دلف إلى البيت وهو يشعر بالإرهاق ينخر في عظامه، قضى الليلة الفائتة يبحث عنها كالمجنون بكل مكان خمن أنها ستذهب إليه. زفر بقوة ونظرات جارتها العجوز تسأله عنها بصمت. حمد الله أنه تدارك الموقف سريعًا وأخبرها أنه أتى ليأخذ بعضًا من أشيائها بعد أن فهم جيدًا منها ومن سؤالها أنها لا تعلم عنها شيئاً منذ أن غادرت برفقته.
تنفس بقوة وهو يستعيد رحلة بحثه عنها في جميع الفنادق والتي لم تسفر عن شيء في النهاية، مرر أصابعه في شعره بعصبية وهو يزم شفتيه قويًا ويجز على أسنانه بغضب وهو يتوعدها سرًا إذا فعلت ما فعلته به المرة الماضية
نعم هو احتاط وأبلغ معارفه عنها، وسيعلم إذا أرادت المغادرة، ولكن يتبق أيضًا أنها غادرت وتركته.
عند تلك الكلمة شعر بالغضب يتغلغل أوردته ويعصف بخلايا عقله، شعر بأوردة قلبه تتمزق من تكرار ما حدث سابقًا
ردد بهمس: لا لن أحتمل ذلك العذاب مرة أخرى.
رمى جسده على تلك الأريكة الوثيرة التي طالما ابتلعته فيما مضى وأغمض عينيه وهو يفكر إلى أين ستذهب؟
ردد عقله " فكر جيًدا هشام، أين ستذهب بكريم؟ وكيف ستقطعه عن جلسات علاجه، بالتأكيد ستذهب به إليها"، رمش بعينيه وهو يتذكر أن لديه موعد مع الطبيب غدًا. ضرب بقبضته ظهر الأريكة وهو يزفر بقوة ويقول بخفوت من بين أسنانه " لن أستطيع الانتظار "
انتبه على ضحكة قصيرة خافتة وصوت هادئ يقول: ما الذي لا تستطيع انتظاره يا ابن عمتي؟
رفع عينيه لينظر إلى مديحة الواقفة عند مدخل غرفة المعيشة وتبتسم له، عقد حاجبيه وهو يراها ترتدي حجابها وتلفه بطريقة قاسية حول وجهها، رمشت عيناه بتعجب وهو يرى تلك النظرة التي تلمع بعينيها، كح بخفوت وقال: صباح الخير.
ابتسمت باتساع وقالت: صباح النور، ولكن هذا ليس ردًا على سؤالي.
جمد وجهه وقال: إنه ليس من شأنك.
ابتسمت تلك المرة ابتسامه أكثر اتساعًا جعلته يزداد غضباً وهو يراها تتحرك لتجلس أمامه وتقول: كنت أريد أن أفهم سبب ضيقك ليس أكثر.
نظر لها بصرامة لم ترها على وجهه من قبل وقال: لن تفهمي أبدًا، فوفري على نفسك العناء يا ابنة خالي العزيزة.
ابتلعت تلك الغصة التي تحكمت بها وقالت: لماذا؟ أتراني غبية لتلك الدرجة، أم ليس لدي عقل؟
زفر ساخرًا وهو ينظر أمامه ويقول: وهل لديك عقل فعلاً ديدي؟
رمشت بعينيها سريعًا وهو يتبع بغضب: إذا كان لديك عقل هل كنت تأتين مع عمتك المصون لتنفيذ ما أرادته هي؟
شحب وجهها وشعرت بالذهول وهو يتبع وينظر إليها بغضب تحكم في عينيه فأصبح لونهما داكنًا واختفى اللون العسلي من حدقتيه وأكمل بعنف: لو أن لديك ذرة عقل لأدركت أنني أعشق زوجتي وأنني لن أنظر إليك أبدًا، لو أن لديك ذرة عقل لتوقفت منذ فترة طويلة عن ملاحقتي، لو أن لديك ذرة عقل لما أتيتِ الآن لي لتلعبي ذلك الدور الذي أخجل أن اسميه بمسماه الحقيقي.
شهقت بقوة وهي تنتفض واقفة لينتفض هو أيضًا واقفًا، يحتجزها بجسده ليمنعها من الخروج ويتبع بحقد: كلا لن تنصرفي الآن، وانتظري بشجاعة بقية حديثي. فأنت من تسببت لنفسك بذلك يا صغيرة.
قالت بخفوت: ابتعد هشام ودعني أمر.
عقد ساعديه أمام صدره العريض وقال دون أن يرمش: كلا لن أبتعد. استمعي إلى جيدًا فأنت تستحقين ما سأقوله.
أحنى رأسه لينظر إليها وهو يكمل: هل توقعت أنني غافل عن سبب مجيئك منذ أول يوم رأيتك به هنا؟ هل توقعت أنت وعمتك المصون أنني ساذج لأُساق إلى ذلك الزفاف الوهمي الذي حاولتما أن تقنعاني بحضوره، ألم تتوقعا أنني أعلم جيًدا أنه فخ نُصب بأحكام لأتزوج منك.
رفعت عينيها إليه وهي تنظر بعدم تصديق، ليضحك ساخرًا: هل توقعت أنني ساذج لتلك الدرجة يا صغيرة.
أكمل بنقمة: ولكن لا ذنب لك بالأمر. فهذه هي الصورة التي ترسمها لي أمي منذ زمن بعيد وأقنعت بها الكل تقريبًا.
قالت بصوت قوي: لماذا لم تحاول أن تغيرها إذًا يا سيادة المستشار؟
عقد حاجبيه ونظر لها مستفهمًا فأتبعت متعمدة إغضابه: لماذا تركتها ترسم حياتك وترسم شخصيتك ولم تدافع عن أي منهما أمامها.
اتسعت عيناه فأتبعت بسخرية: لا، لا تنظر لي بتلك الطريقة وأنت تعلم أنني محقة.
أكملت وهي ترسم ابتسامه ساخرة: وعمتي أيضًا محقة.
لمع الغضب بعينيه قوياً وقال هادرًا: محقة!
ردت بقوة: نعم محقة، فأنت لم توقفها مرة واحدة، لم تخبرها ولو لمرة واحدة أن تتوقف عن تسيير حياتك، بل تبعتها كالأحمق.
هدر بغضب: مديحة، التزمي حدود الأدب.
رفعت عيناها بتحدي وقالت: ما الذي أغضبك أكثر يا سيادة المستشار؟ أنني أخبرك بأن عمتي تسير حياتك، أم أنك أحمق لم تدافع عن نفسك وحياتك وزوجتك أمامها.
اربد وجهه من الغضب واحتقن بقوة وهو ينظر إليها بعينين سوداوين، فاتبعت هي غير مبالية به وبغضبه: بكل مرة أرادت عمتي العبث بك وبحياتك تركتها تفعل ما تشاء، لم تحاول أن تمنعها هشام، لم تدافع عن نفسك أو عن حياتك.
لانت نظرتها قليلاً وقالت بهدوء: أخبرني بالله عليك ما الذي يجبرها على التوقف عن ذلك وهي ترى استسلامك لها؟
رمش بعينيه وهو يشعر بألم رهيب يعتصر قلبه بقوة وقال غاضبًا: لم استسلم لها أبدًا.
ابتسمت ساخرة وقالت: ألم يكن استسلاما هشام عندما تركت زوجتك تغادر المرة الماضية؟ ألم تعلم موعد سفرها، ألم تذهب إلى المطار وتنظر إليها وهي تغادر ولم تمنعها من السفر، أخبرني هشام ألم تتركها تذهب وأنت تراقبها مودعًا؟
اتسعت عيناه بقوة نظر لها وقال بجمود: من أخبرك بذلك؟
زمت شفتيها وصمتت ليقترب منها بحدة وهدر بها صائحًا: تكلمي.
رفعت عينيها وقالت بجمود: والدتك.
تراجع للخلف بحركة مبعثرة فأتبعت بنبرة قليلة الحدة وهي تشعر بأنها مشفقة عليه من الآتي: لقد تتبعتك ذلك اليوم خوفًا من أن تمنع هنادي من السفر وتعود بها بعد أن تركتها وذهبت وأخبرتها أنك ستعيش مع زوجتك، ولكنها فوجئت منك ومن وقوفك صامتًا وأنت تنظر إليها وكأنك تودعها بعينيك.
أكملت بصوت هادئ تماماً: وها أنت هشام تركتها تفعل ما تريد تلك المرة أيضًا وعدت إلى هنا وكأنك تخبرها ضمنيًا أنك ستبقى معها طالما هنادي ليست بحياتك. أنت من جعل العداء شخصيًا بينها وبين زوجتك، لأنك تتمرد عليها عند ظهور هنادي وتعود لتتقوقع بجانبها بمغادرة هنادي لحياتك، وكأن هنادي هي من تشعل الثورة بنفسك، فأجبرت عمتي على التعامل معك ومعها بتلك الطريقة، أجبرتها أن تفكر بأن اختفاء هنادي سيبقيك أنت معها وهذا ما تريده هي. فلماذا لا تحشد قوتها كلها لمحاربة هنادي وطردها من حياتك للأبد؟
نظرت له مليًا وقالت: أخبرني بالله عليك لماذا تدخر مجهودها ولا تطرد تلك الدخيلة التي تجعل ولدها يتمرد عليها ويكسر تلك القضبان التي أحكمتها حوله منذ أمد بعيد؟
اتسعت عيناه بذهول هو ينظر إليها بتفحص ويسأل ببلاهة: متى كبرت إلى هذا الحد؟
ابتسمت رغماً عنها وهي تنظر إليه بتلك النظرة التي رمقته بها دائمًا ولكن عقلها صدح قويًا وهو ينهاها عن التفكير في تلك الرعشة التي ضربت قلبها، فأشاحت بعينيها بعيدًا عنه وقالت: أنت أيضًا توقعت أنني ساذجة صغيرة.
قال بهدوء: من الواضح أنك مختلفة عما ظننت وهذا يدفعني لذلك السؤال الذي يلح علي.
رفعت عينيها له باستفهام فاتبع سائلاً: ما الذي جعلك توافقين على مخططات أمي؟
شحب وجهها قويًا و ارتدت للوراء خطوتين وقالت بتلعثم: أعذرني، لن أستطيع إجابتك.
ابتسم بهدوء وقال: هذا من حقك، ولتعلمي أنني لم أعد لأمكث هنا، بل عدت لأخذ ملابسي. فقد غادرت البارحة سريعًا وراء تلك المجنونة التي لا أعلم إلى أين ذهبت؟
ابتسمت بهدوء وقالت: إنها مجنونة بك وأنت ستكون أكثر جنونًا لو تركتها تهرب منك كالمرة الماضية.
هز رأسه نافيًا وقال بتصميم خرج من روحه: لن أتركها وعندما أجدها سا..
صمت وعيناه تنطق بوعيد شرس فشعرت بالخوف رغمًا عنها على هنادي وخاصة أنها كانت السبب الرئيسي فيما ستفعله الأخرى فقالت: حسنًا سأودعك الآن، لأن من الواضح أننا لن نلتقي مرة أخرى إلا لو أتيت لزيارتنا.
عقد حاجبيه وسأل: إلى أين أنت ذاهبة؟
ابتسمت وقالت بزفرة قوية: إلى البيت.
هز رأسه متفهمًا وقال: بمفردك.
هزت رأسها بالإيجاب فقال: لماذا؟ ألن تذهبي مع عمتك؟
قالت بجمود: لا لم أخبرها بمغادرتي حتى لا تمنعني، سأستقل القطار.
قال: حسنًا سأوصلك.
أشارت بيديها نافية: لا، لا داعي.
نظر لها بدهشة فأكملت: لا تشغل رأسك بي واذهب لتبحث عن زوجتك، وصدقني ستجدها قريبة أكثر مما تتخيل.
تحركت مغادرة من أمامه لتلمع عيناه بوميض خاطف ويندفع ليأخذ سلسلة مفاتيحه وهاتفه ويتجه إلى باب الشقة فسألته بتعجب: إلى أين ستذهب؟
قال سريعًا: إلى هنادي. أعتقد أنني علمت أين هي !!
تحكمت في شهقتها بقوة ونظرت في أثره الذي اختفى من أمامها سريعًا لتمسك هاتفها وتتصل سريعًا وهي تخرج من باب شقة عمتها حاملة لحقيبتها الصغيرة.
تأففت بنفاذ صبر وهي تخرج من باب العمارة وتركب التاكسي الذي أتى به البواب بناءًا على رغبتها، زفرت بضيق تلك المرة وهي تقول: أجيبي بالله عليك.
تنفست الصعداء تلك المرة وهي تقول: أين أنت؟ لقد مت رعبًا عليك.
وصلتها ضحكة الأخرى وقالت: المعذرة كنت أصف سيارتي بمرأب الجريدة، حتى لا يحدث لها شيئًا الفترة القادمة
زفرت بارتياح لتسأل هنادي: ماذا حدث لتموتي رعبًا علي؟
قالت الأخرى ببطء: إنه هشام. أعتقد أنه كان ذاهبًا إليك.
عقدت هنادي حاجبيها وقالت: أين؟ هل علم أين أنا؟
لا أعلم لقد غادر مسرعًا من أمامي قائلاً إنه علم أين أنت، أعتقد أنه توقع وجودك بشقتكما.
شعرت هنادي بالإحباط يملأها وقالت بصوت مخنوق: تذكر الآن أنني سأكون بالبيت الذي أثثته بنفسي.
شعرت رغمًا عنها بالحزن وهي تعلم أن الليلة الماضية كانت الأقسى على هنادي، فقد قضتها في الانتظار وهي تتوقع أن تكون شقتهما أول مكان سيأتي إليه هشام ليبحث عنها به، وكانت تلك الفرصة الأخيرة التي أعطتها له هنادي دون أن يدري قبل أن تبدأ بمخطط هي من أعدته.
قالت سريعًا وهي تشعر بالذنب: اسمعي هنادي.. تستطيعين التراجع الآن، أنت بمقر عملك وتستطيعين الرجوع إلى البيت وكأن شيئاً لم يكن.
زفرت الأخرى بإحباط: كلا مديحة، لقد قررت أن أمضي إلى آخر الطريق.
قالت بسأم: كم أنت عنيدة؟ لماذا تفعلين ذلك به وبنفسك؟
تنفست هنادي قويًا وقالت: إنه يستحق أن أفعل به ذلك.
تكلمت مديحة بمهادنه: أنه يحبك وأنت تعلمين ذلك جيدًا، تخلصي من بقايا الماضي وعيشوا حياة هادئة.
ابتسمت هنادي بسخرية: لا يفيد الآن، لابد أن يقرر هو بنفسه ماذا يريد.
قالت بعصبية: أنه يريدك وأنت تعلمين.
ردت هنادي بواقعية مريرة: بل يتخذني وسيلة لمحاربة عمتك، وسيلة ليتخلص من تأثيرها عليه واستبدادها.
زفرت بعمق واتبعت: لابد أن يقرر ماذا يريد دون وجودي في حياته: هل سيتركها تسيّر حياته بتلك الطريقة أم سيستلم هو زمام الأمور بنفسه.
ابتسمت مديحة بإعجاب وقالت: حسنًا، وافيني بمحطة القطار فقد وصلت.
ابتسمت هنادي بوهن: وأنا سأكون عندك بعد دقائق، أراك لاحقًا.
****
رنت مجموعة الأجراس التي تعلن عن قدوم أحدهم إلى الجاليري فابتسمت بمهنية وهي تنتظر ذلك الزائر الذي أتى بوقت مبكر.
اتسعت ابتسامتها وهي تنظر إليه حاملاً لكوبين من القهوة وكيس ورقي توقعت أنه يكون فطور لهما هما الاثنين.
اقترب وهو يبتسم لها بحب: صباح الخير يا زوجتي العزيزة.
ضحكت بخفة وقالت: صباح الخير، وأنا ما زلت خطيبتك.
تبرم بخفوت وقال بإصرار: لا زوجتي، وعقد القران البارحة يشهد على ذلك بل العالم كله يشهد أنك أصبحتِ زوجتي، ملكي وحبيبة قلبي.
قال كلمتيه الأخيرتين وهو يضع ما بيده على المكتب و يقترب منها ليحتضن خصرها بكفيه ويطبع قبله سريعة على وجنتها وهو يكمل: لن تستطيعين الخلاص مني ياسمين، فنحن سنظل معًا إلى الأبد.
رددت بطفولية: إلى الأبد.
ابتسم باتساع وقال: لا أعلم سبب حرصك على النزول إلى العمل اليوم، كنت أخطط أن نمضي اليوم في اليخت بوسط النيل، نستمتع سويًا بالعزلة التي لم أحظ بها البارحة.
ضحكت بدلال لتقول وهي ترسم تعبيرًا صارمًا على وجهها: كلا يا باشمهندس، لقد ولت تلك الأيام وذهبت بعيدًا، لن نركن إلى الخمول والراحة كما كنا نفعل سابقًا، لديك الآن عملك وأنا أيضًا لدي الكثير من العمل لابد أن أقوم به.
مد شفتيه بغضب لتقول هي بمرح: وسنقوم برحلة اليخت تلك الجمعة القادمة.
تهللت تعابيره بفرحة عارمة وهو يقول: حقًا؟!
أومأت برأسها إيجابًا فقال بهدوء: حسنًا هلا استقطعتِ وقتًا من عملك لنتناول الفطور معًا.
ابتسمت: بالطبع.
أشارت إلى الكرسي الموضوع أمام مكتبها: اجلس لنتناول الفطور سويًا.
هز رأسه رافضًا وقال: كلا بالطبع. لن نجلس هنا في واجهة المحل لنأكل.
جذبها من يدها يقربها إليه: تعالي لنتناول فطورنا سويًا بداخل تلك الغرفة التي تستعملينها كمرسم.
عقدت حاجبيها وهمت بالاعتراض ليسحبها خلفه برقة ويقول: هيا ياسمين.
زمت شفتيها بعدم فهم ووقفت تنظر إلى الغرفة الفارغة إلا من لوح الرسم وأريكة عريضة كانت تستريح عليها لبعض الوقت عندما تقضي وقتًا طويلاً واقفة وهي ترسم إحدى لوحاتها.
تحرك ليضع الفطور على كرسي دائري ويحمله ليقربه من تلك الأريكة ويجلس عليها وقال: تعالي حبيبتي.
شعرت بالتوتر اللحظي وهي تنظر إليه مفكره فيما يريد، فهو يتحاشى النظر إليها وتشعر أنه يقودها إلى فخ لا تفهمه حقًا. اقتربت منه بهدوء وحاولت أن تنحى تلك الأفكار السلبية التي هاجمتها بضراوة لتنتبه فجأة على ذراعه التي حاوطت خصرها وجذبتها بقوة لتقع بحضنه وهو يقول بعبث: أمسكت بك.
شهقت بقوة وقالت بعتب وهي تحاول أن تنهض ثانية: اتركني وليد.
حرك حاجبيه بإغاظة لها: أبدًا ، هل جننت لأتركك الآن؟
انحنى عليها سريعًا ليخطف قبلة من بين شفاها ويقول بهمس: صباح الخير.
احتقن وجهها بقوة وخفضت عينيها بعيدًا عنه، تأوه هو بفرح ليقول لها بصوت أجش: ارفعي عينيك ياسمين وانظري لي.
هزت رأسها نافية ليضع أنامله تحت ذقنها ويرفع رأسها، نظر إليها مليًا: اشتقت لمذاق الكرز من شفتيك حبيبتي.
شعرت بالهواء ينسحب من صدرها فجأة وهو ينحني مرة أخرى ليقبلها تلك المرة قبلة طويلة هادئة رقيقة جعلت أطرافها ترتعش حبًا له، ضمها إلى صدره قويًا وهو يهمس بحبه وعشقه لها، يتغزل بها غزلاً صريحًا أضاع عقلها وهو يقبل كل انش في وجهها.
شعرت بأنفاسه تلامس رقبتها وقبلاته الطائرة تحط على أكتافها لتشعر بناقوس الخطر يدق في عقلها وهي تتنبه أن يديه أصبحتا أكثر جرأة وقبلاته أصبحت أكثر تطلبًا، لتنتفض من تلك الغمامة التي سيطرت على عقلها وهي تعي فجأة أنها أصبحت شبه نائمة تحت جسده !!
دفعته بقوة في كتفيه وهي تتملص من بين ذراعيه وتقول شبه صارخة: ابتعد وليد.
شعر بأنه يطرد من جنته بعيدًا فحاول أن يتمسك بذلك النعيم الذي قرب على الوصول إليه فتمسك بها وحاول أن يضمها إلى صدره ثانية لتدوي صرختها في أذنيه فيقفز واقفًا بعيدًا عنها.
زفر بقوة وتحرك سريعًا إليها وجلس بجانبها ليضمها إليه من كتفيها، ضربت يده بقوة ليشتم بخفوت واقترب منها مرة أخرى وهو يهمس باعتذار حقيقي: آسف حبيبتي، لم أستطع كبح جماح نفسي.
سيطرت على دموعها التي لا تعلم ما سببها الآن، بل تعلم جيًدا ولكنها لا تريد التفكير الآن، أشاحت بنظرها بعيدًا عنه: انصرف وليد من فضلك.
زم شفتيه بحنق وهو يسب نفسه وغباؤه على ما فعله وتسرعه الأحمق ليقول: لا ياسمين، لن انصرف.
انتفض جسدها بغضب ليتبع هو بصرامة وهو ينهض واقفًا بعيدًا عنها: لم أفعل شيئًا خاطئًا، أنت زوجتي وأنا قبلتك لم يحدث شيئاً، ولم أكن لأتمادى.
نظرت له بحنق لتظهر التسلية على وجهه: كنت سأتوقف عند حد ما، فلا يليق ألا انتظر ليلة زفافنا.
شعرت بأذنيها تحترقان خجلاً لتبحث عن أي شيء أمامها لترميه به، فكانت أكواب القهوة أول ما توصلت يدها له ليضحك بمرح وهو يراها تستعد لرميه به ويقول بمرح: حذاري ياسمين إنها ساخنة.
نظرت إليه بغضب فقال وهو يقترب منها مرة أخرى: اهدئي حبيبتي.
سحب كوب القهوة من يدها ليقول وهو يجلس مرة أخرى بجانبها ويضمها من كتفيها إليه: اعتادي على معاملتي الجديدة لك فنحن أصبحنا زوجين وأنا لا أستطيع ألا اقترب منك، فقط ستكون بعض القبلات ياسمين ولا أظن أنك تضنين بها علي.
رفعت عينيها ونظرت إليه بجمود، تنفست بقوة وقالت: بل سأضن عليك بها وليد، وبسبب ما فعلته الآن لن نتقابل لفترة من الوقت لعلي أستطيع ان أنسى ما حدث منك.
اتسعت عيناه والدماء تفر من وجهه وقال بتلعثم: لماذا؟ لم أفعل شيء خاطئًا !
قالت ببرود: بل فعلت وأنا لن انس أبدًا ما فعلته الآن.
نهض واقفًا بعصبية وهو يقول: أنت زوجتي.
قالت هادرة: بل خطيبتك وهذا لا ينفي أنك تعاملت معي كما تتعامل مع فتياتك دائمًا.
احتقن وجهه غضبًا وقال بزمجرة: لا تقارني نفسك بهن أبدًا، ثم أنت مختلفة وأنت تعلمين.
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه فتنهد بقوة واقترب بهدوء: ألم ننته من الماضي ياسمين؟
فرقعت أناملها بتوتر ليقول وهو يجلس بمحاذاتها: أنهيت تلك الأمور كلها ياسمين.
نظر إليها ليتبع بهمس عاشق: منذ قبلتك تلك.
أكمل وهو يقترب بجسده منها ويجبرها أن تنظر إليه ويهمس بخفوت: قضيت ليالي طويلة أستعيدها بأحلامي وانتفض من نومي لأهمس باسمك، أستعيدها مرارًا في أحلام يقظتي، وعندما غدا حلمي حقيقة واقعة تضنين بها علي، تمنعيني من حقي بك.
رقت ملامحها قليلاً وصمتت وهي تنظر إلى عينيه التي بثت لها أشواقه، تنفست ببطء وسيطرت على غضبها لتقول بنبرة مشروخة: هذا لا يمنع أنني شعرت أنني رخيصة كفتياتك وليد.
شحب وجهه بقوة لتكمل هي: لو أنك اعتبرتني مختلفة لدقيقة واحدة لما فعلت ما فعلته، كنت حجمت نفسك وانتظرت إلى أن أصبح زوجتك بالفعل.
أكملت بحزن شديد لمسه هو من صوتها ومن تعابير وجهها الحزين: كنت حافظت علي من نفسك، واحترمت ثقتي وثقة أبي بك ولم تخنها.
ارتعشت عضلة صدغه لا إراديًا وقال بحشرجة: لم أقصد ذلك أبدًا ياسمين.
نظرت له بألم وقالت: وكم من المرات جرحتني وليد دون أن تقصد !!
انتفض واقفًا وقال بهدوء: سأتركك لتهدئي ياسمين وسنتحدث لاحقًا.
انحنى ليقبل رأسها كنوع من الاعتذار وإبداء ندمه على ما فعله منذ قليل لتشيح برأسها بعيدًا عنه. نظر لها بعتب لتشيح بعينيها بعيدًا عنه وتنظر للاتجاه الآخر.
همس بخفوت: حسنًا، أراك قريبًا. راقبته وهو يغادر بصمت لتنزلق دمعة حزينة من عينيها وهي تتمتم: إلى اللقاء.
***
زفرت بقوة وهي تترجل من السيارة، رفعت عينيها وهي تتأمل ذلك المبنى الحديث الصغير المكون من طابقين، يتوسط حديقة صغيرة مهملة.
رمشت بعينيها وهي تتذكر أحداث الليلة الماضية وكم كان غاضباً منها، تركها ورحل وهي تشعر بانتفاضة جسده القوية الغاضبة، رحل حتى لا يُقدم على ما يسيء لحميه، هذا ما تمتم به وهو يغرز أصابعه في ذراعيها، ذراعيها اللتان حملتا آثار أصابعه وكأنها تأبى أن تمسح آثاره.
عاد في الصباح وكان هادئًا بطريقة مريبة، شعرت منها بالخوف وتسللت الرجفة إلى جسدها كاملاً عندما ابتسم تلك الابتسامة التي تمقتها، ابتسامة غير مبالية وشديدة الخبث، جلس يتناول الفطور مع العائلة وكأن شيئاً لم يحدث، ظلت تنظر إليه طوال مدة الفطور وهي تحاول أن تستشف ما وراء ابتسامته ولكنها لم تستطع أن تنفذ إلى داخله وكأنه أغلق على روحه بقفل صلب. تنهدت قويًا وهي تتذكر إعلانه الهادئ أنه سيصحبها إلى الساحل الشمالي لإراحة أعصابها والترويح عنها قليلاً.
حينها شعرت بالاختناق، بل كادت بالفعل أن تختنق بطعامها الذي أصبح عسير البلع منذ وصوله، رمشت بعينيها وهو يكمل أنهما سيذهبان بمفرديهما وأن على حماته العزيزة كما لقبها أن تحتمل الطفلين تلك المدة الصغيرة التي سيذهبان بها.
لم تصدق عينيها ووالدها يبتسم بحنان له، ووالدتها التي ابتسمت بارتياح، وفاطمة التي شجعته بأخوة وغمزت لها بعينها وهي تخبرها بنظرتها أنها ستنجح فيما تريده واقترحت أن تذهب مع إحدى العاملات لتوضيب الحقائب لكليهما!!
وحدها فقط من رأت تلك النظرة المخيفة في عمق عينيه، وحدها فقط من رأت تلك الحلقة السوداء التي تتسع بحدقتيه لتبتلع زرقتهما فتصبح عيناه بحرًا معتمًا لا قرار له.
نظر لها بغضب عنيف فارتعدت رغمًا عنها وشعرت بأن ما هي مقبلة عليه سيكون عسيرًا وصعبًا، بل الأصعب في حياتها التي مرت كلها!
أخفض جفنيه وفتحهما مرة أخرى لتجد أنه استعاد صفاء زرقة عينيه وابتسم بحنان ليضم الطفلين إليه بعد أن أعلنا تذمرهما من عدم وجودهما بتلك الرحلة التي يريدان الذهاب إليها، وكعادته دائمًا تغلب عليهما بحنانه ورقته معهما، بل أقنعهما بعدم الذهاب معهما، وأنه سيعوضهما خيرًا عن تلك الرحلة التي لن تكون ممتعة لهما !!
لم يتركهما إلا وهما سعيدين وفرحين بما وعدهما به وانطلقا بعيدًا عنه ليلعبا كما اعتادا في الحديقة.
رفع نظره لها لتزدرد لعابها بخوف وصل إليه جيدًا، فابتسم ساخرًا،
قالت بتلعثم: ماذا تريد خالد؟
اتسعت ابتسامته وهز رأسه بلا شيء، فأكملت بتوتر: لن أذهب معك.
رفع حاجبيه بدهشة وقال ساخرًا: حقًا ؟!
كسا الجمود وجهه وقال بصوت خشن: أريني كيف ستفعلينها؟
رمشت بعينيها وقالت بهدوء حاولت أن تستجمعه: إذًا اخبرني عما تريده مني.
تألق الخبث بعينيه وقال: أريد يومين في الجنة حبيبتي، مع زوجتي الجميلة التي أحبتني منذ يومنا الأول معًا.
جزت على أسنانها وسطع الغضب بعينيها: لا تسخر مني خالد.
قهقه ضاحكًا بقوة لترتجف هي رعبًا من تلك الضحكة التي حملت كل شيء آخر غير السعادة، ضحكة خرجت مشبعة بالغضب والقسوة والوعيد، وعيد رأته هي بعينيه اللتان قستا ليستحيل لونهما إلى الأزرق الغامق، نظر لها بغضب وقال بصوت منخفض ولكنه يحمل الكثير من الوعيد: هل أنا من يسخر منك حقًا منال؟ !
نظرت له بعدم فهم وقالت بشرود: نعم، أنت من تسخر مما أخبرتك به البارحة.
ابتسم بتهكم وقال: نعم، ما قلته البارحة يثير السخرية بالفعل !!
عقدت حاجبيها وهمت بالحديث لتقاطعها هنا التي أتت لتجلس بحضن خالد وتتحدث معه برقة كعادتها. ابتسم بهدوء لهنا ليرفع عينيه لها ويقول بهدوء: اذهبي وحضري الحقائب منال، سنغادر خلال نصف ساعة على الأكثر.
وقفت حينها وهي تعلم أن لا شيء آخر أمامها غير الاستسلام له والذهاب معه، حتى تعلم ما يريده منها، وها هي تقف أمام فيلا صغيرة تقع في القاهرة ولكن في أحد المدن الجديدة النائية الخالية من السكان تقريبًا ولا تفهم ما الذي يريده من وجودهما هنا.
تنفست بعمق وهي تتذكر كلماته القليلة التي نطق بها منذ مغادرتهما معًا، جميعها كانت غاضبة مبطنة بتهديد قوي منه، وعندما أشارت إلى أنهما في القاهرة ولم يخرجا منها، قال بغضب أنه لا شأن لها بما يفعله وأن الزوجة الطبيعية تتبع زوجها دون نقاش.
صمتت عن الحديث وهي تحاول أن تستوعب مدى غضبه وقسوته معها وتحاول أن تبرر موقفه ذاك، فهي توقعت أنه سيتغير بعد حديثها البارحة. نعم هو تغير فعلاً ولكن في الاتجاه المعاكس !!
انتفضت من أفكارها على صوته القوي وهو يحدق بها بعنف جعلها تتنفس بقوة وهي تنظر إليه من خلف نظراتها الشمسية ويقول: أستظلين عندك؟
ازدرت لعابها واقتربت منه ببطء وهي تشعر برجفة خفيفة في أوصالها، بسبب تلك النظرة العنيفة التي تلمع بزرقة عينيه الغامقة.
فتح الباب وقال: ادخلي.
تقدمها لتتبعه بهدوء وهي تنظر سريعًا من حولها، تحكمت بفمها الذي كان سيطلق شهقة إعجاب بتجهيز الفيلا وأثاثها الراقي.
وضع الحقيبة من يده بعنف أجفلها فالتفتت تنظر إليه، فقال سريعًا : سأخرج الآن وسآتي بعد قليل.
هزت رأسها بتفهم ليقول بخبث: هل أعجبتك؟
ابتسمت وقالت بصدق: إنها رائعة. ولكنها مليئة بالأتربة.
هز رأسه ليقول وهو يخرج من الباب: غرفة النوم في الدور الأعلى، أريد أن أعود لأجد كل شيء نظيف ولامع، هيا قومي بواجباتك الزوجية كاملة حبيبتي .
رمشت بعينيها سريعًا: نعم ماذا تقول؟
جز على أسنانه قويًا وهو يقول بعنف: كما سمعتِ.
قالت بتلعثم: ولكني..
قاطعها بغضب وهو ينظر لها بحدة جعلت الأزرق بهما يشتعل: نعم أعلم أنك منال هانم الخشاب، خُلقتِ لتدللي. لكن عصر دلالك انتهى يا هانم، الآن سيبدأ عصر جديد لنا معًا منال أنت أبعد ما تكوني أميرة به.
نظرت إليه بدهشة لتنتفض على صوت صفعة الباب القوية لترمش بعينيها وهي تدرك أنها ستكون أيامًا من الجحيم !!
****
ليلى، أمازلتِ نائمة؟
عبست وهي نائمة وأدارت ظهرها لمصدر الصوت، تحركت الأخرى لتفتح ستائر الغرفة فيطل ضوء الشمس قويًا وينير الغرفة بأكملها
صاحت مرة أخرى: ليلى استيقظي من فضلك.
تثاءبت وهي تجاهد لتفتح عينيها وتقول بخمول: اتركيني قليلاً إيني.
هزت الأخرى رأسها نافية وقالت بضيق: استيقظي لولا لقد أصبحت الواحدة ظهرًا وأنت نائمة منذ البارحة، لقد مللت من الجلوس بمفردي.
انتفضت جالسة وهي لازالت تتثاءب وقالت بدهشة: الواحدة ظهرًا.
هزت ايني رأسها بنعم وهي تقول: لأول مرة أراك تنامين كل ذلك الوقت،
راقبت بعينيها إيناس وهي تلف في الغرفة الواسعة تغلق المكيف وتفتح بقية ستائر الغرفة ليدخل نور الشمس منيرًا الغرفة بأكملها. وضعت يدها أمام عينيها متحاشية الضوء القوي وخفضت جفنيها وهي تتذكر عودتها البارحة، فهي دلفت إلى غرفتها سريعًا وبدلت ملابسها وكأن أحدًا يطاردها. نعم كان شبح وجوده حولها في الحفل يطاردها. ارتدت ملابس نومها وقفزت إلى فراشها، وأغمضت عينيها وهي تأمر عقلها بالنوم، وكعادتها عندما تهرب من مواجهة واقعها وآلامها تذهب في نوم عميق ولا تستيقظ منه إلا بعد وقت طويل. وها هي تستيقظ على صوت أختها التي إذا تركتها الآن ستذهب إلى النوم مرة أخرى حتى لا تفكر به ولا بكلماته ذات التهديد المبطن!!
انتبهت على إيناس التي اقتربت لتجلس بجانبها وتتبع: هل أنت مريضة؟
زفرت ليلي بخفوت وهي تقول داخليًا: نعم مريضة به.
ابتسمت ورفعت عينيها لأختها: لا حبيبتي ولكنني متعبة قليلاً، أنت تعلمين رحلة العودة ثم خطبة ياسمين، لذلك أشعر بالتعب وأنني مهدودة القوى.
ابتسمت ايني وقالت: حسنًا انهضي وأنا ساعد لك كوبًا من النسكافيه ينعشك.
ابتسمت ليلى وفكرت قليلاً أنها لا تريد الانفراد بنفسها، لا تريد أن تجلس بمفردها، لا تريد أن تفكر به، تريد أن تنشغل بأي شيء لتحمي قلبها وعقلها من غزوه الجامح لها.
نظرت إلى إيناس وهي تكاد تخرج من الغرفة وقالت سريعًا : ايني.
وقفت الأخرى بدورها ونظرت لها لتتبع بنظره شقية: ما رأيك أن نخرج لنتنزه قليلاً؟
لمعت عينا إيناس بقوة وقالت: بالطبع موافقة.
ابتسمت ليلى باتساع: حسنًا أخبري أمي و تأكدي أنها بخير وأكدي على الممرضة ألا تتركها بمفردها إلا عندما يأتي أحدنا ، نحن أو بلال.
قالت إيناس وهي تبتسم بخفة: لا تقلقي، سأفعل كل ما تريدين حتى ترتدين ثيابك.
قالت ليلى: سأجهز في خلال دقائق.
اندفعت إيني راكضة للخارج لتبتسم ليلى وهي تقول لنفسها: أحسنت ليلى لن تتركي قلبك وعقلك بين يديه مرة أخرى .
***
يقود سيارته وهو يشعر بملل من مضي الوقت ببطء يخنقه، لا ينكر أنه يشعر بالترقب وببعض التوتر بسبب ما سيحدث مساء اليوم. يدعو الله أن تجاريه فيما سيفعله وألا تضطره لفعل شيء يندم عليه أو يجعلها تندم على ثقتها وحبها له .
زفر بضيق وقرر أن يتوجه لأحد المجمعات التجارية يبتاع منه بعض الأشياء ويتناول غدائه أيضًا. تجول بخطوات بطيئة نوعًا ما وهو يشعر بالضيق يسيطر عليه وعقله يستمر في تحذيره مما سيحدث مساءًا لتبرق عيناه بوميض خاطف وهو ينظر إلى فتاتين متقاربتين في الطول تسيران أمامه وهما تتناقشان في أحد الأمور الأنثوية.
نطق قلبه قبل أن يتمتم هو بها: ليلى.
تنفس بقوة وهو يتبعها بحذر ويشعر بالغيرة تأكله وأنظار بعض الشباب تتجه إليهما بطريقه عارضة، لم يقترب منها بل حافظ على مسافة بينهما حتى لا تشعر به أو تراه. ولكنه شعر بانزعاج دفعه لعقد حاجبيه عندما ضحكت الفتاة التي برفقتها بصوت عالٍ جذب العديد من الأنظار وجعل ليلى تنبهها محذرة وهي تتلفت حولها يمينًا ويسارًا مؤنبة الأخرى على لفتها الأنظار إليهما.
ابتسم بحب أطل من عينيه وهو يتمتم بخفوت: حبيبتي الخجول.
تبعها بصمت لتزداد عقدة حاجبيه وهو يرى ذلك المتجر الذي دخلا إليه، نظر من خلف واجهة المتجر الزجاجية ليراها. ابتسم ولمعت عيناه بتلك الابتسامة الواثقة، وهو ينظر إليها من خلف الواجهة الزجاجية لأحد محلات الأزياء النسائية.
شعرت بالهواء يحمل رائحته ونظراته مسلطة عليها – كما كانت تشعر به من قبل وهي جالسة بحديقة الفيلا وهو ينظر إليها من بعيد.
رفعت نظرها بطريقة غير واضحة لتنتفض بخفة وهي تراه يقف في الخارج، رفع لها حاجبيه وأحنى رأسه إليها بتحية. أشاحت بنظرها بعيدًا عنه وهي تجز على أسنانها غضبًا ، التفتت حولها وهي تتأكد من عدم وجود إيناس بجوارها حتى لا تلحظ تغيرها، فتلك الفتاه شديدة الذكاء ودقيقة الملاحظة.
انتبهت من أفكارها على صوته الهامس: كيف حالك يا أستاذه؟
تمتمت من بين أسنانها وهي تظهر تشاغلها بالأزياء المعروضة: ماذا تريد؟
ابتسم وهو ينظر إلى أحد الفساتين الجريئة: ماذا تفعلين هنا؟ تلك الأزياء لا تناسبك.
رفعت حاجبها وقالت بتهكم: اشتري بعضًا من الأشياء لزواجي.
لمعت عيناه بجذل وقال: سأحبها جميعًا.
أكمل بهمس دافئ: ستكون رائعة عليك.
احتقن وجهها بقوة وظهر الغضب في عينيها: وما دخلك أنت؟
ابتسم تلك الابتسامة التي لا تصل إلى شفتيه لكنها تتألق بعينيه: أنا زوجك المستقبلي ليلى.
لمع الغضب بعينيها و قالت بكبرياء: ومن قال أنني سأقبل بك يا أسطى.
نظر لها بقوة وقال: سنرى، ثم أنا لا أسألك عن رأيك. أنا أخبرك بما سيحدث.
كتفت يديها بعصبية وهتفت: والله، وكيف سيحدث هذا؟
ابتسم باتساع وقال بنبرة واثقة: سترين يا زوجتي العزيزة.
انحنى ليهمس لها: أعدك أنك ستستمتعين بما سيحدث؟
انتصب واقفًا مرة أخرى وقال: أراك قريبًا يا أستاذه.
زمت شفتيها بقوة وهي تشعر بالحنق والغضب يملأها. كم أرادت أن تكسر له أسنانه حتى يكف عن الابتسام بتلك الطريقة.
كيف يتحدث بتلك الطريقة الواثقة، إنه يتحداها ويعدها بأن ما يتفوه به سيحدث، كيف؟ هل سيختطفها ويتزوجها، ما هذا الغباء ليلى؟
شعرت بالخوف فجأة وهي تفكر في صوته المليء بالثقة، حديثه المفعم بالغموض
وجملته الأخيرة وأنه سيراها قريبًا، كأنه يخبرها بموعد اتفقا عليه مسبقًا هزت رأسها رافضة بعنف تلك الأفكار التي تزيد من خوفها، لتنقذها إحدى العاملات بالمتجر وهي تربت على كتفها وتخبرها أن هذا الفستان يخصها.
اتسعت عيناها وهي تنظر إلى الفستان بداخل الكيس ليحمر وجهها خجلاً وتقول للفتاه بعصبية: لم ابتع ذاك الفستان؟
ابتسمت الفتاه وقالت بعملية: خطيبك ابتاعه لك.
رفعت ليلى حاجبيها وهي تمتم بغيظ: تبًا لك عبده.
***
تنهدت بقوة وهي تنظر إلى عدة التنظيف التي أخرجتها من إحدى الخزنات الموجودة في المطبخ، بعد أن تجولت في أنحاء الفيلا، وتعرفت على محتويات كل غرفة بها.
فبخلاف الصالة الواسعة التي تحتوي على طقم استقبال أنيق حديث الشكل وفخم بنفس الوقت، ومائدة طعام جميلة وأنيقة، تفتح الصالة على مطبخ أمريكي حديث الطراز يحتوي على كل ما يحتاجه طباخ ماهر ما عدا الطعام، هذا ما فكرت به وهي تنظر إلى المبرد الفراغ من كل شيء حتى زجاجات المياه.
يوجد غرفتين في الدور الأسفل، إحداهما مكتب أنيق وفخم اعتقدت أن خالد أثثه له، وغرفة معيشة رائعة واسعة وأثاث مريح، ألوانها هادئة ومريحة للنفس.
تنفست مرة أخرى وهي تنظر أمامها، وتشعر بالتشتت. هدوء خالد معها يجبرها على التفكير في موقفه، فلطالما كان هدوء خالد عبارة عن غطاء لعاصفة تنتظرها. لم يكن هو هذا الشخص الهادئ الغير مبالي، بل كان دائمًا بركان غضب سريع الاشتعال، تفوح منه حمم الغضب فتحرق من يكون بقربها.
تنهدت بقوة وهي تفكر " أنها اكتفت من الغضب والحزن، تريد شيئاً من السعادة ومستعدة ان تقاتل من أجلها "
نظرت مرة أخرى إلى عدة التنظيف وفكرت كيف تبدأ، لم تقم بذلك من قبل، ولا تعرف كيفية سير العمل، لم تلحظ الخدم في قصر والدها وهم ينظفون الغرف، فهم كانوا دائمًا يعملون في الغرف الشاغرة حتى لا يزعجوا أحدًا.
قلبت عيناها بحيرة وهي تستدعي صورة تلك الخادمة اللاتينية التي كانت تأتي ببيتها في أمريكا، تلك الخادمة التي أتى بها باسم لتقوم على رعايتها في أواخر مدة حملها. تمتمت وهي تبتسم ببشاشة: ماريا.
كانت سيدة لطيفة وسهلة المعشر وكانت تذكرها دائماً بدفء مربيتها المصرية. تنفست بقوة وهي تقول: سأفعل كما كانت تفعل ماريا، سألمع الأثاث ثم أقوم بالمسح. فكرت قليلاً " أم أنها كانت تقوم بمسح الأرض أولاً؟! "
تنهدت بقوة وهي تنظر إلى دلو الماء الفارغ أمامها وقررت أن تذهب وتملأه بالماء من دورة المياه الواقعة بجانب المطبخ.
توقفت قبل أن تتحرك وهي تنظر إلى ملابسها الأنيقة وحذائها الراقي لتزفر بملل وتقرر أن تبدل ملابسها أولاً.
سحبت الحقيبة الذي وضعها خالد في وسط الصالة وجرتها لأول السلم تأوهت عندما حاولت حملها.
تمتمت بغضب: خالد.
نظرت لها مرة أخرى وفتحتها وأخرجت منها أول شيء وجدته، ونظرت إليه
ابتسمت وهي تجد أنه ما تحتاج إليه بالضبط.
دخلت إلى دورة المياه وبدلت ملابسها ثم قامت بملء الدلو بالماء واحتارت كيف تحمله للخارج. حملته قليلاً لتشعر بألم قوي في ظهرها فوضعته بأول الصالة لتدفعه. فوجئت أن به عجلات صغيرة فدفعته مرة أخرى بقوة ليندفع نصف ما به من ماء للخارج.
شهقت بقوة وهي ترى الماء المنثور في الأرض وزادت حيرتها وهي لا تعلم ما الذي عليها فعله الآن.
رن جرس الباب ليهوي قلبها بين قدميها وهي تعلم أنه عاد وسيسمعها ما تكره الآن.
فتحت الباب لتنظر بدهشة إلى امرأة بمنتصف العمر وقفت أمامها ترتدي جلبابًا فضفاضًا بألوان زاهية وتربط رأسها بحجاب اسود اللون وقالت بابتسامة: أتريدين مساعدة يا هانم؟
نظرت باندهاش لها وهي تشعر بأن تلك السيدة هدية الله لها، فقالت سريعًا: من أنت؟
أجابت السيدة بلهجة ذكرتها بتلك المسلسلات التي تعشقها والدتها: أنا زوجة محروس حارس الفيلا التي تجاوركم.
سألتها منال بخفوت: هل تعرفين خالد بك؟
نظرت السيدة لها بدهشة فأكملت منال: زوجي.
قالت السيدة: ذلك الرجل القوي الذي أوصلك وخرج منذ قليل.
هزت منال رأسها بالإيجاب فنظرت لها السيدة بدهشة وقالت: أتيت لأرى إذا كنت تريدين مساعدتي.
فتحت منال الباب باتساع وقالت بفرحة حقيقة: بالطبع.
دلفت السيدة إلى الداخل لتنظر بارتياع للصالة والمياه المنثورة بها وقالت بطريقة أشبه للندب: وي وي، ما هذا؟
لوت منال شفتيها وقالت بضيق: حاولت أن أقوم بتنظيف الصالة.
ضحكت السيدة بقوة وقالت: استريحي يا هانم وأنا سأقوم بتلك المهمة، اجلسي حتى تريحي ظهرك.
ابتسمت منال من لهجة السيدة الحنون وقالت: لا سأساعدك فأنا لا أريد ان يأتي البك وأنت هنا.
رفعت السيدة حاجبيها بدهشة فأتبعت منال: إنه يرتاب بخصوص الأشخاص الجدد.
هزت السيدة رأسها بتفهم فأكملت منال: هيا أخبريني كيف أستطيع مساعدتك؟
ابتسمت السيدة باتساع وقالت: سأنظف البيت كله قبل أن يأتي البك، اجلسي واستريحي يا هانم، فالحركة ستكون متعبة عليك.
عقدت منال حاجبيها لتتبع السيدة: أنت حامل أليس كذلك؟
ابتسمت منال وهزت رأسها إيجابًا فأتبعت السيدة: حسنًا اذهبي واعثري على شيء لتأكليه واجلسي حتى أنتهي.
هزت منال رأسها وقالت بابتسامة عريضة: حسنًا يا. ..
نظرت لها وقالت: ما اسمك؟
ابتسمت السيدة وقالت: أم أيمن.
عقدت منال حاجبيها: آها، نعم ولكني أفضل أن أناديك باسمك أنت.
ابتسمت السيدة بخجل وقالت: لا نحن صعايدة ولا نكشف عن أسمائنا أبدًا، أنا أم أيمن.
نظرت لها منال بتعجب وقالت: حسنًا يا أم أيمن هلا سمحتِ ونقلت لي تلك الحقيبة إلى الأعلى.
تحركت السيدة سريعًا وقالت: أمرك يا هانم.
اتسعت ابتسامتها وهي تنظر في أثرها وهي تفكر في خالد عندما يعلم بأمر تلك السيدة أم أيمن.
كتمت ضحكتها حتى لا تنفجر ضاحكة لتحمد الله سرًا على تلك الهدية الرائعة وقررت أنه لابد أن تبقى أم أيمن تلك سرها الصغير الذي لا يعلم عنه خالد شيئاً وستستعين بها كلما احتاجت إليها.
اتبعتها للأعلى في هدوء وهي تقرر أن ترى الدور العلوي وبعدها ستقوم بترتيب ملابسها في خزانة الملابس.
***
وليد لم أصدق عندما أخبرتني السكرتيرة أنك هنا.
رفع رأسه من فوق لوح الرسم الذي يعمل عليه وقال بصوت هادئ: مرحبًا مصطفى.
عقد مصطفى حاجبيه وقال وهو يتقدم إلى داخل المكتب: ماذا بك؟
هز وليد رأسه نافيًا وهو يقول: لا شيء.
نظر له مصطفى بتفحص وقال: لا تخبرني أنك تشاجرت مع ياسمين، لم يمض على خطبتكما أربعة وعشرون ساعة وليد.
تأفف وليد وقال بضيق: لا لم نتشاجر ولكنه اختلاف في وجهات النظر ليس أكثر.
عقد مصطفى حاجبيه وشعر بأن وليد لن ينطق بحرف زائد فقال بمنطقية: أنتما ببداية مرحلة جديدة وليد فحاول أن تحتويها قليلاً وستتفاهمان مع مرور الوقت لا تقلق.
هز وليد رأسه بتفهم فأتبع الأخر: حسنًا أتيت لأبلغك بأننا قاربنا على الانتهاء من شقة صديقك.
ابتسم وليد وهو يتذكر أمير وقال: حقًا ؟
هز الأخر رأسه بالإيجاب وقال: نعم ولكننا لم نجهز الغرفة الرئيسية لأنه إلى الآن لم يخبرك بما يريده بها.
اتسعت ابتسامة وليد وقال بغموض: أعتقد انه سيريدها غرفة مزدوجة مصطفى، بل الأحرى غرفة لعروسين جدد.
رفع مصطفى حاجبيه بدهشة وقال: هل سيتزوج؟
ابتسم وليد وقال بهدوء: أعتقد هذا، ولكن لن يضرنا السؤال، سأهاتفه واستعلم منه عما يريد وسأبلغك.
هز الأخر رأسه بتفهم فأتبع وليد: اسمع مصطفى أعلم أنك بذلت جهدًا كبيرًا معي الفترة الماضية.
ظهر الانزعاج على وجه مصطفى وقال بلهجة شديدة: اسمع أنت، إذا تكلمت مرة أخرى بتلك الطريقة سأغضب منك حقًا.
ضحك وليد بخفة وقال: انتظر يا رجل واستمع لي جيدًا، فأنا سأتكلم بأمور خاصة بالعمل.
جلس مصطفى على الأريكة وقال: تكلم كلي آذان صاغية.
تحرك وليد من مكانه ليجلس بجانبه وقال: أريد أن أجهز شقتي في أسرع وقت ممكن، لا يهمني التكاليف ولكني أريد الانتهاء من كل شيء فيما يقارب أسبوعين.
اتسعت عينا مصطفى بدهشة وقال: حسنًا يمكننا ذلك فشقتك معدة تقريبًا، ستغير الألوان والديكورات فقط، أليس كذلك؟
ابتسم وليد بحرج وقال: كلا بالطبع. أتريد أن أتزوج في شقتي القديمة؟
اتسعت عينا مصطفى فأتبع الأخر بإحباط: سترفض ياسمين بكل تأكيد، ثم أنني لا أريد ذلك، لا أريد أي شيء يذكرني بحياتي الماضية قبل أن أتزوج بها.
ابتسم مصطفى وربت على كتفه: حسنًا يا صديقي ولكن بتلك الطريقة نحن نريد وقتًا أطول.
هز وليد رأسه رافضًا بشدة وقال: لا، لا أملك وقتًا أطول، أسبوعان يكفيان، لقد انتهيت من تصميمات الديكور ويبقى عليك التنفيذ، وصدقني أريدك أن تتعامل معي كأي عميل عادي.
عقد مصطفى حاجبيه ونظر له غاضبًا فابتسم وليد وأكمل: لا تغضب، فالحقيقة أن سيادة الوزير هو من سيتكفل بكل شيء، وأنا أريد ان استفيد منه بكل طاقتي.
قال جملته الأخيرة بمرح فضحك مصطفى: حسنًا وليد ولكن هذا لا يمنع أنها مدة قصيرة جدًا.
قال وليد بإصرار: كلا ليست بقصيرة، اتفق مع عمالة جديدة واجعل العمل بمناوبات ليلاً ونهارًا وثق بي سننتهي قبل الأسبوعين.
زم مصطفى شفتيه وهز رأسه بغير رضا وقال: حسنًا من أجلك فقط.
نهض واقفًا فناوله وليد بعض الأوراق فابتسم مصطفى بهدوء وقال: أنت متعجل جدًا وليد ولكن نصيحتي...
ترقب وليد لما سيقوله فاتبع الأخر بحذر: ياسمين سترفض تلك العجلة وصدقني سيكون لديها أسبابها، فهي تريد الإعداد لزفافها وزواجها جيدًا وأنت لا تعطيها تلك الفرصة بسبب تعجلك.
ابتسم وليد بغموض وقال: صدقني سأعد لها زفافًا سيكون أسطوريًا وكما تريده هي بالضبط.
ابتسم مصطفى وقال مهنئاً: موفق بإذن الله يا صديقي.
تحرك خارجًا من المكتب ليقف ويقول له قبل أن يغلق الباب خلفه: لا تنس أن تسأل صديقك عما يريده وأخبره أن يذهب ليتفقد شقته ويخبرك لو أراد تعديل أيًا مما فعلناه ولكن أخبره أن ينتظر إلى أن ننتهي من شقتك أنت.
ابتسم وليد باتساع وقال بمكر: لا تقلق سأقابله واستفهم منه عما تريد.
أتبع بخفوت: وعما أريد أنا الآخر .
***
ابتسمت وهي تنظر لشاشة هاتفها لتفتح الخط وتقول بابتسامة سعيدة: يا أهلاً بالعروس.
وصلتها ضحكة الأخرى وقالت: أين أنت يا فتاه؟ أتيت لمنزلك فلم أجدك به.
اتسعت عينا ليلى بدهشة وقالت: حقًا ؟!
أكملت باعتذار رقيق: اعتقدت أنك ستكونين برفقة وليد اليوم، ولولا هذا الاعتقاد الغبي كنت دعوتك للخروج معنا.
قالت الأخرى شاهقة بمرح: تخرجون للتنزه من دوني، هيا أخبريني من معك.
ابتسمت ليلى وقالت: إلى الآن أنا وإيناس فقط ولكن سوزان ستوافينا بعد قليل.
عقدت ياسمين حاجبيها بتساؤل: من سوزان؟
ابتسمت ليلى: أنها ابنة عمة إيني ولكنها رقيقة ومرحة وتثير ضحكاتي بشقاوتها عندما تجتمع مع إيني.
ابتسمت ياسمين فاتبعت ليلى: انضمي لنا وستسرك الرفقة كثيرًا.
هزت ياسمين رأسها وقالت: حسنًا أخبريني أين أنتما؟
أخبرتها ليلى بمكانهما وهي تبتسم لتجف الابتسامة على شفتيها وهي تنظر للذي جلس على الطاولة أمامهما وهو يبتسم بفخامة كعادته.
انتبهت على ياسمين وهي تصيح: ليلى، أين ذهبت؟
تلعثمت وقالت بخفوت: أنا معك ولكن اعتقد أننا سنستبدل المطعم، فلم تعد لدي شهية للطعام الإيطالي.
وكأنه سمعها فابتسم بطريقة أشعرتها أنه يجلس بعقلها، انتبهت مرة أخرى وأشاحت بعينيها عنه لتسمع ياسمين تقول بنزق: من الواضح أن شبكة الاتصالات سيئة عندك.
فتمتمت ليلى: نعم هذا صحيح.
شعرت بنظراته مسلطة عليها فشحذت طاقتها كلها لتركز مع كلمات ياسمين القليلة وهي تقول: حسنًا اخبريني إذا ذهبتم لمكان آخر، سأهاتفك مرة أخرى ولكني سأصل قريبًا ، فقد كنت قريبة على أي حال.
تمتمت: حسنًا ، سأخبرك.
ابتسمت لسوزان التي ظهرت فجأة هي وإيناس أمامها، بعد أن ذهبت تلك الأخيرة لتأتي بابنة عمتها من الخارج، وقالت: مرحبًا ليلى.
نهضت ليلى مرحبة بها كما يجب وتبادلا الحديث للحظات حتى قالت ليلى: ستأتي ياسمين أيضًا فهي كانت قريبة وأنا دعوتها، أتمنى ألا يكون لديكما مانع من صحبتها.
ردت سوزان سريعًا : بالطبع لا، أنها فرصه جيدة لأبارك لها خطبتها.
قالت إيناس: وأنا أيضًا فلم استطع حضور عقد القران البارحة.
ابتسمت ليلى بتوتر وهي تنظر إلى مكان جلوسه بطرف عينها: آه، نعم كانت تتوقع حضورك البارحة وسألتني عنك ولماذا لم تأتي.
ابتسمت إيناس بهدوء وهي ترمش بعينها لتنظر إلى ليلى قليلاً وتقول: سأعتذر منها اليوم.
التفتت إلى سوزان وقالت لها وهي تحدثها بعينيها: هلا أتيت معي لدورة المياه؟
رفعت سوزان حاجبيها ولكنها التقطت نظرة الأخرى فقالت بهدوء: بالطبع.
تنحنحت ليلى وقالت: لا تتركوني بمفردي انتظروا لأذهب معكما.
قالت إيناس سريعًا : لا لا انتظري ياسمين حتى تتعرف على مكان جلوسنا.
هزت ليلى رأسها بفهم ولكنها آثرت الجلوس فهي شعرت أن أختها تريد الانفراد بابنة عمتها، في موضوع يخصهما.
أطرقت برأسها وهي تهمس لنفسها " لا تنظري ناحيته، فهو ليس موجودًا ".
انتفضت بقوة على صوته الهامس القريب: بل أنا هنا مع الأسف ليلى.
جزت على أسنانها قويًا وزمت شفتيها بحنق: ماذا تريد؟
ابتسم وهو يجلس قبالتها وتنفس قويًا : أريدك ان تستمعي إلى ليلى.
نظرت له برفض قاطع وقالت: وأنا لا أريد رؤيتك أو الاستماع إليك، لقد أخبرتك من قبل عبد الرحمن أن الأمر انتهى.
قال من بين أسنانه: أمير.
عقدت حاجبيها باستفهام فردد: اسمي أمير.
ابتسمت بسخرية وقالت بعجرفة ظهرت بجسدها قبل أن تستطع بعينيها: لا يهم.
تنفس قويًا مرة أخرى وكأنه يسيطر على أعصابه وقال: أنها آخر مرة سأسألك أن تستمعي إلي.
رفعت عينيها ونظرت إليه بكبرياء وقالت ببرود: وأنا آخر مرة سأطلب منك أن تبتعد عن طريقي وإلا سأتصرف معك تصرفًا لا يناسب مكانتك يا سيادة الرائد.
نطقتها بسخرية جعلت أذنيه تحتقنان بقوة فأتبعت باستهزاء: انصرف الآن ولا أريد أن أراك مرة أخرى.
تنفس مرة أخرى بهدوء ليبتسم ببرود وقال: للأسف لن أستطيع تلبية طلبات سموك.
عقدت حاجبيها بعدم فهم فقال بهدوء وهو يبتسم بسخرية شديدة: أراك قريبًا جدًا يا أستاذة.
زفرت بقوة وهي تشعر بأن قلبها سيتوقف عن الخفقان بسبب رؤيتها له، فقط ظهوره أمامها يفعل بها الأعاجيب، عندما تنظر إليه تفقد القدرة على التفكير، نعم غاضبة منه، ولكن على قدر غضبها هي تحبه، بنفس المقدار ونفس القوة.
تشعر بالإنهاك الفكري بسبب ذلك الصراع الدائر بداخلها، ذلك الصراع الذي تنكره منذ البارحة، تبعده إلى عقلها الباطن ولا تريد التفكير به ولكنها الآن تشعر بالانزعاج فعلا من كلماته الواثقة وكأنه يعلم ما سيحدث بعد ذلك.
استغفرت الله في سرها لترفع رأسها وتجد ياسمين تقترب منها وهي مبتسمة باتساع، رسمت ابتسامه باهتة لترحب بياسمين وهي تعلم جيًدا أن اضطرابها لن يخف عن عيني الأخرى .
دلفتا إلى استراحة السيدات لتقول سوزان هامسة وهي تنظر إلى الفتيات من حولها: ماذا يحدث؟ لماذا أتيت بي إلى هنا؟
نظرت لها إيناس بدهشة: لا شيء، كنت أريد أن أصلح زينتي.
رفعت الأخرى حاجبها ونظرت لها بعدم تصديق وقالت بخفوت: إيني.
ابتسمت إيناس بطريقة لاهية وقالت: كنت أريد أن أسألك عن آخر أخبارك مع شقيقي العزيز.
نظرت لها سوزان مليًا وقالت: امم، لا أصدقك ولكن حسنًا سأجيبك بأنه لا جديد.
عقدت إيني حاجبيها وهي تقول: ألم تفعلي ما أخبرتني به؟
ابتسمت سوزان وقالت وهي تغمز بعينها: سأنتظر قليلاً وخاصة أننا سنسافر أنا وأمي لعمي بضعة أيام. عندما نعود سأذهب إليه.
ضحكت إيني بخفة وهما يخرجان من استراحة السيدات وقالت: كان الله بعون شقيقي.
رددت سوزي بصوت خافت ولكن الإصرار ظهر جليًا به: سأسترده مهما حدث .
أقبلت عليها ياسمين وهي تبتسم وتنظر لها بطريقة غامضة فعقدت ليلى حاجبيها بدهشة وقالت: ماذا بك؟ لماذا تنظرين إلى بتلك الطريقة؟
اقتربت ياسمين برأسها منها وقالت: هل رأيت سيادة الرائد؟
اتسعت عينا ليلى بذعر وقالت وهي تشعر بوجنتيها تحترقان من الخجل: عمن تتحدثين؟
ضحكت ياسمين بخفة وقالت بنبرة مميزة: ليلى، أنا أتحدث عن أمير، أمير الذي لم تخبريني عنه أي شيء!!
زفرت ليلى بقوة وزمت شفتيها بحنق واضح لتقول ياسمين: أتعجب كيف تعرفت عليه؟ فهو غامض ويختفي كثيرًا.
تمتمت ليلى دون تفكير وبلهجة ساخرة: أعتقد أنني تعرفت عليه في فترة اختفائه.
نظرت لها ياسمين ببلاهة وقالت: ها، لا أفهمك.
جزت ليلى على أسنانها وكانت على وشك البوح لولا رؤيتها لايني تقترب منهما فقالت بحدة: ليس الآن ياسمين، سأخبرك بكل شيء ولكن في وقت آخر.
هزت ياسمين رأسها بتفهم ورفعت نظرها لتبتسم لإيناس التي أقبلت تحييها ببشاشة لتنقل نظراتها إلى الأخرى وتنظر قليلاً وقالت: أعتقد أنني رأيتك من قبل.
تنحنحت الأخرى وقالت سريعًا وكأنها تتخلص من حمل ثقيل على قلبها: نعم في حفلة إذاعة النجوم.
اتسعت عينا ياسمين بادراك وقالت: نعم أنت تعملين بالإذاعة.
هزت سوزي رأسها وقالت بهدوء: كنت، تركتها منذ فترة، بسبب اختباراتي النهائية والآن سأبحث عن عمل آخر.
ابتسمت ياسمين بمرح وقالت: أتمنى من وليد أن يفعل المثل.
صاحت إيني بفرحة: لا تخبريني أن وليد خطيبك هذا هو وليد الجمال من إذاعة النجوم.
ضحكت ياسمين وهي تستمع إلى أخت ليلى وهي تأتي بصوت وليد مطابقًا له ولنفس طريقته لتقول ليلى بهدوء: نعم أنه هو.
صاحت إيني: ياي، هلا عرفتني عليه؟
صاحت ليلى وسوزان بنفس الوقت : إيناس.
اتسعت عينا ياسمين بعدم إدراك لجنون الفتاه فقالت إيني بمرح: لم أقصد ذلك التعارف، قصدت أنني أريد أن أراه فقط لا أكثر.
ضحكت ياسمين بمرح وقالت: لا عليك، ثم أنك لو كنت أتيت البارحة لكنت رأيته دون أن تحتاجي لأعرفك عليه.
خفضت إيني عيناها بخجل وقالت: المعذرة لم أستطع الاستيقاظ في الموعد.
قالت ياسمين بحنو: لا عليك، سأنتظرك أنت وسوزان أيضًا في العرس سيكون أروع من حفل البارحة أيضًا، فأنا من سيعده كاملاً وعلى طريقتي.
قالت ليلى ضاحكة بتهكم: وما أدراكما بطريقتها، ستجعل الدخول إلى الحفل بملابس السباحة.
قالت إيني سريعًا: سآتي على الفور.
انطلقت الضحكات من بينهم ليتبادلو حديثًا مرحًا جذب ليلى من دوامة أفكارها، جذبها بعيدًا لينسيها ذلك الأمير الذي يحتل قلبها وعقلها .
***
تنفس بقوة وهو ينظر إلى هاتفه مرة أخرى، يشعر أنها خطوة ثقيلة ولكن عليه القيام بها. زفر مرة أخرى ليستل هاتفه ويبحث به قليلاً ليزفر بقوة أكبر تلك المرة ويضع الهاتف على أذنه.
تنحنح بقوة وهو يقول: مرحبًا يا سيادة المستشار، كيف حالك؟
ابتسم بتوتر وهو يقول: نعم جميعنا بخير والحمد لله، مبارك لياسمين انصرفت البارحة سريعًا لأجل أمر طارئ وقع بالعمل ولم يتسن لي أن أبارك لسيادتك عقد قرانها.
لفظ الكلمة من بين أسنانه وهو يحاول أن يتحكم بحنقه الذي طغى في عينيه. ابتسم مرة أخرى على الكلمات المنمقة التي صدرت من عم أخته ليكح بخفوت ويقول: المعذرة عمي ولكنني أهاتفك لأطلب منك أن تشرفنا بحضورك في المساء.
رد بهدوء: خيرًا بإذن الله ولكن هناك شخص تقدم لخطبة ليلى، وبالطبع لابد من حضورك.
نظر إلى ملف الأوراق الذي أعطاه إياه أمير: لا أعرفه ولكنه أعطاني صورة لملفه في الداخلية فهو رائد بالشرطة.
أكمل بخفوت: أعتقد أن ليلى تعرفه جيدًا.
رفع حاجبيه بدهشة وهو يستمع إلى الضحكة الرزينة التي صدرت من الجانب الآخر وعقد حاجبيه بشده وهو يستمع إلى الكلمات الهادئة.
قال بتوتر: لا أفهم ما تقوله حضرتك، رأيتهما البارحة؟ كيف؟
هز رأسه بفهم وهو يجز على أسنانه قويًا وهو يستمع إلى كلمات سيادة المستشار ليقول بهدوء: حسنًا سأنتظرك اليوم عمي لنتناقش سويًا قبل أن يأتي سيادة الرائد.
زم شفتيه وقال بهدوء: إلى اللقاء مساءًا.
أغلق الهاتف بعنف والغضب يلمع في عينيه. فما أخبره به سيادة المستشار أكد له ما حاول أن يخبره به أمير وهو أنه على علاقة وطيدة بليلى.
نظر إلى الهاتف مرة أخرى وفكر أن يهاتفها ليعلم ما الذي يحدث ولا يعلم هو عنه شيئاً، ولكنه تراجع حتى لا يشعرها بالحرج.
زم شفتيه قوياً وحدث نفسه " سأفهم كل شيء منها مساءًا "
***
انتهت من ترتيب ملابسها لتنزل بهدوء للدور السفلي. كانت قد انتهت هي وأم أيمن من الدور العلوي في وقت سابق، فبعد أن وضعت لها حقيبتها بالغرفة أخبرتها أنها ستنتهي من الغرف العلوية أولاً حتى تستطيع هي أن تستلقي وتشعر بالراحة، وبالفعل أنجزت السيدة مهمتها على أكمل وجه لتبدأ هي في ترتيب حاجيتها بالخزانة ودورة المياه العلوية.
شهقت بقوة وهي ترى الأرض تلمع هي وقطع الأثاث، تنفست بقوة لتشم رائحة منعشة تشعر أنها اشتمتها من قبل، بل رائحة ذكرتها بأحداث بعيدة،
بمنزلها في أمريكا، لا تعلم ما الذي جعل ذكرياتهماسوياًا تندفع إلى عقلها بتلك الطريقة ولكن كل ما شعرت به أنها ترى حياتهما سويًا هناك. رمشت بعينيها وهي تفكر بذهول إنها نفس الرائحة، رائحة الكافور القوية ممزوجة برائحة أزهار منعشة. كان يحب أن يبتاع ذلك المنظف خصيصًا، وعندما اعترضت عليه وأبلغته ألا يأتي به مرة أخرى وأنها لا تحب تلك الرائحة القوية، تتذكر لهجته الهادئة وهو يقول: أنه أفضل من غيره، يقضي على الجراثيم ورائحته تدوم أطول.
نظرت له بغضب وقالت: أنا لا أريده، لا أستطيع تحمل الرائحة عندما تقوم ماريا باستعماله.
خفض عينيه يومها وهز رأسه بطريقة لم تستطع أن تتبين منها ردة فعله، هل وافق على ذلك أم أنه لن يهتم بما تريد وسيهمله.
وعندما أتى موعد ماريا، أصر على اصطحابها هي والطفلين في نزهة لخارج البيت قضوا طوال اليوم بها، وعادا بعد أن أنهت ماريا عملها، ولم يتبق من رائحة المنظف إلا تلك الرائحة المنعشة التي تشمها الآن.
أغمضت عينيها قويًا وهي تتذكر أنها افتعلت مشاجرة معه يومها لأنه لم يهتم برأيها وأصر على نوع المنظف دون أن يهتم بما تريده هي، وان رائحة المنظف بشعة وأنها لا تطيقها وخرجت لتجلس بحديقة المنزل معلنة رفضها لكل شيء رغم محاولاته لإرضائها !!
دمعت عيناها وهي تسحب نفسًا عميقًا وتفكر " إنها رائحة منعشة رغم قوتها وها هي الآن تشعر بالألفة وهي تشمها "
لم تفكر في أنه صحبها للخارج ليخفف وطأة الرائحة عليها أو ليريحها منها، لم تفكر بأي شيء إلا ما تريده فقط، وليذهب كل شيء أخر غيرها إلى الجحيم.
تمتم عقلها " يا الهي، لقد كنت أسيء فهمه وأترجم كل حركة منه على نقيض معناها"
زفرت بهدوء وهي تلوم نفسها الآن على هروبها منه وعودتها إلى هنا، كم تريد أن تعود فقط إلى الوراء قليلاً، فتكف عن تلك الحرب الباردة التي اشتعلت بينهما منذ وقت طويل دون أن يشعر بها أحدهما ، والآن انطلقت الأبواق لتعلن بداية حرب جديدة بينهما لا تعلم إلى أين ستنتهي بهما .
سيطرت على تفكيرها وذهبت وهي ترسم ابتسامة واسعة على شفتيها واتجهت للسيدة التي كانت ترتب التحف بشكل جميل، وقالت: ما تلك الرائحة؟
ابتسمت السيدة وقالت: إنها رائحة المنظف يا هانم.
رفعت حاجبيها: حقًا ؟
اتبعت وهي تسألها بدهشة: من أين أتيت به؟
قالت السيدة بتلقائية: بحثت عنه في الخزانات بالداخل وجدت خزانه كاملة بدورة المياه للمنظفات، اعتقدت أنك من ابتعتها.
ضحكت السيدة بخجل فقالت منال بهدوء: لماذا تضحكين؟
قالت السيدة باستحياء: ظننتك من هؤلاء السيدات المهووسات بالنظافة.
ابتسمت منال وهي تقول داخليًا: لست أنا، إنه زوجي العزيز مهووسًا بالنظافة والمنظفات.
سمعت صوتًا بالخارج لتشعر بالخوف فتحركت سريعًا باتجاه الشرفة لتجد سيارته وهي تدخل إلى الباحة الأمامية، فقالت سريعًا: أم أيمن، البك وصل.
نظرت لها السيدة باستفهام لتنطق منال سريعًا، اذهبي الآن لزوجك وتعالي في الغد أو عندما تشاهديه ينصرف.
هزت السيدة رأسها بتفهم وأسرعت لتصرخ منال بقوة: من أين ستخرجين الآن؟ إذا خرجت من هنا سيراك.
ابتسمت السيدة وقالت: اهدئي يا هانم سأخرج من باب المطبخ وسأتسلل إلى خارج الفيلا دون أن يراني.
هزت منال رأسها بالموافقة لتقف متيبسة وهي تنقل نظرها بينه وبين أم أيمن إلى أن سمعت صوت باب المطبخ يغلق وتراه هو يترجل من السيارة.
تنفست بقوة وهي تهف بيدها على وجهها لتتحرك سريعا وتذهب لتقف أمام التحف التي كانت ترتبها أم أيمن وتستأنف عملها من مكان ما انتهت الأخرى.
ابتسم بخبث وهو يضع مفتاحه بالباب ويدلف إلى الداخل ليسيطر على ابتسامته ويرسم الذهول على وجهه جيدًا ويقول باندهاش: واو.
رمشت بعينيها وهي تحاول أن تسيطر على توترها ورددت لنفسها " لن تخبريه منال، اخدعيه كما خدعك هو من قبل "
هزت رأسها بعنف " لا لا لن أخدعه كفى خداعًا وكذبًا على بعضنا البعض، ولكني سأخفي عنه أمر تلك السيدة فقط، فهو يطلب شيئًا ويعلم جيدًا أنني لست قادرة على فعله "
وقف ينظر إلى ظهرها المواجه له، يدير عينيه عليها من أخمص قدميها التي ارتدت بهما صندل مفتوح أبيض اللون، إلى ذلك القميص الواسع طويل من الخلف يصل إلى أول فخذيها وقصير من الجانبين ليصل إلى منتصف الفخذين .
ابتسم وهو يرى أن زيادة الوزن تناسبها وأن امتلاء ساقيها يلائمها ويزيدها جمالاً. ركز نظره على ساقها لتنجذب عينيه إلى ذلك الشيء الرفيع اللامع الملتف حول كاحلها الأيمن. لمعت عيناه ببريق أزرق حاد وهو يراها بتلك الطريقة لأول مرة. تحرك بهدوء حذر في اتجاهها وقال بنبرة ساخرة عميقة: أنت من قمت بكل هذا منال؟
التفتت إليه وهي تبتسم له باتساع وقالت: هل أنت سعيد الآن؟
ابتسم بخبث وقال: بالطبع أشعر بالفخر لأنك أخيرًا أوشكت على أن تكوني زوجة رائعة.
لمعت عيناها بحب وخفضتهما قبل أن يلوح الذنب من حدقتيها، اقتربت منه ببطء وهي تعض شفتيها برقة، رفعت ذراعيها وطوقت عنقه وهي ترفع جسدها على أطراف أصابعها لتطبع قبلة رقيقة أسفل وجنته وهي تقول بخفوت: حمدًا لله على سلامتك.
قال بغضب لمع في عينيه وهو يزيح ذراعيها من حول عنقه: ماذا تفعلين؟
أجفلت من صوته الغاضب لتقول بتلعثم: أرحب بزوجي كما تفعل باقي الزوجات.
دفعها ببعض من الحدة وقال بصوت جليدي: لا أريد ذلك الترحيب.
نظرت له مليًا وهي تحاول أن ترى لمحة من زرقة وصفاء عينيه ولكن كل ما وجدته هو خيبة الأمل .
تنهدت بقوة وأطرقت برأسها لأسفل لتنظر إلى تلك الأكياس الكثيرة التي تحمل علامة لسوبر ماركت شهير. رفعت نظرها له باستفهام فقال والخبث يلمع بعينيه: اعدي لنا الغداء يا زوجتي العزيزة فأنا أتضور جوعًا.
ابتسمت ابتسامة باهته لتنظر إليه ببراءة وتقول: حسنًا يا زوجي العزيز، سأعد الغداء على الفور.
تحرك باتجاه المطبخ لتتبعه هي في هدوء، رفع حاجبيه استغرابًا وهو يرى المطبخ لا يقل بريقًا عن الخارج. وضع الأكياس من يديه على الطاولة التي تتوسط المطبخ ليعود ويستند بظهره على الخزانة التي ورائه، قال بسخرية: رائع.. لقد قمت بتنظيف المطبخ أيضًا.
رفعت لها حاجبيها متسائلة ليقول: لا اشكك بقدرتك ولكني متعجب ليس إلا.
اقتربت منه بطريقة مغوية وهي تقول: لا تتعجب يا زوجي العزيز، فلدي الكثير من المواهب المدفونة التي لا تعرف عنها شيئًا.
قال بابتسامة ساخرة: أنا بشوق لأن أعرفها كلها.
ابتسمت وذهبت لترى ما يوجد بالأكياس. رفعت عينيها لتقابل عينيه اللتان تنظران إليها بتفحص. رمشت بعينيها ثم خفضت نظرها وتابعت رؤية محتويات الأكياس بعيدًا وهي تتشاغل عنه وعن نظراته المسلطة عليها، قالت بارتباك: أتريد شيئًا معينًا على الغذاء؟
ابتسم بسخرية وقال: كلا. أريني إبداعاتك يا زوجتي العزيزة.
قالها وانصرف من أمامها لتزفر بقوة وتنظر إلى أثره بألم وهي تفكر " ألن تنتهي تلك الحرب الدائرة بينهما، تريد هدنة.. فقط هدنة تشتاق إليها "
لمعت عيناها بضوء غامض وقالت بإصرار: سأحصل عليها.
خرج بخطوات ثقيلة وهو يعلم سبب ثقلها جيدًا، فالثقل بقلبه ليس بقدميه، فهو دفع نفسه دفعًا وأرغمها على التحرك من أمامها قبل أن يفقد البقية المتبقية منه أمامها. إلى الآن قلبه يخذله أمامها، يئن بشوق حارق كلما نظر إليها، يحثه على أن يضمها بين ذراعيه ويبثها شوقه كاملاً لعلها تحترق معه بتلك النيران التي تحرقه.
على الرغم من غضبه الظاهر عليه والذي ينجح في أن يوصله لها بكل الطرق الممكنة إلا أنه يشعر بذلك الغضب العارم بداخله يخبو ببطء، فلا يستطع أن يؤجج ناره المشتعلة والتي كانت دائمًا تحرقه الأيام الماضية كلها، بل يشعر بأنه مجرد وقت وستنطفئ فورة بركانه، وإذا حدث ذلك فلن يستطيع إيقاظه بعد الآن، فقد تغير شيء بداخله منذ اعترافها المثير الذي رمته به البارحة.
لأول مرة يفقد القدرة على التفكير والاستيعاب والفهم، اعترافها بعثره بقدر ما أغضبه، نعم هو شعر بأنها تلومه على شيء ما لم يفعله، تلومه على غبائها وكبريائها الجريحة التي لم يتسبب أبدًا في جرحها أو التلاعب بمشاعرها، بل كان دائمًا صريحًا معها، من الواضح أنه كان صريحًا لدرجة آلمتها !!
غادر البارحة وهو غاضب بشده منها، غاضب على أيام كثيرة وليالي أكثر كان يتعذب بها بسببها، بسبب فكرة غبية تحكمت بعقلها فأبت ألا تصدق غيرها !!
وعلى الرغم من غضبه الشديد منها، فإن صدقها الذي مسه رغمًا عنه نجح في إزالة الغضب كاملاً. في بادئ الأمر شعر أنها تسخر منه، بل هكذا كان تفسير عقله المنطقي أنها تفعل هذا وتقوله من أجل السخرية منه، والكذب عليه، ولكن منال كانت صادقه معه في مشاعرها،
ابتسم بسخرية وهو يسأل قلبه بعنف " متى كانت صادقة معنا، وهي البارحة أقرت بكذبها علينا، وأخبرتك أنها أحبتنا منذ فترة طويلة وكل ما كنا نلاقيه منها النفور والغضب "
رمش بعينيه وهو يتذكر عندما كانت زوجة لأخيه، كانت تنظر إليه باشمئزاز دائمًا، تتكلم معه بضيق وتتململ من حديثه. لم تخش شيئًا وأخبرته في أحد المرات أنها لا تحبذ رؤيته وأنها تستثقل زيارته لهما.
وقتها لم يعر الأمر اهتمامًا، فأخيه نفسه كان يبتعد عنه ولا يتقبل وجوده في تلك الفترة، فهل سيطلب من زوجته التي أبدت من أول لقاء لهما عدم إعجابها به؟
هز رأسه باستنكار وهو يفكر " كيف كانت تستطيع الكذب بتلك الطريقة؟ "
صاح عقله بقوة " بل كيف استطاعت خداعنا بتلك الطريقة، كيف استطاعت أن تخفي عنا مشاعرها بتلك الطريقة؟ "
رمش بعينيه " وكيف استطاعت أن تخدعك أنت خالد، أنت من تعلمت الخداع والإخفاء والغموض، وأصبحت بارعًا بهم، كيف تغلبت عليك؟ كيف جعلتك ذلك الأحمق الغير واثق من رأية وفهمه واستنتاجه؟
لمعت عيناه بالقهر " تلك المخادعة، تلاعبت بي لفترة طويلة والآن لا أستطيع الثقة بما تتفوه به "
ليلمع وميض مخيف في عينيه وهو يفكر " فمن تستطيع الكذب بتلك الطريقة وإخفاء مشاعرها بذلك الذكاء تستطيع أن تفعل أي شيء لتنتصر عليك أيها الأحمق "
أغمض عينيه وهو يجز على أسنانه بقوة لينظر إلى الحديقة الخلفية ببطء وهو يقيم شيئًا برأسه ليبتسم بتوتر وهو يرى أنه وجد شيئًا يشغله عن التفكير بها ولو لساعات قليلة معدودة
ساعات كافية ليرسم خطة جيدة يستطيع الوصول من خلالها لبر الأمان.
***
رن هاتفها للمرة الثالثة على التوالي لتتنهد وتنظر إليه بصمت وتغلق الرنين بصلابة وهي تحاول أن تتحكم في نفسها حتى لا تفطن الفتيات لتبدل وجهها منذ أن رن هاتفها للمرة الأولى.
رفعت عينيها لتجد نظرات ليلى مسلطة عليها وابتسامة دافئة تلمع على شفتيها. اقتربت منها برأسها وهمست: أنه وليد، أليس كذلك؟
فرقعت أصابعها بتوتر وهزت رأسها إيجابًا فعقدت ليلى حاجبيها وهمست مرة أخرى ولكن باستنكار: هل تشاجرت معه؟
زمت ياسمين شفتيها وهمست: ليس الآن ليلى.
هزت ليلى رأسها متفهمة وقالت: حسنًا.
صاحت ايني فجأة وقالت بحنق: يا الله.
رفعت ياسمين حاجبيها لتضحك ليلى وتقول: لا تتعجبي، إنها مجنونة قليلاً.
نظرت إلى أختها وقالت بابتسامة: ماذا بك؟
ردت إيني بضجر: بلال اتصل واخبرني أن نعود الآن.
نظرت ليلى إلى ساعتها وقالت في هدوء: معه حق، هيا بنا.
نهضوا جميعًا بنفس الوقت وقالت ياسمين: أنا الأخرى لابد أن أعود للجاليري فعندي موعد مع مسئول تسليم البضاعة.
زمت إيني شفتيها بحنق وقالت: تعالي معنا سوزي، واقضي الليلة عندنا.
هزت سوزي رأسها رافضة وقالت: لا أستطيع ، سأجهز حقائبي لنذهب لعمي غدًا أو بعد غد على الأكثر ولا أريد أن توبخني عمتك العزيزة.
ابتسمت إيني وسارت بجانب ابنة عمتها، لتنتهز ياسمين الفرصة وتسير بجانب ليلى وتهمس لها: هيا أخبريني عما يحدث معك.
رمشت ليلى بتوتر وقالت بتساؤل: عم تتحدثين.
قالت ياسمين بصوت مميز: ليلى
اتبعت وهي ترى تورد وجه الأخرى: هيا تحدثي.
همست ليلى ببؤس: لا أريد.
نظرت لها ياسمين بدهشة لتتبع ليلى بتعب: لا أريد الحديث ياسمين، ليس الآن على الأقل،
تنهدت لتتبع: فانا إلى الآن لا أستطيع أن أستوعب ما يحدث معي، أشعر بأن حياتي انقلبت رأسًا على عقب في لحظة.
نظرت لابنة عمها وقالت بصدق: ولا أستطيع أن أعدل من وضعها أو أن أعود إلى ما كنت عليه، أنا باختصار لا أفهم شيئًا حتى أقصه لك.
اتسعت عينا ياسمين وهمت بالتحدث ليقاطعها صوت دافئ يقول بمرح: مساء الخير.
التفتت الاثنتان لمصدر الصوت، ابتسمت ليلى لتتسع عينا الأخرى بدهشة ممزوجة بحدة، لم يعر نظراتها اهتمامًا وابتسم لليلى وقال: كيف حالك ليلى؟
ردت ليلى: بخير والحمد لله.
نظرت لابنة عمها التي كسا الجمود وجهها لتتبع: كيف حالك أنت؟
نقل نظره إلى ياسمين وصمت قليلاً وهو يعاتبها بعينيه ليلتفت لليلى ويقول: الحمد لله.
تنحنحت ليلى وقالت: حسنًا سأرحل أنا فمن المؤكد أن إيني تنتظرني عند السيارة.
قالت ياسمين بهدوء: انتظري ليلى، سآتي معك.
رفع حاجبيه بدهشة لتنقلب الدهشة في عينيه إلى غضب وقال بهدوء أمر: بل ستأتين معي.
نظر إلى ليلى وقال وهو يبتسم ابتسامة متوترة: سعدت بلقائك اليوم ليلى.
نظرت إلى ابنة عمها وأشارت لها برأسها لتضمها وتهمس لها: لا يجوز ما تفعلينه، اذهبي وتحدثي معه، هاتفيني عندما تصلي إلى المنزل.
ابتعدت عنها وقالت بصوت مرتفع قليلاً: أبلغي تحياتي لعمي ووالدتك.
أشارت بيدها وهي تنصرف: أراكم على خير، إلى اللقاء وليد.
عقدت يديها أمام صدرها ووقفت تنظر له بتحدي، فقال: لماذا لا تجيبين اتصالاتي.
رفعت حاجبيها بلا مبالاة وقالت من بين أسنانها: لا أريد.
اختلجت عضلة صدغه بطريقة لا إرادية وقال بغضب: حسنًا، تعالي معي لنتحدث.
مسكها من ذراعها لتشده منه وتقول: لا أريد.
انطلق الغضب من عينيه وقال من بين أسنانه: تحركي ياسمين الآن، وكفي عن تصرفات الأطفال تلك.
لمع الغضب بعينيها وقالت: توقف أنت وإلا تسببت لك بفضيحة.
اتبعت بأمر بارد: اترك يدي.
زفر بقوة وترك يدها كما أرادت وقال مسيطراً على غضبه: حسنًا تعالي معي.
لمع الرفض بعينيها فأتبع بمهادنة: سأوصلك للجاليري ونتحدث بالطريق.
تحركت وهي تتأفف غير راضية عن صحبته لتزم شفتيها بحنق وهي تنظر إلى سيارته المركونة قريبًا نوعاً ما. وقفت تنظر إليها بحنق ظهر على ملامحها ليقول بهدوء: تفضلي حبيبتي.
فتح لها باب السيارة لتنظر إليه مليًا فتنهد وقال: ادخلي ياسمين من فضلك.
دلفت إليها وهي تسأله بحنق: كيف عرفت أنني هنا؟
دخل إلى السيارة وجلس أمام المقود وهو يشعر بخلايا جسده كلها تنتفض غضبًا منها، تحرك بالسيارة سريعًا وكأن غضبه الوقود المحرك لها، ثم نظر لها بطرف عينه وقال وهو يجز على أسنانه: اتصلت بوالدتك وأخبرتها أنك لا تردين على الهاتف وأنني قلق عليك فأخبرتني أنك ربما لا تسمعين الرنين بسبب الضوضاء وأخبرتني أنك هنا، ولحسن حظي رأيتك وأنا ادلف من بوابة المجمع التجاري بعد أن تعمدت سيادتك ألا تجيبي على الهاتف وإلا لكنت بحثت عنك في المجمع كله.
نطق جملته الأخيرة بما يشبه الصياح فقالت بتحدي وهي تنظر إليه: كان من الأفضل ذلك.
التفت لها بحدة وقال بعنف: ياسمين لا تختبري صبري عليك.
صاحت هي بدورها: بل لا تختبر أنت صبري، أخبرتك أنني لا أريد أن أراك لفترة من الوقت وأنني لا أريد أن أتحدث معك وأنت لا تستمع لما أقوله.
نظر لها وقال من بين أسنانه: اخفضي صوتك وأنت تتحدثين معي.
ظهر الذهول على وجهها ورددت باستنكار: أخفض صوتي؟
قال وهو يتحلى بالصبر على قدر ما استطاع: نعم اخفضي صوتك. لا يليق أن تتحدثي بتلك الطريقة إلى زوجك ياسمين.
قالت بغضب: لست زوجي.
كان دوره تلك المرة ليصيح بعنف: بل زوجك، عُقد قراننا البارحة أمام جميع معارفنا وأقارب عائلتينا، وضعت يدي بيد والدك وأنت وقعت على وثيقة عقد الزواج، أنا زوجك وعليك أن تعتادي على ذلك اللقب وعلى تصرفاتي وأسلوبي لأننا سنمضي حياتنا القادمة كلها معًا.
اتسعت عيناها بدهشة ممزوجة بخوف من أسلوب وليد الجديد عليها كليًا، لأول مرة تسمعه يصيح بها بتلك الطريقة، ولأول مرة بحياتهما معًا ومنذ أن تعرفت عليه في الجامعة لم تر نظرة الغضب العنيف التي تلمع بعينيه الآن.
صمتت على مضض وأشاحت بوجهها بعيدًا عنه، زفر بقوة وقال بهدوء تلك المرة: لم يحدث شيء لما تفعلينه الآن ياسمين.
قالت بعتب: أفقدتني الثقة فيما أشعره نحوك وليد.
أتبعت وهي تتجاوز تلك النظرة المتألمة التي سطعت من عينيه: جعلتني أحس بطريقة سيئة وبأنك تزوجتني فقط من أجل ذلك.
هل تتوهم ما رأته أم أنه يبتسم بالفعل، نظرت له بحدة وقالت من بين أسنانها: أنت تضحك.
ضحك بخفوت: نعم ولا.
عقدت حاجبيها وزمت شفتيها بتلك الطريقة التي يعلم جيدًا أنها تفعلها من أجل أن تمسكك لسانها حتى لا تسبه أو توبخه كما كانت تفعل من قبل، ابتسم باتساع وقال: أنا سعيد لأنك اقتنعت أخيرًا أننا تزوجنا، وحزين من أفكارك الغريبة ياسمين.
أوقف السيارة بهدوء على جانب الطريق وقال وهو ينظر أمامه: ألم تفكري قليلاً أنني لو أردت ذلك من البداية لكنت أغويتك ووصلت له.
احمر وجهها بقوة فأكمل: سر ابتعادي عنك منذ بداية تعارفنا ياسمين هو أنني لا أريد هذا فقط، بل أريدك أن تظلي معي دائمًا، كنت سأضحي بأي شيء حتى تستمر صداقتنا، كنت مستعد لفعل أي شيء كي لا أخسرك ياسمين، تزوجت بك حتى تنيري حياتي وتظللي بيتي، وبالطبع أموت شوقًا لذلك الأمر ولكن ليس بتلك النظرة التي ترينه بها.
شعرت بالخجل من أفكارها الغبية وعلى الرغم من صدقه الواضح تمامًا أمامها لم تستطع أن تتخلص من ذلك الشعور السيئ، زفرت بقوة وقالت: حسنًا أمهلني بعض الوقت وليد حتى اعتاد على التغيير الكبير الذي حدث بيننا.
التفت إليها لتقول: إلى الآن لا أستطيع أن أفرق بين أنك صديقي وخطيبي، وتأتي أنت وتخبرني أنك زوجي، هذا يربكني وأريد بعض الوقت لأتعامل معه.
تنهد بقوة ونظر لها ليشدها من يديها ليقربهما إليه ويهمس بجانب أذنها: بل أنا صديقك وخطيبك وزوجك وحبيبك، لا يحتاج الأمر إلى وقت، فأنا سأصبح دنياك كلها بعد أسبوعين.
رمشت بعينيها بدون فهم وهي تشعر بالخدر يصيبها جراء همسته الحنون لتتسع عيناها وتبتعد عنه سريعًا وهي تقول باستنكار: أسبوعين؟
هز رأسه بالإيجاب والتصميم يلمع بعينيه وقال: لن أتراجع عن قراري ذلك ياسمين.
رمشت بعدم استيعاب: أسبوعين؟
لينطلق الغضب من عينيها وتصيح بقوة: كيف أسبوعين؟
ابتسم بهدوء وهو يرى ثورتها التي توقعها مسبقًا وهي تتبع في صياح قوي: كيف سنتزوج في أسبوعين أيها الذكي، لن أستطيع أن أشتري جهازي وأنت لن تستطيع أن تجهز الشقة.
نظرت إلى ابتسامته المتصدرة وجهه لتجز على أسنانها قويًا وتقول بعنف: إنها مدة غير كافية، أنا لا أوافق عليها.
لوى شفتيه بطريقة مضحكة وقال بهدوء: بل إنها أكثر من كافية.
تنفست بعمق وهي تعلم رأسه العنيد جيدًا ، فلطالما أخبرته من قبل أن رأسه يستحق التكسير بسبب عناده غير المبرر في مواقف لا تتحمل العناد، قالت بهدوء على قدر ما استطاعت: لا وليد لا تكفي، أنها لا تكفي لتفصيل فستان الزفاف.
قال ببساطة: لنشتري فستانًا جاهزًا.
جزت على أسنانها غضباً وقالت: كلا.. أريد ان أُفصل فستان زفافي كما حلمت طوال حياتي به، لا أن أرتدي فستانًا أخر حمل حلم أخرى غيري.
ابتسم ببشاشة: حسنًا نذهب لأكبر مصمم أزياء في البلد وسنستلمه قبل الموعد.
نظرت له بحيرة وقالت: الآن في موسم الصيف لن يستطيع مصمم واحد أن يسلمك فستان زفاف في تلك المدة القصيرة.
نظر لها بابتسامة عبثية وقال: ثقي بي سنستلمه قبل الموعد حتى.
تنهدت بعمق وقالت: وليد لا سبب لهذا العناد الآن.
زفر بقوة: بل له أسباب عديدة ياسمين، من فضلك وافقي.
لوت شفتيها بحنق وقالت: أبي سيرفض وأمي ستهد الدنيا على رأسي.
ضحك بخفوت وقال: بالعكس إنها مرحبة بالفكرة وأخبرتني أنها ستحدث عمي وتقنعه.
رفعت حاجبها وقالت بغضب أغشى عينيها: اتفقت مع أمي قبل أن تخبرني؟
أشار لها بيده ان تهدأ وقال سريعًا : لا أعلم بالضبط تلك العقدة لديك ولكنني تكلمت معها قليلاً ووجدت أنها مرحبة بالفكرة وهي من اقترح أن تقنع والدك، ولكنني أخبرتها أنه لابد من موافقتك قبل أن تخبر عمي، وهي منتظرة أن تبلغيها سيادتك بالموافقة لتشرع بإقناع أبيك.
تنهدت بقوة وهي تنظر أمامها لتشعر بكفه التي التفت حول يدها وأصابعه التي اشتبكت بأصابعها وهو يشد عليها بحنو ويقول هامسًا: وافقي ياسمين، من فضلك.
شد على يدها مرة أخرى لتلتفت وتنظر إليه فأتبع برجاء عميق: من أجلي.
ابتسمت وخفضت عينيها التي لمعت بشقاوة وقالت: حسنًا.
زفر بانتصار لتتبع هي والابتسامة الماكرة تتألق بعينيها: بشرط.
تجمد وجهه وتوقف عن الابتسام وهو ينظر إلى عينيها التي أخبرته بأن الآتي لن يعجبه على الإطلاق .
***
رن جرس الباب لينظر إلى ساعته ويزفر بقوة، استدار إلى والدته وقال بهدوء: أنه سيادة المستشار، فقد اتفقت معه على أن يأتي قبل المدعو أمير لنتحدث سويًا.
ابتسمت والدته و أومأت بهزة رأس بسيطة
نهض هو واقفًا وتقدم باتجاه الباب وهو يرسم ابتسامة دبلوماسية ويمد يده ليصافح الرجل الوقور الذي دلف أمامه: مرحبًا عمي، تفضل بالصالون.
ابتسم سيادة المستشار وصافحه بإعجاب لمع بعينيه: مرحبًا بني، كيف حالك؟
صحبه إلى مكان جلوس والدته ليشعر بسكون الآخر وهو ينظر إلى والدته التي جلست على الكرسي الكبير بمنتصف الغرفة، عقد حاجبيه تلقائيًا ليجز على أسنانه وهو يسمع تنهيده الآخر وهو يقول بهدوء أخفى مشاعره الحقيقية، أو هكذا ظن هو : مرحبًا ماجدة.
رفعت رأسها لتنظر إليه وتبتسم بعملية حافظت عليها: أهلاً يا بك.
وقفت بهدوء وهي تشير إليه بيدها ليدلف إلى الداخل: تفضل.
تقدم بهدوء ليجلس مجاورًا لمكان جلوسها، وهو يسأل بهدوء: كيف حالك الآن؟
هزت رأسها بطبيعية: بخير والحمد لله.
قال بصوت صادق: حمدًا لله على سلامتك ماجدة.
همت بالرد ليأتي صوته وهو يقول بشيء من الحدة: سلمك الله يا سيادة المستشار.
التفت إلى ابنها وهي تنظر إليه بشيء من الصدمة، نهرته بعينيها غاضبة من أسلوبه الحاد غير المبرر، لتقول بهدوء آمر من بين شفتيها: اتصل بأختيك، لقد قضتا النهار بالخارج وهذا يكفي، ينبغي عودتهما قبل أن يأتي أمير بك، لابد لأختك ان تحضر ذلك اللقاء.
زم شفتيه وقال: ولكن أمي.
قاطعته بهدوء: اتصل بهما بلال.
هز رأسه موافقًا وهم بالخروج لتقول آمرة: أخبر إيني إن يعودا، لا تحدث ليلى الآن.
عقد حاجبيه والتفت ينظر إليها مستفهمًا فنظرت له مليًا وقالت: أخبرها بالعودة فقط بلال، فقط العودة.
زفر بضيق وخرج من الغرفة لتدلف بعده بقليل الخادمة تحمل قدحًا من القهوة، ابتسمت بهدوء وقالت: تفضل يا بك.
تناول فنجان القهوة ورشف منه ليبتسم ويقول: لازلت تتذكرين قهوتي.
التفتت له وهي تبتسم وقالت: لطالما ضيفتك وأنا زوجة أخيك " رحمة الله عليه "، كنت أنا من يصنع القهوة، ولا ينسى المرء شيئًا صنعه بيديه بسهولة.
ترحم على أخيه بهدوء ليجمد وجهه ثم وضع فنجان القهوة من بين يديه وازدرد لعابه الذي جف فجأة، تنحنح بهدوء وقال: هل استطيع طلب مسامحتك؟
ابتسمت بهدوء: علام أسامحك كامل، لم تفعل شيئًا ألومك عليه، بل كنت محقًا.
تنهدت بقوة لتتبع: وإذا نلت أنا مغفرة ليلى وتضحيتها من أجلي ، فأنت تستحق ما هو أكثر من المسامحة، أنت تستحق الشكر كامل، لولا تربيتك لليلى على هذا النحو الفريد، لما قبلت بعد كل ما حدث التعاطي معي من جديد والرجوع لي.
ابتسم بألم وقال: لولاي ماجدة لما كانت ليلى عانت ما عانته في البعد عنك، ولما عانيت أنت فقدها طوال السنوات الماضية.
تنفست بقوة وقالت: وكان من الممكن أن تعاني أضعافًا لولا ما فعلته كامل.
اتبعت بهدوء: فسليم كان يغار بجنون وكان سيرى عادل بها دائمًا وما كان سيرعاها كابنة له، كما فعلت أنت.
أكملت: لم يكن حبي له سيخفف عنه ألم رؤيتها طوال الوقت، تركتها لك وأنا أعلم أنك ستحبها وترعاها أكثر منه فهي ابنة عادل مهما حدث بيننا.
ابتسم وهو يهز رأسه موافقًا فأكملت بشرود: أتعلم أنني أراه بعينيها طوال الوقت، لقد ورثت منه الكثير.
همس: آه، نعم أعلم ، طيبته ورقته، حتى حنانه المتدفق من عينيه، كنت كلما اشتاق إليه اذهب وأضمها إلى صدري فأشم رائحته وأشعر بوجوده معي.
همست بصدق: كم اشتقت إليه.
رفع حاجبيه تعجبًا فابتسمت وقالت: لم انس عادل يومًا !!
ظهرت الدهشة على وجهه فابتسمت بخفة وقالت: لم يكن عادل مجرد زوج لي، بل كان كل شيء بحياتي كامل، فقبل أن يصبح زوجي، كان أبي وأخي وصديقي.
أكملت بغصة: ليس من السهل أن تفقد كل هذا معًا وبوقت واحد.
قال بهدوء: وأنت كنت كل دنياه ماجدة.
ابتسمت ورفعت رأسها على دخول بلال الغرفة وهو يقول بصوت خشن: شرفت بيتنا المتواضع يا سيادة المستشار.
ابتسم كامل بك وقال في هدوء: شكرًا لك بني.
جلس بلال في هدوء ظاهري وقال: أخبرت إيني أن عليهما العودة أمي.
ابتسمت الأم: حسنًا فعلت.
التفت لسيادة المستشار وقال: حسنًا عمي لم أفهم ما أخبرتني به على الهاتف، لماذا توقعت أن ذلك الشخص الذي أخبرتك عنه هو من كانت ليلى تتحدث معه في خطبة ياسمين؟
ضحك المستشار بخفوت وقال بوقاره المعهود: هل حسبت أن أجد ابنتي تتحدث مع شخص بطريقة...
صمت قليلاً وقال: لنقل أنها طريقة لست معتاد منها عليها، وسأترك الأمر دون السؤال على هوية هذا الشخص.
احمرت أذنا بلال بحرج فأتبع كامل بك: بالطبع سألت عنه واستقصيت أخباره أيضًا وعرفت اسمه ومهنته، واليوم قبل أن تتصل بي كنت سألت أحد معارفي في الداخلية عنه وحقيقة أخبرني أنه شاب رائع ومن عائلة عريقة.
هز بلال رأسه وظهر التفكير على ملامحه فقالت السيدة ماجدة: ما رأيك أنت كامل؟
ابتسم بهدوء وقال: بالطبع موافق وخاصة بعد أن أخبرني بلال أنها تعرفه جيدًا وهذا ما رأيته من حديثها معه البارحة.
لم يستطع أن يمنع نفسه من السؤال فسأل من بين أسنانه: من أين؟
رفع المستشار عينيه ونظر إليه بدهشة، لتعقد الأم حاجبيها وتسأل: ماذا تقصد بلال؟
لمعت الغيرة بعينيه وقال: أريد أن أعرف من أين تعرفت به، وكيف أصبحا أصدقاء؟
ابتسم سيادة المستشار بتفهم ونظر إلى ماجدة وقال: بلال، إن ليلى فتاه راشدة ومن المؤكد أنها تعرفت عليه بالنادي أو من خلال ياسمين فهو أحد أصدقائها بالتأكيد.
قالت السيدة ماجدة بشيء من الصرامة: من المحتمل بالطبع، الآن ما يهمنا أنه هنا لطلب يد أختك.
أكمل سيادة المستشار بهدوء: أنا أثق باختيار ليلى، بل أنا شديد الثقة به.
زفر بضيق لم يستطع منعه وقال: حسنًا.
نهض واقفًا وأتى بملف من الأوراق ناوله لسيادة المستشار وقال: أنه فعلاً اختيار جيد فهذا ما تقوله الأوراق.
ابتسم سيادة المستشار وبدأ بتقليب الأوراق في هدوء وقال: معظم ما كُتب هنا هو ما أخبرني به صديقي.
قالت السيدة ماجدة بارتياح : حسنًا نحن متفقين على أنه مناسب.
قال بلال من بين أسنانه: ألن نسأل ليلى عن رأيها أمي؟
نظرت له والدته في تعجب وقالت: نسألها عن ماذا بلال، لا تخبرني أنك تريد إحراجها بتلك الطريقة.
توترت ملامح وجهه وقال نافيًا: لا طبعًا.
زفرت بضيق وقالت: حسنًا سأتكلم أنا معها فلا تتدخل بالأمر.
هز رأسه بالموافقة وهو يشعر بضيق لا يفهم سببه إلى الآن !!
***
بعدك على بالي
ياقمر الحلوين
يازهر التشرين
يا دهب الغالي
بعدك على بالي
ياحلو يا مغرور
ياحبق ومنتور
على سطح العالي
تنفس بقوة وهو يشعر بالسعادة تملأ خلاياه بقوة كان يبحث عنها منذ الصباح، وأتت إليه الآن وهو يستمع إلى تلك الأغنية التي انطلقت من المذياع الآن بعد أن وصل أمام بيتها قبل الموعد بخمس دقائق، وكأن مسئول الإذاعة اختارها خصيصًا له هو، ليذكره بأنها ورغم جرحها منه تذكرته وأنه لم يغب عن بالها مطلقًا.
ابتسم باتساع وتمتم: أنا الآخر ليلى لم تغيبي عن بالي مطلقًا
.
مرق الصيف بمواعيد
والهوي لملم عناقيدو
وما عرفنا خبر
عنك ياقمر
ولاحدا لوحلنا بايدو
وبتطل الليالي وبتروح الليالي
وبعدك على بالي على بالي
دندن مع كلمات الأغنية وهو يشعر بأنها هي من يغنيها بصوتها الملائكي، تنفس بقوة بينما همس قلبه " كم تألمت في بعدك ليلى، لا تحسبي أنك وحدك من قضى أيامًا كالجحيم، فأنا أيضًا قضيت ليالي في الجحيم نفسه بل كانت لدي اشد جحيمًا وأنا لا أستطيع أن أصل إليك "
زفر بقوة وهمس بحب: ها أنا أتيت بنفسي ليلى لأخبرك بكل شيء، فقط استمعي إلي،
رفع عيناه وزفر: ولكنك أصبحت أشد عنادًا وتجبرينني على ما أفعله الآن.
قبض كفيه وبسطهما أكثر من مرة ليتنفس بقوة ويفتح باب السيارة ويترجل منها حاملاً بيده باقة كبيرة من الورود وضعها على سقف السيارة لينحني ويحمل بيديه شيئًا ملفوفًا بورق الهدايا الفخم، أغلق سيارته وحمل الاثنين بين يديه وتقدم باتجاه المصعد وهو يدعو ربه بصمت أن تسير الأمور كما يريد هو .
***
خرجت تبحث عنه وتخبره أنها أنهت إعداد الغذاء، تأففت بضجر عندما لم تجده في الدور الأرضي. اتجهت لتصعد وتأتي به من فوق، لكنها شعرت بألم أسفل ظهرها، فقررت عدم الصعود ووقفت بأول السلم و نادت بصوت عال إلى حد ما: خالد.
كررت بضيق: خالد.
أتاها صوته: نعم.
ضاقت عيناها وهي تسمع صوته يأتي من الخارج، تحركت إلى الحديقة وهي تبحث عنه، ابتسمت وهي تنظر إلى ظهره العاري الذي يلمع تحت أشعة الشمس الغاربة،
نظرت إلى بنطاله الجينز المشمر إلى نصف ساقيه وقدميه العاريتين لتكتم ضحكتها التي كادت تنطلق وهي تنظر إلى قبعة راعي البقر التي يضعها فوق راسه.
اقتربت مسحورة من تناسق جسده الرائع وقالت بصوت هامس: ماذا تفعل؟
رغم أنها لم تستمع إلى نفسها حقًا إلا أنه التفت لها وهو يبتسم وينظر إليها بغموض: أصنع فراشًا معلقًا.
حبست أنفاسها وهي ترى صدره العاري يتحرك صعودًا ونزولاً بسبب أنفاسه اللاهثة، لترمش بعينيها وتقول بحشرجة غير مفهومة: الغذاء جاهز.
رفعت نظرها إليه لتصدم بعينيه التي تتأملها بدقة، فرددت بصوت أعلى قليلاً ظنًا منها انه لم يستمع إلى ما قالته: لقد أعددت الغداء.
شهقت بقوة وهي تشعر بكفيه تقبضان قويًا على ذراعيها ويسحبها بعنف إليه حتى ارتطمت بصدره العاري، أحنى رأسه حتى أصبح وجهه أمام وجهها مباشرة، نظر إلى عينيها مباشرة وسأل بجمود: هل هذا ما جذبك إلي؟
رمشت بعينيها في محاولة لاستيعاب ما يتفوه به وقالت بتلعثم: ماذا؟
هزها مرة أخرى وقال بغضب لمع في زرقة عينيه: ذلك الانجذاب الحسي بيننا منال، أم اسميه بمسماه الطبيعي؟
نظر إلى عينيها وقال بسخرية باردة: الانجذاب الجسدي، تلك الكيمياء الدائرة بيننا دون أن نتدخل بها.
اقترب منها أكثر حتى لامست شفتاه شفتيها وقال هامسًا: تلك الروعة التي لم يشعر أحدنا بها من قبل، لم نشعر بها إلا سويًا.
ازدردت لعابها بتوتر وهي تنظر إلى شفتيه المغويتين لترفع عينيها إليه وقالت بصدق: لا خالد، ليس هذا سبب انجذابي إليك.
انطلقت ضحكته عالياً، ضحكة ساخرة متألمة ليقول ساخرًا وقال وهو يرفع رأسه بعيدًا عنها قليلاً: حسناً أخبريني يا زوجتي العزيزة، ما الشيء الذي رأيته بي لتنجذبي إلى بتلك الطريقة المدمرة لحياتك كلها.
ابتسمت بألم وقالت بهدوء: رأيت رجلاً شرقيًا خلف بياض لونك وانجليزيتك الصارخة، رأيت روحًا مرحة خلف ابتسامتك الساخرة، رأيت إخلاصًا نادرًا خلف زرقة عينيك.
نظر لها يتهمها بالكذب لتكمل بهدوء: لا أكذب خالد، ولكنني أقنعت نفسي بخلاف ذلك لأنك لم ترني، لأنك صفعتني بعدم اهتمامك بي، صفعتني بغرورك الإنجليزي وبرودك، صفعتني في كل مرة خفضت نظرك أو أشحت به بعيدًا حتى لا تنظر إلي، وصفعتني بقوة عندما باركت لي يوم حفل خطوبتي وكأنني لا أعنيك.
ضغط على ذراعيها قويًا وصاح غاضبًا: لأنك بالفعل لم تعنيني، كيف تنتظري مني أن أنظر إليك وأنا اعلم جيًدا أنك ابنة سيادة السفير، هل كنت تتوقعين أنني سأدخل منزله لأغازل ابنته، أم كنت تتوقعين مني أن أغازلك وأنت زوجة أخي؟ ثم أخبرتك من قبل أنني لم أشعر بأي شيء اتجاهك إلا بعد غان تزوجنا، بل بعد مرور عامين على زواجنا.
رمشت بعينيها وتجمعت الدموع بهما، شعرت بغصة كبيرة تقف بحلقها لتقول بصوت مخنوق: نعم أعلم، لم ألومك خالد، أعلم أنني لم أكن صالحة لمواصفات فتاة أحلامك.
لفظت جملتها الأخيرة بشيء من السخرية وهي تنظر إليه بألم لم تحاول إخفاؤه .
شعر بالتخبط وهي تبلغه بأنها لا تلومه، أنّ قلبه قويًا من دموعها المتجمعة بعينيها، بل شعر بلهيب يحرق صدره وهو يسمع نبرتها المخنوقة. رأى سخريتها الساطعة بعينيها فعقد حاجبيه وقال غاضبًا : نعم كنت أفضل الشقراوات، أخبرتك من قبل.
نظرت له بغضب ولمعت الغيرة في دموع عينيها ليسأل هو بعنف: لماذا كنت تنتظرين أن أنظر إليك في الأساس.
ابتسمت ساخرة باتساع لتنطلق ضحكتها قوية، لمع الغضب بعينيه فأرادت أن تحرقه معها بنيران الغيرة التي أشعلها في قلبها، قالت بصوت فخور: لأنني كنت حديث الجامعة يا زوجي العزيز.
ضيق عينيه مستفهمًا لتقول بتلذذ وهي تنظر إلى مقلتيه بتحدي: كنت الفتاه المصرية التي يلقبونها بسمراء النيل، ذكية. . متفوقة. . وأيضًا جميلة، من عائلة عريقة واسمي معروف داخل أروقة الجامعة، كنت مثار إعجاب الطلبة والأساتذة أيضًا ، يتوددون إلى ويطلبون رضاي، كنت مدللة الجامعة وما أريده يعتبر أمرًا نافذ الجواب انجليز كانوا أو من الجالية العربية .
اتسعت عيناه بغضب لم تره من قبل وقال بصوت منخفض ولكنه حاد لدرجة أرعبتها: وكنت أنا الاستثناء الوحيد.
أكمل دون أن ينتظر جوابها: أنا من لم يركع لك، لم يقم بالتودد إليك ولم ينفذ لك أحلامك واجبة النفاذ .
عادت خطوتين إلى الوراء لتبتعد عنه ولكنه قبض على ذراعيها قويًا وأجبرها على النظر إليه، ففغرت فاهًا ونظرت له بذهول وهي ترى أزرق عيناه يحترق ليتحول لونهما إلى اللون الرمادي. جذبها من ذراعيها إليه أكثر وهو يمنعها من الابتعاد قائلاً بفحيح غاضب: فقضيت السنوات الماضية تتلذذين بعقابي، تنتقمين مني على عدم خضوعي لك سابقًا، تشعرين بلذة الانتصار يوميًا وأنا أفقد عقلي ومقدرتي أمامك، ترفضيني كل ليلة لأعود أنا بغبائي محاولاً كسب رضاك، تصيحين بوجهي كل يوم رافضة وجودي من حولك ومعلنه عن كرهك لي، لأخبرك أنا بحبي وعدم مقدرتي عن الابتعاد عنك.
هزها بعنف وهو يتبع بغضب أعمى: قضيت تلك السنوات الأربع الفائتة تتلاعبين بي وبمشاعري نحوك من أجل أن تنتقمي مني على عدم رؤيتي لك؟
أيقظها من ذهولها شعور بألم قوي بذراعيها فتأوهت بقوة وهي تشعر بأصابعه تفتت عظامها فصرخت باستجداء: اتركني خالد، أنت تؤلمني.
غامت عيناه بسواد حالك كلون البحر في مساء ليلة مقفرة: لا.. ليس بعد يا زوجتي العزيزة، من اليوم لا وجود لرغباتك أو أحلامك أو أوامرك، من اليوم فصاعدًا أنا من سيقرر متى اقترب ومتى أبتعد، من اليوم سترين حياة أخرى غير تلك التي عشتها يا مدللة.
ضمها إلى صدره بإجبار لتصرخ بألم وهي تشعر بأنامله تشد خصلات شعرها من الخلف بقوة، ليجبرها على أن تحني رأسها إلى الخلف. تأوهت قويًا ودموعها تنهمر على خديها والألم يعلو وجهها ليحني رأسه إليها وينظر في عمق عينيها بنظرة أرعبتها وجعلت مفاصلها ترتعد قويًا وهو ويقول والازدراء يصدح بصوته: أنه دوري أنا تلك المرة في الانتقام منال.
شهقت بقوة وهي تشعر بشفتيه تمزقان شفتيها وهو يقبلها بطريقة مؤلمة آلمت روحها قبل ان تؤلم شفتيها. حاولت دفعه بعيدًا عنها، ولكنها لم تستطع بل كانت محاولات دفعها له تزيده جنونًا، وتزيد قبلاته ضراوة ووحشية، وتزيدها هي ألمًا. رفعت قدمها لتركله في كاحله بقوة، لعلها تستطيع أن تدفعه ليبتعد عنها ولو للحظات قليلة تستطيع أن تلتقط أنفاسها بها، لتتسع عينيها دهشة وهي ترى عينيه التي اتسعت بدورها ألمًا لينطلق الوعيد من بينهما فتدرك حينها ان هذا ليس خالدها بل خالد آخر، خالد جديد صنعته هي بغبائها وكبريائها !!
***
دلفت إلى المنزل هي وإيني تحملان الكثير من الأكياس وتتحدثان سويًا بمرح. أشارت لهما الخادمة بأن تصمتا وهي تهمس " أن لديهم ضيوف بالصالون "
أومأت الاثنتان برأسيهما ودلفتا إلى الداخل لتقول إيني بتعجب: من تتوقعين بالداخل؟
هزت ليلى أكتافها بلا مبالاة وقالت: لا أعلم.
دلفتا إلى غرفة ليلى ووضعتا الأكياس من أيديهما وبدأت إيني تبحث عن الأشياء التي تخصها.
لا تعلم لماذا شعرت بذلك الشعور الخانق الذي سيطر عليها فجأة ولكنها نحته جانبًا وهي تخبر نفسها أنها تشعر بذلك لأنها قابلته اليوم لا أكثر. تنفست بقوة وهي تنبه نفسها ألا تنجرف بأفكارها إليه، فهي لا تريد التفكير به، ولا بكلماته التي حملت الوعيد والثقة بشكل يفقدها تركيزها.
هزت رأسها بعنف وهي تجبر نفسها على التركيز مع أختها فقالت بمرح افتعلته: ما رأيك أن تساعديني بترتيب أغراضي وأنا سأذهب معك بعد ذلك لأساعدك.
هزت إيناس رأسها بمرح وقالت بالإنجليزية: اتفقنا.
ابتسمت ليلى و بدأت في حمل الأشياء و وضعها بالدولاب.
التفت لتأخذ بقية الملابس من يدي إيناس ليحتقن وجهها بقوة وهي تنظر إلى الفستان الذي حملته إيني من حمالتيه وهي تنظر إليه بانبهار. قالت بطلاقة: واو ليلى، أنه خطير، لم أره وأنت تبتاعينه؟
اتسعت عيناها بذهول وهي ترى ذلك الفستان بين يدي إيني ورمشت بعينيها وهي تؤنب نفسها كيف لم تلقه في وجهه عندما ظهر أمامها في المطعم، لقد نسته تمامًا ، فقد خبأته بإحدى الأكياس الأخرى حتى لا تلاحظه إيناس وهما في المحل وتجبرها على ارتدائه أو رؤيته عليها، لتنساه كلية.
زفرت بقوة وهي تنظر لعيني إيني اللامعتين، فخفضت عينيها بحرج وقالت: حقًا ؟ لم أدرك ذلك؟
رددت إيني: أنه رائع حقًا، لا ينتمي لاختياراتك عادة ولكن أشعر أنه صنع خصيصًا من أجلك.
اقتربت إيني ووضعته على جسد ليلى وقالت بانبهار: اللون والتصميم يناسبونك تمامًا.
احتقنت وجنتا ليلى بقوة لتشد الفستان من بين يدي ايني سريعًا وتقول: لا أعلم لماذا ابتعته في الأساس فأنا لن ارتديه على أي حال.
ابتسمت إيني وغمزت بعينيها: سترتدينه في وقت ما.
ابتسمت ليلى بتوتر وهمت بالرد ليقاطعها صوت طرقات على الباب قالت إيني بمرح: تفضلي أمي.
دلفت الأم إلى الغرفة وهي تبتسم بهدوء ورزانة بعد أن بدأت تستعيد عافيتها وصحتها كاملة، قالت في هدوء: أرى أنكما تسوقتما معًا.
ابتسمت إيني وهي تتجه لتقبلها: اليوم كان ينقصك أمي.
ابتسمت إلام: عندما أستعيد عافيتي بالكامل سنخرج جميعنا.
ارتبكت ليلى وخبأت الفستان وراء ظهرها وهي تتجه لوالدتها وتقبلها: إن شاء الله ماما.
ابتسمت السيدة وهي تلاحظ حركة ابنتها التي اتجهت سريعًا لتلقي بما في يدها بداخل الدولاب. ثرثرت إيني: كلا أمي لا تنسي أنك وعدتني برحلة للشاطئ.
أومأت الأم موافقة: ورحلة للشاطئ أيضًا سنفعل كل ما تريدين إيني لا تقلقي.
صاحت إيني فرحة لتتساءل بفضول: من الزائر أمي؟
ابتسمت الأم وقالت: أنه ضيف مميز، ارتديا شيئًا لائقًا وخاصة أنت ليلى.
نظرت لها بتعجب: لماذا أمي؟
ابتسمت ثم رتبت على خدها: عمك بالخارج حبيبتي.
أتبعت وهي تخرج من باب الغرفة: هيا لا تتأخري ليلى.
تألق وجه ليلى بقوة وقالت: حسنًا أمي سأخرج حالاً.
نظرت إيني لها بطريقة مريبة فقالت بدهشة: ماذا بك؟
ابتسمت إيني بطريقة مميزة: لا شيء، ما رأيك أن انتقي معك ما سترتدينه ويكون من مشتريات اليوم؟
هزت ليلى كتفيها بلا مبالاة: حسنًا موافقة.
ارتدت ما استقرتا عليه هي وإيني ، كان فستانًا رقيقًا من الكتان الأزرق، بأكمام رقيقة عن قماش الفستان قليلاً منفوشة لآخر الذراع ومزمومة من عند الكف، مزين بحزام أبيض اللون عريض عند الخصر مزين بنقشات فضية وبه ثلاثة فصوص من الخرز الأزرق، طويل يرسم جسدها جيدًا ولكنه محتشم، ضيق من عند الصدر وبفتحة صدر دائرية ضيقة.
وقفت تنظر إلى نفسها بالمرآة لتأتي لها إيني بحذاء بناتي خفيف أبيض اللون وقالت بمرح: هذا مناسب، شكلك رائع ليلى.
أتبعت: هيا جددي زينتك واجعليها ثقيلة نوعًا ما.
ازدردت لعابها قويًا وقالت بصوت مبحوح: أليس مكشوف الصدر قليلاً؟
أخرجت إيناس حجابًا عريض أبيض وبه تموجات نيلية اللون وقالت: هذا سيكون مناسبًا وسيغطي صدر الفستان، هيا تحركي حتى لا نتأخر.
أتبعت وهي تخرج من باب الغرفة: سأذهب لأبدل ملابسي أنا الأخرى.
تركتها وخرجت لتقف هي وتنظر لنفسها في المرآة وهي تشعر بمشاعر مضطربة تموج بداخلها. تشعر بأنفاسها ثقيلة وبشعور مريب يكتنفها، قلبها يثب بجنون، لماذا تشعر بالخوف والتوتر الهائل الذي طغى عليها، ما الذي يحدث ليلى؟
زفرت بضيق من تلك الخنقة التي استحكمت حلقها فاستغفرت وهي تلف حجابها حول رأسها وتجدد زينتها كما أخبرتها إيناس، ابتسمت لنفسها في المرآة ابتسامة خرجت متوترة عكست شعورها الداخلي فحاولت بث بعضًا من الثقة في نفسها وهي تفكر " أنه عمي من بالخارج، لماذا أشعر بأنني مقبلة على اختبار صعب أمي تريدني أن اظهر بمظهر لائق فقط حتى يطمئن عمي علي وأنا هنا "
أراحها ذلك التفكير وطمأن قلبها لتخطو إلى الخارج بخطوات واثقة.
اتسعت ابتسامتها وهي تسمع صوت عمها يتحدث بهدوء كعادته ولكن هذا الحديث ليس موجهًا لبلال، نحت تلك الرائحة التي داعبت أنفها وهي تجبر عقلها على عدم التفكير به الآن، وترغمه على البعد عن بؤرة تفكيرها وهي تحصر تفكيرها بعمها وأنها اشتاقت إليه، وأنها لابد أن تقنعه بسعادتها مع والدتها لتطمئنه .
أنصتت سمعها قليلاً لتجده مستمرًا في الحديث ولكن الطرف الآخر لا يتكلم.
هزت كتفيها بلامبالاة ودلفت إلى الداخل بمرح وهي تقول: مرحبًا عمي، نورت بيتنا.
صمتت فجأة عن الكلام وهي تنظر إليه وهو ينتفض واقفًا أمامها، اتسعت عيناها بقوة وهي تنظر إليه بدهشة وعقلها يقفز سائلاً " ما الذي أتى به إلى هنا؟ "
****
ظلت واقفة بصدمة والذهول يطل من عينيها وهي تنظر إليه، تردد السؤال بداخلها أكثر من مرة " هل هو هنا حقًا، أم يخيل إليها ؟!
لم تلحظ أن عمها احتضنها بين ذراعيه ورحب بها ترحيبًا بالغًا، بل لم تحرك عينيها من عليه إطلاقًا، وإنما ظلت تحدق به وكأن كثرة تحديقها به سيجعله يختفى من أمامها الآن.
رمشت بعينيها لعل عندما تغلق عينيها وتفتحهما من جديد سينتهي ذلك الحلم الذي أزعجها بالفعل لتجده ينظر إليها وهو يبتسم ويخبرها بعينيه: لقد أخبرتك من قبل.
رمشت بعينيها مرة أخرى وهي تحاول أن تقنع عقلها ونفسها بأنه بالفعل موجود وأنها لا تتخيل، عبد الرحمن هنا يتوسط صالون شقة والدتها، يقف بين عمها وبلال الاثنان يرحبان به ووالدتها أيضًا ، سألت نفسها " هل أصبت بهلوسة عقليه وأجمع بين الأمور والأشخاص بعقلي "
تمتم عقلها " أنا أتخيل أليس كذلك؟ "
هزت رأسها وتمتمت بخفوت وهي تؤكد لنفسها : بالطبع أنه ليس موجودًا.
انتبهت من أفكارها على يد عمها التي دفعتها بلطف لتدلف إلى منتصف الغرفة وهو يقول بمرح: طبعًا لا تحتاجين أن تتعرفي على أمير.
ابتسم أمير بحرج وقال: أهلاً ليلى.
التفت إلى عمها بشيء من التوتر وأعاد عقلها مرة أخرى مرددًا لاسم " أمير "
هزت رأسها بتشتت وشعرت بأنها استيقظت فجأة من السبات وهي تسمع صوته واضحًا بأذنيها وهو يرحب بها بود وحرج رسمه بإتقان.
نظرت إليه وهي تحاول أن تفهم ما يحدث أمامها دون فائدة، تشعر بأن عقلها يحيط به الغيوم نقلت عينيها إلى يده الممدودة كأنها ثعبان سيقرصها ورفعت عيناها إليه ونظرت له باستفهام ورفض لأن تصافحه، ضيق عينيه ونظر لها بقوة يخبرها ألا تفعل ما تفكر به، ابتسم باتساع وهو يقبض على كفها ويصافحها بود أتقنه.
تنحنح بلال وقال: تعالي حبيبتي اجلسي.
هم بالتحرك ليجلسها مكانه ويذهب هو للجلوس على الكرسي بجوار أمير، لتقول أمها بلطف وهي تخبره بعينيها ألا يتحرك: اجلسي حبيبتي فالكرسي بجوار أمير بك فارغ.
نظرت لأمها بذهول وهي غير مستوعبة " أحقًا والدتها تدعوها للجلوس بجواره أم أن عقلها ينسج أحداثًا لقصة خيالية؟ شعرت بالغباء يخيم على عقلها تلك المرة حقًا وهي ترى ابتسامة والدتها المطمئنة مرسومة على شفتيها، شعرت بأنها ستصاب بسكتة دماغية عندما سمعته يقول : أمير فقط أمي ألم نتفق؟
أجابت والدتها بحنان " طبعًا بني "
همست بخفوت: ماذا يحدث هنا؟
لكن همستها لم تخرج من حنجرتها بل إن صوتها حُشر بداخل حلقها وشفتيها لم تتحركان عن وضعهما الصامت.
شدها من يدها بخفة دون أن يلحظ الحاضرون ما فعل ليوجهها للكرسي. ولدهشتها استجابت له وتحركت، كما استجابت لنظراته المهدئة لها فشعرت ببعض الهدوء النسبي يتخلل توترها المسيطر على حواسها، لتشعر بجسدها كله يتصلب وهي تسمعه يهمس بأذنها القريبة منه: بل أنا موجود ليلى، أنا هنا عريسك المنتظر.
وكأنه يقرأ أفكارها، يعلم جيدًا بحالة التشتت العقلي التي تمر بها، همسته أتت على ما تبقى من عقلها واتزانها فشعرت بأنها سيغشى عليها، فجلست مرغمة في المكان الذي حدده هو وهي تحاول أن تحافظ على وجودها بينهم، لا تسمع الحوار الدائر بينهم ولكنها تومئ برأسها وكأنها تستمع بالفعل، تحرك رأسها بإيماءات خفيفة وهي ترد على والدتها وعمها وهي تحاول أن تركز لتفهم ما يدور، فقط هي تريد الفهم، تبتسم بتوتر لبلال وتتحاشى النظر إليه فهو يسألها بعينيه أسئلة لا تفهمها هي ولا تجد لها إجابة، بل لأول مرة منذ أن قابلت بلال وهي لا تستطيع فهم عينيه، أكد عقلها " بل لا تستطيعين فهم شيء على الإطلاق "
أدارت عينيها مرة أخرى وهي تجبر عقلها على التركيز لعلها تستطيع حل تلك المعضلة التي أمامها وتعلم سبب وجوده هنا، لتشعر بالقهر يجثم على صدرها وهي ترى عمها يتكلم مع عبد الرحمن بود يسأله عن أشياء تخصه والآخر يجيب بثقة كما عهدته دومًا.
نقلت عينيها لأمها لترى أنها أيضًا تعامله بلطف منقطع النظير وكأنه أصبح من العائلة فعليًا، رفعت حاجبيها بصدمة وهي تسمع ضحكة عمها الرزينة تنطلق على شيء قاله ذاك المستفز الجالس إلى جوارها، أما أكثر شيء تعجبت منه هو حديث بلال الودي معه وكأنه يعرفه منذ زمن وأنهما أصدقاء.
انتبهت من أفكارها على دخول إيناس ومعها موجات المرح التابعة لها، ولكنها تميزت من الغيظ وهي تسمع ايني ترحب به بمرح ثم انحنت لتهمس لها: لماذا لم تخبريني عنه؟
نظرت لها مستفهمة فأكملت الأخرى بخفوت : لقد رأيته اليوم وهو معك.
أتبعت بطفولية معاتبة: رغم أنني عاتبة عليك لأنك لم تخبريني، إلا أنني فرحة من أجلك، مبروك لولا.
أغمضت عينيها وهي تفكر " ماذا يحدث بحق الله، لماذا تعاتبها إيني و تغضب منها، والأهم علام تبارك لها تلك الفتاه؟ "
نظرت حولها وهي تفكر هل اتفق معهم عبد الرحمن ليصيبوني بالجنون جميعًا، أم أن ذلك الكاذب تلاعب بهم ليوهمهم بشيء غير موجود اخترعه هو.
رفعت حاجبيها وقد بدأت في إدراك ما يحدث بالفعل وتمتم عقلها " من الواضح أن جميعهم مدركون للأمر بشكل خاطئ كليًا "
أخفضت رأسها و فكرت " ما الذي حدث وجعلهم يرحبون به بتلك الطريقة؟ بل ما الذي أخبرهم به هذا العبد الرحمن لينظروا لها بتلك النظرات السعيدة التي تتمنى لها التوفيق؟ "
والأهم لديها بلال فهو الذي سينفذ لها رغبتها في طرد ذلك الأحمق الذي يجلس منتفخًا كالطاووس بجانبها، بل سينتقم منه إذا أرادت هي. ما الذي أخبره به ليجعله يستمع إليه بتلك الطريقة ويتعامل معه كصديق مقرب له؟
انتبهت من أفكارها على الصمت السائد بالمكان لترفع عينيها وتنظر حولها لتجد المكان فارغًا !!
تنفست بقوة ثم أغمضت عينيها وهي تخبر نفسها أنه كان حلمًا، أو كابوسًا لن تفرق معها، المهم أنه انتهى والحمد لله.
انتفضت واقفة وهي تسمعه يقول بصوت ساخر: لم يكن حلمًا ، أنا ما زلت هنا.
شهقت بقوة وهي تنظر إليه ليضحك على ملامحها المرتعبة وقال بخفة: اهدئي يا أميرتي فأنا لست شبحًا.
أتبع وهو يشير إليها بيده ملوحًا بظرف مبالغ فيه: انظري إنه أنا أتحرك أمامك.
نظرت له بغيظ وقالت من بين أسنانها: كف عن تلك التصرفات السخيفة.
رفع حاجبيه باستمتاع وهو ينظر إليها بسخرية قالت بقوة: ماذا تفعل هنا؟
نظر لها من بين رموشه وهو يبتسم باستفزاز فأتبعت بكبرياء وحنق: ولماذا أتيت من الأصل؟
رفع عينيه ونظر لها بتفحص ليقول بهدوء: اجلسي يا عروسي الحسناء حتى لا يدخل أحدهم ويجدك واقفة بتلك الطريقة ويشكون أنك تريني ذلك الثوب من جميع الجهات.
شعرت بالخجل والحرج يكسوها ولكنها لم تترك ذلك الإحساس يتحكم بها فنظرت له بغضب وقالت: بل سأجعلهم يدخلون وأخبرهم أن يرموك خارجًا.
نظر لها بقوة فأشاحت بعينيها بعيدًا عنه وجلست في أبعد مكان عنه، وسألت بصوت مهزوز: لم ترد على أسئلتي؟
نظر لها وقال ببرود: أية أسئلة؟
جزت على أسنانها قوياً ورددت بحنق: لماذا أتيت وماذا تفعل هنا؟
هز راسه وقال: آها، تلك الأسئلة !
نظرت له بغيظ فاتبع وهو يبتسم بثقة وعيناه تلمع بتلك الابتسامة التي باتت تكرهها حقًا: أتيت أرى عروسي ونحدد موعد للخطبة.
انتفضت واقفة وقالت بغضب: في أحلامك.
رفع حاجبه لها وهو ينظر بقوة: بل في الواقع ليلى. وقريبًا جدًا أيضًا.
جزت على أسنانها غضبًا وشعرت بدمائها تغلي بأوردتها فقالت وهي تصر على حروفها: لن أقبل بك وسأرفضك الآن أمامهم جميعًا ولن تستطيع أن تفعل شيئًا، بل سأخبر أخي وعمي أنك تلاعبت بي وسأجعلهم ينتقمون منك.
ابتسم ساخرًا وقال بنبرة لا مبالية: كيف ستخبرينهم ليلى؟
نظر إلى عينيها نظرة مباشرة وقال بخفوت: هل ستخبرين أخاك العزيز أنك كنت تتحدثين مع أحدهم على الانترنت وتبادلينه المشاعر والآن لا تريدين الزواج منه؟
اتبع بفحيح: أم ستخبرين عمك العزيز أنك كنت على علاقة بسائق سيادة السفير؟
نهض واقفًا أمامها فجأة وأحنى راسه لينظر إليها ويجبرها على النظر إليه: هيا ليلى أخبريني عن التصور الذي يدور في رأسك.
تحاشت النظر إليه ليمسك ذقنها بأطراف أنامله ويرفع رأسها إليه ويقول بغيظ: أخبريني كيف ستخبرين أخاك وعمك عني، هل ستخبرينهم بعلاقتك مع الأسطى أم مع السيد أمير؟ أم ستخبرينهم عن الاثنين؟
نظرت إلى عينيه بتحدي وإصرار: ولماذا لا أخبرهم عن الاثنين؟ لم أفعل شيئاً خاطئًا وهما سيقدران ذلك، وأنا مستعدة أن أفعل أي شيء لأتخلص منك ومن رؤية وجهك هذا.
احتقنت أذناه بقوة ونظر إلى عينيها بجمود: لن تستطيعي مجاراتي ليلى، وأعلمي أنني سأفعل أي شيء لأنالك، اختصري على نفسك الكثير، وأخوك الذي تستقوين به من السهل جدًا أن اجعله لا ينظر إلى وجهك مرة ثانية.
همس بجانب أذنها: أنا أعلم عنك الكثير، تخيلي ما استطيع أن أخبره به، ولن أتحرى الصدق عزيزتي.
شحب وجهها بقوة وهي تنظر إليه ليبتسم فجأة باتساع ويقول بطريقة مختلفة كليًا عن الطريقة التي كان يحدثها بها: لا أصدق أنني هنا أخيرًا.
لمعت عيناه برقة وهو يتبع: أتمنى أن اختصر المسافات لنكون سويًا حبي. .
قضم كلماته وهو يبتعد عنها فجأة، لتزداد عقدة حاجبيها إلى أن ابتسم بحرج وقال بخفوت: مرحبًا بلال.
احتقن وجهها بقوة وهي تتذكر أنه كان قريبًا منها وأن ما تفوه به للتو سيعطي أخاها فكرة أخرى كلية عن الحديث الذي كان يدور بينهما، شعرت بأنها تريد أن تقتله فهو يتلاعب بها وبمن حولها أيضًا، زمت شفتيها بحنق وشعرت بالغضب يتملكها بالفعل وراودتها تلك الفكرة أن تخبر بلال بكل ما حدث، ولكنها نظرت إلى عينيه التي لمعت بتحذير واضح وكأنه يقرأ أفكارها، خفضت عينيها وهي تشعر بالقهر يسيطر عليها وما زاد من قهرها رد بلال الذي أتى هادئًا وهو يقول: لا عليك، أتيت لأطمئن على ليلى.
اقترب الآخر سريعًا وقال بلهفة خرجت منه تلقائية ولكنها شعرت بأنها مفتعلة وتمثيلية كبقية حديثه الآخر: ماذا بك ليلى؟ هل أنت متعبة؟
نظرت له بغضب وهزت رأسها نافية. همت بالحديث لتسمع صوت إيني تقول بخفة: بلال أمي تريدك.
ابتسم بلال بتوتر وقال: بعد إذنكما.
تبعته إيناس في هدوء ليخرج الاثنان من الغرفة، ظلت واقفة كما هي وأطرقت برأسها إلى الأرض، تنظر إلى نقوش السجادة الجميلة التي تقع تحت قدميها، صمتت لوقت ليس بكثير تفكر في طريقة للخلاص منه، طريقة سهلة لتقنعه أن يبتعد عنها، فهي لا تريده .
صاح صوت قوي بداخلها " أحقًا لا تريدينه ليلى؟ أم يوجد بداخلك ذلك الشيء الصغير الفرح بوجوده هنا أخيرًا؟ ذلك الشيء الصغير الذي يقفز لأن من أحببته أتى ليطلب يدك ويتزوج منك "
شعرت بالضعف يخلل قدميها ليصيح عقلها " كلا نحن لا نريده، فقد تلاعب بنا وخدعنا، آلمنا كثيرًا، بالتأكيد لا نريده !!"
قبضت كفيها قويًا وهي تحاول أن تسيطر على تموجات المشاعر المتضاربة بداخلها، تريد السيطرة على أعصابها وتواجهه دون أن تشعر بالخسارة مرة أخرى، فالخسارة تمزقها. تعلم جيًدا أنه لا سبيل للنصر أمامه ولكنها ستحاول، بالتأكيد ستحاول !!
رفعت نظرها أخيرًا إليه وزفرت بقوة لتقول بصوت هادئ: ماذا تريد؟
***
تبع شقيقته في صمت وهو يشعر بالغضب من ذلك الأمير الذي جاء طائرًا ليحط رحاله لديهم ويخطف أخته الكبيرة من بين يديه .
جز على أسنانه قويًا " نعم هو يخطفها، يسحبها من جانبه، يأخذها معه إلى عالم بعيد عنه، وهو لا يحب ذلك بل يكرهه، يكره أن يستولى شخص آخر على مشاعر أخته التي باتت أقرب إليه من نفسه، بل أكثر ما يكرهه هو ذلك الحدس الخفي الذي يخبره أن ذلك الأمير استولى على قلب أخته من فترة بعيدة، استولى على قلبها وعقلها وقريبًا جدًا سيصبح كل دنياها وعالمها "
طرق عقله قويًا: ستتركك وحيدًا بلال وتذهب معه.
زمجر بغضب رغمًا عنه لتنظر إليه إيناس بطرف عينها وتقول: ماذا بك بلال؟ هل أنت ضائق من خطبة أختنا الكبرى؟
نظر إليها بحدة فقالت بهدوء: من المفترض أن تفرح ولكن ملامح وجهك بعيدة كل البعد عن السعادة.
ضم شفتيه قويًا حتى لا يتفوه بما لا يليق لتتبع هي بسلاسة: أنا سعيدة من أجلها فهي ستتزوج ممن تحب.
اتسعت عيناه بقوة ولاح الغضب بهما ليديرها إليه بحدة ويقول: من أخبرك بذلك؟
هزت رأسها باستنكار وقالت بخفوت: اترك يدي بلال، ما الذي تفعله؟ ثم عماذا تسأل؟ هل هو سر حربي لتسألني بتلك الطريقة؟
ردد بغضب وهو يترك يدها: هل أخبرتك ليلى عنه؟
لوت شفتيها بغضب طفولي: كلا لم تفعل، رغم أنني رأيته معها اليوم مرتين وكأنها أخبرته عن مكان وجودنا. فأتى مرة وتحدث معها والمرة الثانية كان يتناول غدائه بنفس المطعم الذي اخترناه نحن، أعتقد أن المرة الثانية مصادفة لا أكثر. فهي ارتبكت عندما رأته وكأنها لم تكن تعلم بوجوده.
لمحت الغضب بعيني شقيقها فشعرت أنها أخطأت بشدة فاستدركت كلامها وهي تحاول أن تخفف عنه وهي لا تفهم إلى الآن سبب غضبه حقًا ، فقالت بهدوء: ولكني رأيتهما وهما يتحدثان بلال، طريقتهما ذكرتني بحديثك الخافت مع سوزان.
هنا شعرت بأن شيء ما حدث ولم تدركه هي، فقد انقلبت ملامح بلال كلية وأصبح وجهه محترقًا تمامًا من الغضب ولمعت عيناه ببريق وحشي، لا تفهم سبب أي منهما.
هزته برفق وقالت بخفوت: اهدأ بلال، لا يوجد ما يستدعي غضبك هذا.
أتبعت بقدر من التعقل: الشاب أعلن عن سلامة نواياه واتى ليتقدم لها بعد وصولنا فورًا، وأعتقد أنه رتب الأمر مع ليلى.
رفع عينيه إليها وقال بحشرجة غريبة: آه نعم، إنه بالفعل سليم النوايا، وغضبي ليس له علاقة بليلى، أنه شيء خاص بالعمل.
تركها وتحرك باتجاه غرفته فقالت بدهشة: بلال هل ستترك عم ليلى بمفرده، ثم إن أمي تريدك.
قال بخفوت: سآتي على الفور.
تحرك باندفاع وهو إلى الآن لا يستطيع أن يهدئ من غضبه الذي ليس له مبرر عقلاني، بل من المفترض أن يسعده ما أخبرته به إيني، فأخته ستتزوج من رجل أحبها بعمق وأتي ليطلب يدها. رجل عاشق، نعم لقد تبين ذلك جيدًا وهو ينظر إلى عيني أمير التي تألقت بلهفة رجل محب عندما أطلت ليلى عليهم، بل إنه يجزم أن أمير نهض واقفًا قبل أن تطل ليلى وكأنه شعر بدخولها قبل أن تدخل بالفعل. رجل أعاد حديثه الخافت إلى ذاكرة شقيقته غرامه بمن يحب .
عند هذا الحد اندفع إلى دورة المياه وفتح صنبور المياه ووضع رأسه تحت المياه تلقائيًا ، حتى يستطيع إخماد تلك الثورة التي صدحت في رأسه دون سابق إنذار. رفع رأسه بعد قليل وهو يشعر ببعض الهدوء الذي تخلل خلايا عقله قليلاً، ليجفف خصلات شعره ويصففها من جديد، وينظر إلى نفسه في المرآة ويرسم ابتسامة هادئة على شفتيه ويتحرك خارجًا من غرفته ليذهب ويرى ما في جعبة ذلك الأمير.
****
ابتسم السيد كامل وسألها بهدوء: ما رأيك به؟
اتسعت ابتسامتها وقالت بفرحة حقيقة سطعت في صوتها: أنه رائع، ويحب ليلى.
هز المستشار رأسه وقال: نعم أن عينيه تدليان بالكثير.
أتبع بابتسامة واثقة: سأطمئن على ليلى معه.
تمتمت بخفوت: بإذن الله سيتمم لهما على الخير.
رفعت نظرها لترى ذلك الواقف بمدخل الغرفة، عقدت حاجبيها وبغضب وهي ترى شعره المبلول وتنظر له باستنكار، أشاح بعينيه بعيدًا عنها، فهزت رأسها بعدم رضا وهي تعلم ما يحدث معه جيدًا. شعرت بالغيرة تفوح من كلماته منذ أن حدثها عن مجيء أمير له وطلبه ليد ليلى، وأنه شبه أرغمه على القدوم اليوم، رغم رفضه هو بذلك. تعلم جيًدا ولدها ورفضه الباطني للأمر، فبلال رغم أنه لم يرث الكثير من ملامح والده ولا طباعه، إلا أنه ورث أسوء صفه به، الغيرة العمياء !!
أنه يغار بجنون على ما يملكه أو ما يخصه، منذ الصغر وهو يغار عليها من كل شيء حتى والده، وسليم مع الأسف كان معجبًا بتلك الصفة به فكبرها بداخله دون أن يقصد بمدحها تارة أو بزرع الأفكار في عقله أنه كرجل شرقي من المفترض أن يغار ويحافظ على عائلته، بل كان يشجعه وهو يراه يخنق الفتاتين الأصغر منه سنًا بغيرته المجنونة.
فعلت معه الكثير منذ صغره وحاولت تهذيب تلك الصفة فيه بكل وسيلة ممكنه لها، ولكنها تبقت بداخله يسيطر عليها كثيرًا ويذمها بنفسه ولكنها تبقى خالدة في قلبه لا يستطيع الخلاص منها كلية.
نظرت إلى خصلات شعره الندية مرة أخرى وهي تعلم ما فعله، فلطالما فعلها من قبل، عندما يزداد ضيقه ويشعر الغضب يسيطر عليه يضع رأسه تحت الماء ليخفف من وطأة مشاعره السلبية.
حمدت الله بسرها أنه عاقل قليلاً ويستطيع السيطرة على تلك المشاعر وإلا لما استطاع أن يتعامل مع أمير بتلك اللباقة التي أسعدتها منذ قليل.
همس بضيق: أليس ذلك الوقت كافيًا لكليهما؟
ضحكت بخفوت رغمًا عنها وقالت في هدوء: انتظر قليلاً بلال، دعهم يتحدثون على راحتهم.
قال من بين أسنانه: فيم أمي. اعتقد أنهما اعتادا الحديث سويًا أكثر من اللازم.
نظرت له بتحذير وقالت معاتبه إياه بخفوت: بلال.
أشاح بوجه بعيدًا والغضب يأكله ليقول العم بصوت هادئ: أنه محق ماجدة، أنه لوقت كافٍ لهما، هيا لنعود.
زفر بارتياح وهو يشعر للمرة الأولى بسعادته لوجود ذلك الرجل الآن، بل هو يريد شكره على إقناع والدته والوقوف بجانبه وتأييد رأيه.
هزت الأم رأسها بالموافقة وقالت: حسنًا، لنذهب إليهما.
****
منذ أن أصبحا بمفرديهما وهو يشعر بغضب فعلي من نفسه، لم يكن يريد أن يتمادى معها بذلك الشكل، شعر بأنه حقير بذلك التهديد الغبي الذي أطلقه في وجهها. ولكنها تثير غضبه بسبب لهجتها المتعجرفة التي تحدثه بها، رفضها له يثير غيظه منها، وعدم استماعها له يشعره أنه سيفقد عقله بسببها، كل ما يريده منها أن تستمع. .. فقط تستمع إليه ولكنها تفعل كل شيء عدا ذلك.
لا يريد أن ينظر إلى عينيها ويرى ذلك الغضب المتألق بهما، بل يريد نظرتها الدافئة التي تنعش عقله، يريد أن يشعر بحبها له وليس حقدها عليه، يريد أن يرى بعينيها نظرات الخجل التي تفقده صوابه وليس ذلك التحدي المقيت الذي يسطع بعينيها كلما رآها أو اقترب منها، يريد أن يستمع إلى صوتها ذو النغمات الرقيقة وليس صوتها المليء بالكبرياء والعجرفة التي مقتها طوال عمره.
تنهد بخفوت وهو ينظر إليها وكأنها تبحث عن شيء مفقود بأرضية الغرفة، رفعت عينيها إليه أخيرًا فنظر إليها وهو يمني نفسه أن تنظر إليه بطريقة مختلفة عن تلك الطريقة التي تجعله يستشيط غضبًا.
ليشعر بالانتصار يغمره وهي تسأل ببرود: ماذا تريد؟
تنهد قويًا وتغاضى عن لهجتها الباردة وقال: أريدك ليلى.
نظرت له مليًا وهو يجلس بأريحية ويضع ساقًا فوق ساق و يتبع بفخامة كعادته: سأفعل أي شيء لأحصل عليك.
زفرت ببطء وقالت: وإن رفضتك؟
ابتسم بسخرية ولمع الخبث بعينيه وهو ينظر لها لدقيقة كاملة ثم يستقيم واقفًا أمامها، تأمل ملامحها المتنمرة بتفحص وقال بهمس خبيث وهو يضرب طرف أنفها بطرف سبابته بخفة: لن تستطيعي حبيبتي.
جزت على أسنانها غضبًا وهي تشعر بالعجز يملأ أوردتها لدرجة أنها لم تستطيع أن تشعر بمذاق تلك الكلمة التي كانت تقتات عليها كل الفترة الماضية، من المحتمل أنها لم تشعر بها لأنها خرجت منه باردة. . خبيثة. . مهينة. . متجبرة. . يريد أن يملكها بها، ليس لأنه يحبها بل لأنه يريدها.
تنفست بقوة وقالت بشيء من السخرية: ماذا ستفعل يا أسطى؟
جمد وجهه قليلاً ليبتسم تلك الابتسامة التي تلمع بعينيه ولا تصل إلى شفتيه: سأريك عينة بسيطة الآن ليلى.
تحرك بخفة وجلس بمكانه مرة أخرى بتلك الأريحية التي تستفزها، نظر لها بمكر وقال: ألن تجلسي عزيزتي؟
هدرت فيه بخفوت: كف عن تلك الطريقة السمجة التي تحدثني بها.
رفع حاجبيه بتسلية وزم شفتيه وهو يمنع نفسه من الضحك قويًا، تنحنح واعتدل جالسا وهو يقول بهدوء: عمك سيدخل الآن، اجلسي من الأفضل لي ولك.
نظرت له بتشكك لتسمع صوت عمها يحادث بلال بشيء لم تتبينه، جلست سريعًا بدون تفكير لتأتي جلستها بجانبه لينظر إليها ويبتسم بثقة، قال بخفوت: لا تعانديني عزيزتي.
تأففت بصوت مسموع ليضحك هو باستمتاع ويصمت عندما قال عمها: أسعدك الله دائمًا أمير، أضحكونا معكم.
ابتسم بحرج لتقول والدتها وهي تنقل نظرها بين وجه ابنتها المورد خجلاً كما اعتقدت هي وبين نظرة التسلية التي صدحت بعينيه فقالت برضا: اتركهما كامل أعتقد انه كان حديثًا خاصًا.
تنحنح بطريقة مقصودة ليقول بخفوت: هلا سمحتما لي بطلب صغير.
ردت الأم سريعًا: بالطبع بني.
صمت قليلاً ليقول بهدوء مدروس: هلا قرأنا الفاتحة الآن؟
استغل الدهشة التي ظهرت على وجه سيادة المستشار والفضول الذي ظهر على وجه والدة ليلى، ليتغاضى النظر على حنق بلال الذي ظهر جيدًا على ملامحه وأتبع بطريقة رزينة يعلم جيدًا انه يستطيع بها إقناع من أمامه: من وجهة نظري لا أرى ما يمنعنا من قراءتها فلا يوجد أحد من عائلتي على أي حال ولن يوجد في المستقبل وأنتم جميعًا حاضرين.
شعر بالرفض يلمع في عيني بلال ولكنه نحاه من الموافقة فهو كان يستأذن عمها ووالدتها فقط، لم يهتم برفضه الصامت لينظر إلى والدتها بانتظار ما ستتفوه به، فهو شعر خفيًا ان كلمتها هي النافذة، فالأخ والعم سيفعلان ما ستأمر به.
ابتسم العم بحرج وقال: ستقتلني ياسمين إذا علمت بالأمر ولكنني سأخبرها بأنها ستحضر حفل الخطبة والعرس إن شاء الله.
ابتسم وهو يشعر أنه على وشك الفوز ليتنهد بقوة فرحًا ووالدتها تقول: على بركة الله.
التفت لها بلال ليخبرها برفضه فنظرت إليه بصرامة وهمست له: انتظر بني سنتفاهم فيما بعد.
زفر بلال بقوة ليقول هو: ما رأيك بلال؟
نظر له بلال طويلاً وكأنه يخبره برفضه ولكن بأسلوب مهذب ليقول: أرى أننا نتعجل دون داعي.
قال أمير بمهادنة: لست متعجلاً ولكنني لا أرى فائدة من الانتظار.
قال بلال بغضب مكبوت: لم آخذ وقتي في السؤال عنك.
ابتسم أمير بمراوغة: أنها مجرد قراءة فاتحة وليست عقد قران.
زفر الآخر بضيق لتقول الأم منهية الحديث: لا عليك بني، أنا أثق بك وأرى انك ستسعد ليلى، ثم أن ليلى حسمت الأمر بالفعل.
قالت جملتها الأخيرة وهي تنظر إلى ولدها بطريقة مقصودة ليشيح بنظره بعيدًا
قال العم بهدوء: على بركة الله لنقرأ الفاتحة.
شعرت بالشلل يجتاحها وهي تنظر إليه بعينين مذهولتين، لا تفهم ما يجري من حولها لا تستطيع أن تستوعب ما يطلبه ذلك ال. .
للمرة التي لا تعرف عددها لا تستطيع سبه، حاولت أن ترفض، بل تصرخ رافضه، أن تغضب وتقفز واقفة وتخبره برأيها الصريح فيه وفيما يفعله وتخبر عمها وأخيها بما فعله بها. ولكنها بكل بساطة لم تستطع. صوتها لم يصعد خارج رئتيها، كل ما استطاعت فعله هو أن تقبض كفيها قويًا وهي تحاول أن تحافظ على المتبقي من عقلها لتستوعب ما يحدث أمامها، حاولت ان تنصت لما يقوله لترفض ما يطلبه بهدوء كما يفعل هو كل شيء بهدوء، ولكن عقلها ظل جامدًا، لا يستطيع الإتيان بأي ردة فعل فظلت صامتة وهي تسمع ما يحدث حولها دون أن تفهمه، فعقلها وتفكيرها أصابهم شلل مؤقت.
انتبهت من حالتها تلك على صوته يهمس بفحيح جانب أذنها: ارفعي يديك عزيزتي واقرئي الفاتحة حتى يبارك لنا الله في تلك الزيجة.
أنت تقرأ
سلسلة حكايا القلوب .. الجزء الاول رواية " امير ليلى "
Romanceاقترب منها ثانية فحاولت الصراخ بقوة، محاولتها الفاشلة في الصراخ أيقظت ما تبقى من عقله الذي كاد أن يذهب مع الألم المبرح الذي يشعر به ، وقف بكل قوته واندفع ناحيته ليسحبه من أكتافه بقوة راميًا به إلى الحائط ليصطدم به الآخر قويًا، لكمة مرتين بقوة...