردد: مرحبًا بلال، كيف حالك؟
زم شفتيه وأجاب باقتضاب: بخير.
قالت بأمل: أحببت أن أطمئن عليك.
فأجاب بسخرية وصلتها: شكرًا جزيلا لك.
صمتت وهي تشعر برفضه لأجراء أي حديث معها فأردف سريعًا: إلى اللقاء.
نظرت إلي الهاتف وهي غير مصدقة أنه أغلق الخط بوجهها لتتنهد بقوة وهي تشعر بألم رهيب يسيطر على قلبها ويخبرها بفقدانها له.
***
نظرت له أمه بعتب وقالت بهدوء: ما هذه الطريقة الجافة التي تحادث بها سوزي؟
أشاح بنظره بعيدًا وقال بهدوء:  ليس الآن أمي.
قالت إيناس ممازحة: أنه يخجل من محادثتها أمامنا أمي.
نظر لها وقال آمرًا: اهتمي بشئونك.
ابتسمت ليلى وهي تراها تخرج لسانها مغايظة له فأردف وهو يبتسم رغمًا عنه: سأقص لسانك هذا حتى لا تتدخلي في شئوني مرة أخرى.
ضحكت بسخرية من حديثه، فاقترب منها: احترميني قليلاً.
هزت رأسها بتفكير: سأفكر.
ضربها بخفة على مؤخرة رأسها ليضمها بذراعه من أكتافها ويقول: ما رأيك أن تأتي معي؟
لمعت عيناها بشقاوة: إلي أين؟
غمز بعينه وقال: لا تخافي لن تندمي.
__حسنًا، هيا بنا.
نظر إلى ليلى: أتريدين شيئًا نأتي لك به من الكافتيريا؟
نظرت إليه وهي تعلم أنه يريد تركها قليلاً مع والدتها للتحدث معها، فهو لاحظ أنها تتجنب الحديث مع والدتها اليومين الماضيين. رأت أملاً خاطفًا في عينيه لتبتسم وتقول له: لا شكرًا.
ابتسم بامتنان لعدم رفضها لما يريده وقال: سآتي لك بعصيرك المفضل.
ثم التفت إلي الأخرى وقال: هيا إيني.
***
أطل وليد برأسه من الباب: كيف حالك يا بطل؟
قال باقتضاب: بخير الحمد لله.
ابتسم الأخر وهو يضع من يده لفة كتب على المائدة التي تقع بجوار الفراش
__وجهك يصدر الملل يا رجل.
تنهد الأخر: أتيت في وقتك، كنت سأنفجر إذا تأخرت عن ذلك.
رتب وليد على لفة الكتب: ها هي كتبك التي طلبتها، وأزيد عليهم هذا
قالها ووضع بجانب الكتب مذياعًا  صغيرًا متابعًا: حتى تستمع إلى ما تريد. وأتيت به قديم الطراز لأني أعرفك تعشق الأشياء الكلاسيكية.
قال بسكون: أشكرك.
سحب أحد المقاعد وقربه من الفراش ليجلس عليه: هيا أخبرني ما بك؟ وجيه أخبرني أنك نزق للغاية اليوم وتشاجرت مرتين مع الممرضة المختصة بحالتك، رغم أنها رائعة.
ثم رفع حاجبيه بإعجاب: لو كنت مكانك لاستمتعت باهتمامها إلى أقصى درجة.
ابتسم بسخرية وقال بصوت مخنوق: أريد أن أخرج من هنا.
عقد وليد حاجبيه: لماذا؟
هز رأسه بضيق وزم شفتيه بحنق ليردف الأخر حينما علم أن صديقه لن يتكلم عما يضايقه: أنت تعلم جيًدا أنك لن تستطيع أن تخرج من هنا إلا عندما تستكمل علاجك.
قبض كفيه بقوة وزفر بضيق، فتنهد الأخر: اصبر قليلاً أمير، ستمر الأيام سريعًا.
هز رأسه بعدم رضا وهو يفكر " اصبر، إلى متى اصبر، أريد أن اطمئن عليها "
رفع عينيه لوليد: أريدك أن تأتي لي بحاسوبي الشخصي يا وليد.
هز الأخر رأسه موافقا: حسنًا، سآتي به.
نهض واقفاً فسأله أمير: إلي أين أنت ذاهب؟
ابتسم الأخر وهو يقرب له الطاولة إلي جانبه: كان بودي أن اقضي معك الليلة ولكن أمي طلبتني وأخبرتني بأن أعود اليوم لأنها تريدني بأمر هام، لذا لن استطيع أن أبيت معك.
__لا عليك، ابلغها تحياتي.
مد يده للمذياع: لقد ضبطته لك على محطتي الإذاعية حتى تستمع إلي رغمًا عنك.
ضحك أمير: سأستمع إليك أن شاء الله.
__سآتي لك غدًا.
__سأنتظرك.
أشار له بيده ملوحًا وهو يخرج من الغرفة: أراك على خير، سلام.
تنهد الأخر بقوة ونظر إلى الطاولة وما وُضع عليها. دعك جبينه بيده الحرة وتأفف بصوت مسموع، لا يشعر برغبة في فعل أي شيء، رأسه تملؤه الكثير والكثير من التساؤلات وقلبه يطفو في بحر من القلق، سيموت من الخوف عليها وخياله يصور له الكثير من الأحداث المرعبة التي قد تحدث لها، وعقلة يترجم خوفه إلي أسئلة لا يستطيع الإجابة عليها، وما يزيده غضبًا أن هاتفها مغلق. حاول الاتصال بها أكثر من مرة من الهاتف الذي اشتراه له وليد ولكن لا فائدة.
نظر إلي ساقيه وظهر الألم في عينيه جليًا، لا يستطيع التحرك، غاضب من نفسه ومن إصابته ومن كل شيء حوله. ضاق صدره بألوان جدران الغرفة وبممرضته الحسناء التي تبتسم دائمًا، وكأن السعادة تملأ حياتها. يريد أن يحطم تلك القيود التي تشعره بعجزه في أن يطمئن على ليلاه أغمض عينيه يريد أن يستحضرها إلي خياله، يستحضر صورتها وصوتها، براءة عينيها وابتسامتها، عصبيتها الدائمة واعتراضاتها الطفولية التي تجعل قلبه يرقص طرباً، ولكن حتى خياله أبى أن يريحه ويخفف عنه ضيقه.
زفر بضيق ليمد يده ويسحب لفة الكتب ناحيته بشيء من العنف لم يقصده ليختل توازن الطاولة وتسقط بما عليها أرضًا جز على أسنانه بقوة ونظر إلي الطاولة الملقاة على جانبها والكتب المتناثرة بشكل فوضوي ليضيق صدره أكثر بإصابته ويشعر بالعجز ينهش روحه ليمتلكها، أغمض عينيه بقوة وهو يحاول أن يُهدئ من ضيقه ومن قلقه ولكنه فشل !
***
تأبطت ذراعه بخفة كما اعتادت ليبتسم هو: أخبريني ما سر تغيرك في معاملة ليلى؟
احمرت وجنتاها: لا شيء، أنها ظريفة.
ضحك ونظر لها لتتبع: فكرت فيما قلته لي من قبل ووجدته منطقيًا. وأيضًا اشعر بالامتنان لها لإنقاذها أمي.
هز رأسه موافقًا لتكمل: ثم إن سوزان أخبرتني أن وجود أخت لي شيء جميل وأنا اقتنعت بأن العداء بيننا لا محل له.
جمد وجهه عندما نطقت باسمها ليقول بسخرية: أخيراً فعلت شيئاً جيدًا بحياتها.
عقدت حاجبيها ونظرت له: لا أفهم ما تقوله.
ابتسم: لا تشغلي رأسك.
دخلا إلي الكافتيريا ليقول لها بهدوء: هيا اذهبي وأتي بما تريدينه حتى آتي أنا بالقهوة.
جلس بأحد الطاولات ينتظر شقيقته ووضع كوب القهوة أمامه ينظر إلي الدخان المنبعث منه، وهو يفكر في القادم
يشعر بالقلق ولا يستطيع أن يُلمح به، فليلى خائفة ولن يزيدها عليها، وفكرة الموت مسيطرة على والدته، وعندما تكلم معها أخبرته أنها ليست خائفة من الموت ولكنها تريد أن تسامحها ليلى أولاً. زفر بضيق لتتراءى له صورتها تتكون رويدًا رويدًا من الدخان المتصاعد أمامه ابتسم رغمًا عنه وعَنَفَه قلبه على طريقة معاملته الجافة معها، ليعقد حاجبيه بقسوة ويشعر بالغضب يتملكه، فهي لا تعطيه فسحة من الوقت حتى يهدأ، تلاحقه أينما ذهب حتى في خياله، يريد التخلص منها ومن أثرها الواضح عليه ولكنها لا تعطيه أي فرصة .ابتسم بسخرية من قلبه الأحمق الذي يتوسل إليه ليسامحها، فكر " هل يستطيع فعلاً مسامحتها على ما فعلته به؟ ! "
قفز قلبه فرحًا وأكد له " نعم تستطيع مسامحتها، فهي تحبك منذ صغرها "
جز على أسنانه " لا، لا تحبني، فمن يحب لا يفعل ما فعلته هي "
صرخ قلبه " كانت حمقاء "
رفع رأسه بكبرياء " فلتظل حمقاء ولتبقى بعيدًا عني "
انتبه على إيناس قادمة باتجاهه ليبتسم بهدوء مخالف لما يشعر به.
***
__انتظر، لا أفهم ما تقوله.
صمت قليلا ليقول مرة أخرى: كان خائفًا عليك منه
أتبع بتوتر: ليس وحده، أنا الآخر كنت أشعر بالخوف من اقترابك منه،
أكمل وهو يرفع حاجبيه باستغراب ظهر لها: وبالدهشة أيضًا
رددت: دهشة!!
نظر لها: نعم، كنت ولازلت لا أفهم كيف استطاع خداعك؟ كيف لم تري وجهه الآخر، كيف لم تستوعبي أنه لا يحبك؟ كنت تصدقين كل ما يتفوه به بطريقة مريبة لا أفهمها إلي الآن.
أشاحت بنظرها بعيدًا عنه والغصة تحتكم في حلقها، ليردف بندم: آسف منال، لا أريد إيذائك ولكنك من طلبت مني الحديث.
ابتسمت بألم: لا عليك جاك، أكمل ما كنت تقوله عن خالد.
__كان يراقب ما يحدث بينكما من بعيد بهدف حمايتك إذا أراد باسم إيذائك بأي شكل، فباسم كان يستمتع بإيذاء الآخرين، وله سمعة سيئة فيما اختص الأمر بالفتيات.
وضعت يدها على حلقها وسألت بصوت مخنوق: ولماذا أراد خالد حمايتي؟
__معروفًا لوالدك، فهو كان على علاقة وطيدة بوالدك وكان يريد حمايتك من أجله.
هزت رأسها متفهمة، صمتت قليلا لتسأله بهدوء: أين هو الآن؟
نظر لها: من؟
__خالد.
نطقت اسمه بشوق لم تستطع كتمانه، تنهد الآخر وقال: سافر.
اتسعت عيناها بقوة: إلى أين؟
مد شفتيه إلى الأمام: أمريكا.
وأتبع عندما رأى اصفرار وجهها: أنه يريد أن يعلم من قتل باسم.
اشتد اصفرار وجهها وقالت بتلعثم: لم؟
__لينتقم لأخيه.
قفزت واقفة وهي تهتف بالعربية: ماذا؟
أتبعت شبه صارخة وهي تهتف بلغتها الأم وتتحرك بعشوائية في الغرفة: من طلب منه ذلك؟ ولماذا؟ وهل كان أخوه نعم الأخ لينتقم له ويأخذ بثأره ممن قتلوه؟
نظر لها جاك بدهشة وهو لا يفهم ما تتفوه به ولكنه يعي تمامًا أنها ثائرة مما ابلغها به قال بهدوء: اهدئي منال، اهدئي.
نظرت له بقوة وقالت: اعتذر جاك، ليس لك دخل في ثورتي تلك.
قال بهدوء تفتقر هي إليه: أعتقد أنكِ عليك الاتصال به ومحادثته. فأنا فشلت في إقناعه بالعدول عن رأيه.
أومأت برأسها بالإيجاب وتمتمت: إن شاء الله.
ابتسم برسمية وهو ينهض واقفًا: حسنا، سأغادر، وإذا احتجت إلى أي شيء أبلغتني.
صافحته بود وهي تحاول أن تبتسم: شكرًا جاك.
__إلى اللقاء.
***
تنحنحت فسألتها: أتريدين شيئاً أمي؟
ابتسمت والدتها بوهن: تعالي بجانبي ليلى.
توترت ملامح وجهها لتنهض ببطء وتجلس بجانب والدتها، أمسكت الأخرى بيدها وضغطت عليها برفق لترفعها إلي شفتيها وهمت بأن تقبلها فانتفضت ليلى وسحبت يدها ، وقفت وهي تتنفس سريعًا وتنظر إلي أمها بدهشة بالغة تألقت الدموع بعيون والدتها وابتسمت بألم: لمَ بنيتي؟
نظرت لها ليلى باستفهام لتتبع السيدة ماجدة: اتركيني أشكرك على كل ما تفعلينه من أجلي.
شحب وجه ليلى فأشارت لها والدتها بيدها بأن تأتي وتجلس مرة أخرى فانصاعت لها وجلست بجانبها، همست السيدة ماجدة: اغفر لي بنيتي لا أريد أن أموت وأنت غاضبة مني. أعلم جيًدا أن من حقك أن تغضبي وتنفري مني وتجافيني أيضًا، وحتى إذا أنكرتِ وجودي من حياتك فهو أيضًا من حقك. توقعت كل هذا منك ولم أتوقع أبدًا أن تأتي معي وتجلسي برفقتي وتوافقي على ما لم أكن موافقة عليه، أن تتبرعي لي لتنقذي حياتي.
ثم ابتسمت بألم: ولكنك تشبهينه لدرجة كبيرة، أنت نسخة من أبيك بطيبته وحلمه وضحكته الصافية، وحزنه المدفون بداخله دائمًا، مثلك تمامًا.
تنهدت بقوة وهي تتبع: كم اشتاق للمعة عينيه، ووجوده بجانبي. أبوك كان لي أكثر من زوج، كان كل شيء بحياتي، أب وأخ وصديق وفي، كانت لديه قدرة عالية على احتوائي. كان مرساتي و شاطئي الذي الجأ إليه دائمًا.
قالت ليلى بصوت محشرج: ولكنه لم يكن أبدًا حبيبك.
زفرت الأخرى: لم يكن هذا الأمر مهمًا ليلى. مكانته لدي أغلي وأثمن مما لو كان حبيبًا فقط.
قالت ليلى بإصرار طفولي: ولكنك كنت حبيبته، تزوجك لأنه يحبك وليس نكاية في أخيه.
نظرت لها والدتها بألم: لم أتزوج به نكاية في كامل.
ظهر عدم التصديق على وجه ليلى، فأردفت أمها بهدوء: لن أكذب وأخبرك بأني أحببته كما يصفون الحب بالروايات ولكنه كان حياتي كلها ليلى.
أشاحت بوجهها بعيدًا عنها وهمست بألم: والسيد سليم؟
أغمضت الأخرى عينيها: سليم شيء آخر غير والدك ليلى.
اتبعت ليلى وكأنها لم تسمعها: من تخليت عني من أجله، من تركتني لعمي من أجله، من استمعت إليه وأنكرتِ وجودي من أجله، من لم تسألي عني ولا مرة واحدة من أجله.
أجهشت والدتها في البكاء وصاحت بها: كفى ليلى، كفى. لم أفعل ذلك من أجل سليم، بل من أجل بلال. لم أستطع أن أتخلى عن طفل لا ذنب له في كل ما حدث.
نظرت لها ليلى بقوة وعدم تصديق وهي تفكر " ألم تكن هي أيضًا طفلة لا ذنب لها؟"
جزت على أسنانها قويًا: حسنًا أمي، سأصمت وأنت أيضًا من فضلك لا تتحدثي معي في هذا الأمر مرة أخرى. يكفيني ما فعلتِ بي السنوات الماضية.
نهضت واقفة لتنظر إلى عيني والدتها وتكمل: ولعلمك أنا الأخرى أفعل ذلك من أجل بلال، لأنه فعل لي ما لم يفعله لي أحد بحياتي كلها. لا أنقذك من أجل أنك أمي ولكن من أجله هو حتى لا يحزن لفقدانك.
اتسعت عينا السيدة ماجدة بقوة وظهر الألم على وجهها جليًا، لتقول ليلى بسخرية: ماذا أمي؟ هل آلمتك كلماتي إلى هذا الحد؟
رفعت يديها وانحنت بطريقة مسرحية: أعتذر أمي عما سببته لك من ألم،
ثم رفعت لها عينيها لتقول بحقد لم تستطع إخفاؤه: أنه جزء بسيط مما فعلته بي أمي.
ملأت الدموع عينيها لتتجه مسرعة إلي الخارج، فتجده أمامها. ظهر الانزعاج على وجهه من ملامح وجهها، فقالت بصوت مخنوق: خذني من هنا لو سمحت.
نظر إلي شقيقته: ابقي هنا مع أمي إلى أن آتي لك.
هزت إيناس رأسها موافقة، ليضمها بين ذراعيه: تعالي ليلى، تعالي.
***
ابتسم وهو يدلف إلي الداخل، يسمع أصواتهم عالية، ضحكات إيمان تصدح وتخلق جوًا من المودة محبب لنفسه. تقدم إلي غرفة المعيشة وهو يبتسم باتساع: مساء الخير.
ابتسمت أمه: مساء النور حبيبي، كيف حالك؟
اكتفى بأن يحيي أخوته بهز رأسه واقترب ليجلس إلي جوارها ويقبل كفها: بخير أمي، أنا بخير.
نظر إلي أحمد بوجهه الواجم على غير العادة: كيف حالك يا دكتور؟
أجابه الآخر باقتضاب: أنا بخير.
عقد وليد حاجبيه فابتسم وائل بهدوء: لا يزال غاضبًا مني.
أردف وهو ينظر إلى وليد بمكر: رغم أنني اعتذرت منه ومن ولاء وأتيت لهما بهدية.
نظر له أحمد بضيق، فأتبع الآخر: ما رأيك أن تحتكم لفناننا العظيم وتريه اللوحة
نظر وليد بتعجب: لوحة، أية لوحة؟
اتسعت ابتسامة وائل وهو يسحب شيئاً مغلفًا موضوع بجانبه: هذه اللوحة.
خلع غلاف اللوحة وهو يريها لوليد: هيا اخبرني عن رأيك.
وجم وجه وليد فجأة واتسعت عيناه وهو يرى إحدى لوحات ياسمين بين يدي الآخر مذيلة بتوقيعها الذي يحفظه عن ظهر قلب، رفع عيناه لأخيه ليرى نظراته تشع بالمكر ويبتسم بخفة مقصودة منه
انتبه على صوت والدته: إنها جميلة وائل.
قال وائل بمرح: أريد رأي الفنان أمي.
نظر وليد إلى لوحة الغروب كما تسميها ياسمين، أنها تلك اللوحة التي رسمتها صباح اليوم التالي بعد أن غضبت منه وتركته بالحفل مساءًا وغادرت. ذلك الحفل الذي كان بداية نهاية ما بينهما، فلولا غباؤه يومها لما ابتعدت ياسمين عنه بعد ذلك. الآن يرى كل شيء بوضوح أمامه، كان لديها أمل به إلي يوم الحفل ولكنه قضى على كل آمال لديها بما كان يفعله.
قال بصوت مبحوح: جميلة ولكنها قاتمة.
مط وائل شفتيه بخيبة أمل مفتعلة: حسنًا سأعيدها واجلب واحدة أخرى، أعتقد أن صاحبة اللوحة لن تمانع، أنها فتاة رائعة.
نظر إلى أخيه بقوة ليتبع الآخر وهو يتحداه بنظراته: لن تصدقي أمي، أنها جميلة ومرحة تخطف القلب عندما ترينها من أول وهلة.
جز وليد على أسنانه وأشاح بنظره بعيدًا عن الآخر الذي يدفعه للاصطدام به ولكنه فوجئ بأحمد يقول : أنت تعرفينها أمي، إنها صديقة وليد التي طالما حدثك عنها.
نظر إلى أخيه بدهشة ليجد أحمد ينظر إلي وائل بتحدي ظهر جليًا على وجهه
التفت إلى والدته التي قالت بفرحة ظهرت في صوتها: حقًا ؟
أكمل أحمد بصوت قوي: نعم أمي، إيمان أيضًا أخبرتني أنها رائعة كما يقول وائل.
قاوم وليد ضحكته وهو يرى وجه وائل المكفهر غضبًا واحمد يتبع: أحضرها معك المرة القادمة إلى هنا وليد كي تتعرف على بقية العائلة.
تمتم بهدوء: إن شاء الله.
ربت على كف والدته: حسنًا، أتريدين شيئاً ماما؟
ابتسمت باتساع: لا حبيبي، أردت أن اطمئن عليك، والحمد لله اطمأننت.
نظر لها باستفهام فهمست له: تعال معي.
هز رأسه متفهمًا: حسنًا.
نهض واقفًا ليتبعها إلى الأعلى ولكنه توقف قليلاً لينظر إليه، ابتسم بهدوء: ما الذي تفعله يا أخي العزيز؟
رفع الآخر حاجبه وقال ببرود: أكسر قلبك يا أخي العزيز.
ضحك وليد بخفة: لن تستطيع.
نظر إليه وهو يتابع والثقة تلمع بعينيه: أنا أملك قلبها ولا سبيل لإزاحتي منه، من الأفضل لك عن تبحث عن شيء آخر لتكدر صفو حياتي ولكن بعيدًا عنها.
ابتسم وائل ببرود: انتظر إلى أن تسمع بآخر فضائحك، ولنرى هل ستظل بقلبها أم تطردك خارجًا.
نغزه قلبه بشده ولكنه أرغم نفسه على الابتسام والظهور بمظهر الواثق: لن تنجح هذه المرة وائل، فلا تضيع وقتك يا أخي العزيز.
تركه وصعد إلى الأعلى لينصرف الآخر سريعًا وتركا الاثنين الآخرين ينظران إلى بعضهما البعض في دهشة عارمة.
ظلت تنظر إلي أحمد بذهول لبضع دقائق، حتى بعد أن أشاح الآخر بنظره عنها وعقد حاجبيه بقوة وظهر تفكير عميق على ملامح وجهه. ازدادت دهشتها وهي تنظر إلي جدية أحمد الظاهرة عليه والتي قلما صعدت إلي سطح شخصيته المرحة
قالت بتردد: أحمد
نظر لها بنظرة جامدة وعقدة حاجبيه تزداد فسألت بتوتر: هل ما سمعته صحيح أم يخيل إلي؟
قال بقوة وعينيه لا ترمش: لم نسمع شيئاً إيمي
رفعت حاجبيها بتعجب وزادت الدهشة على وجهها: لا أفهم.
قاطعها والإصرار يسطع من صوته: لم نسمع شيئاً إيمي، إنهما أخوينا الكبار ولن ننحاز لشخص ضد الآخر ولن نترك خلافهما يؤثر على علاقتنا بهما.
ظهر التردد على وجهها واعترضت: ولكن...
أشار بيده حازمًا وهو ينهض: انتهينا إيمي، لم نسمع شيئًا، بل خُيل إليك كما كنت تسأليني منذ قليل.
زمت شفتيها وهي تحاول أن تمحو ذلك الحوار الصادم لها من مخيلتها وراقبته وهو يصعد إلي الأعلى، والغريب أن ملامح وجهه لم تتغير.
***
تجلس بفراشها وتعقد ذراعيها أمام صدرها وتنظر إلي الهاتف الموضوع على الكومود بجانبها، تتساءل " هل تتصل به؟ "
مازالت غاضبة منه بشدة، وناقمة عليه بسبب إخفاؤه لحقيقة أخيه وحقيقته هو أيضًا كيف لم يخبرها عن طبيعة عمله؟ لم يخبرها عن تفاصيل كثيرة مهمة بحياته؟ اكتشفت اليوم أنها تزوجت بشخص غريب عنها لا تعرف عنه أي شيء، لتشعر أنها صُفعت للمرة الثانية، ألم تكتفي من الصفعات؟ ألم يكن كافيًا لها صفعتها من باسم ليأتي هو ويصفعها مرة أخرى، وكأنه يؤكد لها أنها مغفلة وغبية ولم تستطع أن تتوصل لحقيقة أي منهما. أشاحت بنظرها بعيدًا عن الهاتف وتنفست بعمق حتى تخفف ألم قلبها المتزايد وقع نظرها على روايتها المفضلة، تردد صوته ذو النغمة المميزة بأذنيها وهو ينطق بإعجاب " روميو وجولييت، إنها مفضلتي أيضًا "، تتذكر ذلك اليوم، لم يكن ببعيد ولكنها شعرت بأن السعادة التي شعرت بها معه في ذلك اليوم بعيدة عنها كبعد السماء عن الأرض زادت أوجاع قلبها وهي تتذكره، تتذكر صوته الأجش وهو يمطرها بغزله الجريء تتذكر المكر الذي يلمع بعينيه كلما نظر إليها، ضحكته الجانبية التي تشع خبثًا ، لمساته الحانية وقبلاته الرقيقة، الدفء الذي يمتلكها عندما يحاوطها بذراعيه أغمضت عيناها فشعرت بأنفاسه تلفح وجهها وعنقها وهمس صوته بأذنيها يخبرها بمدى حبه لها، سرت القشعريرة في عنقها، وانسابت دموعها على وجنتيها وهي تنتظره يحتضنها كما يفعل دائمًا لتشعر بالبرود فجأة. فتحت عينيها وصُدمت أنه ليس موجودًا معها. رحل ليبحث عن قاتل أخيه وينتقم منه، ردد عقلها بسخرية " أخيه، لم يكتف بما فعله بنا أخيه، ليبحث عما يدمر حياتنا بسببه "همهمت والكبرياء يعاودها بقوة: "حسنًا خالد. فلتفعل ما تريد "
***
يجلس بجانبها منذ وقت طويل ينظر لها بإشفاق. يعلم جيداً أنها غاضبة ونادمة أيضًا. يستطيع الشعور بها رغم المدة القصيرة التي عرفها خلالها. ولكنه حينما رآها لأول مرة شعر بأن شيئاً ما يربطه بها، شعر أنها قريبه منه ومن ثنايا روحه، شعر بحزنها دون أن تخبره عنه وشعر بألمها دون أن تهمس به. والآن يشعر بأنها نادمة بشدة على شيء ولكنه لا يعرفه. وعلى مقدار ندمها فهي غاضبة أيضًا بشدة. تصلُب جسدها يُظهر له أنها تعاني صراعًا قويًا لمشاعر كثيرة تتخبط بداخلها، دموعها متحجرة بعينيها تتلألأ كالنجوم بالسماء في ليلة كالحة السواد ، ربت على كتفها بهدوء فالتفت إليه بحدة وصلت إليه فورًا، حاولت الابتسام ولكنها لم تستطع تؤنب نفسها كثيرًا على ما فعلته بوالدتها، كيف استطاعت أن تقسو عليها بتلك الطريقة؟ لماذا شعرت بأنها تريد أن تؤلمها؟ لم تلك القسوة التي طفت على شخصيتها و فاجأتها قبل أمها؟ أكثر ما تؤنب نفسها عليه حقدها اللحظي على بلال، أليس هو من تسبب بما حدث لها بحياتها كلها؟ أليس هو من يستحق أن تغضب منه وتؤذيه كما تأذت بغياب والدتها عنها، آلا يستحق أن تحرمه من والدته كما حرمها هي من أمها صرخت نفسها بكل قوة وانهالت تصرخ في ذلك الغضب الذي ملاها وتلك القسوة التي تملكتها للحظات، تشعر بالندم على ما فكرت به، وتشعر بالغضب من نفسها التفتت إليه وهي تحاول الابتسام ولكنها لم تستطع، ابتسم لها بحنان ضاعف الندم بداخلها همس بحنان: ابكى ليلى، البكاء سيخفف من أحزانك.
قالت بصوت محشرج وهي تشيح بعينيها بعيدًا عنه: ليتني أستطيع.
اقترب منها: هل أنت غاضبة مني؟
رفعت عيناها له بدهشة متسائلة فأردف بابتسامة خفيفة: لأنك لا تنظرين لي، ثم إن أمي قصت لي ما حدث وأنها تركتك إلي عمك بسبب حملها بي.
احمر وجهها بقوة ونظرت بعيدًا عنه فأتبع: أتوقع أنها أخبرتك بذلك الجزء اليوم، وأتوقع منك أيضًا أن تغضبي وتصرخي وتفعلي كل ما تريدين، وسأتقبل كل ما تفعلين حتى إذا تراجعت عن إجرائك للعملية. ولكني لن اقبل أن تبتعدي عنا ثانية.
زفر بقوة: صدقيني ليلى لو كنت علمت بأمرك لما تركتك كل تلك المدة بعيدة عنا
رفعت رأسها للسماء وهمست بألم: لست غاضبة منك بلال، فأنت لا ذنب لك فيما حدث، ولن افعل ما توقعته أنت. فأنا تعبت من كل هذا، أريد أن أشعر بالقليل من الراحة، فقط القليل.
اقترب أكثر منها وامسك بيدها وضغط عليها برفق: أخبريني بما علي فعله وسأفعله فورًا.
ابتسمت بوهن ونظرت إليه: لا شيء بلال، سأرتاح مع مرور الوقت.
ضغط على يدها مرة أخرى: تذكري دائمًا أنني هنا ليلى.
ابتسمت وهي تشعر بالدموع تتجمع بحلقها لتخنقها ولكنها قالت بمرح: بالطبع سأتذكر بلال، لا تقلق، هيا بنا لنعود إلي إيني، سنجدها غاضبة لتأخرنا عليها.
ابتسم وهو يتمسك بيدها قويًا: لا تقلقي. ايني سريعة الغضب وسريعة الإرضاء أيضًا. كل ما يهمني الآن هو أن تكوني بخير.
ابتسمت باتساع: أنا بخير لا تقلق، أنا بخير.
***
دق الباب ليفتحه ويطل برأسه منه هامسًا بخفوت: ماما.
ابتسمت باتساع: تعال حبيبي.
قال بتردد وهو يفتح الباب بروية: هل أبي هنا؟
ازدادت ابتسامتها: لا، هيا تعال.
انفرجت أساريره عن ابتسامه وهو يتحرك سريعًا إلي داخل الغرفة ويجلس بجانبها
احتضن كفها بيديه وانحنى مقبلاً إياه، ربتت على شعره بحنان: أين تذهب هذه الأيام؟
ابتسم بمكر: لمَ تسألين ماما؟
نظرت إليه وابتسمت: رغم انك تقضي أغلب لياليك خارج المنزل، أشعر أنك لا تفعل شيئاً آخر، ثم إن وجهك مبتسم ويُظهر هدوئك الداخلي.
تنحنح وهز رأسه: إلي حد ما.
حسنا أخبرني عن سبب التغير الطارئ عليك.
ابتسم ومال عليها هامساً: عندما يستقر الأمر سأخبرك بكل شيء.
ابتسمت باتساع وهزت رأسها موافقة ليردف: أردت أن تخبريني بأمر ما ماما .
__آه، نعم
توترت قليلاً وكأنها تحاول أن تخبره بشيء وخائفة من إغضابه فقال: ما به بابا؟
ابتسمت: أنه بخير ولكنه أخبرني أنه يريد تزويجك أنت وأخيك
نظر لها بتمعن وردد بدهشة: تزويجي.
__نعم، أخبرني أن تبحث عن عروس تناسبك وإلا سيزوجك هو بمعرفته.
رفع حاجبيه بدهشة لينفجر ضاحكًا: ما هذا أمي؟ هل يعيش معالي الوزير بالعصور الوسطى؟ كبرنا على هذا الكلام وتغير الزمن.
همت بالرد ليبتسم مطمئنًا: على أي حال لا تقلقي، أخبريه أنني سأتزوج عما قريب.
تهلل وجهها بفرحة كبيرة: حقًا ؟!
ابتسم بثقة وهو ينظر أمامه: نعم ولكني احتاج بعضًا من الوقت
أردف وهو ينظر إليها: دعواتك ماما.
ابتسمت باتساع: وفقك الله حبيبي
نهض واقفًا: سأذهب قبل أن يأتي معاليه ويطردني من غرفته.
قبل رأسها وهو يضحك بخفة: تصبحين على خير أمي.
__وأنت من أهل الخير حبيبي.
تركها وخرج من الغرفة وأغلق الباب خلفه لينظر إلى الواقف أمامه وينظر له بطريقة لم ينظر إليه بها من قبل.
اقترب من أخيه وهو يشعر بتوتر من ملامح أحمد الجدية ونظرته الثاقبة التي تبحث عن شيء لا يعرفه وليد، تنحنح وحاول الابتسام بمرح لم يستطع أن ينتقل إلي عينيه: ماذا بك يا دكتور؟
قال أحمد باقتضاب: لابد أن نتحدث وليد.
عقد وليد حاجبيه: تعال.
فتح باب غرفته ليدخل إليها وتبعه أحمد بخطى قوية لف له: حسنًا تحدث. نحن بمفردنا الآن.
جلس أحمد ونظر إليه وكأنه يريد حل معادلة صعبة استعصت على عقله
قبض كفيه وفتحهما أكثر من مرة ليقول بصوت هادئ: ماذا بينك وبين وائل؟
اختلجت عضلة صدغه بطريقة لا إرادية ونظر إلى أخيه الذي قال بتصميم ظهر في عينيه جليًا: أخبرني وليد.
تنحنح وليد وقال بصوت مضطرب: لا شيء مهم.
نظر له أحمد مليًا ليقول: وهذا الذي لا يهم يجعله يبحث عن فتاتك ليحرق قلبك عليها، يخترع قصة يخبرنا بها ويلمح عنها لوالدتي أنه وجد فتاه مناسبة تصلح للزواج.
شعر بقلبه يتوقف عن الخفقان واصفر وجهه بشده فتابع أحمد: تعرفت على اللوحة فور رؤيتها بسبب توقيع ياسمين المذيل أسفلها. نفس التوقيع الذي رأيته باللوحة التي ابتاعتها إيمان. طبعًا إيمان أخبرتني عن كل ما حدث في المعرض وكم كانت ياسمين رائعة وغيورة.
أفلت كلمته الأخيرة بمكر وهو يرى وجه أخيه يحتقن بشدة، أكمل بهدوء: تعجبت من كلامه عنها وشعرت بضيق لا أعرف مصدره، لم أفهم لمَ يفعل ذلك وخاصة بعد أن شعرت أنه يتعمد مضايقاتك.
زم وليد شفتيه بضيق ليردف الآخر: اخبرني ما سبب الخلاف بينكما وما سر تلك الشرارة الغاضبة المندلعة بينكما.
فرك كفيه بقوة وقال بألم: أنا السبب فيما وصل إليه وائل الآن، أنا من حولته إلي ذلك الغاضب الحاقد بسبب شيء لا يستحق، خسرت أخي بسبب شيء لا يستحق.
عقد أحمد حاجبيه ونظر مستفهما ليردف وليد بأسى: جرحته بطريقة لا تغتفر، نعم كنت أريد صالحه ولكني تصرفت بغباء منقطع النظير، ليتني لم أفعل ولم أتدخل.
نظر له أحمد متفحصًا وقال بجمود: الخلاف إذًا بسبب موضوع وائل القديم.
نظر له وليد مستفهمًا فأتبع الآخر: تلك الفتاه التي استغلته لتصل إليك.
ظهرت الصدمة على وجه وليد واحمرت أذناه بقوة وأومأ برأسه موافقًا ليقول أحمد بهدوء: لم يكن ذنبك إنها ساقطة.
ابتسم وليد بسخرية: نعم ولكن ذنبي أنني جرحت أخي بشده، ولم أستطع أبدًا أن اُكفر عن هذا الذنب.
__ألهذا تركت المنزل؟
تنهد وليد بقوة وعاد بظهره إلي الوراء ليستند على ظهر الأريكة: تركت المنزل لأسباب كثيرة ونعم هذا منها. لم احتمل أن أرى وائل يتحول ليصبح النقيض التام لشخصيته. لم أتحمل أن أرى نظرة البغض والكراهية تلمع في عينيه كلما نظرت إليهما. كانت تكفيني نظرات أبي الكارهة لوجودي حوله، شعرت بأن القصر يرفضني ويريد أن يتخلص من حملي الثقيل عليه.
أكمل أحمد: وغادرت نهائيًا بسبب زواجي. أليس كذلك؟
نظر له بصدمة فاتبع: هددك وائل بأنه سيختلق لك فضيحة إن لم تغادر من هنا.
اتسعت عينا وليد برعب فأتبع أحمد بسخرية: سمعت حديثكما يومها ولكني لم أفهمه، فهمته اليوم فقط. كثير من الطلاسم فُكت شفرتها اليوم وأنا أراكما وحديث الأعداء هذا.
شحب وجه وليد إلي أن ابيض تمامًا، وكأن الدم ما عاد يجري بعروقه وقال بتوتر: لم أُرد أن أؤذيك أحمد. كنت أعلم جنون أخي وأعلم ما يستطيع فعله، ولم أكن لاحتمل أن أرى بعينيك أي نظرة توحي بالشك ناحيتي. كان سيفعل ما يقوله دون أن يرمش له جفن. لم يكن ليفكر أنه سيؤذيك معي، بل كل ما كان يفكر به هو الانتقام مني، فقط الانتقام.
نظر له أحمد وسأل بحيرة: لماذا لا ترد عليه، وتفعل به كما يفعل معك؟
ضحك وليد ضحكة حزينة: ألم أؤذه بما فيه الكفاية؟ لقد اكتفى من أذيتي له أحمد، أنا من دمرت شخصية وائل الرقيقة لأحوله إلي ذلك الجامد الذي يتحرك بفعل الانتقام، ليس مني فقط ولكن من نفسه.
نظر له احمد بقوة: إذًا ستترك له ياسمين.
لمعت عينا وليد بغضب فأتبع الآخر: أنت تعلم جيًدا أنه إذا أخبر أبي عنها سيتزوجها.
ظهر الغضب واضحًا على وجه وليد: لا طبعًا، ثم إن ياسمين لن توافق على الزواج منه.
تنهد أحمد بقوة: حتى إذا رفضته ياسمين، وأنت تكلمت في موضوع زواجك منها بعد ذلك، سيرفض أبي لأنه بالطبع لن تدخل إلي العائلة فتاه تشاجر بخصوصها الأخوة.
اتسعت عينا وليد بقوة ليقول: لا يهم، سأتزوج بها وأغادر العائلة.
قطع كلامه فجأة وهو يتبين ما يريد وائل الوصول إليه. لقد فكر وائل بنفس طريقة أحمد وأراد أن يجبره على الرحيل بعيدًا عنه. ابتسم بإعجاب لتفكير أخيه الملتوي وشعر بالراحة لأن أخيه لا يتقرب إلي ياسمين بهدف الزواج منها بقدر أنه يريد إجباره على الرحيل. فكر قليلاً وعيناه تلمعان بخبث " حسنًا وائل. لنرى من منا سيربح تلك المرة "
ثم قال بهدوء الواثق: لا تقلق أحمد لن يحدث شيء، لن أغادر العائلة وسأتزوج بياسمين رغمًا عن أنف الجميع.
أكمل بخفوت: حتى هي، سأرغمها على مسامحتي إن لم تفعلها من نفسها.
***                                                                                                                           عادت من الخارج منذ مدة، اعتصمت بغرفتها حتى لم تخرج إلي إيني التي طلبت منها أن تأتي وتسهر معها زفرت في ضيق وحاولت أن تُصفي ذهنها قليلاً ولكنها فشلت أن تفعل أي شيء. حينها ارتفعت طرقات إيني على باب غرفتها، ففكرت أن تخرج وتجلس برفقتها أفضل بكثير من الجلوس بمفردها واجترار الذكريات المؤلمة التي تنهش روحها. فتحت الباب لتجد إيناس أمامها وتحمل حاسوبها الشخصي. ابتسمت وهي ترى الأخيرة تدلف إلي غرفتها وتتربع على الفراش قائلة: فكرت أن آتي وأجلس معك بدلاً من جلوسي بمفردي.
ابتسمت وهي تتذكر ياسمين بصخبها وعفويتها. تُذكرها بإيناس كثيرًا، فهما متشابهتان. فكلتاهما طفلة وحيدة مدللة لأبوين يعشقانها. نهرت نفسها على تلك الأفكار السلبية التي تجتاح رأسها تلك الأيام أغلقت الباب ونظرت إليها وهي تتكتك على أزرار الحاسوب بمهارة وترتسم على محياها ابتسامة شقيه. جلست بجوارها وسألتها بهدوء: ماذا تفعلين؟
أجابت بعفوية: أتكلم مع أحد أصدقائي, سأنتهي الآن وأجلس معك.
نظرت إلى الحاسوب وتذكرت أمير، لقد نسته الفترة الماضية تماماً. لم تتكلم معه منذ يوم الحديقة. أغمضت عيناها بقوة رافضة أن تتذكر الآخر، وأجبرت عقلها على أن يفكر في أمير، تريد الاطمئنان عليه والاعتذار منه بشكل لائق.
" ولكن كيف تفعل ذلك وهي لم تأت بحاسوبها، بل تركته في منزل عمها وأصرت على ياسمين ألا تأتي به، فهو كان هدية من عمها بمناسبة يوم مولدها وهي لا تريد أي ذكرى تذكرها بعمها في الوقت الحالي.
ابتسمت بسخرية وهي تتساءل هل غادرتها الذكريات فعلاً ؟!
انتبهت على صوت إيناس: هاي ليلى، إلي أين ذهبت؟
ابتسمت وهزت رأسها نافية فقالت الأخرى: إذا كان لديك أشياء تريدين فعلها على الإنترنت، تفضلي.
وضعت الحاسوب أمامها وهي تكمل: إلي أن أقوم وأحضر بعض المقرمشات لنتسلى بها في سهرتنا.
نظرت إلي أختها بدهشة والأخرى تخرج من الغرفة، وسألت نفسها هل تفوهت بما كانت تفكر به، أم أنها أصبحت شفافة لتستطيع إيناس قراءة ما بداخلها
نحت تفكيرها جانبًا وهي تنظر إلى الحاسوب وتبدأ بالنقر على لوحة مفاتيحه وتسجل دخولها إلي الماسنجر وتكتب رسالة اعتذار طويلة لأمير وتتأسف لانقطاعها تلك المدة وأن ظروفها سيئة للغاية وستحاول في الفترة القادمة مقابلته لتتحدث معه.
أغلقت الحاسوب وشخصت بنظرها إلى الأمام وهي تهدئ من التوتر الذي دب في أوصالها فجأة.
لا تنكر أنها متوترة وخائفة بل مرعوبة من إجراء الجراحة، ولكنها حسمت أمرها. ستنقذ والدتها من الموت المؤكد إذا لم يوجد متبرع آخر غيرها ولن تنكر على روحها أيضًا، أنها لا تفعل ذلك من أجل بلال فحسب بل من أجل والدتها أيضًا، من أجل أن تستمتع بالقادم من حياتها ووالدتها إلي جوارها، تستمتع بعطفها وحنانها ووقوفها إلي جوارها، تستمتع بيديها تدللانها وعينيها تنظران إليها بحنو، وابتسامة الفخر التي تتألق على شفتيها عندما تنظر إليها. تنهدت بقوة وهي تنهر قلبها الذي يخفق بجنون، لتواسي روحها وهي تفكر " لا تستطيع أن تكره والدتها، فهي رغم كل شيء أمها التي أنجبتها وأرضعتها واعتنت بها وهي صغيرة، هي من علمتها أن تحيى وهي من فرقت لها بين الصواب والخطأ"
غص حلقها وهي تفكر "نعم تركتني ولكنها عادت إلي الآن، لن أسامحها على ما فعلت ولكني سأحيى إلي جوارها ما تبقى من عمري. يكفيني غربة عنها فهي موطني قبل كل شيء"
انتشلت نفسها من أفكارها وهي تسمع إيناس تتكلم بمرح لتعقد حاجبيها ثم تنبسط ملامح وجهها وهي ترى أخاها أمامها يرد على إيناس بمرح ويدلف كلاهما إلي غرفتها وهو يقول: سنقضي ليلتنا هنا، إذا لم تمانعي بالطبع.
ابتسمت باتساع: لا أمانع طبعًا ستنير الغرفة بكما.
ابتسما الاثنان وإيناس تقول وهي تضع ما بيديها: سيكون وقتًا ممتعًا.
جلست ليلى بجوارها: إن شاء الله
***
تجلس بفراشها وهي تشعر بأرق يمنعها من النوم، تفكر بذلك الشخص العجيب الذي اقتحم حياتها فجأة، تشعر بأنها تعرفه من قبل، مرح وجذاب وعيناه تلمعان بلمعة محببة إليها، تذكرها بلمعة عيني ذلك الغبي الذي يريد الاستقرار زفرت بضيق وهي تتذكره ببدلته الرسمية وغمازته الجميلة التي تزين وجنته اليمني
كان أنيقًا بشكل ملفت. ازدادت جاذبيته بشعره القصير وذقنه الخفيفة، تعلم جيًدا أنه لا يحبذ إن يكون حليق الذقن فيتركها خفيفة لتزيده وسامة وجاذبية، تنهدت بحب عميق تسلل من أنفاسها وتمتمت بخفوت: اشتقت إليك أيها الأحمق.
رن هاتفها بنغمة وصول رسالة جديدة إليه، ابتسمت وهي تفكر أنها أكيد ليلى لتعقد حاجبيها وهي ترى أنها قادمة من رقم لا تعرفه. رفعت حاجبيها بدهشة وفتحتها لتجدها مكونة من كلمتين " اشتقت إليك "
ابتسمت بجذل وهي تعلم أنها منه، تعلم ذلك جيدًا.
أراحت ظهرها على الفراش وهي تبتسم للهاتف، أتت بصورة إليه مخزنة لديها ونظرت لها مطولاً وهي تفكر: أحقًا وليد أم أنها إحدى ألاعيبك الكثيرة؟ هل تحبني حقا؟
رن الهاتف مرة أخرى معلنًا وصول رسالة أخرى جعلتها تجفل وترمي الهاتف من يدها ابتسمت على حماقتها وأتت بهاتفها وهي تفتح الرسالة المرسلة من نفس الرقم السابق بترقب وقرأت وابتسامتها تزداد " أحبك ".
تنهدت بقوة وهي تشعر بسعادة ترفرف حولها، أغمضت عيناها لتنام وهي تعد نفسها بأن غدًا سيكون أفضل بإذن الله.

سلسلة حكايا القلوب .. الجزء الاول  رواية " امير ليلى " حيث تعيش القصص. اكتشف الآن