خاطرة " ٦٤ " على وتر الذكريات ..

42 3 6
                                    


أستيقظ ليلاً بعد مضيِّ سبعَ عشرة ساعة قضيتها في حُلْمٍ طويل ، أتَصَبَبُ عرقاً كَ مَنْ كان هاربًا من جلادٍ دَؤوب ،   أجلس قُرابةَ نِصفِ ساعةٍ أعُدُ الدقائق لأعرف مَنْ أَنا ، أسترجعُ ذكريات الاحدى و ثلاثين ربيعًا مضت ،  أنهضُ بِتثاقُلِ  عجوزٍ  على مَشارفِ السَبعين ،  أَمشي مَخمورًا لِأغسِلَ وجهي ، انظر في المرآة لأرى شخصًا هزيلًا بعيونٍ جاحظةَ و شحوبٍ في وجههِ مخيف ،  بَقيتُ بِضعِ دقائق لأعرف من أنا أو  بصورةٍ أَقرب لأعرف من الذي يحدق بي في المرآة  ، و ما بين تساؤلاتٍ لن تنتهي ، رمقتُ زاويةٍ في غرفتنا لم ألقي لها بالًا منذ فقدانك ... 
شيءٌ ما تحت أغطية الغبار يرمُقُنِي بحذرٍ ، اقتربتُ بشيءٍ من الخوفِ و ترددٍ كبير  يخبرني  قِفّ مكانك لا تقترب إنها زاويةُ ذكرى ، لم أعره انتباهاً ....
....  بيدٍ مرتعشةٍ قليلًا اقتربتُ منه ،  كان باردًا متسخًا بغبار السنين ،  يحملُ على أوتاره ضحكاتُك لي ، و بسمااتٌ كنت أسترقها ببضعِ قُبَل ،  و نظراتٍ دافئة مع رقصاتِ غيتاري .
تحسستُ أوتاره ،  و المفتاح ،الدستان، الفيرتات، السرج، و القمرية ، كلها كانت تحملُ لمساتُكِ أنتِ ،و قُبُلًا قد وضعت عليه منذ زمن، بحرَارَتِها ذاتِها و دِفئِها المُعتاد، نَظرتُ إِليه مُطولًا أَتَفحصُ فيهِ نظراتُكِ كَمخمورَ إشتياقٍ لك يا مدللتي الصغيرة .
إحتضنتهُ كَعازفٍ مُتهئٍ لعزفِ مقطوعتهِ المفضلة، هرولت أصابعي الى أوتاره مشتاقةً لعزفٍ قديم، كما تعلمين لم تكن تفارقه أبدٌا ، بدأتُ عزف أعزوفتك المفضلة  لباكو دي لوسيا Almoraima , لابد أنك تذكرينها جيدا كما أذكرها أنا ، و أذكر جيدًا  تمايلك المدلل عليها بشيءٍ  من الخفة.
آه يا مدللتي الصغيرة ..
بأسى كبير تساقطت الذكريات أمامي في مشهد درامي ،يَخُطُّ تحته بِخطٍ صَغير " احذر المتابعة ستبدأ موجة بكاء " . هي بالأساس قد بدأت ، كعازفٍ ماهر متهيء للعزف ، تهيئتُ أنا للبكاء ..
... قبل إحدى عشر سنة مضت  ، كنت أعزف بنفس الطريقة و الزاويةُ ذاتها  بفارقٍ كبير  أنكِ كُنتٍ بجانبي ، تتمايلين ، تضحكين، تبادليني النظرات و بَعضٍ  من القُبَلِ المَسرُوقة  ، و أغاني متفرقةٍ بصوتِكِ العذب ، أتذكرين يا مُدللتي الصغيرة ، حين كنا نسهر للصّباحِ و نبتسم للشروق ثم نغطُ في نومٍ عميق  ، لم نهدأ يوما و لَمْ نتعب ، و كانت جارتي الحزينةُ في الشقةِ المجاورة دائمًا  ما تَنهرنا على ضجيج اللّيلِ الذي نسببه لها ، كم كانت حزينة ...
لم أخبركِ أنها انتحرت في السنة الماضية ، نعم انتحرت ، و تركت لي رسالة مؤلمة قليلاً ، لكن تجاوزتها بعض الشئ، أتعلمين ، كانت دائمًا تطرق الباب في منتصف اللّيل تَسأَلُني عن ضجيج لّيلنا ، و تسألُني عنك بين الهُنيةِ و الأخرى ، تقول لي اشتقت لصوت ضحكاتها في الليل ، ما مدى احتمال عودتها  أيها الحزين ، كان الجواب دائما 0% ، ما مدى تعاستها في تلك اللحظةِ برأيك !؟
قاطعني صوتُ تَوقفِ أصابعي عن العزف من إكمال ذكرياتي الحزينة ، آه يا مدللتي الصغيرة ..
لم يكن صوت الغيتار ينقطع إلا حين تأخذيني بين يديك نرقص معاً على  صوت ضحكاتك ، أو حين يطلعُ الصباحُ و يقطعني عنك .
إشتياقي  مفزعٌ هذه اللحظة ، استفقتُ  أمام المرآة أتسائلُ من أنا  ، و الجواب وحده أني لا شيء ،أنا أنتِ و بدونك لا شيء ،  لم أعد مألوفاً لنفسي يا مدللتي الصغيرة ، فقيدُ الذاتِ دونك ، و لست ذو وجهٍ ضحوك .
بيدٍ مرتعشةٍ قليلًا اقتربتُ  من غيتاري القديم كان بارداً متسخاً بغبار فقدانك ، تحسسته للمرة الأخيرة ،تحسست أوتاره ،  و المفتاح ،الدستان، الفيرتات، السرج، و القمرية
قَبَّلتُهُ طويلاً كأنه أنتِ يا صغيرتي الفقيدة ، وضعته  في مكانه مرة أخرى ، عُدت للفراش أبكي بحرقة عازفٍ أخفق في حفلهِ الكبير ، لأستيقظَ  بعد مضيِّ سبع عشرة ساعة،  لا أذكرُ نفسي ، و أنهضُ متصبباً عرقاً ، و أمشي بتثاقُلٍ للمرآةِ ذاتها ، و أرى شخصاً هزيلاً بعيونٍ جاحظة و شحوبٍ في وجهه مخيف يحدقُ بي ، و أرى الزاوية ذاتها و ذاك الشيء الذي يحدق بي بحذرٍ شديد و أقترب بشيءٍ من الخوف و ترددٍ كبير وأبدأ فيلم ذكرياتي الذي ينتهي ببكاءٍ شديد و نهوضٍ بعد سبع عشرة ساعة و تنتهي ايضًا ببكاءٍ شديد  و يمضى كما مضت الإحدى و عشرين سنة بدونك ...

" حروف سَتُنسى " حيث تعيش القصص. اكتشف الآن