تجلس بأريحية في الفراش، وهي تشعر براحة لا تعلم مصدرها، ولكن عقلها ترجم ذلك الشعور بأنه بسبب خروجها من المشفى. تنهدت براحة وتمطت بكسل، ثم ابتسمت. كم كان الحديث مع عمها مفيدًا لراحتها النفسية، هدأت كثيرًا بعده، ولكنها ضائقة قليلاً لمشاجرتها مع بلال. وعلى الرغم من أسلوبها الجاف في تعاملها معه إلا أنه حاول أن يراضيها اليوم. ولكنها غاضبة منه بالفعل فطريقته في معاملة عمها ضايقتها كثيرًا.
تعلم جيًدا أن بلال ضائق من عمها بسبب ما فعله معها أول وتالي، ولكنه مهما فعل لا بد أن يتفهم أن عمها هو من رباها فعليًا، وهو كل ما لديها في تلك الحياة.
أغمضت عينيها وقالت لنفسها آمرة " لا لن نتذكره ولن نتحدث عنه حتى بيني وبينك، ألم يكفك ما فعله بك؟ أعلم أنك مغرم به ولكنه لا يستحقك ولا يستحقني "
نهضت من فراشها بهدوء ولا تعلم لم أتت إلى عقلها فكرة الخروج لتتنزه قليلاً. هزت رأسها لتفكر بصوت عال قليلاً: نعم ولم لا.
انتبهت على صوت إيناس وهي تدلف إلى الغرفة تحمل حاسوبها الشخصي و تقول بمرح: ماذا بك؟
ابتسمت في وجهها باتساع وقالت: لا شيء ولكني أريد الخروج.
لمعت عينا الأخرى بفرح طفولي وقالت: نعم وأنا أيضًا، ما رأيك أن نخرج سويًا ؟
هزت رأسها موافقة: طبعًا موافقة..
تحركت إيناس سريعًا وهي تقول بحماس: حسنا أبدلي ملابسك وهيا لنخرج..
ابتسمت ليلى بتوتر: ولكني لا أعلم أي شيء هنا.
أشارت الأخرى بلا مبالاة: لا يهم سنأخذ تاكسي ونبتاع خريطة ونتجول.
رفعت ليلى حاجبيها بدهشة وقالت برفض صارم: لا طبعًا، لن نخرج بمفردنا أبدًا ونحن لا نعرف الطريق.
مطت الأخرى شفتيها بغضب طفولي: حسنًا سأتصل ببلال وأخبره أننا نريد الخروج .
هزت رأسها موافقة لتنظر إلى الحاسوب وتقول بخجل: إيني هل تسمحين لي باستعمال حاسوبك؟
نظرت لها إيناس بدهشة: بالطبع، تفضلي.
ابتسمت بامتنان تقول الأخرى بشقاوة: سأذهب لاتصل ببلال إلى أن تنتهي من استعمال الحاسوب.
تتبعتها بعينيها وهي تشعر بالتعجب من تلك الفتاة. في أول الأمر كانت تتعامل معها كدخيلة أتت لتسرق منها أشيائها، والآن هي في غاية اللطف معها.
تمتمت بصوت خفيض: الحمد لله.
نظرت إلى الحاسوب مرة أخرى وجلست أمامه لتدخل إلى بريدها الالكتروني وتُدهش من كم الرسائل التي بعثها إليها أمير. خبطت جبهتها براحة يدها " لقد نسيته تمامًا، كان يجب علي أن أطمئنه" .
تنفست بقوة وبعثت له برسالة وهي تقرر أنها ستخبره عنها أكثر وستتعمق في علاقتها معه، فهو رغم رفضها لعرضه فيما سبق إلا أنه يداوم السؤال عنها والاهتمام بها .
ابتسمت وهي تضغط على زر الإرسال، ثم نهضت واقفة وبداخلها ينمو قرار أنها ستغير حياتها كلها شكلاً وموضوعاً. فليلى القديمة لن يبق لها وجود.
ستكون ليلى جديدة لائقة بعائلتها الجديدة. ستنسى كل ما سبق وتزيل همومها وأوجاعها من ذاكرتها وترمي بهم إلى سلة المهملات، وستعيش حياتها بروح جديدة وفكر جديد.
***
ركن رأسه على مقود سيارته وهو مغمض العينين يشعر بالقهر لأول مرة بعمره كله.
أُعيد المشهد أمام عينيه مرة أخرى وصوت ارتطامها بالأرض الصلبة دوى بأذنيه. تأوهها ونظرة العتب التي ملأت عينيها. شعر بقلبه يؤلمه، ولكن عقله نبهه أنه يؤلمه بسبب ما تفعله به، ليس من أجلها بل بسببها.
لم يرف جفنه بل نظر لها بقوة وبرود وردد مرة أخرى: إلى هنا وكفى منال، لن أحتمل أكثر من ذلك.
تركها وانصرف وهو يشعر بأن قلبه ينزفا ألمًا، فكر " تطلب منه الرحيل وهي تعلم أنها تحمل طفله، ألهذا الحد تكرهه!!
لا يعلم لمَ وردت تلك الذكرى اللعينة إلى رأسه. يكره نفسه وعقله الذي دفعه إلى التذكر، فهو للأسف كان حاضرًا عندما أخبرت أخيه عن حملها لطفليه.
كان بزيارة لأمريكا وأتى الآخر لاستقباله في المطار وصحبه معه إلى بيته، دخل كلاهما ليفاجئا بالزينة المعلقة والبالونات المنثورة بصالة المنزل.
ظهر الاندهاش على وجهه وهو متعجب: هل هذا من أجل قدومه أم من أجل شيء آخر؟ نظر إلى توأمه ليستفسر فوجد أن باسم متعجب أيضًا، ثم قال بسخرية وهو ينظر إليه: لا أعتقد أن منال ترحب بك، فهي تُستفز من ذكر اسمك فقط، فلن تعد لك أي شيء لترحب بك. ثم أنا لم أخبرها بقدومك.
نظر له ببرود طغى على عينيه: نعم أعلم .
ليبتسم بخبث ويتبع سائلاً: لكن ما لا أعلمه لماذا لا تنفك تردد على مسامعي تلك المعلومة؟
ثم اقترب منه ليهمس بدم بارد: بل تدفعني للتساؤل هل ترددها لي أم لنفسك؟
ظهر الغضب على وجه باسم ليتأتئ هو بطريقة سخيفة ويقول ببرود أشد: لا يا عزيزي لا تكن سريع الغضب، فالإنجليز لا تتحكم بهم مشاعرهم.
وأتبع باستخفاف وهو يشيح بعينيه بعيدًا عنه: إذا رأتك أمي الآن لكانت وبختك على تلك الصفة المصرية التي للأسف لا تستطيع الخلاص منها.
شتم باسم بخفوت لتظهر التسلية على وجهه وهو يجلس على كرسي وثير موضوع بآخر الصالة ويقول وكأن ذلك الحوار لم يدر بينهما منذ قليل: إذًا بماذا تحتفلان؟
أدار باسم عينيه في المكان مرة أخرى ورفع كتفيه بأنه لا يعلم فابتسم بتعجب. هم بالتحدث ليراها أمامه تنزل بخطى رقيقة وكأنها خائفة من التعثر، تبتسم بخجل ألهب وجنتيها، لم تكف عن الابتسام فاستنتج أنها لم تره. آثر الصمت وتابعها بنظره وهي تتجه إلى أخيه وتنحني لتقبل وجنتيه بحب وتهمس: حمدًا لله على سلامتك.
ابتسم أخيه بتملك وشدها من خصرها ليجلسها بحضنه: سلمك الله حبيبتي.
أتبع بهدوء: ألن ترحبي بخالد؟
رددت بصدمة: خالد؟
أدارت وجهها باحثة عنه وحاجبيها معقودين فابتسم بوجهها من باب اللياقة، قفزت واقفة كالملسوعة وهي تقول باقتضاب: حمدًا لله على سلامتك.
ابتسم ببرود: سلمك الله.
قالت بضيق ظهر في صوتها وهي تبتعد عنهما: أمريكا نورت.
ضحك أخوه بقوة ليرد هو بخفة: أشكرك.
لوى باسم شفتيه بخفة وقال بشقاوة: ما أمر البالونات مون؟
أشرق وجهها بسعادة واضحة واقتربت منه مرة أخرى وقالت بفرح حقيقي: أنا احتفل .
نظر لها بدهشة: بم؟!
ازدردت لعابها وقالت بخجل وقد احمر وجها تلقائيًا: ستصبح دادي.
ركز نظره جيدًا على وجه أخيه الذي انقلب و شحب تمامًا وردد بصوت مخنوق: دادي؟
شعر حينها بالشفقة عليها وعلى ملامح وجهها المصدومة من رد فعل أخيه فنهره بعينيه وسبه في داخله ليقول بصوت جهوري وبلغة عربية تلك المرة: مبروك مون، ألف مبروك، أنه خبر جميل.
نظرت إليه وابتسمت بتوتر وقالت بصوت أبح: بارك الله فيك.
نقلت نظرها إلى الآخر الذي قال ببرود: مبروك حبيبتي.
هزت رأسها بتفهم ولم تجبه وتحركت مرة أخرى مبتعدة عنهما إلى المطبخ المفتوح على الصالة. تنهد خالد بقوة ليقول: والدتك ستسعد بالخبر، هل أبلغتها؟
هزت رأسها نافية، نقل عينيه إلى توأمه ونظر له قويًا ثم نهض واقفاً: حسنًا، سأذهب لأستريح من عناء الرحلة.
تنحنحت وقالت بصوت مخنوق: المعذرة خالد، فباسم لم يخبرني بقدومك، لذا لم أُعد الغرفة لاستقبالك دقائق قليلة وسأنتهي من إعدادها.
ابتسم بهدوء كعادته: لا يهم، سأعدها أنا.
هزت رأسها نافية وهي تتجه إلى الدور العلوي: لا طبعًا، بعد إذنكما.
التفت إلى أخيه وهدر فيه بصوت خفيض: ماذا تفعل أيها الأحمق؟
رفع الآخر نظره إليه وقال بضيق: لم أتوقع هذا الخبر قط.
رفع حاجبيه بدهشة ولمعت عيناه بخبث ارتسم على شفتيه فصاح باسم بضيق: كف عن استفزازك لي.
رفع يديه وضحك بأريحية: حسنًا، سأصمت ولن اعلق على تلك المقولة الغبية، ولكني سأخبرك أمرًا. صالح زوجتك، فهي لن تغفر لك ما فعلته أبدًا.
ابتسم الآخر وهز رأسه موافقًا ليقول بهدوء: اشتقت إلى ثقل دمك يا توأمي العزيز.
ضحك خالد بقوة وقال: وأنا اشتقت إلى مرحك الذي لا ينتهي.
نهض الآخر واقفًا: هيا حتى ترتاح قليلا فأنا متأكد أنك متعب للغاية.
زفر بقوة وهو يدفع بباقي الذكريات إلى داخل ذلك الصندوق الذي خصصه لها وأغلقه وأطاح به في ركن بعيد بعقله حتى لا يتذكرها، لينفجر الصندوق اليوم ويتذكر بعضًا من الأشياء التي يريد دفنها والتخلص منها للأبد.
تنهد بقوة ورد بخفوت: رحمك الله يا شقيقي. أتعبتني وأنت حي لتدمر ما تبقى مني وأنت ميت.
ابتسم بألم وهو يتذكر " على الرغم من الاختلافات الجوهرية بينه وبين باسم إلا أنه كان يحبه كثيرًا. فهو كان كل عائلته وما تبقى منها بعد وفاة والديهما. كان يغمض عينيه عن مساوئه ويقنع نفسه بأنه سيتغير وسيعود إلى الطريق الصحيح. ولكنه اكتشف أن الأمر تعدى بكثير تلك المساوئ التي كان يتغاضى عنها، بل وصل لأمور لم يتخيلها قط، بل لا يستطيع إلى الآن أن يدركها عقله.
تمتم بصوت خفيض: رحمتك يا الهي.
نظر حوله ليرى أين وقف بسيارته ليزفر بقوة ويديرها مرة أخرى متجها إلى سيادة الرائد، فهو الطرف الأخير لخطته!!
وصل إلى المشفى ليقابل وجيه صدفة فيطمئن منه على حالة أمير الصحية ويبلغه الأخير برقم غرفة أمير الجديد.
اتجه صاعدًا إليه ليبتسم بهدوء على ملامح وجه أمير الحانقة وضغطه على شاشة الحاسوب بغضب ظهر بسلامياته البيضاء. لا يعلم ما الذي جعل سخريته تتلبسه من جديد ويتذكر كم كان تبادل الحديث مع هذا الأمير ممتعًا.
قال بصوت هادئ وهو ينظر إليه بخبث: ما هذا يا سيادة الرائد؟ ستكسر الحاسوب إلى نصفين.
التفت أمير إلى الباب لتتسع عيناه بدهشة وقال بترحيب: خالد، أتيت بوقتك يا خواجة.
ضحك بخفة وهو يتقدم إلى داخل الغرفة ليستقيم أمير واقفًا وهو يمد يده إليه مصافحًا. صافحه بقوة وهو يقول بلهجة مرحة: اشتقت إليك يا عبده.
قهقه أمير ضاحكًا فأتبع الآخر: سأحتاج إلى بعض الوقت حتى اعتاد على أمير.
قال أمير بهدوء: خذ وقتك.
جلس الاثنان ليقول خالد والخبث يرتسم على شفتيه: ما أمر الحاسوب؟
كح أمير بهدوء وقال: لا شئ.
ابتسم باتساع وهو ينظر إليه متفحصًا فاتبع أمير محذرًا: كف عن ذلك.
ضحك بقوة ورفع يديه: حسنًا، حسنًا كيف حالك الآن؟
قال باقتضاب: في خير حال، حمدًا لله على سلامتك، متى عدت؟
. البارحة
مصر نورت بقدومك يا خواجة.
عقد حاجبيه قليلاً ليقول بتمهل: منورة بأهلها.
ابتسم أمير بخفه ليتبع الآخر: فاطمة تبلغك سلامها. كانت تريد القدوم برفقتي ولكني تركتها وانصرفت. إن شاء الله غدًا أو بعد غد سآتي بها، فهي تريد رؤيتك
مال بجسده ناحيته وقال بصوت خفيض: ولديها أخبار عن ليلى.
احمرت أذناه بقوة فأكمل خالد بتسلية: لم تخبرني بها لا تقلق.
رمش بعينيه ورد وكأنه لم يستمع إليه: أبلغها تحياتي.
ابتسم خالد بخفة: بل أبلغها أنت كل ما تريده عندما تأتي إليك.
هز رأسه موافقًا ليتبع الآخر سائلاً: كيف حالك؟ أخبرني وجيه أنك ستبدأ جلسات العلاج الطبيعي في الغد.
تنهد أمير بقوة وقال باقتضاب: بإذن الله.
نظره له بتفحص: ما بالك؟ أشعر أنك ضائق. ثم لماذا أخبرتني عندما رأيتني أنني أتيت بوقتي؟
لمعت عينا أمير بقوة وقال: لأنني أريدك بأمر هام لن يستطيع غيرك فعله.
اقترب منه خالد وقال بصوت خفيض: وأنا الآخر.
نظر إليه ليومئ إليه برأسه مؤكدًا فقال أمير بهدوء: هات ما عندك أولاً.
***
منذ الصباح لا يكف عن الابتسام، كأن فمه خلق هكذا بتلك الابتسامة السعيدة.
تنهد بقوة وهو يفكر " كيف لا يكون سعيدًا وهي بجواره؟ نعم تتعمد إغاظته ومضايقته ولكنها تفعل ذلك بشكل مرح طفولي مثير، يجعل سعادته تزداد بمقدار كبير لدرجة لا يستطيع وصفها. كل ما يشعر به أن قلبه سينفجر من السعادة والحب".
نظر باتجاهها بعشق دفنه لأعوام كثيرة لم يستطع خلالها أن يعبر عنه بلمحة واحدة. أعد طبقين من المشويات ليحملهما ويذهب إليها، وقف أمامها ليدير نظره عليها بعد أن أبدلت ملابسها إلى بنطال من الجينز الغامق وبلوزة صيفية بيضاء رائعة بدون أكمام وذات قصة من تحت الصدر ومتسعة تصل إلى حد جيب البنطلون. تركت شعرها حرًا دون أي قيود ليتبعثر حول وجهها بشكل فوضوي ناعم زادها جمالاً، تضع شالاً قطنياً طويلاً من نفس لون البلوزة على أكتافها بسبب انخفاض درجة الحرارة ليلاً.
كح بخفة لتلتفت إليه، فابتسم بهدوء ومد إليها بالطبق لتأخذه منه وهي تمتم بالشكر. اقترب منها بهدوء ليهمس بجانب أذنها: هل تشعرين بالبرد؟
هزت رأسها نافية وقالت: قليلاً فقط.
سقط الشال قليلاً عن كتفها ليجد عينيه رغمًا عنه تتأملان تلك البقع البنية الجميلة التي تزين كتفيها. دق قلبه بقوة وهو يشعر بالدماء تندفع في عروقه، قبض كفه الحرة ثم أجبر نفسه على أن يغمض عينيه بقوة، كح بلطف وقال بصوت خرج أجشًا رغم عنه: إذًا ارتدي شيئاً أخر.
نظرت له بتعجب، ثم رفعت حاجبيها باعتراض فأتبع بهدوء: أخاف أن تصابي بالبرد.
ابتسمت بسخرية: برد في الصيف؟!
هز رأسه بالإيجاب فاتبعت بتهكم: لا تخف، ثم أن هذا أمر لا يعنيك.
ظهرت التسلية بعينيه وقال: بل أنا الوحيد الذي يعنيني أمرك.
ضحكت بخفة وقالت بسخرية: حقًا ؟
فقال من بين أسنانه: لا تستفزيني.
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه وأدارت نظرها بحثًا لتسأل بدهشة: أين سلمى؟!
أشار بيده: أنهما هناك.
انبعثت بعض الموسيقى فقال: سيبدأ الحفل.
ابتسمت وهي تنظر إلى المسرح الصغير الذي اُعد سلفًا: حقًا؟
هز رأسه بالإيجاب: نعم إنه مجرد دي جي ليس أكثر.
أشار لها برأسه وهو يتبع: تعالي لنجلس بعيدًا ، فبعد قليل لن نستطيع الاستماع إلى أنفسنا.
هزت رأسها بالموافقة ليتبع وهو يفسح لها الطريق أمامه: لذلك جلس مصطفى بآخر الشاطئ.
ابتسمت وهي تقول بتعجب: لا أعلم كيف تزوجته سلمى؟
ابتسم باتساع وهي تتبع: والأغرب كيف أنت وهو أصدقاء؟
عقد حاجبيه وقال: وما الغريب في ذلك؟
قهقهت ضاحكة: ألا تعلم حقا؟
نظر لها باستفهام لتتبع: أنت ديدو نجم الفتيات والدون جوان وهو ملتزم لدرجة التزمت. أنه لا يصافحني وعندما نتقابل يتبادل معي أقل عدد ممكن من الكلمات، ناهيك أنه معترض علي قلبًا وقالبًا.
ابتسم بهدوء: هذا لا يمنع أن نصبح أصدقاء.
هزت رأسها بعدم اقتناع فأكمل: أنا ومصطفى معارف منذ زمن طويل وتجددت علاقتنا بسبب سلمى، ثم أنه ليس متزمتًا كما تتخيلين.
نظرت له باستنكار: لا تخبرني أنه رحب بك كزميل لسلمى.
ضحك بقوة: سلمى نفسها لا تعترف بزمالتي جاسي، أنسيت كيف كانت تتعامل معي، وكيف كانت تخبرك أنها لا تعلم كيف تصادقين شابًا مستهترًا مثلي؟
لمعت عيناها بألم: لا طبعًا لم انس.
زفرت بهدوء: إذًا لا أفهم.
قال في هدوء: مصطفي يتعامل معك هكذا بسببي أنا.
عقدت حاجبيها بدهشة فأكمل بنبرة حانية: أخبرني في إحدى المرات بعد أن تشاجرت مع أحدهم بسببك وكان هو حاضرًا أنك تسكنين عيناي.
ابتسم ثم تنهد بقوة: يومها صُعقت من كلماته فأخبرني أنني لا أستطيع أن أسيطر على حبي لك وأنه لا يفهم كيف إلى الآن لا ترين ذلك الهيام الذي أنظر لك به؟
شعرت بالاختناق وأن الهواء اختفى من حولها، جف حلقها وشعرت بأنها ستنفجر من الحرارة التي تسري بكامل جسدها، نطقت بأفكارها دون وعي: تشاجرت مع أحدهم بسببي؟!
نظر لها فوجد وجهها محتقنًا بقوة، وعيناها ترمشان سريعًا وكأنها لا تريد تصديق ما يقوله، فهز رأسه بالإيجاب: نعم.
صمت قليلاً ليتبع: كان يتكلم عنك مع إحدى الصديقات.
ضم كفيه بقوة ونظر إلى البحر:كان يصرح دائمًا أنه معجب بك، بل وصل الأمر به أن يصرح بحبه لك كنت اعلم أن شابًا مثله سيميل إلى الارتباط ولكني لم أشغل رأسي به، إلى أن تكلم مع تلك الفتاه علمت حينها أنه يريد التقرب منك.
أتبع بصوت مخنوق: يومها صرح بأنه يغرق في حبك لأذنيه.
اختلجت عضلة صدغه لا إراديًا: حينها لم أستطع السيطرة على نفسي ولكمته دون سبب.
ابتسم بحرج: تشاجرنا مشاجرة عنيفة كان مصطفى وتلك الصديقة شاهدين عليها وبالطبع أدرك هو لماذا ضربته.
ثم ظهرت التسلية على وجهه: كم كنت سعيدًا حينما رفضت أن تتقربي منه، وأيضًا رفضت عرضه بالزواج.
تشعر بالذهول يكتنف عقلها، لا تنكر أنها سعيدة بما يقوله، تلك الكلمات أعادتها لزمن بعيد، تساءلت داخلياً " أكان يحبها منذ ذلك الوقت البعيد"؟
ابتسمت حينما ابتسم، ولكنها لا تعلم لماذا أرادت أن تشعل غيرته قليلاً، فقالت ببرود مغيظ: كان شابًا ممتازًا ورفضته لأنني لم أكن أكملت دراستي بعد.
جمدت الابتسامة على شفتيه ونظر لها بعتب: إذًا كانت الدراسة هي العائق الوحيد أمامك؟
ابتسمت وآثرت الصمت قبل أن تسأله بهدوء: إذًا هذا سبب ترك تلك الصديقة لك، وقطعها لعلاقتها معك.
تنحنح وقال في هدوء: انه زمن بعيد.
ضحكت بخفة ليكمل: منذ ذاك الوقت وأنا ومصطفى أصدقاء. وعندما خطب سلمى توطدت علاقتي به أكثر لأن سلمى صديقتك.
ثم قال بشرود: أعتقد أنه اخبرها، لأنها تتعامل معي بشكل جيد منذ أن تزوجا.
هزت رأسها بتفكير: ربما فعل ذلك، لأنها كفت عن الهجوم عليك.
لمعت عيناها وهمت بأن تتحدث ليدوي صوت الموسيقى عاليًا وضعت يدها على أذنها وهي تقول: ما هذا الإزعاج؟
ابتسم وهي تتبع: لذلك لا أحبذ تلك الحفلات العجيبة، الآن سيبدؤون الرقص كأن أصابهم التشنج العصبي.
قهقه تلك المرة ضاحكًا وقال: تعالي لنبتعد عنهم.
تحركت بجواره وتخلصا من الأطباق..تمسكت هي بطرفي الشال في قوة. سألها بصوت خفيض: عماذا تريدين التحدث؟
هزت رأسها بالنفي سريعًا فاتبع: ياسمين أنا أعرفك منذ زمن وأعلم جيدًا حينما تكبتين أفكارك حتى لا تتكلمين عنها.
زفرت في ضيق وقالت سريعًا وهي لا تنظر إليه: هل أنت من دفع سلمى لتجبرني على القدوم؟
ابتسم إحدى ابتساماته الرائعة وقال بلؤم: بماذا تشعرين؟
زفرت بضيق وقالت: وليد لا تتلاعب معي.
اقترب منها قليلاً: حسنًا، لا تغضبي.
ثم تنحنح: نعم.
نظرت إليه في دهشة فأتبع: وتوسلت إليها أيضًا.
خفضت بصرها عنه لتبتسم برضى وهو يكمل: وأقنعت مصطفى بالذهاب معها لدار الأوبرا بعد أن أخذت على عاتقي أن أفعل لها ما تريد حتى تجبرك على المجيء.
ضحكت برقة وقالت في مرح: أقنعت مصطفى أن يذهب إلى الأوبرا؟ هذا مجهود جبار.
تألقت عيناه بسعادة وهو يبتسم لها، لتكف عن الضحك ويجمد وجهها وتسرع قليلاً في خطواتها مبتعدة عنه.
تنهد بقوة،حث خطاه واقترب منها:بماذا أزعجتك؟
هزت رأسها قويًا: لا شيء.
زم شفتيه وآثر الصمت إلى أن وصلا فقالت سلمى بمرح: وليد أقنعه أن يرقص معي.
رفع حاجبيه وهو يضحك بمرح: لا دخل لي بكما.
رفعت له حاجبيها وقالت: إذًا تعال أنت لترقص معي.
قهقه ضاحكًا تلك المرة: حينها سيقتلني وهو في غاية الراحة.
وضعت يديها بخصرها وزمت فمها بغضب فقالت ياسمين بمرح: انتظري وأنا سأذهب معك.
التفت لها في حدة وقال آمرًا: لا لن تذهبا، على الأقل ليس بمفردكما.
أكمل الآخر بقوة: اجلسي حبيبتي. لن تموتي إذا لم ترقصي.
وضعت كفيها بخصرها معترضة: لماذا أتينا إذًا؟
رد بهدوء: أتينا من أجل وليد وأنت تعلمين ذلك جيدًا.
أتبع بلهجة أكثر رقة وهو يقترب منها: ثم لا تنكري أنك استمعت باليوم.
وقف بجوارها ليشدها من خصرها إليه: وإذا على الرقص، ارقصي بالمنزل كما تريدين.
مطت شفتيها وقالت بآلية: حسنًا، لا تبدأ في تلك الاسطوانة، لا أريد أن أرقص ولكن نستطيع السير على البحر قليلاً.
أومأ برأسه موافقًا ليحتضن كفها بيده: بعد إذنكما.
ابتسم وليد وأشار برأسه يحييه، ثم التفت لها ليجد عينيها تبرقان بحزن عجيب. اقترب بجلسته منها وقال برقة: ماذا بك حبيبتي؟
انتفضت على صوته الرقيق وتلك النبرة الجديدة عليه، نظرت له بحزن وقالت: أتعلم أن سلمى حامل؟
ابتسم: نعم أعلم، مصطفى أخبرني اليوم.
أشاحت بعينيها بعيدًا عنه فأتبع سائلاً بتعجب: إنه خبر سعيد، فلماذا أشعر أنك حزينة؟
كحت بخفة: بالطبع أنا سعيدة من أجلها، بل إن الخبر جعلني اقفز فرحًا، ولكن...
صمتت وعيناها تغيمان بالحزن فاقترب محتضنا كفها: ماذا؟!
سحبت كفها من يده وسارت باتجاه البحر، اقتربت كثيرًا إلى أن شعرت بالمياه الباردة تبلل قدميها العاريتين إلا من صندلاً خفيف مفتوح سمح للمياه أن تتوغل وتحيط قدميها لعل برودتها تهدئ من تلك الآلام التي هاجمتها فجأة!!
تمسكت بطرفي الشال لتعقده من الأمام ثم تعقد ذراعيها أمام صدرها وتقف لتنظر إلى المجهول، تريد أن تهدئ مشاعرها قليلاً، فآخر ما تريده الآن هو أن تفقد جأشها أمامه.
تنهد بقوة وهو ينظر إليها. يعلم جيدًا أنها حزينة ولكنه لا يعلم ما السبب وراء ذلك الحزن، فقد كانت سعيدة طوال اليوم. ربما كانت تتعمد ألا تُظهر له ذلك الإحساس ولكنه استشعر أنها سعيدة لوجوده كما هو سعيد بوجودها معه.
اقترب منها ووقف بجوارها ونظر لأكتافها المشدودة بقوة وساعديها المعقودين أمامها، لمس كتفها بأنامله وقال برقة: ياسمين ماذا حدث؟ ما سبب ذلك الحزن؟
نظرت له وهي ترجوه أن يكف عن تلك الرقة التي يتحدث بها معها وتلك النبرة التي تخترق قلبها، تلك النبرة التي لم تسمعها منه قبلاً !
شعر بقلبه يئن من نظراتها الحزينة، فأتبع بلهفة: ياسمين حبيبتي أخبريني ماذا حدث؟
ابتسمت بألم وهي تهز رأسها: لا شيء.
وقف أمامها ليمسك ذقنها بأنامله ويجبرها على النظر إليه: أخبريني حبيبتي، لا
تشيحي بوجهك عني. انظري إلي وأخبريني بماذا تشعرين.
رفعت رأسها ونظرت له مليًا، همت بالتحدث أكثر من مرة لتغلق شفتيها وتصمت.
قال بتذمر تلك المرة: ياسمين من فضلك تكلمي.
نظرت إلى عينيه وقالت بألم لمَ تستطيع إخفاؤه: أتعلم كم مرة توقعت أن تدعوني للرقص؟
عقد حاجبيه بتعجب لتكمل بسخرية مريرة: أتعلم كم مرة رفضت دعوة أحدهم على أمل أن تتحرك أنت؟! أتعلم كم مرة ابتعدت عن آخر وأنا أتوقع اقترابك أنت؟
شحب وجهه وفرت الدماء منه، وشعر بأن جسده يتجمد وكأن الصقيع منتشر حوله.
اتبعت بسخرية والألم يتجسد بعينيها: عدد من السنين لا بأس بها، أيام طويلة وليالي كثيرة كنت أراقبك وأنت مع أخريات غيري، تضحك معهن.. تغازلهن أمام عينيي.. تلمع عيناك بتلك النظرة التي تذيب العظام.. وتلمع شفتيك بتلك الابتسامات الساحرة الجذابة.. تتحدث بذلك الحديث الذي يأسر العقول ويملك القلوب. كنت أراقبك بشغف، أتخيل كيف ستتكلم معي أنا.
صمتت لتتبع بغصة: إذا كنت أنا حبيبتك، هل ستلمع عيناك بتلك الطريقة؟ هل ستبتسم لي بتلك الطريقة؟ هل ستنحني وتهمس في أذني بتلك الكلمات التي ستجعلني احمر خجلاً وأشعر أنني لا أستطيع الوقوف على قدمي؟ هل ستنظر إلي وتتلألأ عيناك بتلك النظرات الساحرة التي تأسر قلبي؟ بكل مرة كنت انتظر وانتظر وأنت لا تأتي.. لا تهتم.. لا تلتفت إلي...
يشعر بأن قلبه ينتفض حزنًا وألمًا، يصرخ به ويعنفه على كل ما ارتكبه في حقها وحق نفسه بابتعاده عنها فيما مضى، يشعر بالخزي لأنه كان جبانًا ولم يتحمل رفضها له فحمّلها وحمّل نفسه ما لا طاقة لأحد به.
التفتت تنظر إلى البحر وأخذت نفسًا طويلاً لتتبع بشجن: أتعلم أن أكثر من صديقة لك كانت تخبرني "لا تحلمي به فهو لن يلتفت إليك".
اتسعت عيناه بقوة لدرجة آلمته فضحكت بسخرية وأكدت: نعم وليد، بعضهن قلن ذلك شفهيًا، والبقية كانوا يقولونها بأعينهن، بنظراتهن.. بتلك الابتسامات التي تمتلئ بالمعاني.. بدلالهن عليك ومغازلتهن العلنية لك وأنا معك..
نظرت له بتصميم وقالت بتحدي: لماذا أتيت اليوم وليد؟
تنحنح وهم بالرد لتسكته بإشارة من يدها وتتبع: أتيت لتخبرني بأنك تحبني وتريد أن تكمل حياتك معي، أتيت لتعرف جوابي على طلبك، أتيت لتوهمني وتوهم نفسك أنه لم يحدث شيء وأننا سنتزوج ونعيش في سعادة كتلك الأفلام الغبية التي تنتهي بتلك النهايات السعيدة.
هز رأسه بقوة وقال بتصميم: نعم. أتيت لأنني متمسك بك لآخر يوم بحياتي.
ابتسمت بسخرية وهزت رأسها: ألا ترى أن هذا الحديث فات وقته منذ زمن طويل وليد؟
تنهد بقوة وقال بتصميم: العمر كله أمامنا ياسمين، نحن لا زلنا بأول الطريق.
ابتسمت ودمعت عيناها: أتعلم أنني أحب الأطفال كثيرًا ؟
نظر لها في دهشة لتتبع: لم أخبرك صحيح، لم أحدثك عن أحلامي قط.
لمعت الدموع بعينيها وهي تكمل: اختزنتها بداخلي حتى نكون معًا فأحدثك عنها. لطالما أردت أن أتزوج بسن صغير وأنجب أولادًا كثيرة، اهتم بهم وأرعاهم، بل وأترك الدنيا كلها من أجلهم. أردت طفلة صغيرة تحمل غمازتيك ولون شعرك البني، تبتسم لتنسيني كل همومي وتتعمد إغاظتي بك، كما كنت أفعل مع أمي.
تنهدت بقوة لتسقط دمعة وحيدة رغمًا عنها: كنت كل ليلة أحلم حلمًا جديدًا لاستيقظ صباحًا فتهد أنت الحلم فوق رأسي وتخبرني مثل فتياتك أنني لا يحق لي أن احلم بك لأنك لن تكون لي.
صرخت بألم تلك المرة: كل يوم ارددها الآلاف المرات على عقلي وقلبي وأخبر نفسي بها ليأتي الليل وأجد أنك تحتل كل أحلامي.
نظرت له وقالت بواقعية: أتريد بعد كل ذلك أن تأتي الآن وتحاول أن تمحو كل شيء في ساعتين. أتتوقع أن أنسى كل شيء عندما تخبرني بذلك الموقف الطريف وأنك تشاجرت من أجلي؟
هزت رأسها نافية: لا وليد هذا مستحيل.
همت بالابتعاد ليمسك يدها بقوة ويجبرها على الوقوف أمامه، احتضن يدها الأخرى بكفه وشدها برفق إليه، اقترب منها بهدوء وهو يحسب خطواته جيدًا ، يريد أن يمحو تلك الذكريات السيئة، يريد أن يمحو تلك الآلام التي تشعر بها.
تنهد بقوة "آه لو يستطيع أن يحرر قلبها من تلك القيود الملتفة حوله والتي جعلته يشعر بكل شيء إلا حبها له"
نظر إليها بحنو وهمس وهو يضع عينيه بعينيها: آسف ياسمين.
نظرت له مليًا فكرر بصوت أقوى: أنا آسف بل في شدة الأسف على كل ما تسببت به، لا استطيع أن أمحو كل ذلك ولكني سأحاول، فقط أعطني فرصة أخرى.
ردد بتوسل وهو يرجوها بعينيه: فقط فرصة أخرى لأريك أن ذاك الغبي لم يعد موجودًا بداخلي، وأنني تخلصت منه للأبد.
وضع رأسه برأسها وهو يقربها منه أكثر: ألا استحق فرصه أخرى؟
ترقرقت الدموع بعينيها ليهمس برقة: لا أرجوك لا تبكي، لن أسامح نفسي إذا انهمرت تلك اللآلئ الغالية، حتى وإن كانت من أجلي.
شبك كفيه بكفيها ورفعهما إلى شفتيه ليغمرهما بقبلات رقيقة: اغفري لي حبيبتي.
همس بتوسل: أرجوك ياسمين، دعينا نبدأ من جديد، ارمي بتلك الذكريات وراء ظهرك، وأعدك بأن أهديك ذكريات جديدة تحتفظي بها بقية حياتك كلها.
احتضن خدها بكفه ووضع يده الأخرى على خصرها مقتربًا منها، ثم رفع ذقنها برقة لتنظر إليه: ذكريات سعيدة ستملأ قلبك وحياتك كلها سعادة، سأريك أن وليد وهو معك شخص جديد يستحق أن تحترميه وتحبيه أكثر من ذاك، وليد يستحق أن يفوز بك، يا ياسمينتي الحبيبة.
شعر بها توافق دون أن تجيب عليه، شعر بها تمنحه موافقتها على كل ما يطلبه دون أن تخبره، شعر بها تخبره بحبها بطريقة مختلفة عما سبق.
أدار عينيه على وجهها وهو يتأملها بتأني وروية، يريد أن يحفظ تلك التقاسيم التي تصرخ بعشقها له، نظر إلى عينيها المغمضتين، ابتسم " تغمض عينيها حتى لا تفضح أسرار قلبها" أنفها الدقيق وشفتيها المكتنزتين تعض عليهما برقة تخلب لبه وتسرق أنفاسه، اقترب أكثر منها ليتنفس أنفاسها التي تندفع بجنون، يشعر بدقات قلبها الذي يقفز بداخل ضلوعها، يقفز متناغماً مع قلبه الذي يثب بجنون هو الآخر.
ازدرد لعابه بقوة وهو يلمس خصلات شعرها الناعمة التي تتطاير أمام وجهها فتجعلها أميرة أسطورية تقف بين يديه، انحنى عليها وهو يريد أن يجدد عهد تلك القبلة (التي أسكرته ولم يتذوق مثلها أبدًا)ذات المذاق المسكر له الذي لم يتذوق مثله أبدًا.
تنفس بعمق ليهدئ قلبه قليلاً، واقترب أكثر منها حتى لامس أنفها بأنفه ليدق عقله بقوة وهو يتذكر ما عاهد نفسه وقلبه به فيبتعد عنها.
عاد إلى الوراء قليلاً دون أن يبتعد عنها كليًا ، بل ظل محتفظًا بكفه الموضوعة على خصرها وظل يبعد تلك الخصلات الطائرة عن عينيها. همس برقه: ياسمين.
منذ أن نظرت إلى عينيه وهي تعلم أنها انتقلت إلى عالم آخر، لا تفهم به شيئاً ولكنها مستعدة أن تضحي بكل شيء حتى تظل تستمع إلى تلك النبرة التي يتكلم بها، وترى تلك النظرة التي ينظر بها إليها، تضحي بكل شيء لتظل تستمتع برقة تلك القبلات التي أمطر كفيها بها، فبكل قبلة كانت تشعر به يضخ لها حبًا جديدًا يتسلل إليها ويتوغل بجسدها أكثر فأكثر. بل أن عقلها توقف عن العمل تمامًا عندما همس يتوسل لها أن تبدأ معه من جديد، وأن تغفر له ما مضى وأن تمحو تلك الذكريات التي تقف عائقًا بينهما.
انفصلت عن الواقع عندما لامس خدها ولم تشعر إلا بأنها تقترب منه، تشعر بأنها تتنفس أنفاسه فيمتلئ جسدها برائحته وتنتفخ رئتيها بحبها له. شعرت بأنها تطير في السماء عندما وعدها بأنه سيصبح شخصًا آخر من أجلها. نعم رددت لعقلها "إنه يعدك بالسعادة التي لا نهاية لها". شعرت بأنها تقترب منه أكثر فدق قلبها أكثر من ذلك القرب الذي ترجوه منذ أمد بعيد، ذلك الحنان والحب اللذان كانت تحلم بهما كل ليلة مضت من قبل.
أغمضت عيناها وهي تشعر بأحد أحلامها يتحقق أخيرًا!! شعرت بأنفه تلامس أنفها فتأكدت أنه سيقبلها كما فعل من قبل، ولدهشتها العارمة فهي لم تكن لتمانع إذا فعل.
دق عقلها بقوة وطن جرسًا مدويًا في أذنيها ولكن قلبها تحكم بكل شيء وجعلها لا تريد أن تشعر بما يحدث بداخلها. انتبهت من ذاك الصراع الدائر بداخلها إلى صوته وهو يهمس برقه: ياسمين.
انتفضت بقوة وهي تفكر " ماذا حدث؟ "
لم تستوعب أنها نطقت بها إلا عندما سمعته يجيب بهدوء وهو يبتسم بخفة: لم يحدث شئ!
اتسعت عيناها رعبًا لتبتعد عنه بقوة وتدير إليه ظهرها، وضعت كفها على فمها مانعة نفسها من التأوه بصوت عال، شتمت نفسها بدون صوت وجزت على أسنانها قويًا وهي تعنف نفسها بقوة على انجذابها إليه و تلك الوداعة التي تلبسها عندما يقترب منها، أما ما أطار عقلها " هل سمحت له بالفعل بأن يقترب منها ويقبلها "؟
عقدت حاجبيها " لكنها لا تشعر بذاك الشعور التي شعرت به المرة الماضية، لا توجد فراشات تطير بمعدتها ولا قلوب تقفز من عينيها ". ابتسمت رغمًا عنها وهي تتذكر تلك القبلة التي سكنت أحلامها الفترة الماضية لتنتبه عليه يقترب منها ويكرر جملته هامسًا في رقة.
شعر بأنها غاضبة من نفسها فاقترب منها وأكد في رقة: لم يحدث شيء.
شعرت بالتوتر فهزت رأسها بتفهم فأتبع بغيظ: وليد جديد كما تعلمين!
رفعت حاجبيها بتعجب فأكمل بآلية طفولية وكأنه يستذكر درسًا حفظه عن ظهر قلب: لا يعبر عن مشاعره بتلك الطريقة غير المهذبة.
لم تستطع أن تمنع نفسها من الضحك، انطلقت ضحكتها مجلجلة ليضحك هو بدوره وهو يشعر بالحرج، حك شعيرات رأسه مما زاد من تبعثرها ليقترب بجوارها ويهمس: من أجلك سأفعل أي شيء ياسمين.
ابتسمت فأكمل بمرح: حتى لو طلبت أن أنزل إلى البحر الآن بكامل ملابسي.
لمعت عيناها بشقاوة: حقا؟
هز رأسه بالإيجاب: نعم، لنجرب.
هزت رأسها نافية وأمسكت بيده: لا، لا. كل ما أريده الآن أن أعود إلى البيت، فأنا متعبة وبشدة.
انحنى أمامها: كما تريدين. فلتأمر أميرتي وأنا على التنفيذ.
هزت رأسها وهي تخرج هاتفها من جيبها: حسنا سأتصل بسلمى ليعودا.
لماذا تتصلين بها؟ اتركيهم.
تساءلت في دهشة: كيف سأعود إذًا ؟
رفع حاجبيه في تعجب: معي!!
نظر لها وقال بقوة: أتريدين العودة معهما وأنا موجود؟
هزت كتفيها: لقد أتيت معهما.
ابتسم وهو يحضن كفها: وستعودين معي، بدون نقاش.
قالت بهدوء: ولكن لا يصح وليد، فأنا أتيت معهما ولابد أن أعود معهما.
هز رأسه نافيًا: سأخبر مصطفى لا تقلقي، هيا اجمعي أشيائك لنتحرك.
حسنًا، حقيبتي جاهزة بالفعل. سأنظر مرة أخيرة بالشاليه حتى أتأكد أنني لم انس شيئًا.
هز رأسه موافقًا وسار بجانبها إلى أن وصلا إلى الشاليه. أحضرت حقيبتها فحملها عنها وقال: هيا ياسمين سريعًا وأنا سأكون في انتظارك عند السيارة.
حمل الحقيبتين وابتعد لتدلف هي الداخل وتبحث عن حقيبة يدها.
وضع الحقيبتين بالسيارة ووقف بجانبها ينظر باتجاه الشاليه منتظرًا عودتها.
كيف حالك يا أخي العزيز؟
انتفض على صوته البارد، ليلتفت إليه ويقول بعصبية: بخير حال يا أخي العزيز.
اقترب الآخر منه ونظر إليه طويلاً ليردد: كيف حالك وليد؟
عقد حاجبيه ورفع رأسه قليلاً لينظر إليه ويقول بهدوء: أنا بطبخير.
تنهد وليد بقوة وأتبع: هل تطمئن علي أم ماذا تريد من سؤالك هذا؟
زفر الآخر بقوة: بل أريد الاطمئنان عليك.
هز وليد رأسه: أنا بخير وائل، شكرًا على سؤالك.
تحرك الآخر منصرفًا ليعود سريعًا ويقول وهو يلهث: اسمع وليد.
رفع وليد حاجبيه ليتبع الآخر: لقد سئمت من كل هذا
تنهد بقوة: سئمت من صراعي معك الذي ادفع أنا بمفردي ثمنه، سئمت وتعبت بل أجهدت منه، أشعر أني لا طاقة لي لاستمر على ذلك النحو.
ابتسم وليد بألم وقال وهو يقترب منه: إذًا توقف عن ذلك الصراع الذي يغلى بداخلك، توقف يا أخي.
نظر له ولمع الحقد بعينيه: لا أستطيع، كلما رأيتك تأكلني نيران الغضب وأشعر بالحقد يملأني.
تهدج صوته بضعف: رؤيتك مؤلمة للغاية يا أخي.
لمعت الدموع في عيني وليد واقترب منه مربتًا على كتفه: آسف على ما تسببت لك به ولكن...
قاطعه الآخر: لا وليد، لا أريد أن نعيد ذلك الحديث. لا أريد أن استمع إليه من جديد كل ما أريده منك هو أن تبتعد عن طريقي توقف عن مقابلتي ولو صدفة، فأنا لا أستطيع التعايش معك ومقابلتك لو لفترة من الوقت.
ابتسم وليد بألم: حسنًا يا أخي تحملني قليلاً وسأغادر حياتك للأبد.
ابتسم الآخر بسخرية وقال: مبارك الزواج.
تنهد وليد بقوة فأتبع وائل: إنها تحبك يا أخي، أتمنى لك حياة سعيدة.
نظر له بتشكك فضحك بسخرية: أقولها من قلبي، ولا تخف لا أدبر لك شيئاً، فأنا سئمت كل شيء.
نظر له بتفحص وقال بقوة: ماذا بك وائل؟ لماذا قررت فجأة التوقف عن تدمير حياتي؟
ابتسم: لا شيء. تعبت فقط.
نطق بنبرة مميزة: وائل.
أشاح الآخر بيده: لا وليد هذا لن يحدث، لن أفضفض لك عن همومي لتربت على كتفي كما كان يحدث من قبل. توقفنا أنا وأنت عن لعب تلك الأدوار السمجة.
أتبع بتهكم: نحن الآن راشدين ونستطيع التعامل بموجب القواعد الجديدة التي نشأت بيننا، سأكف عنك وأنت ستتوقف عن الظهور أمامي كعفريت العلبة.
هز الآخر رأسه موافقًا فاتبع: وسأنتظر أنا حتى تختفي نهائيًا من حياتي وأنا مستعد لمساندتك أمام والدي وأقف معك إلى أن تتزوج.
رفع كفيه وقال: أعتقد أنه إتفاق عادل، أنا الآخر سأترك القصر واذهب للعيش بمفردي احتمال كبير أن انتقل إلى الإسكندرية واستلم فرع الشركة هناك.
أتبع بتعب: أريد أن انتشل نفسي من تلك الحياة البائسة.
اتسعت عينا وليد بقوة: وائل أخبرني بما يحدث معك، استحلفك بالله أن تخبرني.
لمعت عيناه بألم: ليتني أستطيع.
هم وليد بالتحدث لينظر الآخر إلى خلفه ويقول: سأنصرف فياسمين قادمة، سلام.
التفت لينظر إلى ياسمين ليعود إليه فلا يجده أمامه، زفر بضيق وهو يفكر في حالة أخيه المستعصية على الفهم " ماذا يحدث معك وائل؟ ماذا يحدث أخي؟ سأعلم رغمًا عنك".
انتبه على يدها التي تنقر على كتفه بخفة وهي تقول: هاي أين أنت؟ أنا أتكلم معك.
ابتسم وأمسك يدها ليقبلها: أعتذر حبيبتي.
سحبت يدها منه قويًا وقالت بعتب: توقف وإلا لن أذهب معك إلى أي مكان.
حسنًا اهدئي، وهيا لنذهب حتى لا تتأخري أكثر من ذلك.
هزت رأسها موافقة وقالت وهي تجلس إلى جواره: سلمى كلمتني وأخبرتها أنني سأعود معك
أتبعت بتعجب: وأخبرتني أن مصطفى يخبرك ألا تنسى موعد غدًا، عن أي موعد يتحدث مصطفى؟
ابتسم وقال: سأخبرك في الغد إن شاء الله عندما أراك، لدي حديث طويل ولكني سأوجله للغد.
نظرت له بتفحص والفضول يطل من عينيها فأكمل بحزم: في الغد ياسمين، انتظري إلى الغد حبيبتي.
***
اتسعت عيناه بقوة وقال بتبعثر: لا أفهم ما تقوله!!
تنحنح ليقول بهدوء: ما الذي لا تفهمه؟ أنا قصصت لك كل شيء.
رمش بعينيه سريعًا وقال: كيف ستصل إليه؟
تنهد الآخر بقهر: إلى الآن لا أعلم ، وأريد أن أصل إليه أولاً، فإذا استطاعوا الوصول إليه سيختفي.
اقترب منه وهمس بصوت قوي: إنه كارت رابح لنا، ولذا هم يريدون أن يخرجوه من هنا بأي شكل، سيفعلون ما بوسعهم ليحملوه إلى خارج مصر.
نظر له مليًا وقال: الآن علمت لماذا أنا محبوس هنا؟
ردد الآخر بدهشة: محبوس!
ابتسم الآخر بسخرية: نعم لدي أوامر عليا بالمكوث هنا شهرًا آخر.
اتسعت عينا خالد بقوة وقال: إذًا هم يبحثون عنك!
أنت تقرأ
سلسلة حكايا القلوب .. الجزء الاول رواية " امير ليلى "
Romanceاقترب منها ثانية فحاولت الصراخ بقوة، محاولتها الفاشلة في الصراخ أيقظت ما تبقى من عقله الذي كاد أن يذهب مع الألم المبرح الذي يشعر به ، وقف بكل قوته واندفع ناحيته ليسحبه من أكتافه بقوة راميًا به إلى الحائط ليصطدم به الآخر قويًا، لكمة مرتين بقوة...